قوله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك } الآية .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو اليمان ، أنا شعيب عن الزهري ، أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير رضي الله عنه كان يحدث أنه خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة كانا يسقيان به كلاهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير : " اسق يا زبير ، ثم أرسل إلى جارك . فغضب الأنصاري ثم قال : يا رسول الله أن كان ابن عمتك ، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال للزبير : اسق ، ثم احبس الماء حتى يرجع الجدر " فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار على الزبير رأيا أي أراد له سعةً له وللأنصار ، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم . قال عروة : قال الزبير : والله ما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك . { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } الآية . وروي أن الأنصاري الذي خاصم الزبير كان اسمه حاطب بن أبي بلتعة ، فلما خرجا مر على المقداد فقال : لمن كان القضاء ؟ فقال الأنصاري : قضى لابن عمته ، ولوى شدقيه ، ففطن له يهودي كان مع المقداد ، فقال : قاتل الله هؤلاء ، يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم ؟ وايم الله لقد أذنبنا ذنباً مرة في حياة موسى عليه السلام فدعانا موسى إلى التوبة منه ، فقال : اقتلوا أنفسكم ففعلنا ، فبلغ قتلانا سبعين ألفاً في طاعة ربنا حتى رضي عنا . فقال ثابت بن قيس بن شماس : أما والله إن الله ليعلم مني الصدق ، ولو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت ، فأنزل الله في شأن حاطب بن أبي بلتعة : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك } . وقال مجاهد والشعبي : نزلت في بشر المنافق واليهودي اللذين اختصما إلى عمر رضي الله عنه .
قوله تعالى : { فلا } أي : ليس الأمر كما يزعمون أنهم مؤمنون ثم لا يرضون بحكمك ، ثم استأنف القسم .
قوله تعالى : { وربك لا يؤمنون } . ويجوز أن يكون { لا } في قوله { فلا } صلة كما في قوله { فلا أقسم } .
قوله تعالى : { حتى يحكموك } . أي يجعلوك حكماً .
قوله تعالى : { فيما شجر بينهم } ، أي : اختلف واختلط من أمورهم والتبس عليهم حكمه ، ومنه الشجر لالتفاف أغصانه بعضها ببعض .
قوله تعالى : { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً } ، قال مجاهد شكا ، وقال غيره : ضيقاً .
قوله تعالى : { مما قضيت } قال الضحاك : إثماً ، أي : يأثمون بإنكارهم ما قضيت .
قوله تعالى : { ويسلموا تسليماً } . أي : وينقادوا لأمرك انقياداً .
وقوله : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة : أنه لا يؤمن أحد حتى يُحَكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور ، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا ؛ ولهذا قال : { ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } أي : إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به ، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة ، كما ورد في الحديث : " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " .
وقال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله حدثنا محمد بن جعفر ، أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة قال : خاصم الزبير رجلا{[7832]} في شُرَيج{[7833]} من الحَرَّة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اسق يا زُبير ثم أرْسل الماء إلى جارك " فقال الأنصاري : يا رسول الله ، أنْ كان ابن عمتك ؟{[7834]} فَتَلَوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " اسق يا زبير ، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدْر ، ثم أرسل الماء إلى جارك " واستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حَقّه في صريح الحكم ، حين أحفظه الأنصاري ، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة . قال الزبير : فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } الآية .
وهكذا رواه البخاري هاهنا أعني في كتاب : " التفسير " من صحيحه من حديث معمر : وفي كتاب : " الشرب " من حديث ابن جُرَيْج ومعمر أيضا ، وفي كتاب : " الصلح " من حديث شعيب بن أبي حمزة ، ثلاثتهم عن الزهري عن عروة ، فذكره{[7835]} وصورته صورة الإرسال ، وهو متصل في المعنى .
وقد رواه الإمام أحمد من هذا الوجه فصرح بالإرسال فقال : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عروة بن الزبير : أن الزبير كان يحدث : أنه كان يخاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة ، كانا يسقيان بها كلاهما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير : " اسق ثم أرسل إلى جارك " فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله ، أن كان ابن عمتك ؟{[7836]} فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر " فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري ، فلما أحفظ{[7837]} الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم ، قال عروة : فقال الزبير : والله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
هكذا رواه الإمام أحمد{[7838]} وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير ؛ فإنه لم يسمع منه ، والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله ، فإن أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رواه كذلك في تفسيره فقال :
حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، حدثنا الليث ويونس ، عن ابن شهاب ، أن عروة بن الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام : أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج في الحَرة ، كانا يسقيان به كلاهما النخل ، فقال الأنصاري : سَرِّح الماء يَمُر . فأبى عليه الزبير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك " فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله ، أن كان ابن عَمَّتك ؟ فتلوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر " واستوعى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للزبير حَقّه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصاري ، فلما أحفظ{[7839]} الأنصاري رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم فقال الزبير : ما أحسب هذه الآية إلا في ذلك : { فَلا وَرَبِّكَ لا يَؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
وهكذا رواه النسائي من حديث ابن وهب ، به{[7840]} ورواه أحمد والجماعة كلهم من حديث الليث ، به{[7841]} وجعله أصحاب الأطراف في مسند عبد الله بن الزبير ، وكذا ساقه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن الزبير ، والله أعلم . والعجب كل العجب من الحاكم أبي عبد الله النيسابوري ، فإنه روى هذا الحديث من طريق ابن أخي ابن شهاب ، عن عمه ، عن عروة ، عن عبد الله بن الزبير ، عن الزبير فذكره ، ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه . فإني لا أعلم أحدا قام بهذا الإسناد عن الزهري يذكر عبد الله بن الزبير ، غير ابن أخيه ، وهو عنه ضعيف . {[7842]}
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه : حدثنا محمد بن علي أبو دُحَيم ، حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا الفضل بن دُكَين ، حدثنا ابن عُيَيْنة ، عن عمرو بن دينار ، عن سلمة - رجل من آل أبي سلمة - قال : خاصم الزبير رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للزبير ، فقال الرجل : إنما قضى له لأنه ابن عمته . فنزلت : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ } الآية{[7843]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن عثمان ، حدثنا أبو حيوة ، حدثنا سعيد بن عبد العزيز ، عن الزُّهري ، عن سعيد بن المسيب في قوله : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ]{[7844]} } [ الآية ]{[7845]} قال : نزلت في الزبير بن العوام ، وحاطب بن أبي بلتعة . اختصما في ماء ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقي الأعلى ثم الأسفل . هذا مرسل ولكن فيه فائدة تسمية الأنصاري{[7846]} .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن لَهِيعة ، عن أبي الأسود قال : اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى بينهما ، فقال الذي قضى عليه : ردنا إلى عمر بن الخطاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انطلقا{[7847]} إليه " فلما أتيا إليه قال الرجل : يا ابن الخطاب ، قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا ، فقال : ردنا إلى عمر . فردنا إليك . فقال : أكذاك ؟ فقال : نعم فقال عمر : مَكَانَكُمَا حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما . فخرج إليهما مشتملا على سيفه ، فضرب الذي قال رُدَّنا إلى عمر فقتله ، وأدبر الآخر فارا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله قتل عُمَر والله صاحبي ، ولولا أني أعجزتُه لقتلني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما كنت أظن أن يجترئ عُمَر على قتل مؤمن " فأنزل الله : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ }{[7848]} الآية ، فهدر دم ذلك الرجل ، وبرئ عمر من قتله ، فكره الله أن يسن ذلك بعد ، فقال : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } [ النساء : 66 ] .
وكذا رواه ابن مَرْدُويه من طريق ابن لَهِيعة ، عن أبي الأسود به .
وهو أثر غريب ، وهو مرسل ، وابن لهيعة ضعيف{[7849]} والله أعلم .
طريق أخرى : قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دُحَيْم في تفسيره : حدثنا شُعَيب بن شعيب حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا عتبة بن ضَمْرَة ، حدثني أبي : أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحق على المبطل ، فقال المقضيّ عليه : لا أرضى . فقال صاحبه : فما تريد ؟ قال : أن نذهب إلى أبي بكر الصديق ، فذهبا إليه ، فقال الذي قُضي له : قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي{[7850]} فقال أبو بكر : فأنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم فأبى صاحبه أن يرضى ، قال : نأتي عمر بن الخطاب ، فأتياه ، فقال المقضى له : قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقضى لي عليه ، فأبى أن يرضى ، [ ثم أتينا أبا بكر ، فقال : أنتما على ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأبى أن يرضى ]{[7851]} فسأله عمر ، فقال : كذلك ، فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قدْ سَلَّه ، فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى ، فقتله ، فأنزل الله : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [ إلى آخر ]{[7852]} الآية{[7853]} .
{ فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُواْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { فلا } فليس الأمر كما يزعمون أنهم يؤمنون بما أنزل إليك ، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت ، ويصدّون عنك إذا دعو إليك يا محمد . واستأنف القسَمَ جلّ ذكره ، فقال : { وَربّكَ } يا محمد { لا يُؤْمِنُونَ } أي لا يصدّقون بي وبك ، وبما أنزل إليك ، { حَتّى يُحَكّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ } يقول : حتى يجعلوك حكما بينهم فيما اختلط بينهم من أمورهم ، فالتبس عليهم حكمه ، يقال : شَجَرَ يشجُر شُجُورا وشَجْرا ، وتشاجر القوم إذا اختلفوا في الكلام والأمر مشاجرة وشِجَارا { ثُم لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجا مما قَضَيْتَ } يقول : لا يجدوا في أنفسهم ضيقا مما قضيت ، وإنما معناه : ثم لا تحرج أنفسهم مما قضيت : أي لا تأثم بإنكارها ما قضيت وشكها في طاعتك وأن الذي قضيت به بينهم حق لا يجوز لهم خلافه . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { حَرَجا مما قَضَيْتَ } قال : شكّا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله : { حَرَجا مما قَضَيْتَ } يقول : شَكّا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثنا يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : { ثُمّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسهِمْ حَرَجا مِمّا قَضَيْتَ } قال : إثما { وَيُسَلّمُوا تَسْلِيما } يقول : ويسلموا لقضائك وحكمك ، إذعانا منهم بالطاعة ، وإقرارا لك بالنبوّة تسليما .
واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الاَية وفيمن نزلت ، فقال بعضهم : نزلت في الزبير بن العوّام وخصم له من الأنصار ، اختصما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور . ذكر الرواية بذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس والليث بن سعد ، عن ابن شهاب ، أن عروة بن الزبير حدثه ، أن عبد الله بن الزبير حدثه ، عن الزبير بن العوّام : أنه خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرّة كانا يسقيان به كلاهما النخل ، فقال الأنصاريّ : سرّح الماء يمرّ ! فأبي عليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اسْق يا زُبَيْرُ ثُمّ أرْسِل المَاءَ إلى جاركَ ! » فغضب الأنصاريّ وقال : يا رسول الله ، أن كان ابن عمتك ؟ فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : «اسْق يا زُبَيْرُ ثُمّ احْبِسِ المَاءَ حتى يَرْجِعَ إلى الجَدْرِ ثُمّ أرْسِلِ المَاءَ إلى جارِكَ ! » واستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه قال أبو جعفر : والصواب : «استوعب » . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه الشفقة له وللأنصاريّ ، فلما أحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصاري استوعب للزبير حقه في صريح الحكم . قال : فقال الزبير : ما أحسب هذه الاَية نزلت إلا في ذلك : { فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ } . . . الاَية .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة ، قال : خاصم الزبير رجل من الأنصار في شرج من شراج الحرّة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا زُبَيْرُ ، اشْرَبْ ثُمّ خَلّ سَبِيلَ المَاءِ ! » فقال الذي من الأنصار : اعدل يا نبيّ الله وإن كان ابن عمتك ! قال : فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف أن قد ساءه ما قال ، ثم قال : «يا زُبَيْرُ احْبِس المَاءَ إلى الجُدُر أوْ إلى الكَعْبَيْن ، ثُمّ خَلّ سَبِيلَ المَاء ! » ، قال : ونزلت : { فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ } .
حدثني عبد الله بن عمير الرازي ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عمرو بن دينار ، عن سلمة رجل من ولد أمّ سلمة ، عن أمّ سلمة : أن الزبير خاصم رجلاً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير ، فقال الرجل لما قضى للزبير : أن كان ابن عمتك ؟ فأنزل الله : { فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسهِمْ حَرَجا ممّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيما } .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الاَية في المنافق واليهودي اللذين وصف الله صفتهما في قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكع يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ } . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسِهِمْ حَرَجا مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيما } قال : هذا الرجل اليهودي والرجل المسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي بنحوه ، إلا أنه قال : إلى الكاهن .
قال أبو جعفر : وهذا القول أعني قول من قال : عني به المحتكمان إلى الطاغوت اللذان وصف الله شأنهما في قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } أولى بالصواب ، لأن قوله¹ { فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ } في سياق قصة الذين ابتدأ اللّه الخبر عنهم بقوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ } ، ولا دلالة تدلّ على انقطاع قصتهم ، فإلحاق بعض ذلك ببعض ما لم تأت دلالة على انقطاعه أَوْلَى .
فإن ظنّ ظانّ أن في الذي رُوي عن الزبير وابن الزبير من قصته وقصة الأنصاري في شراج الحرّة ، وقول من قال في خبرهما ، فنزلت : { فَلا ورَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ } ما ينبيء عن انقطاع حكم هذه الاَية وقصتها من قصة الاَيات قبلها ، فإنه غير مستحيل أن تكون الاَية نزلت في حصة المحتكمين إلى الطاغوت ، ويكون فيها بيان ما احتكم فيه الزبير وصاحبه الأنصاريّ ، إذ كانت الاَية دالة على ذك . وإذ كان ذلك غير مستحيل ، كان إلحاق معنى بعض ذلك ببعض أولى ما دام الكلام متسقة معانيه على سياق واحد ، إلا أن تأتي دلالة على انقطاع بعض ذلك من بعض ، فيعدل به عن معنى ما قبله . وأما قوله : { وَيُسَلّمُوا } فإنه منصوب عطفا على قوله : { ثُمّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسِهِمْ } . قوله : { ثُمّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسِهِمْ } نصب عطفا على قوله : { حتى يُحكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهمْ } .
قال الطبري : قوله : { فلا } رد على ما تقدم ، تقديره : فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، ثم استأنف القسم بقوله ، { وربك لا يؤمنون } .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وقال غيره : إنما قدم «لا » على القسم اهتماماً بالنفي ، وإظهاراً لقوته ، ثم كررها بعده تأكيداً للتهمم بالنفي ، و كان يصح إسقاط { لا } الثانية ، ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى ، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي ، ويذهب معنى الاهتمام{[4132]} ، و { شجر } معناه : اختلط والتف من أمورهم ، وهو من الشجر ، شبيه بالتفاف الأغصان ، وكذلك الشجير الذي امتزجت مودته بمودة صاحبه{[4133]} ، وقرأ أبو السمال «شجْر » بإسكان الجيم .
قال القاضي أبو محمد : وأظنه فر من توالي الحركات ، وليس بالقوي ، لخفة الفتحة ، و { يحكموك } نصب بحتى ، لأنها هاهنا غاية مجردة . و { يجدوا } عطف عليه ، والحرج : الضيق والتكلف والمشقة ، قال مجاهد : { حرجاً } ، شكاً{[4134]} ، وقوله : { تسليماً } مصدر مؤكد ، منبىء على التحقيق في التسليم ، لأن العرب إنما تردف الفعل بالمصدر إذا أرادت أن الفعل وقع حقيقة ، كما قال تعالى : { وكلم الله موسى تكليماً }{[4135]} [ النساء : 164 ] وقد تجيء به مبالغة وإن لم يقع ، ومنه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وعجت عجيجاً من جدام المطارف{[4136]} .
وقال مجاهد وغيره : المراد بهذه الآية من تقدم ذكره ، ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت ، وفيهم نزلت ، ورجح الطبري هذا ، لأنه أشبه بنسق الآية وقالت طائفة : نزلت في رجل خاصم الزبير بن العوام في السقي بماء الحرة ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب ذلك الرجل وقال آن كان ابن عمتك ؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستوعب للزبير حقه ، فقال : احبس يا زبير الماء حتى يبلغ الجدر ، ثم أرسل الماء ، » فنزلت الآية{[4137]} ، واختلف أهل هذا القول في الرجل ، فقال قوم : هو رجل من الأنصار من أهل بدر ، وقال مكي وغيره : هو حاطب بن أبي بلتعة .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : والصحيح الذي وقع في البخاري أنه رجل من الأنصار ، وأن الزبير قال : فما أحسب أن هذه الآية نزلت إلا في ذلك ، وقالت طائفة : لما قتل عمر الرجل المنافق الذي لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم ، بلغ ذلك النبي وعظم عليه ، وقال : ( ما كنت أظن أن عمر يجترىء على قتل رجل مؤمن ){[4138]} ، فنزلت الآية نافية لإيمان ذلك الرجل الراد لحكم النبي ، مقيمة عذر عمر بن الخطاب في قتله .