الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا} (65)

قوله : ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُومِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ( {[12812]} ) بَيْنَهُمْ ) الآية [ 65 ] .

المعنى في قوله : ( فَلاَ ) أي : ليس الأمر على ما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، وما أنزل من قبلك وهم يتحاكمون إلى الطاغوت ، ويصدون عنك إذا دعوا إليك ، ثم استأنف القسم فقال : ( وَرَبِّكَ لاَ يُومِنُونَ ) أي : وربك يا محمد ، لا يؤمنون أي : لا يصدقون بالله عز وجل ونبيه صلى الله عليه وسلم ( حَتَّى يُجَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) ، أي : يحكمونك حَكَماً بينهم في خصوماتهم . وقرأ أبو السمأل : ( شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) بإسكان الجيم وهو بعيد لخفة الفتحة( {[12813]} ) .

قوله : ( ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ) أي : ضيقاً( {[12814]} ) من حكمك أي لا تأثم( {[12815]} ) أنفسهم بإنكارها حكمك ، وشكها في طاعتك لأن الحرج الإثم ، وكأنه قال : ( {[12816]} ) ثم لا تحرج( {[12817]} ) أنفسهم بإنكارها حكمك ، قال : معنى ذلك مجاهد والضحاك( {[12818]} ) .

وقيل : ( {[12819]} ) الحرج : الشك وكله يرجع إلى الإثم( {[12820]} ) .

( وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) أي : يسلموا لحكمك إقراراً بنبوتك .

ويروى أن هذه الآية نزلت في الزبير بن العوام وخصم له ، ذكر عن الزبير أنه خاصم رجلاً من الأنصار وهو حاطب بن أبي بلتعة في شريج( {[12821]} ) من الحرة كانا يسقيان به كلاهما النخل ، فقال الأنصاري سرح الماء يمر ، وكانت أرضه أسفل من أرض الزبير فأبى( {[12822]} ) عليه ، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اسق يا زبير ، ثم أرسل إلى جارك . فغضب الأنصاري فقال : يا رسول الله إن( {[12823]} ) كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : يا زبير اسق ، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر ، ثم أرسل الماء إلى جارك ، فاستوعب( {[12824]} ) رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم وكان أولاً أراد النبي صلى الله عليه وسلم الرفوت( {[12825]} ) والسعة فهما فنزلت الآية( {[12826]} ) .

وقيل : نزلت في اليهودي والمنافق اللذين تقدم ذكرهما قاله مجاهد وغيره ، وهو أولى بسياق الكلام .

قال الطبري : ولا ينكر أن تكون الآية نزلت في الجميع فيكون حكم المتحاكمين إلى الطاغوت ، وحكم الزبير وخصمه( {[12827]} ) .

ومن قال إنها في الزبير وخصمه ما زالت أحسن الوقف على ما [ قبل الآية ، ومن قال : إنها في اليهود والمنافق ما زالت ، فليس الوقوف على ما ] قبلها( {[12828]} ) بتمام ، لأن القصة واحدة( {[12829]} ) .

وروي أنها نزلت في رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقضى بينهما ، فقال الذي قضى علي ردنا إلى عمر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : انطلقا إلى عمر ، فلما أتيا عمر قال الذي له الحق : يا ابن الخطاب قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا ، فقال : ردنا إلى عمر فردنا إليك ، قال : كذلك ؟ قال : نعم ! قال عمر : مكانكما حتى أخرج فأقضي بينكما ، فخرج إليهما مشتملاً على سيفه ، فضرب الذي قال : ردنا إلى عمر فقتله ، وأدبر الآخر فاراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن " ! فأنزل الله عز وجل : ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُومِنُونَ ) الآية( {[12830]} ) .


[12812]:- يقال شجر يشجر شجراً مشجوراً، وتشاجر القوم مشاجرة وشجاراً إذا اختلفوا في الأمر، واختلط عليهم. انظر: مجاز القرآن 1/131، وتفسير الغريب 130، والمفردات 262.
[12813]:- هي قراءة شاذة، عدها سيبويه في الكتاب لحنا 2/218.
[12814]:- (د): ضيفاً وهو تحريف.
[12815]:- (د): لا تألم وهو تحريف.
[12816]:- زيادة يقتضيها السياق.
[12817]:- (أ): لا تخرم (د): لا تخرم.
[12818]:- انظر: هذا التوجيه في جامع البيان.
[12819]:- عزاه الطبري إلى مجاهد. انظر: جامع البيان 5/158.
[12820]:- أصل الحرج والحراج مجتمع الشيء وتصور منه ضيق ما بينهما فقيل للضيق حرج، وللإثم حرج، انظر: المفردات 111، واللسان حرج 2/233.
[12821]:- (ج): تسريح، والكلمتان معاً محرفتان عن كلمة "شريج" كما وردت عند البخاري والترمذي، والشراج: مجاري الماء من الحرار إلى السهل، والحرة موضع معروف بالمدينة، وهي أرض ذات حجارة سوداء نخرة، كأنها أحرقت بالنار. انظر: اللسان "شرج" 2/307، و"حر" 4/179.
[12822]:- (د): فأبا.
[12823]:- "أن" بفتح الهمزة وسكون النون، والجملة استفهامية على جهة الإنكار، كأنه يقول: أتحكم له لأجل أنه ابن عمتك؟ لأن أم الزبير هي صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[12824]:- رواية البخاري استوعى، ومعنى استوعب استأصل واستقصى. انظر: اللسان 1/799. ومعنى استوعى أي استوفى. فتح الباري 7/220.
[12825]:- وكذا... في جميع النسخ وهو خطأ: والصواب الرِّفة – بالكسر أقصد الوِرْد وهو أن تشرب الإبل الماء كل يوم ويكون المراد أن يسقي كل من الزبير وحافظ زرعه بين حين وآخر. انظر: اللسان رفه 13 – 492. [والأحسن أن يقال هي محرفة عن الرفق لأن في الرواية عند البخاري "أشار على الزبير برأي لهما فيه سعة" فتح الباري 7/220] [المدقق].
[12826]:- خرجه البخاري في المساقاة (2181 و2189) و(2509) وفي التفسير (4219) 5/180، والترمذي في كتاب التفسير 3/305، وابن ماجه في كتاب الرهون 2/829. بل هو عند مسلم (4347) [المدقق].
[12827]:- انظر: جامع البيان 5/160، والبيهقي في كتاب آداب القضاء 10/106.
[12828]:- ساقط من (أ).
[12829]:- انظر: القطع: 254.
[12830]:- انظر: أسباب النزول: 77. وقد سبق ذكر ذلك [المدقق].