الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا} (65)

{ فَلاَ وَرَبِّكَ } معناه فوربك كقوله تعالى : { فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ } [ الحجر : 92 ] و ( لا ) مزيدة لتأكيد معنى القسم ، كما زيدت في { لّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] لتأكيد وجود العلم . و { لاَ يُؤْمِنُونَ } جواب القسم

فإن قلت : هلا زعمت أنها زيدت لتظاهر ( لا ) في ( لا يؤمنون ) ؟ قلت : يأبى ذلك استواء النفي والإثبات فيه ، وذلك قوله : { فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } [ التكوير : 19 ] { فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } فيما اختلف بينهم واختلط ، ومنه الشجر لتداخل أغصانه { حَرَجاً } ضيقاً ، أي لا تضيق صدورهم من حكمك ، وقيل : شكا ، لأنّ الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له اليقين { وَيُسَلِّمُواْ } وينقادوا ويذعنوا لما تأتي به من قضائك ، لا يعارضوه بشيء ، من قولك : سلم الأمر لله وأسلم له ، وحقيقة سلم نفسه وأسلمها ، إذا جعلها سالمة له خالصة ، و { تَسْلِيماً } تأكيد للفعل بمنزلة تكريره . كأنه قيل : وينقادوا لحكمه انقياداً لا شبهة فيه ، بظاهرهم وباطنهم . قيل : نزلت في شأن المنافق واليهودي . وقيل : في شأن الزبير وحاطب بن أبي بلتعة ؛ وذلك أنهما اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرّة . كانا يسقيان بها النخل ، فقال : «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك » ، فغضب حاطب وقال : لأن كان ابن عمتك ؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : «اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر واستوف حقك ، ثم أرسله إلى جارك » كان قد أشار على الزبير برأي فيه السعة له ولخصمه ؛ فلما أحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استوعب للزبير حقه في صريح الحكم ، ثم خرجا فمرا على المقداد ، فقال : لمن كان القضاء ؟ فقال الأنصاري : قضى لابن عمته ، ولوى شدقه . ففطن يهودي كان مع المقداد فقال : قاتل الله هؤلاء ، يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضى بينهم ، وأيم الله ، لقد أذنبنا ذنباً مرّة في حياة موسى ، فدعانا إلى التوبة منه وقال : اقتلوا أنفسكم ، ففعلنا ، فبلغ قتلانا سبعين ألفاً في طاعة ربنا حتى رضي عنا .

فقال ثابت بن قيس بن شماس : أما والله إنّ الله ليعلم مني الصدق ، لو أمرني محمد أن أقتل نفسي لقتلتها . وروى أنه قال ذلك ثابت وابن مسعود وعمار بن ياسر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده إنّ من أمتي رجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي » وروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : والله لو أمرنا ربنا لفعلنا ، والحمد لله الذي لم يفعل بنا ذلك ، فنزلت الآية في شأن حاطب ، ونزلت في شأن هؤلاء .