{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } الآية ، روى سعيد بن جبير ، وعكرمة عن ابن عباس . قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مسلم والنعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف قالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيراً ابن الله . فأنزل الله في قولهم : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } ، وقرأ ابن محيصن وعاصم والكسائي : عزيرٌ بالتنوين ، وهو قول أبي عبيد وأبي حاتم .
وقرأ الباقون بغير تنوين ، فمن نوّن قال : لأنه اسم خفيف فوجهه أن ينصرف وإن كان أعجمياً مثل نوح ولوط وهود ، وقال أبو حاتم والمبرّد : الاختيار التنوين لأنه ليس بمنسوب ، والكلام ناقص وفي موضع الخبر وليس بنصب ، وإنما جاز التنوين في النعت إذا كان الاسم يستغني عن الابن أو ينسب إلى اسم معروف أو لقب غلب عليه ، مثل محمد بن عبد الله ويزيد ابن عبد الله ، لأن النعت والمنعوت كالشيء الواحد فينوّن في الخبر ويحذف في الصفة ، وربما أثبتوا التنوين في الصفة ، ويقول الشاعر ، أنشده الفرّاء :
والاّ تكن مال هناك فإنّه *** سيأتي ثنائي زيداً بن مهلهل
وأنشد الكسائي [ . . . . . . . . . . . . ] مذهبه .
وقال أبو عبيدة : هذا ليس بمنسوب إلى أبيه إنما هو كقولك : زيد ابن الامير ، وزيد بن عبد الله ، فعزير يكون بعده خبر .
ومن ترك التنوين قال : لأنه اسم اعجمي ويشبه اسماً مصغراً .
وقال الفرّاء : لما كانت النون من عزير ساكنة ( وهي نون التنوين ) والباء من الابن ساكنة والتقى ساكنان حذف الأول منهما استثقالاً لتحريكه ، كما قال : لتجدني بالأمير براً ، وبالقناة مدعاً مكراً ، إذا غطيف السلمّي فرّا .
فحذف النون الساكن الذي استقبلها ، وقال الزجّاج : يجوز أن يكون الخبر محذوفاً تقديره : عزير ابن الله معبودنا .
قال عبيدة بن عمير : إنما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازورا وهو الذي قال : إن الله فقير يستقرض .
عطية العوفي عن ابن عباس قال : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } فانما قالوا ذلك من أجل أن عزيراً كان في أهل الكتاب ، وكانت التوراة عندهم ما شاء الله أن يعلموا ، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق ، وكان التابوت فيهم ، فلمّا رأى الله عز وجل أنهم أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء وأذهبوا التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم ، فأرسل الله عزّ وجل عليهم مرضاً فاستطالت بطونهم حتى جعل الرجل يمسّ كبده ، حتى نسوا التوراة ونسخت من صدورهم ، وفيهم عزير فمكثوا ماشاء الله أن يمكثوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم ، وكان عزير قبل من علمائهم فدعا عزير ( الله ) وابتَهل إليه أن يرد إليه الذي نسخ من صدورهم ، فبينما هو يصلي مبتهلاً إلى الله عز وجل نزل نور من السماء فدخل جوفه ، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة ، فأذّن في قومه فقال : ياقوم قد آتاني الله التوراة وردّها إليَّ فعلق يعلّمهم فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا وهو يعلّمهم ، ثم إن التابوت تُرك بعد ذلك ، وبعد ذهابه منهم ، فلمّا رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلّمهم فوجدوه مثله ، فقالوا : والله ما أُتي عُزير هذا إلا إنّه ابن الله .
وقال السدّي وابن عباس في رواية عمار بن عمار : إنما قالت اليهود عزير ابن الله لأنهم ظهرت عليهم العمالقة فقتلوهم وأخذوا التوراة وهرب علماؤهم الذين بقوا ودفنوا كتب التوراة في الجبال وغيرها ، فلحق عزير بالجبال والوحوش ، وجعل يتعبّد في الجبال ، ولا يخالَط ولا يُخالط الناس ولاينزل إلا يوم عيد ، وجعل يبكي ويقول : يارب تركت بني إسرائيل غير عالم فجعل يبكي حتى سقطت أشفار عينيه ، فنزل مرة إلى العيد فلمّا رجع إذا هو بامرأة قد خلت له عند قبر من تلك القبور تبكي وتقول : يامطعماه ياكاسياه .
فقال لها عزير : يا هذه اتقي الله واصبري واحتسبي ، أما علمتِ أنّ الموت سبيل الناس ، وقال : ويحك من كان يطعمكِ ويكسوكِ قبل هذا الرجل يعني زوجها الذي كانت تندبه قالت : الله ، قال : فإن الله حي لم يمت ، قالت : ياعزير فمن كان يعلّم العلماء قبل بني إسرائيل ؟ قال : الله ، قالت : فلم تبكي عليهم ، وقد علمت أن الموت حق وأن الله حي لايموت ، فلمّا عرف عزير أنه قد خُصم ولّى مدبراً .
فقالت له : يا عزير إنّي لست بامرأة ولكني الدنيا ، أما إنّه ينبع ماء في مصلاك عين ، وتنبت شجرة فكلْ من ثمرة تلك الشجرة واشرب من ماء تلك العين واغتسل وصلِّ ركعتين فإنه يأتيك شيخ فما أعطاك فخذ منه ، فلمّا أصبح نبعت من مصلاّه عين ، ونبتت شجرة ففعل ما أمرته به ، فجاء شيخ فقال له : افتح ، قال : ففتح فاه وألقى فيه شيئاً كهيئة الجمرة العظيمة مجتمعاً كهيئة القوارير ثلاث مرات ، ثم قال له : ادخل هذه العين فامش فيها حتى تبلغ قومك ، قال : فدخلها فجعل لايرفع قدمه إلا زيد في علمه حتى انتهى إلى قومه ، فرجع إليهم وهو من أعلم الناس بالتوراة . فقال : يابني إسرائيل قد جئتكم بالتوراة .
قالوا : ياعزير ماكنت كاذباً ، فربط على كل اصبع له قلماً وكتب بأصابعه كلها حتى كتب التوراة على ظهر قلبه ، فأحيا لهم التوراة ، وأحيا لهم السنّة ، فلمّا رجع العلماء استخرجوا كتبهم التي دفنوها من توراة عزير فوجدوها مثلها ، فقالوا : ما أعطاه الله ذلك إلا لأنه ابنه .
وقال الكلبي : إن بختنصر لما ظهر على بني إسرائيل وهدم بيت المقدس وقتل من قرأ التوراة كان عزير إذ ذاك غلاماً صغيراً فاستضعفوه ، فلم يقبله ولم يدرِ أنه قرأ التوراة ، فلمّا توفي مائة سنة ورجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس منهم من يقرأ التوراة ، فبعث الله عز وجل عزيراً ليجدد لهم التوراة ويكون آية لهم ، فأتاهم عزير وقال : أنا عزير فكذّبوه وقالوا : إن كنت كما تزعم عزير فاتلُ علينا التوراة ، فكتبها وقال : هذه التوراة .
ثم إن رجلاً قال : إن أبي حدّثني عن جدي أن التوراة جعلت [ لنبي ] ثم دفنت في كوّم فانطلقوا معه حتى احتفرها وأخرجوا التوراة وعارضوا بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر منه حرفاً ولا آية فعجبوا وقالوا : ابن الله ، ما جعل التوراة في قلب رجل واحد بعد ما ذهبت من قلوبنا إلا أنه ابنه ، فعند ذلك قالت اليهود : عزير ابن الله .
وأما النصارى [ فقيل ] : إنّهم كانوا على [ دين واحد ] سنة بعدما رُفع عيسى ، يصلّون القبلة ويصومون رمضان ، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب ، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له : يونس قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام ، ثم قال لليهود : إن كان الحق مع عيسى فكفرنا وجحدنا والنار مصيرنا ، فنحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار ، إني احتال فأضلّهم حتى يدخلوا النار ، وكان لها فرس يقال له : العقاب يقاتل عليها فغرقت فرسه وأظهر الندامة ووضع على رأسه التراب .
فقال له النصارى : مَن أنت ؟ قال يونس : عدوكم [ سمعت ] من السماء : ليس لك توبة إلا أن تتنصّر وقد تبت ، فأدخلوه الكنيسة ودخل بيتاً سنة لايخرج منه ليلاً ولا نهاراً حتى تعلم الإنجيل ثم خرج وقال [ لهم ] إن الله قبل توبتك ، فصدّقوه وأحبوه ثم مضى إلى بيت المقدس ، واستخلف عليهم نسطور وعلّمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة ، ثم توجه إلى الروم وعلّمهم اللاهوت والناسوت وقال : لم يكن عيسى بإنس فتأنّس ولابجسم فتجسّم ولكنّه ابن الله ، وعلَّم ذلك رجلاً يقال له : يعقوب .
ثم دعا رجلاً يقال له : ملكاً وقال له : إن الله لم يزل ولا يزال عيسى عليه السلام ، فلمّا استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحداً واحداً ، وقال لكل واحد منهم : أنت خليفتي ، ولقد رأيت عيسى في المنام فرضي عني ، وقال لكل واحد منهم : إني غداً أذبح نفسي فادع الناس للمذبحة ، ثم دخل المذبحة فذبح نفسه ، وقال : إنما أفعل ذلك لمرضاة عيسى ، فلمّا كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى ( نحلته ) فتبع كل واحد طائفة من الناس واقتتلوا واختلفوا إلى يومنا هذا ، فجميع النصارى من الفرق الثلاث .
{ ذلِكَ } يعني قول النصارى : إن المسيح ابن الله { قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } يقولون بألسنتهم من غير علم .
قال أهل المعاني : إن الله عز وجل لايذكر قولاً مقروناً بذكر الأفواه والألسن إلا وكان ذلك القول زوراً كقوله تعالى :
{ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ آل عمران : 167 ] ، و
{ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ الفتح : 11 ] ، وقوله :
{ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } [ الكهف : 5 ] { يُضَاهِئُونَ } قال ابن عباس : يُشبهون وعنه أيضاً : يحكون ، وقال مجاهد : يواطئون .
وقال ذي نون : وفيه لفضان يضاهئون بالهمزة وهي قراءة عاصم ، ويضاهون بغير همزة وهي قراءة العامة ، يقال : ضاهيته وضاهأته بمعنى واحد { قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } قال قتادة والسدي : ضاهت النصارى قول اليهود من قبل ، فقال النصارى : المسيح ابن الله كما قال اليهود : عزير بن الله ، وقال مجاهد : يضاهئون قول المشركين حين قالوا اللات والعزى ومناة بنات الله ، وقال الحسن : شبّه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأُمم الكافرة ، وقال لمشركي العرب حين حكى عنهم ،
{ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ } [ البقرة : 118 ] ، ثم قال :
{ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } [ البقرة : 118 ] وقال القيتبي : يريد إن مَن كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يقولون ما قال أوّلوهم .
{ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ } قال ابن عباس : لعنهم الله ، وكل شيء في القرآن قتل هو لعن ، ومثله قال أبان بن تغلب :
قاتلها الله تلحاني وقد علمت *** أني لنفسي إفسادي وإصلاحي
وقال ابن جريج : قاتلهم الله وهو بمعنى التعجب { أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي يكذبون ، ويصرفون عن الحق بعد قيام الدلالة عليه