نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

ولما كان المراد التعميمم أتى بها نكرة لتفيد ذلك ، ويؤيد هذا ما نقل العلماء عن الرواة لفتوح البلاد منهم الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي ، قال في كتابه الاكتفاء في وقعة جلولاء من بلاد فارس : قالوا : قال بعضهم : فكان الفلاحون للطرق والجسور والأسواق والحرث والدلالة مع الجزي عن أيديهم على قدر طاقتهم ، وكانت الدهاقين للجزية عن أيديهم والعمارة ، وإنما أخذوا الجزية من المجوس لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر وأخذها منهم لأنهم أهل كتاب في الأصل ، قال الشافعي في باب المجمل والمفسر من كتاب اختلاف الحديث : والمجوس أهل كتاب غير التوراة والإنجيل وقد نسوا كتابهم وبدلوه ، فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخذ الجزية منهم ؛ أخبرنا سفيان عن أبي سعد سعيد بن مرزبان عن نصر بن عاصم قال : قال فروة بن نوفل الأشجعي : علام تؤخذ{[36039]} الجزية من المجوس وليسوا بأهل كتاب ؟ فقام إليه المستورد فأخذ بلببه{[36040]} فقال : ياعدو الله ! تطعن على أبي بكر وعلى عمر وعلى أمير المؤمنين - يعني علياً - وقد أخذوا منهم الجزية ، فذهب به إلى القصر فخرج علي رضي الله عنه عليهما{[36041]} فقال : البدا ! البدا ! فجلسا في ظل القصر فقال علي : أنا أعلم الناس بالمجوس ، كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه ، وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته فاطلع عليه بعض أهل{[36042]} مملكته ، فلما صحا جاؤوا يقيمون عليه الحد فامتنع عليهم فدعا أهل مملكته فقال : تعلمون ديناً خيراً من دين آدم وقد كان آدم ينكح بنيه من بناته ، فأنا على دين آدم ، فبايعوه وقاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم فأصبحوا وقد أسرى{[36043]} على كتابهم فرفع من بين أظهرهم وذهب العلم الذي في صدورهم ، وهم أهل كتاب{[36044]} وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما منهم الجزية . ولما أمر بقتالهم {[36045]}ووصفهم بما هو السبب الباعث على ذلك ، عطف عليه بعض أقوالهم المبيحة لقتالهم{[36046]} الموجبة لنكالهم فقال : { وقالت } أي قاتلوا أهل الكتاب لأنهم كفروا بما وصفناهم به وقالت { اليهود } منهم كذباً وبهتاناً { عزير } تنوينُ عاصم والكسائي له موضحٌ لكونه مبتدأ ، والباقون منعوه نظراً إلى عجمته مع العلمية وليس فيه تصغير ، والخبر في القراءة قولهم{[36047]} : { ابن الله } أي الذي له العلو المطلق فليس كمثله شيء ، وعزير هذا هو المسمى عندهم في سفر الأنبياء{[36048]} ملاخيا ، ويسمى أيضاً العازر وهو الأصل والعزير تعريبه ، وأما الذي جمع لهم هذه التوراة التي بين أيديهم فقال السموأل بن يحيى المغربي الذي كان يهودياً فأسلم : إنه شخص آخر اسمه عزرا ، وإنه ليس بنبي . ذكر ذلك في كتابه غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود ، وهو كتاب حسن جداً ، وكان السموأل هذا مع تمكنه من المعرفة بشريعة اليهود وأخبارهم متمكناً من علوم الهندسة وغيرها ، وكان فصيحاً بليغاً وكان حسن{[36049]} الإسلام يضرب المثل بعقله ، ورأيت اليهود في غاية النكاية منه ، وأراني بعضهم رسالة إليه لبعض أحبارهم يسفه فيها رأيه في إسلامه ويشبه عليه بأشياء خطابية وشعرية ، فأجابه بجواب بديع افتتحه بقوله تعالى : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها }{[36050]}[ البقرة : 142 ] ثم رد كلامه أحسن رد ثم قال{[36051]} له ما حاصله : دع عنك مثل هذه الخرافات ، وأجب عن الأمور التي ألزمتكم بها في كتاب غاية المقصود ، فما أحار{[36052]} جواباً ، ثم القائل لهذا القول منهم روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم أربعة ، وقيل : قائله واحد وأسند إلى الكل كما يقال : فلان يركب الخيول وقد لا يكون له إلا فرس واحد{[36053]} ، وهو كقوله تعالى{ الذين قال لهم الناس }{[36054]}[ آل عمران : 173 ] وقيل : كان فاشياً فيهم فلما عابهم{[36055]} الله به تركوه وهم الآن ينكرونه ، والله تعالى أصدق حديثاً { وقالت النصارى } أي منهم إفكاً وعدواناً { المسيح } وأخبروا عنه بقولهم{[36056]} : { ابن الله } أي{[36057]} مع{[36058]} أن له الغنى المطلق والكمال الأعظم ، والمسيح هذا{[36059]} هو ابن الله مريم بنت عمران ؛ ثم استأنف قوله مترجماً قولي{[36060]} فريقيهم : { ذلك } أي القول البعيد من العقول المكذب للنقول { قولهم بأفواههم } أي حقيقة لم يحتشموا{[36061]} من قوله مع سخافته ، وهو مع ذلك قول لا تجاوز{[36062]} حقيقته الأفواه إلى العقول لأنه لا يتصوره عاقل ، بل هو قول مهمل كأصوات الحيوانات العجم لا يتحقق له المعنى ؛ قال : ومعناه الحال أن قائله لا عقل له ، ليس له معنى وراء ذلك ، ولبعده عن أن يكون مقصوداً لعاقل عبر فيه بالأفواه التي هي أبعد من الألسنة{[36063]} إلى القلوب .

ولما كان كأنه قيل : فما لهم إذا كان هذا حالهم{[36064]} قالوه ؟ قال ما حاصله : إنهم قوم مطبوعون على التشبه بمن يفعل المفاسد كما أنهم{[36065]} تشبهوا بعبدة الأوثان ، فعبدوها غير مرة والأنبياء بين أظهرهم يدعونهم إلى الله وكتابهم ينادي بمثل ذلك وينذرهم أشد الإنذار { يضاهئون } أي حال كونهم يشابهون بقولهم هذا { قول الذين كفروا } أي بمثله وهو العرب حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، كما أنهم لما رأوا الذين يعكفون على أصنام لهم قالوا : { يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } .

ولما كان لا يمتنع أن يكون الذين شابهوهم إنما كانوا بعدهم أو في زمانهم من قبل أن يبين فساد قولهم ، نفى ذلك بقوله مشيراً بحرف الجر إلى أن كفرهم لم يستغرق زمن القبل : { من قبل } أي من قبل أن يحدث منهم هذا القول ، وهذا دليل على أن العرب غيروا دين إسماعيل عليه السلام ، اجترؤوا{[36066]} على مثل هذا القول قبل إيقاع بخت نصر باليهود أو في حدوده ، وليس ذلك ببعيد مع طول الزمان وإغواء الشيطان ، فقد كان بين{[36067]} زمان إبراهيم وعزير عليهما السلام نحو ألف وخمسمائة سنة - هذا على ما ذكره بعض علماء أهل الكتاب عن كتبهم وأيده ما ذكره المسعودي من مروج الذهب في تاريخ ملوك بابل من نمرود إلى بخت نصر : وذكر بعض المؤرخين أن بين الزمنين زيادة على ألفي سنة على أنهم قد نقلوا ما هو صريح في كفر العرب في ذلك الزمان فرووا عن هشام بن الكلبي أنه قال{[36068]} : كان بدء نزول العرب إلى أرض العراق أن الله عز وجل أوحى إلى برخيا من ولد يهودا أن ائت بخت نصر فمره أن يغزو العرب الذين لا أغلاق{[36069]} لبيوتهم ويطأ بلادهم بالجنود فيقتل مقاتلتهم ويسبي ذراريهم ويستبيح أموالهم وأعلمه بكفرهم بي و{[36070]}اتخاذهم الآلهة{[36071]} دوني وتكذيبهم أنبيائي ورسلي ، وعن غير ابن الكلبي أنه نظم ما بين أبلة والايلة خيلاً ورجالاً ثم دخلوا على العرب فاستعرضوا كل ذي روح قدروا عليه{[36072]} ، وأوصى الله برخيا وإرميا بمعد بن عدنان الذي من ولده محمد المختوم به النبوة ، وكان ذكر مشابهتهم لأهل الشرك تحقيراً لشأنهم تجرئة على الإقدام عليهم إذ{[36073]} جعلهم مشابهين لمن دربوا قتالهم وضربوا{[36074]} عليهم فأذلوهم بعد أن كانوا في عزة لا يخشون زوالها ، وعزائم شديدة لا يخافون انحلالها ، كل ذلك بطاعة الله في قتالهم وطلب{[36075]} مرضاته بنزالهم لأنه عليهم ، ومن كان عليه لم يفلح{[36076]} ، وإلى مثل ذلك إشارة بقوله في حق هؤلاء : { قاتلهم الله } أي أهلكهم الملك الأعظم ، لأن{[36077]} من قاتله لم ينج منه ، وقيل : لعنهم ؛ روي عن ابن عباس قال : وكل شيء في القرآن مثله فهو لعن { أنى يؤفكون* } أي كيف ومن أين يصرفون عن الحق مع قيام الأدلة القاطعة عليه ،


[36039]:في الأصل: يؤخذ، والتصحيح من ظ وسنن البيهقي ـ باب المجوس أهل كتاب من كتاب الجزية، وساق هذا الحديث هناك بتمامه عن نفس الطريق الذي هنا. وساق بعضه في مجمع الزوائد 6/12.
[36040]:من السنن، وفي الأصل: بلبيه، وفي ظ: بتلبيبه.
[36041]:في ظ: عليها.
[36042]:سقط من ظ.
[36043]:في ظ: رفع.
[36044]:من ظ والسنن، وفي الأصل: الكتاب.
[36045]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[36046]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[36047]:زيد ما بين الحاجزين من ظ.
[36048]:وهو آخر الأسفار القديمة.
[36049]:في ظ: أحسن.
[36050]:سورة 2 آية 142.
[36051]:في ظ: قاله.
[36052]:في ظ: أجاد.
[36053]:من ظ، وفي الأصل: واحدة.
[36054]:سورة 3 آية 173.
[36055]:في ظ: أعابهم.
[36056]:زيد من ظ.
[36057]:زيد من ظ.
[36058]:سقط من ظ.
[36059]:زيدت الواو بعده في الأصل، ولم تكن في ظ فحذفناها.
[36060]:في ظ: قول.
[36061]:من ظ، وفي الأصل: لم يحتتموا.
[36062]:من ظ، وفي الأصل: لا يجاوز.
[36063]:في ظ: السن.
[36064]:من ظ، وفي الأصل: حاله.
[36065]:من ظ، وفي الأصل: أنتم.
[36066]:في ظ: اختروا.
[36067]:من ظ، وفي الأصل: قبل.
[36068]:سقط من ظ.
[36069]:في ظ: أغلاف.
[36070]:من ظ، وفي الأصل: إيجادهم الإلهية.
[36071]:من ظ، وفي الأصل: إيجادهم الإلهية.
[36072]:سقط من ظ.
[36073]:من ظ، وفي الأصل: أو.
[36074]:من ظ، وفي الأصل: ضروا.
[36075]:في ظ: صلت.
[36076]:من ظ، وفي الأصل: لا يفلح.
[36077]:في ظ: لا.