فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

قوله : { وَقَالَتِ اليهود عُزَيْر عَبْدُ الله } كلام مبتدأ لبيان شرك أهل الكتابين ، وعزير مبتدأ وابن الله خبره ، وقد قرأ عاصم والكسائي { عزير } بالتنوين ، وقرأ الباقون بترك التنوين لاجتماع العجمة والعلمية فيه . ومن قرأ بالتنوين فقد جعله عربياً ؛ وقيل : إن سقوط التنوين ليس لكونه ممتنعاً بل لاجتماع الساكنين ، ومنه قراءة من قرأ { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصمد } . قال أبو عليّ الفارسي : وهو كثير في الشعر ، وأنشد ابن جرير الطبري :

لتجديني بالأمير برّا *** وبالقناة لامرا مكرّاً

إذا غطيت السلمي فرّاً *** . . .

وظاهر قوله : { وَقَالَتِ اليهود } أن هذه المقالة لجميعهم . وقيل : هو لفظ خرج على العموم ، ومعناه : الخصوص لأنه لم يقل ذلك إلا البعض منهم . وقال النقاش : لم يبق يهودي يقولها ؟ بل قد انقرضوا . وقيل : إنه قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم جماعة منهم ، فنزلت الآية متضمنة لحكاية ذلك عن اليهود ؛ لأن قول بعضهم لازم لجميعهم . قوله : { وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله } قالوا هذا لما رأوا من إحيائه الموتى مع كونه من غير أب ، فكان ذلك سبباً لهذه المقالة ، والأولى أن يقال : إنهم قالوا هذه المقالة لكون في الإنجيل وصفه تارة بابن الله وتارة بابن الإنسان ، كما رأينا ذلك في مواضع متعددة من الإنجيل ، ولم يفهموا أن ذلك لقصد التشريف والتكريم ، أو لم يظهر لهم أن ذلك من تحريف سلفهم لغرض من الأغراض الفاسدة . قيل : وهذه المقالة إنما هي لبعض النصارى لا لكلهم .

قوله : { ذلك قَوْلُهُم بأفواههم } الإشارة إلى ما صدر عنهم من هذه المقالة الباطلة . ووجه قوله بأفواههم مع العلم بأن القول لا يكون إلا الفم . بأن هذا القول لما كان ساذجاً ليس فيه بيان ، ولا عضده برهان ، كان مجرّد دعوى ، لا معنى تحتها فارغة صادرة عنهم صدور المهملات التي ليس فيها إلا كونها خارجة من الأفواه ، غير مفيدة لفائدة يعتدّ بها . وقيل : إن ذكر الأفواه لقصد التأكيد ، كما في : كتبت بيدي ومشيت برجلي ، ومنه قوله تعالى : { يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ } . وقوله : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } . وقال بعض أهل العلم : إن الله سبحانه لم يذكر قولاً مقروناً بذكر الأفواه والألسن ، إلا وكان قولاً زوراً كقوله : { يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } . وقوله : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } . وقوله : { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } .

قوله : { يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ } المضاهاة : المشابهة ، قيل : ومنه قول العرب امرأة ضهياء ، وهي التي لا تحيض لأنها شابهت الرجال . قال أبو عليّ الفارسي : من قال : { يضاهئون } مأخوذ من قولهم امرأة ضهياء فقوله خطأ ؛ لأن الهمزة في ضاهأ أصلية ، وفي ضهياء زائدة كحمراء ، وأصله يضاهئون وامرأة ضهياء .

ومعنى مضاهاتهم لقول الذين كفروا فيه أقوال لأهل العلم : الأوّل : أنهم شابهوا بهذه المقالة عبدة الأوثان في قولهم : واللات والعزى ومناة بنات الله . القول الثاني : أنهم شابهوا قول من يقول من الكافرين : إن الملائكة بنات الله ، الثالث : أنهم شابهوا أسلافهم القائلين بأن عزير ابن الله وأن المسيح ابن الله . قوله : { قاتلهم الله } دعاء عليهم بالهلاك ؛ لأن من قاتله الله هلك ، وقيل : هو تعجب من شناعة قولهم . وقيل : معنى قاتلهم الله : لعنهم الله ، ومنه قول أبان بن ثعلب :

قاتلها الله تلحاني وقد علمت *** أني لنفسي إفسادي وإصلاحي

وحكى النقاش أن أصل قاتل الله : الدعاء . ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشرّ وهم لا يريدون الدعاء . وأنشد الأصمعي :

يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني *** وأخبر الناس أني لا أباليها

{ أنى يُؤْفَكُونَ } أي : كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل .

/خ33