اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

{ وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله } الآية .

قرأ عاصم{[17729]} والكسائيُّ بتنوين " عُزَيْرٌ " ، والباقون من غير تنوين ، فأمَّا القراءةُ الأولى فيحتمل أن يكون اسماً عربياً مبتدأ ، و " ابنُ " خبره ، فتنوينه على الأصل ، ويحتمل أن يكون أعجمياً ، ولكنهُ خفيفُ اللَّفظِ ، ك " نُوحِ " ، و " لُوطٍ " ، فصُرفَ لخفَّة لفظه ، وهذا قول أبي عبيد ، يعني : أنَّهُ تصغيرُ " عَزَر " ، فحكَمه حكم مُكَبَّره ، وقال : هذا ليس منسوباً إلى أبيه ، إنَّما هو كقولك : زيد ابن الأمير ، وزيد ابن أخينا ، و " عُزَيْرٌ " مبتدأ وما بعده خبره ، ورُدَّ هذا بأنَّه ليس بتصغير ، إنَّما هو أعْجَمي ، جاء على هيئة التَّصغيرِ في لسان العرب ، ك " سُلَيْمَان " ، جاء على مثال " عُثَيْمَان ، وعُمْيَران " .

وأمَّا القراءةُ الثانية ؛ فيحتمل حذفُ التنوين ثلاثة أوجه :

أحدها : أنَّه حذف التنوين لالتقاء الساكنين على حدِّ قراءة { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد } [ الإخلاص : 1-2 ] . قال الفرَّاء : نون التنوين في " عُزَيْرٌ " ساكنة ، والباء في قوله " ابْنُ اللهِ " ساكنة ، فالتقى ساكنان ، فحذف نون التنوين للتخفيف ؛ وأنشد : [ المتقارب ]

وألْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ *** ولا ذَاكِرٍ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً{[17730]}

وهو اسمٌ منصرفٌ مرفوعٌ بالابتداء ، و " ابن " خبره .

الثاني : أنَّ تنوينه حذف ، لوقوع الابن صفة له ، فإنَّه مرفوعٌ بالابتداء ، و " ابن " صفته ، والخبرُ محذوفٌ ، أي : عُزَيرٌ ابْنُ الله نَبيُّنا ، أو إمامُنَا ، أو رسولُنَا ، وقد تقدَّم أنَّه متى وقع " الابن " صفة بين علمين ، غير مفصولٍ بينه وبين موصوفه ، حذفت ألفه خطّاً ، وتنوينه لفظاً ، ولا تثبت إلاَّ ضرورة ، وتقدم الاشتشهادُ عليه آخر المائدة . ويجوز أن يكون " عُزَيْرٌ " خبر مبتدأ مضمر ، أي : نَبيُّنا عُزير ، و " ابن " صفةٌ له ، أو بدل ، أو عطف بيان .

الثالث : أنه إنَّما حذف ، لكونه ممنوعاً من الصَّرف ، للتعريف والعجمة . ولم يرسم في المصحف إلاَّ بإثبات الألف ، وهي تنصرُ من يجعله خبراً .

وقال الزمخشري{[17731]} : " عزير ابن " مبتدأ وخبره ، كقوله : { المسيح ابن الله } و " عُزَيْرٌ " اسم أعجمي ، : " عَزرَائيل ، وعيزار " ولعجمته وتعريفه امتنع صرفه ، ومن صرفه جعله عربياً . وقول من قال بسقوط التنوين ؛ لالتقاء الساكنين ، كقراءة { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد } [ الإخلاص : 1 ، 2 ] ولأنَّ " الابن " وقع وصفاً ، والخبر محذوف ، وهو " معبودنا " فتمحُّلٌ عن مندوحة " .

فصل

لمَّا حكم تعالى في الآيةِ المتقدِّمة على اليهودِ والنَّصارى بأنهم لا يُؤمنونَ بالله ، شرح ذلك في هذه الآية ، بأن نقل عنهم أنهم أثبتُوا للهِ ابناً ومنْ جوَّز ذلك في حق الإله ، فقد أنكر الإله في الحقيقة ، وأيضاً بيَّن تعالى أنهم بمنزلة المشركين في الشرك وإن كانت طرق القول بالشرك مختلفة ، إذ لا فرق بين من يعبد الصَّنم وبين من يعبد المسيح وغيره ، لأنه لا معنى للشرك إلاَّ أن يتَّخذ الإنسانُ مع الله معبوداً ، وهذا معنى الشِّرك ، بل لو تأمَّلنَا لعلمنا أن كفر عابد الوثن أخَفّ من كفر النصارى ؛ لأنَّ عابد الوثن لا يقولُ : إنَّ هذا الوثن خالق للعالم ، بل يجريه مجرى الشيء الذي يتوسَّلُ به إلى طاعة الله ، والنَّصارى يثبتون الحلول والاتحاد وذلك كفر قبيح ؛ فثبت أنَّه لا فرق بين هؤلاء الحلولية وبين سائر المشركين .

فإن قيل : اليهودُ قسمان : منهم مشبهة ، ومنهم موحدة ، كما أنَّ المسلمين كذلك ، فهَبْ أنَّ المشبهة منهم منكرون لوجود الإله ، فما قولكم في موحدة اليهود ؟ .

فالجوابُ : أولئك لا يكونوا داخلين تحت هذه الآية ، وإنما وجبت الجزيةُ عيهم ؛ لأنَّه لمَّا ثبت وجوب الجزية على بعضهم ؛ وجب القول به في حل الكلِّ ؛ لأنه لا قائل بالفرق .

وأما النَّصارى فيقولون بالأب والابن وروح القُدسِ ، والحلول والاتحاد ، وذلك ينافي الإلهيَّة .

وإنَّما خصَّ الله الطائفتين بقبول الجزية منهم ؛ لأنَّهم في الظاهر ألصقوا أنفسهم بموسى وعيسى - عليهما الصَّلاة والسَّلام - ، وادَّعُوا أنهم يعملون بالتوراة والإنجيل ؛ فلأجل تعظيم هذين الرسولين المعظمين ، وكتابيهما المعظمين ، ولتعظيم أسلاف هؤلاء اليهود والنصارى ، لأنهم كانوا على الدِّين الحق ، حكم الله بقبول الجزية منهم ، وإلاَّ ففي الحقيقة لا فرق بينهم وبين المشركين .

فصل

في قوله : { وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله } أقوال :

أحدها : قال عبيد بن عمير : إنَّما قال هذا رجلٌ واحد من اليهود اسمه : فنحاص بن عازوراء ، وهو الذي قال : { إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ }{[17732]} [ آل عمران : 181 ] .

وثانيها : روى سعيدُ بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال : " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود سلام بن مشكم ، والنعمان بن أبي أوْفَى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ، ولا تزعم أنَّ عُزيراً ابن الله ؟ فنزلت هذه الآية{[17733]} . وعلى هذين القولين ، فالقائل بهذا بعض اليهود ، وإنما نُسب ذلك إلى اليهود بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحدِ ، يقال : فلانٌ ركبَ الخيولَ وجالسَ السَّلاطينَ ، ولعله لم يركب ولم يجالس إلا واحداً .

وثالثها : لعلَّ هذا المذهب كان فَاشياً فيهم ثمَّ انقطع ، فحكى الله ذلك عنهم ، ولا عبرة بإنكار اليهُودِ ذلك ، فإنَّ حكاية الله عنهم أصدق ، والسَّبب في ذلك ما روى عطية العوفي عن ابن عباس أن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق ، فأنساهم الله التوراة ، ونسخها من صدورهم ، فتضرَّع عزير إلى الله وابتهل إليه ، فعاد حفظ التوراة إلى قلبه ، فأنذر قومه به فلمَّا حرَّبُوه وجدوه صادقا فيه ، ثم إنَّ التابوت نزل بعد دعائه منهم ، فلمَّا رأوا التَّابُوتَ عرضوا ما كان فيه على الذي كان يعلمهم عزير ؛ فوجدوه مثله ، فقالوا : ما أوتي عزير هذا إلاَّ أنه ابن الله{[17734]} .

وقال الكلبيُّ : " لمَّا قتل بُخْتنصَّر علماءهم ، فلمْ يبق فيهم أحدٌ يعرف التوراة ، وكان عزير ابن ذاكَ صغيراً ؛ فاستصغره فلم يقتله ، فلمَّا رجع بنو إسرائيل إلى بيتِ المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله عزيراً ، ليجدِّد لهم التوراة ، ويكون لهم آية بعدما أماته مائة عام ، يقال : أتاهُ ملكٌ بإناءٍ فيه ماء ؛ فسقاه ، فمثلت التوراة في صدره ، فلمَّا أتاهُم وقال : أنا عُزَيرٌ فكذَّبُوه وقالوا : إنْ كنت كما تزعُمُ فأملِ علينا التوراة فكتبها لهم ، ثمَّ إنَّ رجلاً قال : إنَّ أبي حدَّثَنِي عن جدِّي أنَّ التوراة جعلت في خابية ودفنت في كرم ، فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعرضوها على ما كتب عزير ، فلم يغادر حرفاً ، فقالوا : إنَّ الله لم يقذف التوراة في قلب رجلٍ إلاَّ أنه ابنه ، فقالوا : عُزيرٌ ابنُ الله " {[17735]} .

فصل

وأمَّا قولُ النَّصارى المسيح ابن اللهِ ، فظاهرٌ ، وفيه إشكال ، وهو أنَّا نقطع أن المسيح عليه الصلاة والسلام كان مبرأً من دعوة النَّاس إلى الأبوة والبنوة ؛ فإنَّ هذا أفحش أنواع الكُفْرِ ، فكيف يليق بأكابر الأنبياء ؟ وإذا كان كذلك ، فكيف يعقلُ إطباق محبي عيسى من النصارى عليه ، ومن الذي وضع هذا المذهب الفاسدَ ؟

وأجاب المفسِّرُون عن هذا : بأنَّ أتباع عيسى - عليه الصلاة والسلام - كانُوا على الحقِّ بعدما رفع عيسى حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود ، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له : بولص قتل جماعةً من أصحاب عيسى ، ثم قال لليهود : إن كان الحقُّ مع عيسى ؛ فقد كفرنا ، والنَّار مصيرنا ، ونحن مغبونون إنْ دخلوا الجنَّة ودخلنا النارَ ، وإني أحتال ؛ فأضلهم حتى يدخلوا النَّار ، وكان له فرس يقال له : العقاب ، يقاتلُ عليه ، فعرقب فرسه ، وأظهر الندامة ، ووضع التراب على رأسه ، فقالت له النَّصارى : مَنْ أنتَ ؟ قال : بولص عدوكم ، تبتُ ، فنوديت من السَّماء ليس لك توبة إلاَّ أنْ تَتَنَصَّر ؛ وقد تبت ، فأدخلوه الكنيسة ، ومكث سنةً لا خرج ليلاً ولا نهاراً ، حتَّى تعلَّم الإنجيل وقال : نوديت أنَّ الله قبل توبتك ؛ فصدقوه وأحبوه .

ثم مضى إلى بيتِ المقدسِ ، واستخلف عليهم رجلاً اسمه : نسطور ، وعلمه أنَّ عيسى ، ومريم والإله كانوا ثلاثة ، وتوجه إلى الرُّوم وعلَّمهم اللاهوت والنَّاسوت ، وقال : ما كان عيسى إنساناً ، ولا جسماً ولكنه ابن الله ، وعلَّم رجلاً يقال له : يعقوبُ ذلك ، ثم دعا رجلاً يقال له ملكا فقال له : إنَّ الإله لم يزل ، ولا يزال عيسى ، ثم دعا هؤلاء الثلاثة وقال لكلِّ واحد منهم أنت خالصتي فادع النَّاس إلى إنجيلك ، ولقد رأيتُ عيسى في المنام ورضي عنِّي ، وإنِّي غداً أذبح نفسي لمرضاة عيسى ، ثم دخل المذبح ، فذبح نفسه ، فلمَّا كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم النَّاس إلى مذهبه ؛ فتبع كلُّ واحد منهم طائفة ، فاختلفوا واقتتلوا ، هذا ما حكاه الواحديُّ وغيره .

قال ابنُ الخطيبِ{[17736]} : " والأقربُ عندي أن يقال : لعلَّه ورد لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التِّشريفِ ، ثم إنَّ القومَ لأجل عداوة اليهود ؛ ولأجل أن يقاتلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بغلو فاسد في الطَّرف الثاني ، فبالغوا وفسَّرُوا لفظ الابن بالبنوة الحقيقية ، والجهال قبلوا ذلك ، وفشا هذا المذهبُ الفاسدُ في أتباع عيسى ، والله أعلم بحقيقة الحال " .

قوله : { ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } واعلم أنَّ كلَّ قول إنَّما يقال بالفمِ ، فما معنى تخصيصهم بهذه الصفة ؟ والجواب من وجوه :

أحدها : أنَّ معناه قول لا يعضده برهانٌ ، وإنّما هو لفظ يفوهُون به فارغ من معنى معتبر لحقه ؛ لأن إثبات الولد للإله مع أنه مُنزَّهٌ عن الحاجة والشهوة ، والمضاجعة ، والمباضعة قولٌ باطلٌ ، ليس له تأثير في العقل ، ونظيره قوله تعالى : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ آل عمران : 167 ] .

وثانيها : أنَّ الإنسان قد يختار مذهباً إمَّا على سبيل الكناية ، وإمَّا على سبيل الرَّمز ، وأمَّا إذا صرَّح بلسانه فهو الغاية في اختيار ذلك المذهب ، والمعنى على هذا : أنَّهم يُصرِّحون بهذا المذهبِ ولا يخفونه ألبتة .

وثالثها : أنَّ المعنى : أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت هذه المقالة في الأفواه والألسنة والمرادُ : مبالغتهم في دعوة الخلقِ إلى هذا المذهب .

قال أهل المعاني : لم يذكر اللهُ قولاً مقروناً بالأفواه والألسن إلاَّ كان ذلك زوراً .

قال ابنُ العربي : " في هذه الآية دليلٌ من قول ربنا تبارك وتعالى على أنَّ من أخبر عن كفر غيره الذي لا يجوز لأحد أن يبتدىء به لا حرج عليه ؛ لأنَّه إنَّما ينطق به على سبيل الاستعظام له والرَّد عليه ، ولو شاء ربنا ما تكلم به أحد ، فإذا أمكن من إطلاق الألسنة به فقد أذن بالإخبار عنه ، على معنى إنكاره بالقلب واللسان ، والردّ عليه بالحجَّة " .

قوله " يُضَاهِئُونَ " قرأ العامة " يُضَاهُون " بضمِّ الهاءِ ، بعدها واو ، وعاصم{[17737]} بهاءٍ مكسورة ، بعدها همزةٌ مضمومة ، بعدها واو ، فقيل : هما بمعنى واحدٍ ، وهو المشابهة ، وفيه لغتانِ : " ضَاهَأتُ وضَاهَيْتُ " بالهمز والياءِ ، والهمزُ لغة ثقيف .

وقيل : الياء فرع عن الهمزةِ ، كما قالوا : قرأ وقَرَيْت ، وتوضَّأت وتوضَّيت ، وأخْطَأت وأخْطَيْت . وقيل : بل " يُضَاهِئُونَ " بالهمزِ مأخوذ من " يُضَاهِيونَ " ، فلمَّا ضُمَّت الياء قُلبتْ همزةً ، وهذا خطأٌ ؛ لأنَّ مثل هذه الياء لا تَثْبُتُ في هذا الموضع حتى تقلبَ همزةً ، بل يؤدي تصريفه إلى حذف الياء ، نحو : يُرامُونَ ، من " الرمي " ، ويُماشُونَ ، من " المشي " وزعم بعضهم : أنَّهُ مأخوذٌ من قولهم : " امرأة ضَهْيَا " بالقصر ، وهي التي لا ثَدْيَ لها ، أو الَّتي لا تحيضُ ، سُمِّيت بذلك ، لمشابهتها الرجال ، يقال : امرأة ضَهْيَا ، بالقصر وضَهْيَاء ، بالمد ، ك : حمراء ، وضَهْيَاءة ، بالمدِّ وتاءِ التأنيث ، ثلاث لغات ، وشذِّ الجمعُ بين علامتي تأنيث في هذه اللَّفظة ، حكى اللغة الثالثة الجرميُّ ، عن أبي عمرو الشيباني .

قيل : وقولُ من زعم أنَّ المضاهأة بالهمز مأخوذةٌ من : امرأة ضَهْيَاء ، في لغاتها الثلاث ، فقوله خطأ ، لاختلاف المادتين ، فإنَّ الهمزة في " امرأة ضَهْيَاء " زائدة في اللُّغاتِ الثلاث ، وهي في " المضاهأة " أصلية .

فإن قيل : لِمَ لَمْ يُدَّعَ أنَّ همزة " ضهياء " وباؤها زائدة ؟ .

فالجوابُ : أنَّ " فَعْيَلاً " بفتح الياء يَثْبُتْ .

فإن قيل : فَلِمَ لم يُدَّعَ أنَّ وزنها " فَعْلل " ، ك : " جَعْفَرٍ " ؟ .

فالجوابُ : أنه قد ثبت زيادة الهمة في " ضَهْيَاء " بالمدِّ ، فثبت في اللُّغة الأخرى ، وهذه قاعدة تصريفية ، والكلامُ على حذف مضاف تقديره : يُضَاهي قولهم قول الذين ، فحذف المضاف وأقيم المضافُ إليه مقامه ، فانقلب ضمير رفع بعد أن كان ضمير جرٍّ .

والجمهور على الوقف على " بأفواههم " ، ويبتدئون ب " يُضَاهِئُونَ " .

وقيل : الباء تتعلَّق بالفعل بعدها ، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حذف هذا المضاف . واستضعف أبو البقاءِ قراءة عاصم ، وليس بجيِّدٍ لتواترها ، وقال أحمدُ بنُ يحيى : لم يتابع أحد عاصماً على الهمز .

والمضاهاة : المشابهة ، في قول أكثر أهل اللُّغة . وقال شمرُ : " المضاهاة : المتابعة ، يقال : فلان يضاهي فلاناً ، أي : يتابعه " .

فصل

قال مجاهدٌ : " " يضاهئون " قول المشركين من قبل ، كانوا يقولون : اللاَّت والعُزَّى بنات الله " {[17738]} .

وقال قتادة والسديُّ : " ضاهت النصارى قول اليهود من قبل ، فقالوا : المسيحُ ابنُ الله ، كقول اليهود من قبل عزير ابنُ الله ؛ لأنهم أقدم منهم " {[17739]} وقال الحسنُ : " شبَّه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة " كما قال في مشركي العرب : { كَذَلِكَ قَالَ الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ }{[17740]} [ البقرة : 118 ] .

وقال القتيبي : " يريد من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى ، يقولون ما قال أسلافهم " .

قوله : " قَاتَلَهُمُ الله " قال ابنُ عبَّاسٍ : لعنهم الله{[17741]} . وقال ابن جريج : قتلهم اللهُ{[17742]} .

وقيل : هذا بمعنى التَّعجب من شناعةِ قولهم ، كما يقال : ركبوا شنيعاً ، قاتلهم اللهُ ما أعجب فعلهم ، وهذا التعجب إنَّما هو راجع إلى الخلقِ ، والله لا يتعجَّبُ من شيء ، ولكن هذا الخطابُ على عادة العرب في مخاطبتهم ، والله عجب منهم في تركهم الحق وإصرارهم على الباطل .

" أنى يُؤْفَكُونَ " أي : كيف يصرفون عن الحق بعد قيام الأدلة عليه .

قوله { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } .

الأحْبَارُ : العلماءُ . قال أبو عبيد : " الأحبارُ : الفقهاءُ قد اختلفوا في واحده ، فقال بعضهم : " حَبْرٌ " ، وقال بعضهم " حِبْرٌ " .

وقال الأصمعيُّ : لا أدري أهو الحِبْرُ أو الحَبْرُ " . وكان أبو الهيثم يقول : " واحد " الأحبار " " حَبْرٌ " بالفتح لا غير ، وينكر الكسر " وكان الليثُ ، وابن السِّكيت يقولان " حِبْر " و " حَبْر " للعالم ذِمِّيّاً كان أو مسلماً ، بعد أن يكون من أهل الكتاب " . وقال أهل المعاني : " الحبر " : العالم الذي صناعتُه تحبير المعاني بحسن البيان عنها ، وإتقانها ، ومنه : ثوب محبر ، أي : جمع الزينة ، والرَّاهبُ : الذي تمكنت الخشية والرهبة في قلبه ، وظهرت آثار الرهبة على وجهه ولباسه . وفي عرف الاستعمال ، صار الأحبارُ مختصاً بعلماء اليهود من ولد هارون .

والرُّهبان : علماء النَّصارى أصحاب الصَّوامع . ومعنى اتخاذهم أرباباً : أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم ، واستحلُّوا ما أحلوا ، وحرموا ما حرموا .

قال أكثرُ المفسرين : " ليس المراد من الأرباب أنَّهم اعتقدوا إلهيتهم ، بل المراد : أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم " .

قال عدي بن حاتم : " أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب وهو يقرأ سورة براءة ، فقال : " يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك " فطرحته ،

30


[17729]:ينظر: السبعة ص (313)، الحجة للقراء السبعة 4/181، إعراب القراءات 1/237-236، النشر 2/279، إتحاف فضلاء البشر 2/89.
[17730]:تقدم.
[17731]:ينظر: تفسير الكشاف 2/263.
[17732]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/350) وذكره البغوي في "تفسيره" (2/284).
[17733]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/350) من طريق سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/413) وزاد نسبته إلى ابن إسحاق وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.
[17734]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/350-351) وذكره البغوي في "تفسيره" (2/284).
[17735]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/284) والرازي في "تفسيره" (16/28).
[17736]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 16/28.
[17737]:ينظر: السبعة ص (314)، الحجة للقراء السبعة 4/186، حجة القراءات ص (316-317)، إعراب القراءات 1/246، إتحاف فضلاء البشر 2/90.
[17738]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/285).
[17739]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/352) عن قتادة والسدي وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/415) عن قتادة وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[17740]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/285).
[17741]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/353) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/415) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي الشيخ.
[17742]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/285).