قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } روينا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } ، وتضعونها في غير موضعها ، ولا تدرون ما هي ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه ) . وفي رواية ( لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليسلطن الله سبحانه وتعالى عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب ، ثم ليدعون الله عز وجل خياركم ، فلا يستجاب لكم ) .
قال أبو عبيدة : خاف الصديق أن يتأول الناس الآية غير متأولها ، فيدعوهم إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فأعلمهم أنها ليست كذلك ، وأن الذي أذن لإمساك عن تغييره من المنكر ، هو الشرك الذي ينطق به المعاهدون من أجل أنهم يتدينون به ، وقد صولحوا عليه ، فأما الفسوق والعصيان والذنب من أهل الإسلام فلا يدخل فيه . وقال مجاهد ، وسعيد ابن جبير : الآية في اليهود والنصارى ، يعني : عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب ، فخذوا منهم الجزية واتركوهم . وعن ابن عباس قال في هذه الآية : مروا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر ما قبل منكم ، فإن رد عليكم فعليكم أنفسكم ، ثم قال : إن القرآن نزل منه ، آي : قد مضى تأويلهن قبل أن ينزل ، ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنه آي وقع تأويلهن بعد رسول الله ، ومنه آي يقع تأويلهن في آخر الزمان ، ومنه آي : يقع تأويلهن يوم القيامة ، ما ذكر من الحساب ، والجنة ، والنار ، فما دامت قلوبكم ، وأهواؤكم ، واحدة ولم تلبسوا شيعا ، ولم يذق بعضكم بأس بعض ، فأمروا وانهوا ، وإذا اختلفت القلوب والأهواء ، وألبستم شيعا ، وذاق بعضكم بأس بعض ، فامرؤ ونفسه ، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا أبو جعفر أحمد بن محمد العنبري ، أخبرنا عيسى بن نضر ، أنا عبد الله بن المبارك ، أنا عتبة بن أبي الحكم ، حدثني عمرو بن جاريه اللخمي ، أنا أبو أمية الشعباني قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت : يا أبا ثعلبة ، كيف تصنع في هذه الآية ؟ قال : أية آية ؟ قلت : قول الله عز وجل { عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } ، فقال : أما والله ، لقد سألت عنها خبيراً ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( بل ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، ورأيت أمرا لابد لك ، فعليك نفسك ودع أمر العوام ، فإن ورائكم أيام الصبر ، فمن صبر فيهن قبض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثله قال ابن المبارك : وزادني غيره قالوا : يا رسول الله ، أجر خمسين منهم ؟ قال : ( أجر خمسين منكم ) .
قيل : نزلت في أهل الأهواء ، قال أبو جعفر الرازي : دخل على صفوان بن محرز شاب من أهل الأهواء ، فذكر شيئا من أمره ، فقال صفوان : ألا أدلك على خاصة الله التي خص بها أولياءه ؟ { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } .
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم ، ومخبرًا لهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس ، سواء كان قريبًا منه أو بعيدًا .
قال العَوْفي عن ابن عباس عند تفسر هذه الآية : يقول تعالى : إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته به من الحلال والحرام{[10476]} فلا يضره من ضل بعده ، إذا عمل بما أمرته به .
وكذا{[10477]} روى الوالبي عنه . وهكذا قال مُقَاتِل بن حَيان . فقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } نصب على الإغراء { لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : فيجازي{[10478]} كل عامل بعمله ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًّا فشر .
وليس في الآية مسْتَدلٌّ{[10479]} على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذا كان فعل ذلك ممكنًا ، وقد قال الإمام أحمد{[10480]} رحمه الله :
حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا زُهَيْر - يعني ابن معاوية - حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، حدثنا قَيْس قال : قام أبو بكر ، رضي الله عنه ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أيها{[10481]} الناس ، إنكم تقرؤون هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } إلى آخر الآية ، وإنكم تضعونها على غير موضعها ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك الله ، عز وجل ، أن يَعُمَّهُمْ بعِقَابه " . قال : وسمعت أبا بكر يقول : يا أيها الناس ، إياكم والكَذِب ، فإن الكذب مجانب{[10482]} الإيمان .
وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة ، وابن حِبَّان في صحيحه ، وغيرهم{[10483]} من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، به متصلا مرفوعًا ، ومنهم من رواه عنه به موقوفًا على الصديق{[10484]} وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره{[10485]} وذكرنا طرقه والكلام عليه مطولا في مسند الصديق ، رضي الله عنه .
وقال أبو عيسى الترمذي : حدثنا سعيد بن يعقوب الطَالَقَاني ، وحدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا عتبة بن أبي حكيم ، حدثنا عمرو بن جارية{[10486]} اللخمي ، عن أبي أمية الشَّعْباني{[10487]} قال : أتيت أبا ثعلبة الخُشَنِي فقلت له : كيف تصنع في هذه الآية ؟ فقال : أيَّة آية ؟ قلت : قوله [ تعالى ]{[10488]} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال : أما والله لقد سألت عنها خبيرًا ، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " بل ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شُحّا مُطاعًا ، وهَوًى مُتَّبعًا ، ودنيا مُؤْثَرة ، وإعجابَ كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصّة نفسك ، ودع العوام ، فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن مثل القَبْضِ على الجَمْرِ ، للعامل فيهن مثلُ أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم " - قال عبد الله بن المبارك : وزاد غير عتبة : قيل يا رسول الله ، أجر خمسين رجلا منهم أو منا ؟ قال : " بل أجر خمسين منكم " .
ثم قال{[10489]} الترمذي : هذا حديث حسن غريب صحيح . وكذا رواه أبو داود من طريق ابن المبارك ورواه ابن ماجه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن عتبة بن أبي حكيم . {[10490]}
وقال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن الحسن أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله{[10491]} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال : إن هذا ليس بزمانها ، إنها اليوم{[10492]} مقبولة . ولكنه قد أوشك أن يأتي زمانها ، تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا - أو قال : فلا يقبل منكم - فحينئذ { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ }
ورواه أبو جعفر الرازي ، عن الربيع عن أبي العالية ، عن ابن مسعود في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } الآية ، قال : كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا ، فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس ، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه ، فقال رجل من جلساء عبد الله : ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر ؟ فقال آخر إلى جنبه : عليك بنفسك ، فإن الله يقول : { [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]{[10493]} عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الآية . قال : فسمعها{[10494]} ابن مسعود فقال : مَهْ ، لم يجئ تأويل هذه بعد{[10495]} إن القرآن أنزل حيث أنزل{[10496]} ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ، ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير ، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم ، ومنه آي تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من الساعة ، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار . فما دامت قلوبكم واحدة ، وأهواؤكم واحدة ولم تلْبَسوا شِيعًا ، ولم يَذُق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا . فإذا اختلفت القلوب والأهواء ، وألبسْتُم شيعًا ، وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه ، عند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية . رواه ابن جرير . {[10497]}
وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن عَرفة ، حدثنا شبابة بن سَوّار ، حدثنا الربيع بن صُبَيْح ، عن سفيان بن عقال قال : قيل لابن عمر : لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه ، فإن الله قال : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } ؟ فقال ابن عمر : إنها ليست لي ولا لأصحابي أن{[10498]} رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا فليبلّغ الشاهد الغائب " . فكنا نحن الشهود وأنتم الغُيّب ، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا ، إن قالوا لم يقبل منهم . {[10499]}
وقال أيضًا : حدثنا محمد بن بَشَّار ، حدثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم قالا حدثنا عَوْف ، عن سوَّار بن شَبِيب قال : كنت عند ابن عمر ، إذ أتاه{[10500]} رجل جَليد في العين ، شديد اللسان ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ، نفر ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه ، وكلهم مجتهد لا يألو{[10501]} وكلهم بغيض إليه أن يأتي دَناءة ، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك . فقال رجل من القوم : وأيّ دناءة تريد أكثرَ من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك ؟
فقال الرجل : إني لست إياك أسأل ، إنما أسأل الشيخ . فأعاد على عبد الله الحديث ، فقال عبد الله : لعلك ترى ، لا أبالك ، أني سآمرك أن تذهب فتقتلهم ! عظْهم وانههم ، فإن عصوك فعليك نَفْسك{[10502]} فإن الله ، عز وجل يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الآية .
وقال أيضًا : حدثني أحمد بن المقدام ، حدثنا المعتَمِر بن سليمان ، سمعت أبي ، حدثنا قتادة ، عن أبي مازن قال : انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة ، فإذا قوم من المسلمين جلوس ، فقرأ أحدهم هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ } فقال أكْبَرهم{[10503]} لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم .
وقال : حدثنا القاسم ، حدثنا الحُسَين ، حدثنا ابن فضالة ، عن معاوية بن صالح ، عن جُبَير بن نُفير قال : كنت في حلقة فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإني لأصغرُ القوم ، فتذاكروا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقلت أنا : أليس الله يقول في كتابه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } ؟ فأقبلوا عليّ بلسان واحد وقالوا : تنزع آية من القرآن ولا تعرفها ، ولا تدري ما تأويلها ! ! حتى تمنّيت{[10504]} أني لم أكن تكلمتُ ، وأقبلوا يتحدثون ، فلما حضر قيامهم قالوا : إنك غلام حَدَثُ{[10505]} السن ، وإنك نزعت بآية ولا تدري ما هي ؟ وعسى أن تدرك ذلك الزمان ، إذا رأيت شُحًّا مطاعًا ، وهَوًى متبعًا ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بنفسك ، لا يضرك من ضل إذا اهتديت . {[10506]}
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سَهْل ، حدثنا ضَمْرَة بن ربيعة قال : تلا الحسن هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال الحسن : الحمد لله بها ، والحمد لله عليها ، ما كان مؤمن فيما مضى ، ولا مؤمن فيما بقي ، إلا وإلى جانبه منافق يكره عمله .
وقال سعيد بن المسيب : إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر ، فلا يضرك من ضل إذا اهتديت .
رواه ابن جرير ، وكذا روي من طريق سفيان الثوري ، عن أبي العُمَيْس ، عن أبي البَخْتَري ، عن حذيفة مثله ، وكذا قال غير واحد من السلف .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد الدمشقي ، حدثنا الوليد ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن كعب في قوله : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } قال : إذا هدمت كنيسة دمشق ، فجعلت مسجدًا ، وظهر لبس العَصْب ، فحينئذ تأويل هذه الآية .
{ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } أي احفظوها والزموا إصلاحها ، والجار مع المجرور جعل اسما لإلزموا ولذلك نصب أنفسكم . وقرئ بالرفع على الابتداء . { لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } لا يضركم الضلال إذا كنتم مهتدين ، ومن الاهتداء أن ينكر المنكر حسب طاقته كما قال عليه الصلاة والسلام " من رأى منكم منكرا واستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه " . والآية نزلت لما كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون إيمانهم ، وقيل كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت آباءك فنزلت . و{ لا يضركم } يحتمل الرفع على أنه مستأنف ويؤيده أن قرئ " لا يضيركم " والجزم على الجواب أو النهي لكنه ضمت الراء إتباعا لضمه الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة وتنصره قراءة من قرأ { لا يضركم } بالفتح ، و{ لا يضركم } بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره . { إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون } وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أن أحدا لا يؤاخذ بذنب غيره .
تذييل جرى على مناسبة في الانتقال فإنّه لما ذكر مكابرة المشركين وإعراضهم عن دعوة الخير عقّبه بتعليم المسلمين حدود انتهاء المناظرة والمجادلة إذا ظهرت المكابرة ، وعذر المسلمين بكفاية قيامهم بما افترض الله عليهم من الدعوة إلى الخير ، فأعلمهم هنا أن ليس تحصيل أثر الدعاء على الخير بمسؤولين عنه ، بل على الداعي بذل جهده وما عليه إذا لم يصغ المدعوّ إلى الدعوة ، كما قال تعالى : { إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } [ القصص : 56 ] .
و { عليكم } اسم فعل بمعنى الزَموا ، وذلك أنّ أصله أن يقال : عليك أن تفعل كذا ، فتكون جملة من خبر مقدّم ومبتدأ مؤخّر ، وتكون ( على ) دالّة على استعلاء مجازي ، كأنّهم جعلوا فعل كذا معتلياً على المخاطب ومتمكّناً منه تأكيداً لمعنى الوجوب فلمّا كثر في كلامهم قالوا : عليك كذا ، فركّبوا الجملة من مجرور خبر واسم ذات مبتدأ بتقدير : عليك فعل كذا ، لأنّ تلك الذات لا توصف بالعلوّ على المخاطب ، أي التمكّن ، فالكلام على تقدير . وذلك كتعلّق التحريم والتحليل بالذوات في قوله : { حرّمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] ، وقوله { أحلّت لكم بهيمة الأنعام } [ المائدة : 1 ] ، ومن ذلك ما روي { عليكم الدعاء وعليّ الإجابة } ومنه قولهم : عليّ أليّة ، وعليّ نذر . ثم كثر الاستعمال فعاملوا ( على ) معاملة فعل الأمر فجعلوها بمعنى أمر المخاطب بالملازمة ونصبوا الاسم بعدها على المفعولية . وشاع ذلك في كلامهم فسمّاها النحاة اسم فعل لأنّها جعلت كالاسم لمعنى أمر مخصوص ، فكأنّك عمدت إلى فعل ( الزم ) فسميّته ( عَلَى ) وأبرزت مَا مَعه من ضمير فألصقته ب ( عَلى ) في صورة الضمير الذي اعتيد أن يتّصل بها ، وهو ضمير الجرّ فيقال : عليك وعليكما وعليكم . ولذلك لا يسند إلى ضمائر الغيبة لأنّ الغائب لا يؤمر بصيغة الأمر بل يؤمر بواسطة لام الأمر .
فقوله تعالى : { عليكم أنفسكم } هو بنصب { أنفسكم } أي الزموا أنفسكم ، أي احرصوا على أنفسكم . والمقام يبيّن المحروص عليه ، وهو ملازمة الاهتداء بقرينة قوله : { إذا اهتديتم } ، وهو يشعر بالإعراض عن الغير وقد بيّنه بقوله : { لاَ يضرّكم من ضلّ } .
فجملة { لا يضرّكم من ضلّ } تتنزّل من التي قبلها منزلة البيان فلذلك فصلت ، لأنّ أمرهم بملازمة أنفسهم مقصود منه دفع ما اعتراهم من الغمّ والأسف على عدم قبول الضالّين للاهتداء ، وخشية أن يكون ذلك لتقصير في دعوتهم ، فقيل لهم : عليكم أنفسكم ، أي اشتغلوا بإكمال اهتدائكم ، ففعل { يضرّكم } مرفوع .
وقوله : { إذا اهتديتم } ظرف يتضمّن معنى الشرط يتعلّق ب { يضرّكم } . وقد شمل الاهتداء جميع ما أمرهم به الله تعالى . ومن جملة ذلك دعوة الناس إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلو قصروا في الدعوة إلى الخير والاحتجاج له وسكتوا عن المنكر لضرّهم من ضلّ لأنّ إثم ضلاله محمول عليهم .
فلا يتوهّم من هذه الآية أنّها رخصة للمسلمين في ترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأنّ جميع ذلك واجب بأدلّة طفحت بها الشريعة . فكان ذلك داخلاً في شرط { إذا اهتديتم } . ولما في قوله { عليكم أنفسكم } من الإشعار بالإعراض عن فريق آخر وهو المبيّين بِ { من ضلّ } ، ولما في قوله { إذا اهتديتم } من خفاء تفاريع أنواع الاهتداء ؛ عرض لبعض الناس قديماً في هذه الآية فشكّوا في أن يكون مُفادها الترخيص في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وقد حدث ذلك الظنّ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
أخرج الترمذي عن أبي أمية الشعباني أنّه قال : سألت عنها أبا ثعلبة الخشني ، فقال لي : سألتَ عنها خبيراً ، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " بل ائتمروا بالمعروف وتناهَوا عن المنكر حتّى إذا رأيت شحّاً مُطَاعَاً وهوى مُتَّبعاً وَدنْيَا مُؤثرَة وإعجابَ كلّ ذي رأي برأيه فعليك بخاصّة نفسك ودَعَ العوّام " وَحَدَثَ في زَمَن أبي بكر : أخرَجَ أصحابُ « السنن » أنّ أبا بكر الصديق بلغه أنّ بعض الناس تأوّل الآية بسقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : { يأيّها الناس إنّكم تَقْرَأونَ هذه الآية { يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم } وإنّكم تضعونها على غير موضعها وإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنّ الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيّرونه يوشك الله أن يعمّهم بعقابه ، وإنّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعذاب من عنده . وعن ابن مسعود أنّه قرئت عنده هذه الآية فقال : إنّ هذا ليس بزمانها إنّها اليوم مقبولة ( أي النصيحة ) ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يُقبل منكم فحينئذٍ عليكم أنفسكم ( يريد أن لا يجب عليهم قتال لتقبل نصيحتهم ) . وعنه أيضاً : إذا اختلفت القلوب وألبستم شيعاً وذاق بعضكم بأس بعض فامرُؤ ونفسه . وعن عبد الله بن عمر أنه قال : إنّها ( أي هذه الآية ) ليست لي ولا لأصحابي لأنّ رسول الله قال : " ألا ليبلّغ الشاهد الغائب " فكنّا نحن الشهود وأنتم الغيّب ، ولكن هذه الآية لأقوام يجيؤون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم .
فماصْدقُ هذه الآية هو مَاصْدقُ قول النبي صلى الله عليه وسلم في تغيير المنكر : " من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " فإنّ معنى الاستطاعة التمكّن من التغيير دون ضُرّ يلحقه أو يلحق عموم الناس كالفتنة . فالآية تفيد الإعراض عن ذلك إذا تحقّق عدم الجدوى بعد الشروع في ذلك ، ويلحق بذلك إذا ظهرت المكابرة وعدم الانتصاح كما دلّ عليه حديث أبي ثعلبة الخشني ، وكذلك إذا خيف حصول الضرّ للداعي بدون جدوى ، كما دلّ عليه كلام ابن مسعود المذكور آنفاً .
وقوله : { إلى الله مرجعكم جميعاً } عذر للمهتدي ونذارة للضالّ . وقدّم المجرور للاهتمام بمتعلّق هذا الرجوع وإلقاء المهابة في نفوس السامعين ، وأكّد ضمير المخاطبين بقوله : { جميعاً } للتنصيص على العموم وأن ليس الكلام على التغليب . والمراد بالإنباء بما كانوا يعملون الكناية عن إظهار أثر ذلك من الثواب للمهتدي الداعي إلى الخير ، والعذاب للضالّ المعرض عن الدعوة .
والمرجع مصدر ميمي لا محالة ، بدليل تعديته ب { إلى } ، وهو ممّا جاء من المصادر الميمية بكسر العين على القليل ، لأنّ المشهود في الميمي مِن يَفعِل بكسر العين أن يكون مفتوح العين .