محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا} (65)

( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما65 ) .

( فلا وربك لا يؤمنون ) في السر ولا يستحقون اسم الإيمان في السر ( حتى يحكموك ) يجعلوك حاكما ويترافعوا اليك ( فيما شجر بينهم ) أي فيما اختلف بينهم من الأمور والتبس ( ثم لا يجدوا في أنفسهم ) في قلوبهم ( حرجا ) أي ضيقا ( مما قضيت ) بينهم ( ويسلموا ) أي : ينقادوا لأمرك ويذعنوا لحكمك ( تسليما ) تأكيد للفعل . بمنزلة تكريره . أي تسليما تاما بظاهرهم وباطنهم من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة . كما ورد في الحديث{[1941]} : " والذي نفسي بيده ! لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " .

/ تنبيهات

الأول : روى البخاري{[1942]} عن الزهري عن عروة قال : " خاصم الزبير رجلا في شراج الحرة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك . فقال الأنصاري : يا رسول الله ! إن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : اسق يا زبير . ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر . ثم أرسل الماء إلى جارك . واستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري . وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة .

قال الزبير : فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) " .

قال ابن كثير : هكذا رواه البخاري في ( كتاب التفسير ) في ( صحيحه ) من حديث عمر . وفي كتاب ( المساقاة ) من حديث ابن جريج{[1943]} ومعمر{[1944]} أيضا . وفي كتاب ( الصلح ) من حديث شعيب بن أبي حمزة{[1945]} . ثلاثتهم عن الزهري عن عروة فذكره . وصورته صورة الإرسال وهو متصل في المعنى . وقد رواه الإمام أحمد{[1946]} من هذا الوجه فصرح بالإرسال فقال : حدثنا أبو اليمان . أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث " أنه كان يخاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة . كان يستقيان بها كلاهما . فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير : اسق : ثم أرسل الماء إلى جارك . فغضب الأنصاري وقال يا رسول الله ! إن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم قال للزبير : أسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر . فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه . وكان النبي صلى الله عليه وسلم ، قبل ذلك ، أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري . فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم .

قال عروة : فقال الزبير : والله ! ما أحسب هذه الآية أنزلت إلا في ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكوك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) " .

/ ( هكذا رواه الإمام أحمد وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير فانه لم يسمع منه . والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله . فان أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رواه كذلك في ( تفسيره ) . فقال : حدثنا يونس بن عبد الأعلى . حدثنا ابن وهب . أخبرني الليث ويونس عن ابن شهاب ، أن عروة بن الزبير حدثه ، أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام ، " أنه خاصم رجلا . . . " الحديث ) . قال ابن كثير : وهكذا رواه النسائي{[1947]} من حديث ابن وهب به . ورواه أحمد والجماعة كلهم في مسند عبد الله بن الزبير . والله أعلم{[1948]} .

وروى ابن أبي حاتم عن الزهري عن سعيد بن المسيب في هذه الآية قال : " نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة . اختصما في ماء . فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقي الأعلى ثم الأسفل " .

قال ابن كثير : هذا مرسل . ولكن فيه فائدة تسمية الأنصاري . انتهى .

قال الحافظ ابن حجر في ( فتح الباري ) : وحكى الواحدي وشيخه الثعلبي والمهدوي أنه حاطب بن بلتعة . وتعقب بأن حاطبا ، وان كان بدريا ، لكنه من المهاجرين . لكن مستند ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن عبد العزيز عن الزهري عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكوك فيما شجر بينهم . . . ) الآية قال : نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة . اختصما في ماء . . . الحديث . واسناده قوي مع إرساله . فان كان سعيد بن المسيب سمعه من الزبير ، فيكون موصولا . وعلى هذا فيؤول قوله : ( من الأنصار ) على ارادة المعنى الأعم . كما وقع ذلك في حق غير واحد كعبد الله بن حذافة . وأما قول الكرماني بأن حاطبا كان حليفا للأنصار – ففيه نظر . / وأما قوله : ( من بني أمية بن زيد ) فلعله كان مسكنه هناك ، كعمر . ثم قال : ويترشح بأن حاطبا كان حليفا لآل الزبير بن العوام من بني أسد وكأنه كان مجاورا للزبير . والله أعلم . ( ج 5 ص 26 و27 ) .

أقول : وقع في التفسير المنسوب لابن عباس ، ههنا ، ذكر حاطب بن أبي بلتعة وتلقيبه بالمنافق وادراجه تحت قوله تعالى : ( رأيت المنافقين ) . وفي صحة هذا عن ابن عباس نظر . وكيف ؟ وقد كان رضي الله عنه من البدريين . وقد انتفى عمن شهدها .

قال التوربشتي : يحتمل أنه صدر ذلك منه بادرة النفس . كما وقع لغيره ممن صحت توبته . إذ لم تجر عادة السلف بوصف المنافقين بصفة النصرة التي هي المدح ولو شاركهم في النسب . قال : بل هي زلة من الشيطان تمكن به منها عند الغضب ، وليس ذلك بمستنكر من غير المعصوم في تلك الحالة . انتهى .

ولما هم عمر رضي الله عنه بضرب عنقه في قصة الظعينة{[1949]} ، قال حاطب : " لا تعجل علي / يا رسول الله ! والله ! اني لمؤمن بالله ورسوله . وما ارتددت ولا بدلت . فأقره صلى الله عليه وسلم ، وكف عمر عنه . وقال صلى الله عليه وسلم لعمر : انه شهد بدرا . وما يدريك ، يا عمر ؟ لعل الله قد اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم . فذرفت عينا عمر . . . " الحديث .

ولله در أصحاب الصحاح حيث أبهموا في قصة الزبير اسم خصمه سترا عليه كيلا يغض من مقامه . وهكذا ليكن الأدب . وكفانا أصلا عظيما في هذا الباب ابهام التنزيل الجليل في كثير من قصصه الكريمة . فهو ينبوع المعارف والآداب على مرور السنين والأحقاب . هذا كله على الجزم بأنها نزلت في قصة الزبير وخصمه . وقال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : والراجح رواية الأكثر . وأن الزبير كان لا يجزم بذلك . ثم قال الحافظ ابن حجر : وجزم مجاهد والشعبي بأن الآية إنما نزلت فيمن نزلت فيه الآية قبلها وهي قوله تعالى : ( ألم تر الخ ) فروى اسحاق بن راهويه في ( تفسيره ) باسناد صحيح عن الشعبي . قال : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة . فدعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم . لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة . ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم . لأنه علم انهم يأخذونها . فأنزل الله هذه الآيات ، الى . . . ( ويسلموا تسليما ) .

وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد ، ونحوه .

/ وروى الطبري{[1950]} باسناد صحيح عن ابن عباس " أن حاكم اليهود يومئذ كان أبا برزة الأسلمي قبل أن يسلم ويصحب " . ( لم أعثر على هذا الأثر في نسخة التفسير التي بين يدي . )

وروى {[1951]}باسناد آخر صحيح إلى مجاهد ، أنه كعب بن الأشرف . انتهى .

وقال ابن كثير : ذكر سبب آخر غريب جدا . قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة . أخبرنا ابن وهب . أخبرني عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود قال : " اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى بينهما . فقال المقضي عليه : ردنا إلى عمر بن الخطاب . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم . انطلقا اليه . فلما أتيا اليه ، فقال الرجل : يا ابن الخطاب ! قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا ، فقال : ردنا إلى عمر بن الخطاب فردنا اليك . فقال : أكذاك ؟ قال : نعم . فقال عمر : مكانكما حتى أخرج اليكما فأقضي بينكما . فخرج اليهما مشتملا على سيفه فضرب الذي قال : ردنا إلى عمر . فقتله . وأدبر الآخر . فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! قتل عمر ، والله ! صاحبي . ولولا أني أعجزته لقتلني .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن " . فأنزل الله : ( فلا وربك لا يؤمنون . . . الآية ) فهدر دم ذلك الرجل وبرئ عمر من قتله . فكره الله أن يسن ذلك بعده . فأنزل : ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم ) الآية " وكذا رواه ابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود به ، وهو أثر غريب مرسل . وابن لهيعة ضعيف . والله أعلم .

طريق أخرى : قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم في ( تفسيره ) :

حدثنا شعيب بن شعيب . حدثنا أبو المغيرة . حدثنا عتبة بن حمزة . حدثني أبي : " أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحق على المبطل . فقال المقضي عليه : لا أرضى . فقال صاحبه : فما تريد ؟ قال : أن نذهب إلى أبي بكر الصديق . فذهبا إليه . فقال الذي قضى له : قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي . فقال أبو بكر : أنتما على ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأبى أن يرضى . فقال : نأتي عمر بن الخطاب . فقال المقضي له : قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي عليه . فأبى أن يرضى . فسأله عمر بن الخطاب ، فقال كذلك . فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قد سله . فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى . فقتله . فأنزل الله : ( فلا وربك لا يؤمنون . . . الآية ) " انتهى .

وقال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : روى الكلبي في ( تفسيره ) عن أبي صالح عن ابن عباس قال : " نزلت هذه الآية في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة . فقال اليهودي : انطلق بنا إلى محمد . وقال المنافق : بل نأتي كعب بن الأشرف . فذكر القصة . وفيه أن عمر قتل المنافق وأن ذلك نزول هذه الآيات وتسمية عمر الفاروق " . وهذا الإسناد ، وان كان ضعيفا ، لكن تقوى بطريق مجاهد . ولا يضره الاختلاف . لا مكان التعدد . وأفاد الواحدي باسناد صحيح عن سعيد عن قتادة أن اسم الأنصاري المذكور قيس . ورجح الطبري في ( تفسيره ) {[1952]} وعزاه إلى أهل التأويل في ( تهذيبه ) أن سبب نزولها هذه القصة . ليتسق نظام الآيات كلها في سبب واحد . قال : ولم يعرض بينها ما يقتضي خلاف ذلك . ثم قال : ولا مانع أن تكون قصة الزبير وخصمه وقعت في أثناء ذلك فيتناولها عموم الآية ، والله أعلم . انتهى .

قال الرازي : اعلم أن قوله تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون ) قسم من الله تعالى على أنهم لا يصيرون موصوفين بصفة الإيمان إلا عند حصول شرائط :

أولها : قوله تعالى : ( حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) وهذا يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول لا يكون مؤمنا .

الشرط الثاني : / قوله : ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ) . واعلم أن الراضي بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام قد يكون راضيا به في الظاهر دون القلب . فبين ، في هذه الآية ، أنه لا بد من حصول الرضا به في القلب . واعلم أن ميل القلب ونفرته شيء خارج عن وسع البشر . فليس المراد من الآية ذلك . بل المراد منه أن يحصل الجزم واليقين في القلب بأن الذي يحكم به الرسول هو الحق والصدق .

الشرط الثالث : قوله : ( ويسلموا تسليما ) . واعلم أن من عرف بقلبه كون ذلك الحكم حقا وصدقا ، قد يتمرد عن قبوله على سبيل العناد أو يتوقف في ذلك القبول . فبين تعالى أنه ، كما لا بد في الإيمان من حصول ذلك اليقين في القلب ، فلا بد أيضا من التسليم معه في الظاهر . فقوله : ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ) المراد به الانقياد في الباطن . وقوله : ( ويسلموا تسليما ) المراد منه الانقياد في الظاهر . والله أعلم .

الثالث : قال الرازي : ظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس . لأنه يدل على أنه يجب متابعة قوله وحكمه على الإطلاق . وأنه لا يجوز العدول منه إلى غيره . ومثل هذه المبالغة المذكورة في هذه الآية قلما يوجد في شيء من التكاليف . وذلك يوجب تقديم عموم القرآن والخبر على حكم القياس . وقوله : ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ) مشعر بذلك . لأنه متى خطر بباله قياس يفضي إلى نقيض مدلول النص ، فهناك يحصل الحرج في النفس . فبين تعالى أنه لا يكمل ايمانه ، الا بعد أن لا يلتفت إلى ذلك الحرج ، ويسلم النص تسليما كليا . وهذا الكلام قوي حسن لمن أنصف .

الرابع : ( لا ) في قوله تعالى : ( فلا وربك ) قيل إنها رد لمقدر . أي : تفيد نفي أمر سبق . والتقدير : ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك . ثم استأنف القسم بقوله : ( وربك لا يؤمنون حتى يحكموك ) وقيل : مزيدة لتأكيد النفي الذي جاء فيما بعد . أعني الجواب . لأنه إذا ذكر في أول الكلام وفي آخره كان أوكد وأحسن . وقيل : إنها مزيدة لتأكيد معنى القسم . وارتضاه الزمخشري . قال : كما زيدت في ( لئلا يعلم ) {[1953]} لتأكيد وجوب العلم . قال في ( الانتصاف ) يشير إلى أن ( لا ) لما زيدت مع القسم ، وان لم يكن المقسم به ، دل ذلك على أنها إنما تدخل فيه لتأكيد القسم . فإذا دخلت حيث يكون المقسم عليه نفيا ، تعين جعلها لتأكيد القسم ، طردا للباب . أو الظاهر عنده ، والله أعلم ، أنها هنا لتوطئة النفي المقسم عليه . والزمخشري لم يذكر مانعا من ذلك . وحاصل ما ذكره مجيئها لغير هذا المعنى في الاثبات . وذلك لا يأبى مجيئها في النفي على الوجه الآخر من التوطئة . على أن في دخولها على القسم المثبت نظرا . وذلك أنها لم ترد في الكتاب العزيز الا مع القسم حيث يكون بالفعل . مثل ( لا أقسم بهذا البلد ) {[1954]} ( لا أقسم بيوم القيامة ){[1955]} ( فلا أقسم بالخنس ) {[1956]} ( فلا أقسم بمواقع النجوم ) {[1957]} ( فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون ) {[1958]} ولم تدخل أيضا الا على القسم بغير الله تعالى . ولذلك سر يأبى كونها في هذه الآية لتأكيد القسم . ويعين كونها للتوطئة : وذلك أن المراد بها في جميع الآيات التي عددناها تأكيد تعظيم المقسم به . إذ لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له . فكأنه بدخولها يقول : ان إعظامي لهذه الأشياء بالقسم بها ، كلا اعظام . يعني أنها تستوجب من التعظيم فوق ذلك . وهذا التأكيد انما يؤتى به رفعا لتوهم كون هذه الأشياء غير مستحقة للتعظيم ، وللاقسام بها . فيزاح هذا الوهم بالتأكيد ، في ابراز فعل القسم مؤكدا بالنفي المذكور . وقد قرر الزمخشري هذا المعنى في دخول ( لا ) عند قوله : ( لا أقسم بيوم القيامة ) على وجه مجمل ، هذا بسطه وايضاحه . فإذا بين ذلك ، فهذا الوهم الذي يراد ازاحته في القسم بغير الله ، مندفع في الاقسام بالله . فلا يحتاج إلى دخول ( لا ) مؤكدة للقسم . فيتعين حملها على الموطئة . ولا تكاد تجدها ، في غير الكتاب العزيز ، داخلة على قسم مثبت . وأما دخولها في القسم ، وجوابه نفي ، فكثير مثل :

فلا وأبيك ابنة العامري*** لا يدعي القوم أنى أفر{[1959]}

/ وكقوله{[1960]} :

ألا نادت أمامة باحتمال *** لتحزنني ، فلا بك ما أبالي

وقوله :

رأى برقا فأوضع فوق بكر*** فلا بك ما أسأل ولا أغاما

/ وقوله{[1961]} :

فحالف . فلا والله تهبط تلعة *** من الأرض الا أنت للذل عارف

وهو أكثر من أن يحصى . فتأمل هذا الفصل فإنه حقيق بالتأمل . انتهى .

الخامس : اعلم أن كل حديث صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأن رواه جامعو الصحاح ، من يرجع اليه في التصحيح من أئمة الحديث ، فهو مما تشمله هذه الآية . أعني قوله تعالى : ( مما قضيت ) فحينئذ يتعين على كل مؤمن بالله ورسوله الأخذ به وقبوله ظاهرا وباطنا . والا بأن التمس مخارج لرده أو تأويله ، بخلاف ظاهره ، لتمذهب تقلده وعصبية ربي عليها ، كما هو شأن المقلدة أعداء الحديث وأهله – فيدخل في هذا الوعيد الشديد المذكور في هذه الآية . الذي تقشعر له الجلود وترتجف منه الأفئدة .

قال الإمام الشافعي{[1962]} في الرسالة التي أرسلها إلى عبد الرحمن بن مهدي : أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن يزيد عن أبيه قال : " أرسله عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى شيخ من زهرة كان يسكن دارنا . فذهبت معه إلى عمر . فسأل عن وليدة من ولائد الجاهلية . فقال : أما الفراش فلفلان . وأما النطفة فلفلان . فقال : صدقت . ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالفراش " .

قال الشافعي : وأخبرني من لا أتهم عن ابن ذئب قال : أخبرني مخلد بن خفاف قال : / " ابتعت غلاما فاستغللته . ثم ظهرت منه على عيب فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العزيز . فقضى لي برده . وقضى علي برد غلته . فأتيت عروة فأخبرته فقال : أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مثل هذا ، أن الخراج بالضمان . فعجلت إلى عمر فأخبرته بما أخبرني به عروة عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال عمر بن عبد العزيز : فما أيسر علي من قضاء قضيته ، والله يعلم أني لم أرد فيه إلا الحق – فبلغتني فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرد قضاء عمر وأنفذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فراح إليه عروة فقضى لي أن آخذ الخراج الذي قضى به علي له " .

قال الشافعي : وأخبرني من لا أتهم من أهل المدينة عن ابن أبي ذئب قال : " قضى سعيد بن إبراهيم على رجل . بقضية ، برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن . فأخبرته عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قضى به . فقال سعد لربيعة : هذا ابن أبي ذئب ، وهو عندي ثقة ، يخبرني عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قضيت به . فقال له ربيعة : قد اجتهدت ومضى حكمك . فقال سعد : واعجبا . أنفذ قضاء سعد بن أم سعد وأرد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ! بل أرد قضاء سعد بن أم سعد وأنفذ قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . فدعى سعد بكتاب القضية فشقه ، فقضى للمقضي عليه " .

قال الشافعي : أخبرنا أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابي . قال : حدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي : " أن النبي صلى الله عليه وسلم{[1963]} قال عام الفتح : من قتل له قتيل فهو بخير النظرين . ان أحب أخذ العقل وان أحب فله القود . قال أبو حنيفة : فقلت لابن أبي ذئب : أتأخذ بهذا ، يا أبا الحرث ؟ فضرب صدري وصاح علي صياحا كثيرا ، ونال مني وقال : أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أتأخذ به ؟ نعم . آخذ به . وذلك الفرض علي وعلى من سمعه . ان الله تبارك وتعالى اختار محمدا صلى الله عليه وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه . واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه . فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين داخرين . لا مخرج لمسلم من ذلك .

وما سكت حتى تمنين أن يسكت " . انتهى .

قال الإمام الفلاني في ( ايقاظ الهمم ) بعد نقل ما مر : تأمل فعل عمر بن الخطاب وفعل عمر بن عبد العزيز وفعل سعد بن إبراهيم ، يظهر لك أن المعروف عند الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعند سائر العلماء المسلمين ، أن حكم الحاكم المجتهد ، إذا خالف نص كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجب نقضه ومنع نفوذه . ولا يعارض نص الكتاب والسنة بالاحتمالات العقلية والخيالات النفسانية والعصبية الشيطانية ، بأن يقال : لعل هذا المجتهد قد اطلع على هذا النص وتركه لعلة ظهرت له . أو أنه اطلع على دليل آخر . ونحو هذا ، مما لهج به فرق الفقهاء المتعصبين ، وأطبق عليه المقلدين فافهم . انتهى .

/ وقال ولي الدين التبريزي في ( مشكاة المصابيح ) في ( الفصل الثالث عشر ) من ( باب الجماعة وفضلها ) : وعن بلال بن عبد الله بن عمر عن أبيه{[1964]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم . فقال بلال : والله ! لنمنعهن . فقال عبد الله : أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . وتقول أنت : لنمنعهن ؟ " ( وفي رواية سالم عن أبيه ) قال : " فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا ما سمعت سبه مثله قط . وقال : أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقول : والله ! لنمنعهن " . رواه مسلم . وعن مجاهد عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم {[1965]}قال : " لا يمنعن رجل أهله أن يأتوا المساجد . فقال ابن لعبد الله بن عمر : فانا نمنعهن . فقال عبد الله : أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول هذا ؟ قال فما كلمه عبد الله حتى مات " . رواه الإمام أحمد .

وقال الطيبي شارح ( المشكاة ) : عجبت ممن سمي بالسني ، إذا سمع من سنة رسول الله وله رأي ، رجح رأيه عليها . وأي فرق بينه وبين المبتدع ؟ أما سمع " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " ؟ وها هو ابن عمر ، وهو من أكابر الصحابة وفقهائها ، كيف غضب لله ورسوله وهجر فلذة كبده لتلك الهنة ، عبرة لأولي الألباب .

وروى الإمام مسلم {[1966]}في ( صحيحه ) في ( كراهة الحذف ) قبيل ( كتاب الأضاحي ) ، عن / سعيد بن جبير " أن قريبا لعبد الله بن مغفل خذف . قال فنهاه وقال : ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف ، وقال : انها لا تصيد صيدا ولا تنكا عدوا ، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين . فقال فعاد . فقال : أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ثم تخذف . لا أكلمك أبدا " .

قال النووي : فيه جواز هجران أهل البدع والفسوق . وأنه يجوز هجرانهم دائما . فالنهي عنه فوق ثلاثة أيام انما هو في هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا . وأما هجر أهل البدع ، فيجوز على الدوام . كما يدل هذا مع نظائر له ، لحديث كعب بن مالك .

قال السيوطي : وقد ألفت مؤلفا سميته ( الزجر بالهجر ) لأني كثير الملازمة لهذه السنة . اه .

أقول : حديث الخذف ساقه الحافظ الدارمي{[1967]} في ( سننه ) تحت باب ( تعجيل عقوبة من بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث فلم يعظمه ولم يوقره ) ورواه من طرق متنوعة . وفي بعضها : " أحدثك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الخذف ثم تخذف ؟ والله ! لا أشهد لك جنازة ولا أعودك في مرض ولا أكلمك أبدا " . وأسند الدارمي في هذا الباب عن قتادة عن ابن سيرين ، أنه حدث رجلا بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم . فقال رجل : قال فلان وفلان : كذا وكذا ! فقال ابن سيرين : أحدثك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقول : قال فلان وفلان ؟ لا أكلمك أبدا . وأسند أيضا فيه عن عبد الرحمان بن حرملة قال : " جاء رجل إلى سعيد بن المسيب يودعه / بحج أو عمرة . فقال له : لا تبرح حتى تصلي . فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يخرج بعد النداء من المسجد إلا منافق . إلا رجل أخرجته حاجة وهو يريد الرجعة إلى المسجد . فقال : إن أصحابي بالحرة . قال فخرج . قال فلم يزل سعيد يولع بذكره حتى أخبر انه وقع من راحلته فانكسرت فخذه " .

وذكر الدارمي رضي الله عنه قبل هذا الباب ( باب ما يتقى من تفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقول غيره عند قوله صلى الله عليه وسلم ) وأسند{[1968]} عن معتمر عن أبيه عن ابن عباس أنه قال : " أما تخافون أن تعذبوا أو يخسف بكم أن تقولوا : قال رسول الله ، وقال فلان " .

قال الإمام شمس الدين بن القيم في ( أعلام الموقعين ) : ترى كثيرا من الناس إذا جاء الحديث يوافق قول من قلده ، وقد خالفه راويه يقول : الحجة فيما روى لا في قوله . فإذا جاء قول الراوي موافقا لقول من قلده ، والحديث يخالفه قال : لم يكن الراوي يخالف ما رواه إلا وقد صح عنده نسخه . وإلا كان قدحا في عدالته . فيجمعون في كلامهم بين هذا وهذا . بل قد رأينا ذلك في الباب الواحد . وهذا من أقبح التناقض ، والذي ندين الله به ، ولا يسعنا غيره ، أن الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه ، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه . ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان . لا راويه ولا غيره : إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث ولا يحضره وقت الفتيا . أولا يتفطن لدلالته على تلك المسألة . أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا . أو يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضا في نفس الأمر . أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه ، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه . ولو قدر انتفاء ذلك كله ، ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه ، لم يكن الراوي معصوما . ولم توجب مخالفته ، لما رواه ، سقوط عدالته . حتى تغلب سيئاته حسناته . وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك اه .

/ وقال الفلاني رحمه الله تعالى في ( الايقاظ ) قال عثمان بن عمر : جاء رجل إلى مالك بن أنس فسأله عن مسألة فقال له : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا . فقال الرجل : أرأيت ؟ فقال مالك : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) قال مالك : لم تكن من فتيا الناس أن يقال لهم : لم قلت هذا ؟ كانوا يكتفون بالرواية ويرضون بها .

قال الجنيد رضي الله عنه : الطرق كلها مسدودة الا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم اه .

وقال شيخ الاسلام ابن تيمية في ( فتوى له ) قد ثبت بالكتاب والسنة والاجماع أن الله تعالى افترض على العباد طاعته وطاعة رسوله . ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه ، في كل ما أمر به ونهى عنه ، الا رسوله صلى الله عليه وسلم . حتى كان صديق الأمة وأفضلها بعد نبيها صلى الله عليه وسلم ورضي عنه يقول : " أطيعوني ما أطعت الله . فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم " . واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوما في كل ما أمر به ونهى عنه الا رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولهذا قال غير واحد من الأئمة : كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك الا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهؤلاء الأئمة الأربعة قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه . وذلك هو الواجب . وقال أبو حنيفة : هذا رأيي . وهذا أحسن ما رأيت . فمن جاء برأي خير منه قبلناه . ولهذا ، لما اجتمع أفضل أصحابه ، أبو يوسف بإمام دار الهجرة ، مالك بن أنس ، وسأله عن مسألة الصاع ، وصدقة الخضراوات ، ومسألة الأحباس ، فأخبره مالك رضي الله عنه بما دلت عليه السنة في ذلك – فقال : رجعت لقولك يا أبا عبد الله . ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت .

ومالك رحمه الله كان يقول : انما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة . أو كلام هذا معناه .

/ والشافعي رحمه الله كان يقول : إذا صح الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط . واذا رأيت الحجة موضوعة على طريق فهي قولي .

ثم قال ابن تيمية : وإذا قيل لهذا المستفتي المسترشد : أنت أعلم أم الإمام الفلاني ؟ كانت هذه معارضة فاسدة . لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة . ولست من هذا ولا من هذا . ولكن نسبة هؤلاء الأئمة إلى نسبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة وغيرهم . فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع ، فإذا تنازعوا في شيء ردوه إلى الله والى رسوله ، وان كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر . وكذلك موارد النزاع بين الأئمة . وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما في مسألة تيمم الجنب . وأخذوا بقول أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وغيره ، لما احتج بالكتاب والسنة . وتركوا قول عمر رضي الله عنه في دية الأصابع ، وأخذوا بقول معاوية بن أبي سفيان ، لما كان من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " هذه وهذه سواء " . وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس رضي الله عنهما في المتعة . فقال له : قال أبو بكر وعمر . فقال ابن عباس : " يوشك أن ينزل عليكم حجارة من السماء . أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر " . وكذلك ابن عمر رضي الله عنهما . ، لما سألوه عنها ، فأمر بها فعارضوه بقول عمر . فبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه . فألحوا عليه فقال لهم . أرسول الله أحق أن يتبع أم عمر ؟ مع علم الناس بأن أبا بكر وعمر أعلم من ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم . ولو فتح هذا الباب لأوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله ، وبقي كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي في أمته . وهذا تبديل للدين وشبيه بما عاب الله به النصارى في قوله{[1969]} : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباب من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا * سبحانه عما يشركون ) والله سبحانه أعلم . انتهى .

/ وقال الإمام ابن القيم في خطبة ( زاد المعاد ) : فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته صلى الله عليه وسلم ، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته . فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح والعزة والكفاية والنصرة والولاية والتأييد وطيب العيش في الدنيا والآخرة . ولمخالفيه الذلة والصغار والخوف والضلال والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة . وقد أقسم صلى الله عليه وسلم{[1970]} بأن لا يؤمن أحد حتى يكون هو أحب إليه من نفسه وولده ووالداه والناس أجمعين . وأقسم سبحانه بأنه لا يؤمن من لم يحكمه في كل ما تنازع فيه هو وغيره ، ثم يرضى بحكمه ، ولا يجد في نفسه حرجا مما حكم به ، ثم يسلم له تسليما ، وينقاد له انقيادا . وقال تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) {[1971]} . فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله . فليس لمؤمن أن يختار شيئا / بعد أمره صلى الله عليه وسلم . بل إذا أمر فأمره حتم . وانما الخيرة في قول غيره ، إذا خفي أمره ، وكان ذلك الغير من أهل العلم به وبسنته . فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الإتباع ، لا واجب الإتباع . فلا يجب على أحد إتباع قول أحد سواه . بل غايته أن يسوغ له إتباعه . ولو ترك الأخذ بقول غيره ، لم يكن عاصيا لله ورسوله . فأين هذا ممن يجب على جميع المكلفين إتباعه ، ويحرم عليهم مخالفته ، ويجب عليهم ترك كل قول لقوله . فلا حكم لأحد معه . ولا قول لأحد معه . كما لا تشريع لأحد معه . وكل حي سواه ، فانما يجب اتباعه على قوله ، إذا أمر بما أمر به ونهى عنه . فكان مبلغا محضا ومخبرا ، لا منشئا ومؤسسا . فمن أنشأ أقوالا وأسس قواعد ، بحسب فهمه وتأوله ، لم يجب على الأمة اتباعها ولا التحاكم اليها ، حتى تعرض على ما جاء به . فإن طابقته ووافقته وشهد لها بالصحة ، قبلت حينئذ . وان خالفته وجب ردها واطراحها . وان لم يتبين فيها أحد الأمرين ، جعلت موقوفة . وكان أحسن أحوالها أن يجوز الحكم والافتراء بها . وأما أنه يجب ويتعين ، فكلا . انتهى .


[1941]:قال السيد أحمد محمد شاكر في تعليقه على هذا الحديث بالصفحة رقم 211 بالجزء الثالث من (عمدة التفسير) ما نصه، هو الحديث الحادي والأربعون من الأربعين النووية. ولكن ليس في أوله: "والذي نفسي بيده!" من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. قال النووي: حديث حسن صحيح. رويناه في كتاب الحجة باسناد صحيح. يريد (كتاب الحجة) لأبي الفتح المقدسي. وذكر ابن رجب في (جامع العلوم والحكم، شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم) أنه رواه أيضا الحافظ أبو نعيم في (كتاب الأربعين) التي شرط فيها الصحة. وأنه رواه أيضا الطبراني. ثم أطال القول في تعليله. وعندي أن تعليله غير جيد. وأن الحديث صحيح. اه.
[1942]:أخرجه البخاري في: 65 –كتاب التفسير، 4 –سورة النساء، 12 –باب (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)، حديث 1180.
[1943]:أخرجه البخاري في: 42 –كتاب المساقاة، 8 –باب شرب الأعلى الى الكعبين.
[1944]:أخرجه البخاري في: 42 –كتاب المساقاة، 7 –باب شرب الأعلى قبل الأسفل.
[1945]:أخرجه البخاري في: 53 –كتاب الصلح، 12 –باب اذا أشار الامام بالصلح فأبى حكم عليه بالحكم البين.
[1946]:أخرجه في المسند بالصفحة 165 من الجزء الأول (طبعة الحلبي) الحديث 1419 (طبعة المعارف).
[1947]:أخرجه النسائي في: 49 –كتاب آداب القضاة، 19 –باب الرخصة للحاكم الأمين أن يحكم وهو غضبان، و 27 –باب اشارة الحاكم بالرفق.
[1948]:انظر تعليق السيد احمد شاكر بالصفحة 213 من الجزء الثالث من (عمدة التفسير) فاقرأه واقرأه واقرأه، ثم اقرأه فلن تمله أبدا، ففيه ما لا ينبغي لمؤمن أن يجهله. بل ما ينبغي أن يعلمه علم اليقين.
[1949]:أخرجه البخاري في: 56 –كتاب الجهاد، 141 –باب الجاسوس وقول الله تعالى: (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء)، حديث 1924، ونصه: عن عبيد الله بن رافع قال: سمعت عليا رضي الله عنه يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا والزبير والمفداد بن الأسود. قال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فان بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها" فانطلقنا تعادى بنا خليلنا. حتى انتهينا الى الروضة فاذا نحن بالظعينة. فقلنا: اخرجي الكتاب. فقالت: ما معي من كتاب. فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب. فأخرجته من عقاصها. فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة الى أناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا حاطب! ما هذا؟" قال: يا رسول الله! لا تعجل علي. اني كنت امرءا ملصقا في قريش. ولم أكن من أنفسنا. وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحملون بها أهليهم وأموالهم. فأحببت، اذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتني. وما فعلت كفرا ولا ارتدادا، ولا رضا بالكفر بعد الاسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد صدقكم) قال عمر: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: "انه شهد بدرا. وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم".
[1950]:لم أعثر على هذا الأثر في نسخة التفسير التي بين يدي.
[1951]:الأثر رقم 1915.
[1952]:انظر الصفحة رقم 524 من الجزء الثامن (طبعة المعارف).
[1953]:|57/ الحديد/ 29| ونصها: (لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم29).
[1954]:|90/ البلد/ 1|.
[1955]:|75/ القيامة/ 1|.
[1956]:|71/ التكوير/ 15|.
[1957]:|56/ الواقعة/ 75|.
[1958]:|69/ الحاقة/ 38 و39|.
[1959]:استشهد به في (مغني اللبيب) بالصفحة 201 من الجزء الأول. وقال الأمير في (حاشيته): هو من قصيدة لامرئ القيس بن حجر، على ما قال أبو عمرو وغيره. وزعم أبو حاتم أنها لرجل من اليمن، يقال له ربيعة بن جشم. ومطلعها: أحاربن عمرو كأني خمر*** ويعدو على المرء ما يأتمر قال الوزير أبو بكر عاصم بن أيوب (شارح الديوان): قوله: أحار، ترخيم حارث. ويجوز ضم الراء على من جعله اسما على حاله. وفتحها على الاتباع. وهذا الحرف من النداء لا ينادى به الا من قرب. ولا يستعمل فيما بعد. وهذه نكتة من العربية ذكرها المبرد. أعني الاتباع في الاسم المرخم. والخمر الذي قد خامره داء أو وجع، أي خالطه. ويقال: أراد كأنه في عقب خمار. و كأن) ههنا واجبة. أي هو خمر. كما قال: فأصبح بطن مكة مقشعرا*** كأن الأرض ليس بها هشام قال المبرد: هو وان كان مات فهو مدفون في الأرض، فقد كان يجب من أجله أن لا ينالها جدب. ويعدو على المرء، أي يصيبه وينزل به. وشرح يأتمر: يهم به ويعزم عليه. قال الله عز وجل: (وائتمروا بينكم بمعروف). أي هموا به واعتزموا عليه، وليأمر بعضكم بعضا به. وقال في شرح البيت المستشهد به: (لا) رد لشيء سمعه. لأن البيت أول القصيدة. كأنه قيل له: فررت. فقال:، مجيبا: لا. ثم ابتدأ فأقسم بقوله: وأبيك. ثم بين ذلك بقوله: لا يدعي القوم أني أفر. والقوم ههنا بنو تميم.
[1960]:استشهد بهما ابن يعيش في شرحه على المفصل بالصفحة 1298 (طبعة لييزج). والبيت الأول استشهد به الزمخشري في (الكشاف) عند قوله تعالى: (لا أقسم بيوم القيامة). قال شارح الشواهد، محب الدين أفندي، هو لغوية بن سلمى. وأمامة اسم امرأة. والاحتمال: الارتحال. وما أبالي، معناه ما أكترث وأحتفل. والتقدير: فبك ما أبالي. و (لا) زائدة. يعني أظهرت هذه المرأة نفسها ارتحالا عني لتجلب علي حزنا. قيل: يخاطبها ويقول: لا وأبيك ما أبالي. وهذه اليمين فيها تهكم. وقوله: (لا بك) كقولك: لا بالله. و (ما أبالي) جواب القسم. والبيت الثاني استشهد به الجاحظ في كتاب الحيوان (1/186). وقائله: عمرو بن يربوع بن حنظلة، كما في نوادر أبي زيد ص 146. ان سعلاة أقامت في بني تميم حتى ولدت فيهم. فلما برقا يلمع من شق بلاد السعالى، حنت وطارت اليهم. فقال شاعرهم: رأى برقا فأوضع فوق بكر*** فلا بك ما أسأل ولا أغاما الابضاع: الاسراع في السير، والبكر: الفتي من الابل. وأغامت السماء: كانت ذات غيم.
[1961]:استشهد به سيبويه في (الكتاب) بالصفحة 454 من الجزء الأول. قال الشنتمري: الشاهد فيه حذف (لا) وجاز ذلك لأن الموجب تلزمه اللام والنون، فلم يشكل حذفها. ويقوي الحذف، هنا، ذكر (لا) في صدر البيت. والتلعة ما انحدر من الأرض، وهي أيضا ما ارتفع. يقول: حالف من تعتز بحلفه، والا عرفت الذل حيث توجهت من الأرض.
[1962]:ايقاظ همم أولى الأبصار للفلاني (ص 6 وما بعدها).
[1963]:أخرجه البخاري في: 87 –كتاب الديات، 8 –باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، حديث 96 ونصه: عن أبي هريرة أنه، عام فتح مكة، قتلت خزاعة رجلا من بني ليث بقتيل لهم في الجاهلية. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ان الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليهم رسوله والمؤمنين. ألا وانها لم تحل لأحد قبلي. ولا تحل لأحد بعدي. ألا وانها أحلت لي ساعة من نهار وانها ساعتي هذه حرام. لا يختلى شوكها ولا يعضد شجرها ولا يلتقط ساقطتها الا منشد. ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، اما يودى، واما يقاد". فقام رجل من أهل اليمن، يقال له: أبو شاه. فقال: اكتب لي يا رسول الله! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتبوا لأبي شاه". ثم قام رجل فقال: يا رسول الله! الا الاذخر، فانما نجعله في بيوتنا وقبورنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الا الاذخر".
[1964]:أخرجه في المسند بالصفحة رقم 90 من الجزء الثاني (طبعة الحلبي). وحديث رقم 5640 (طبعة المعارف). ومسلم في: 4 –كتاب الصلاة، حديث 140 (طبعتنا).
[1965]:أخرجه في المسند بالصفحة 36 من الجزء الثاني (طبعة الحلبي). وحديث رقم 4933 (طبعة المعارف).
[1966]:أخرجه مسلم في: 34 –كتاب الصيد والذبائح، حديث 54 (طبعتنا) ونصه: عن أبي بريدة قال: رأى عبد الله بن المغفل رجلا من أصحابه يحذف. فقال له: لا تخذف. فان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره –أو قال ينهى عن الخذف –فانه لا يصطاد به الصيد، ولا ينكأ به العدو. ولكنه يكسر السن ويفقأ العين. ثم رآه بعد ذلك يخذف. فقال له: أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره –أو ينهى عن الخذف ثم أراك تخذف! لا أكلمك كلمة كذا وكذا.
[1967]:أخرجه في مسنده في المقدمة، 40 –باب تعجيل عقوبة من بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث، فلم يعظمه ولم يوقره.
[1968]:أخرجه في مسنده في المقدمة، 39 –باب ما يتقى من تفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقول غيره عند قوله صلى الله عليه وسلم.
[1969]:|9/ التوبة/ 31|.
[1970]:أخرجه البخاري في: 2 –كتاب الايمان، 8 –باب حب الرسول الله صلى الله عليه وسلم من الايمان، حديث 14 ونصه: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من والده وولده". وفي: 83 –كتب الأيمان والنذور، 3 –باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم، حديث 1736 ونصه: عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب. فقال له عمر: يا رسول الله! لانت أحب الي من كل شيء الا من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا. والذي نفسي بيده! حتى أكون أحب اليك من نفسك". فقال له عمر: فانه الآن، والله! لأنت الي من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر!".
[1971]:|33/ الأحزاب/ 36| (... ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا36).