غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

29

ولما حكم في الآية المتقدمة أن أهل الكتاب لا يؤمنون بالله شرع في إثبات تلك الدعوى فقال { وقالت اليهود عزير ابن الله } الآية . العلم مبتدأ والابن خبره ومن أسقط التنوين من عزير فلأنه اسم أعجمي زائد على ثلاثة أحرف فيمتنع من الصرف كعازر . وقيل : منصرف لكونه عربياً وكان الوجه كسر التنوين كقراءة عاصم ولكنه أسقط التنوين للساكنين على مذهب بعضهم . أو لأن الابن وقع وصفاً والخبر محذوف وهو معبودنا . وطعن في هذا الوجه عبد القاهر باستلزامه احتمال توجه الذم إلى الخبر دون الوصف . وحينئذ يحصل تسليم كونه ابناً لله ومعلوم أن ذلك كفر . وهذا قول ناس من اليهود بالمدينة . وما هو بقول كلهم إلا أنه جاء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد . يقال : فلان يركب الخيول أو يجالس الملوك . ولعله لم يركب أو لم يجالس إلا واحداً . عن ابن عباس : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا ذلك . وعنه أيضاً أن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فأنساهم الله التوراة ونسخها من صدورهم ، فتضرع عزير إلى الله تعالى وابتهل إليه فعاد حفظ التوراة إلى قلبه فأنذر قومه ، فلما جربوه وجدوه صادقاً فيه فقالوا : هذا ابن الله . وقال عبيد بن عمير : إنما قال هذا القول رجل من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء . وقيل : لعل هذا المذهب كان فاشياً فيهم ثم انقطع ، ولا عبرة بإنكار اليهود قول الله أصدق . وقال في الكشاف : الدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية تليت عليهم فما أنكروا ولا كذبوا مع تهالكهم على التكذيب . وأما النصارى فلا شك أنهم يقولون ذلك وقد حكى الواحدي في سبب ذلك أن أتباع عيسى كانوا على الحق بعد رفع عيسى إلى السماء حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود وكان في اليهود رجل شجاع ، يقال له بولس . قتل جمعاً من أصحاب عيسى ثم قال لليهود : إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار وإني أحتال فأضلهم ، فعرقب فرسه وأظهر الندامة بما كان يصنع ووضع على رأسه التراب وقال : نوديت من السماء ليس لك توبة إلا أن تنتصر وقد تبت فأدخله النصارى الكنيسة . ومكث سنة لا يخرج وتعلم الإنجيل فصدقوه وأحبوه ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم رجلاً اسمه نسطور وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة ، وتوجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت وقال : ما كان عيسى إنساناً ولا جسماً ولكنه الله .

وعلم رجلاً آخر - يقال له يعقوب - ذلك ثم دعا رجلاً - يقال له ملكاً - فقال له : إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى . ثم دعا هؤلاء الثلاثة وقال لكل واحد منهم : أنت خليفتي فادع الناس إلى نحلتك ، ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني وإني غداً أذبح نفسي لمرضاة عيسى ، ثم دخل المذبح فذبح نفسه . هذا هو السبب في وقوع هذا الكفر في طوائف النصارى . والأقرب أن لفظ الابن قد وقع في الإنجيل على سبيل التشريف حيث قال : إنك أنت الابن الوحيد كما وقع لفظ الخليل في حق إبراهيم عليه السلام . وقال المسيح عليه السلام للحواريين : أحبوا أعداءكم وباركوا على لاعنيكم وأحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا على من يؤذيكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء الذي أشرق شمسه على الصالحين والفجرة . ثم إن القوم لأجل عداوة اليهود ولأجل أن يقابلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بلغو فاسد في الطرف الآخر حملوا لفظ الابن على البنوة الحقيقية والله تعالى أعلم بحقيقة الحال . ثم قال سبحانه { ذلك قولهم بأفواههم } وفائدة هذا التخصيص - وكل قول فإنما يقال بالفم - أنه قول لا يعضده برهان بل البرهان دال على نقيضه لاستحالة إثبات الولد لمن هو مبرأ عن الحاجة والشهوة والمضاجعة واتخاذ الصاحبة ، فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي لا تجاوز الحناجر ولا يؤثر معناها في القلب بل لا معنى لها حتى تؤثره ، نظيره قوله { وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم } [ النور : 15 ] أو نقول : إن الإنسان قد يختار مذهباً ولكن لا يصرح به ولا يذكره بلسانه ، أما إذا نطق به فذلك هو الغاية في اختياره وإذا ساعده عليه دليل كان نهاية في الحسن والتأثير . فالمراد بالقول المذهب وأنهم يصرحون به لا يخفونه البتة ، أو أنه مذهب لا يساعده دليل فلا تأثير له في القلوب . ويحتمل أن يراد أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت في الأفواه والألسنة { يضاهنون } من قرأ بغير همز فظاهر لأنه من ضاهى يضاهي منقوصاً أي شاكل ، ومن قرأ بالهمز فلمجيء ضاهأت من قولهم امرأة ضهيأ على وزن «فعيل » وهي التي شاكلت الرجال في أنها لا تحيض ومن جعل ضهيأ على «فعلأ » بزيادة الهمزة كما في «غرقئ » لقشرة البيض السفلى لمجيء ضهياء ممدوداً بمعناه فلا ثبت في هذا الثاني عنده . ولا بد من تقدير مضاف أي يضاهي قولهم قول الذين ، حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعاً لفقد الجار . والمعنى أن قول هؤلاء المعاصرين للنبي من أهل الكتاب يشبه قول قدمائهم أي القائلين الملائكة بنات الله . وقيل : الضمير في { يضاهئون } للنصارى فقط أي يشاكل قول النصارى «المسيح ابن الله » قول اليهود «عزير ابن الله » لأن اليهود أقدم منهم . ثم قال على عادة محاورات العرب معجباً ومستفهماً على سبيل الإنكار { قاتلهم الله أنى يؤفكون } كيف يصرفون عن الحق أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا تعجباً من شناعة قولهم كما يقال القوم ركبوا شنعاء : قاتلهم الله ما أعجب فعلهم ، ولمن ضل عن الطريق أين تذهب ؟ .

/خ37