( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما65 ) .
( فلا وربك لا يؤمنون ) في السر ولا يستحقون اسم الإيمان في السر ( حتى يحكموك ) يجعلوك حاكما ويترافعوا اليك ( فيما شجر بينهم ) أي فيما اختلف بينهم من الأمور والتبس ( ثم لا يجدوا في أنفسهم ) في قلوبهم ( حرجا ) أي ضيقا ( مما قضيت ) بينهم ( ويسلموا ) أي : ينقادوا لأمرك ويذعنوا لحكمك ( تسليما ) تأكيد للفعل . بمنزلة تكريره . أي تسليما تاما بظاهرهم وباطنهم من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة . كما ورد في الحديث{[1941]} : " والذي نفسي بيده ! لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " .
الأول : روى البخاري{[1942]} عن الزهري عن عروة قال : " خاصم الزبير رجلا في شراج الحرة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك . فقال الأنصاري : يا رسول الله ! إن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : اسق يا زبير . ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر . ثم أرسل الماء إلى جارك . واستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري . وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة .
قال الزبير : فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) " .
قال ابن كثير : هكذا رواه البخاري في ( كتاب التفسير ) في ( صحيحه ) من حديث عمر . وفي كتاب ( المساقاة ) من حديث ابن جريج{[1943]} ومعمر{[1944]} أيضا . وفي كتاب ( الصلح ) من حديث شعيب بن أبي حمزة{[1945]} . ثلاثتهم عن الزهري عن عروة فذكره . وصورته صورة الإرسال وهو متصل في المعنى . وقد رواه الإمام أحمد{[1946]} من هذا الوجه فصرح بالإرسال فقال : حدثنا أبو اليمان . أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث " أنه كان يخاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة . كان يستقيان بها كلاهما . فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير : اسق : ثم أرسل الماء إلى جارك . فغضب الأنصاري وقال يا رسول الله ! إن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم قال للزبير : أسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر . فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه . وكان النبي صلى الله عليه وسلم ، قبل ذلك ، أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري . فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم .
قال عروة : فقال الزبير : والله ! ما أحسب هذه الآية أنزلت إلا في ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكوك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) " .
/ ( هكذا رواه الإمام أحمد وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير فانه لم يسمع منه . والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله . فان أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رواه كذلك في ( تفسيره ) . فقال : حدثنا يونس بن عبد الأعلى . حدثنا ابن وهب . أخبرني الليث ويونس عن ابن شهاب ، أن عروة بن الزبير حدثه ، أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام ، " أنه خاصم رجلا . . . " الحديث ) . قال ابن كثير : وهكذا رواه النسائي{[1947]} من حديث ابن وهب به . ورواه أحمد والجماعة كلهم في مسند عبد الله بن الزبير . والله أعلم{[1948]} .
وروى ابن أبي حاتم عن الزهري عن سعيد بن المسيب في هذه الآية قال : " نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة . اختصما في ماء . فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقي الأعلى ثم الأسفل " .
قال ابن كثير : هذا مرسل . ولكن فيه فائدة تسمية الأنصاري . انتهى .
قال الحافظ ابن حجر في ( فتح الباري ) : وحكى الواحدي وشيخه الثعلبي والمهدوي أنه حاطب بن بلتعة . وتعقب بأن حاطبا ، وان كان بدريا ، لكنه من المهاجرين . لكن مستند ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن عبد العزيز عن الزهري عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكوك فيما شجر بينهم . . . ) الآية قال : نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة . اختصما في ماء . . . الحديث . واسناده قوي مع إرساله . فان كان سعيد بن المسيب سمعه من الزبير ، فيكون موصولا . وعلى هذا فيؤول قوله : ( من الأنصار ) على ارادة المعنى الأعم . كما وقع ذلك في حق غير واحد كعبد الله بن حذافة . وأما قول الكرماني بأن حاطبا كان حليفا للأنصار – ففيه نظر . / وأما قوله : ( من بني أمية بن زيد ) فلعله كان مسكنه هناك ، كعمر . ثم قال : ويترشح بأن حاطبا كان حليفا لآل الزبير بن العوام من بني أسد وكأنه كان مجاورا للزبير . والله أعلم . ( ج 5 ص 26 و27 ) .
أقول : وقع في التفسير المنسوب لابن عباس ، ههنا ، ذكر حاطب بن أبي بلتعة وتلقيبه بالمنافق وادراجه تحت قوله تعالى : ( رأيت المنافقين ) . وفي صحة هذا عن ابن عباس نظر . وكيف ؟ وقد كان رضي الله عنه من البدريين . وقد انتفى عمن شهدها .
قال التوربشتي : يحتمل أنه صدر ذلك منه بادرة النفس . كما وقع لغيره ممن صحت توبته . إذ لم تجر عادة السلف بوصف المنافقين بصفة النصرة التي هي المدح ولو شاركهم في النسب . قال : بل هي زلة من الشيطان تمكن به منها عند الغضب ، وليس ذلك بمستنكر من غير المعصوم في تلك الحالة . انتهى .
ولما هم عمر رضي الله عنه بضرب عنقه في قصة الظعينة{[1949]} ، قال حاطب : " لا تعجل علي / يا رسول الله ! والله ! اني لمؤمن بالله ورسوله . وما ارتددت ولا بدلت . فأقره صلى الله عليه وسلم ، وكف عمر عنه . وقال صلى الله عليه وسلم لعمر : انه شهد بدرا . وما يدريك ، يا عمر ؟ لعل الله قد اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم . فذرفت عينا عمر . . . " الحديث .
ولله در أصحاب الصحاح حيث أبهموا في قصة الزبير اسم خصمه سترا عليه كيلا يغض من مقامه . وهكذا ليكن الأدب . وكفانا أصلا عظيما في هذا الباب ابهام التنزيل الجليل في كثير من قصصه الكريمة . فهو ينبوع المعارف والآداب على مرور السنين والأحقاب . هذا كله على الجزم بأنها نزلت في قصة الزبير وخصمه . وقال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : والراجح رواية الأكثر . وأن الزبير كان لا يجزم بذلك . ثم قال الحافظ ابن حجر : وجزم مجاهد والشعبي بأن الآية إنما نزلت فيمن نزلت فيه الآية قبلها وهي قوله تعالى : ( ألم تر الخ ) فروى اسحاق بن راهويه في ( تفسيره ) باسناد صحيح عن الشعبي . قال : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة . فدعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم . لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة . ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم . لأنه علم انهم يأخذونها . فأنزل الله هذه الآيات ، الى . . . ( ويسلموا تسليما ) .
وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد ، ونحوه .
/ وروى الطبري{[1950]} باسناد صحيح عن ابن عباس " أن حاكم اليهود يومئذ كان أبا برزة الأسلمي قبل أن يسلم ويصحب " . ( لم أعثر على هذا الأثر في نسخة التفسير التي بين يدي . )
وروى {[1951]}باسناد آخر صحيح إلى مجاهد ، أنه كعب بن الأشرف . انتهى .
وقال ابن كثير : ذكر سبب آخر غريب جدا . قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة . أخبرنا ابن وهب . أخبرني عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود قال : " اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى بينهما . فقال المقضي عليه : ردنا إلى عمر بن الخطاب . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم . انطلقا اليه . فلما أتيا اليه ، فقال الرجل : يا ابن الخطاب ! قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا ، فقال : ردنا إلى عمر بن الخطاب فردنا اليك . فقال : أكذاك ؟ قال : نعم . فقال عمر : مكانكما حتى أخرج اليكما فأقضي بينكما . فخرج اليهما مشتملا على سيفه فضرب الذي قال : ردنا إلى عمر . فقتله . وأدبر الآخر . فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! قتل عمر ، والله ! صاحبي . ولولا أني أعجزته لقتلني .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن " . فأنزل الله : ( فلا وربك لا يؤمنون . . . الآية ) فهدر دم ذلك الرجل وبرئ عمر من قتله . فكره الله أن يسن ذلك بعده . فأنزل : ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم ) الآية " وكذا رواه ابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود به ، وهو أثر غريب مرسل . وابن لهيعة ضعيف . والله أعلم .
طريق أخرى : قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم في ( تفسيره ) :
حدثنا شعيب بن شعيب . حدثنا أبو المغيرة . حدثنا عتبة بن حمزة . حدثني أبي : " أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحق على المبطل . فقال المقضي عليه : لا أرضى . فقال صاحبه : فما تريد ؟ قال : أن نذهب إلى أبي بكر الصديق . فذهبا إليه . فقال الذي قضى له : قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي . فقال أبو بكر : أنتما على ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأبى أن يرضى . فقال : نأتي عمر بن الخطاب . فقال المقضي له : قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي عليه . فأبى أن يرضى . فسأله عمر بن الخطاب ، فقال كذلك . فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قد سله . فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى . فقتله . فأنزل الله : ( فلا وربك لا يؤمنون . . . الآية ) " انتهى .
وقال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : روى الكلبي في ( تفسيره ) عن أبي صالح عن ابن عباس قال : " نزلت هذه الآية في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة . فقال اليهودي : انطلق بنا إلى محمد . وقال المنافق : بل نأتي كعب بن الأشرف . فذكر القصة . وفيه أن عمر قتل المنافق وأن ذلك نزول هذه الآيات وتسمية عمر الفاروق " . وهذا الإسناد ، وان كان ضعيفا ، لكن تقوى بطريق مجاهد . ولا يضره الاختلاف . لا مكان التعدد . وأفاد الواحدي باسناد صحيح عن سعيد عن قتادة أن اسم الأنصاري المذكور قيس . ورجح الطبري في ( تفسيره ) {[1952]} وعزاه إلى أهل التأويل في ( تهذيبه ) أن سبب نزولها هذه القصة . ليتسق نظام الآيات كلها في سبب واحد . قال : ولم يعرض بينها ما يقتضي خلاف ذلك . ثم قال : ولا مانع أن تكون قصة الزبير وخصمه وقعت في أثناء ذلك فيتناولها عموم الآية ، والله أعلم . انتهى .
قال الرازي : اعلم أن قوله تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون ) قسم من الله تعالى على أنهم لا يصيرون موصوفين بصفة الإيمان إلا عند حصول شرائط :
أولها : قوله تعالى : ( حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) وهذا يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول لا يكون مؤمنا .
الشرط الثاني : / قوله : ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ) . واعلم أن الراضي بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام قد يكون راضيا به في الظاهر دون القلب . فبين ، في هذه الآية ، أنه لا بد من حصول الرضا به في القلب . واعلم أن ميل القلب ونفرته شيء خارج عن وسع البشر . فليس المراد من الآية ذلك . بل المراد منه أن يحصل الجزم واليقين في القلب بأن الذي يحكم به الرسول هو الحق والصدق .
الشرط الثالث : قوله : ( ويسلموا تسليما ) . واعلم أن من عرف بقلبه كون ذلك الحكم حقا وصدقا ، قد يتمرد عن قبوله على سبيل العناد أو يتوقف في ذلك القبول . فبين تعالى أنه ، كما لا بد في الإيمان من حصول ذلك اليقين في القلب ، فلا بد أيضا من التسليم معه في الظاهر . فقوله : ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ) المراد به الانقياد في الباطن . وقوله : ( ويسلموا تسليما ) المراد منه الانقياد في الظاهر . والله أعلم .
الثالث : قال الرازي : ظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس . لأنه يدل على أنه يجب متابعة قوله وحكمه على الإطلاق . وأنه لا يجوز العدول منه إلى غيره . ومثل هذه المبالغة المذكورة في هذه الآية قلما يوجد في شيء من التكاليف . وذلك يوجب تقديم عموم القرآن والخبر على حكم القياس . وقوله : ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ) مشعر بذلك . لأنه متى خطر بباله قياس يفضي إلى نقيض مدلول النص ، فهناك يحصل الحرج في النفس . فبين تعالى أنه لا يكمل ايمانه ، الا بعد أن لا يلتفت إلى ذلك الحرج ، ويسلم النص تسليما كليا . وهذا الكلام قوي حسن لمن أنصف .
الرابع : ( لا ) في قوله تعالى : ( فلا وربك ) قيل إنها رد لمقدر . أي : تفيد نفي أمر سبق . والتقدير : ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك . ثم استأنف القسم بقوله : ( وربك لا يؤمنون حتى يحكموك ) وقيل : مزيدة لتأكيد النفي الذي جاء فيما بعد . أعني الجواب . لأنه إذا ذكر في أول الكلام وفي آخره كان أوكد وأحسن . وقيل : إنها مزيدة لتأكيد معنى القسم . وارتضاه الزمخشري . قال : كما زيدت في ( لئلا يعلم ) {[1953]} لتأكيد وجوب العلم . قال في ( الانتصاف ) يشير إلى أن ( لا ) لما زيدت مع القسم ، وان لم يكن المقسم به ، دل ذلك على أنها إنما تدخل فيه لتأكيد القسم . فإذا دخلت حيث يكون المقسم عليه نفيا ، تعين جعلها لتأكيد القسم ، طردا للباب . أو الظاهر عنده ، والله أعلم ، أنها هنا لتوطئة النفي المقسم عليه . والزمخشري لم يذكر مانعا من ذلك . وحاصل ما ذكره مجيئها لغير هذا المعنى في الاثبات . وذلك لا يأبى مجيئها في النفي على الوجه الآخر من التوطئة . على أن في دخولها على القسم المثبت نظرا . وذلك أنها لم ترد في الكتاب العزيز الا مع القسم حيث يكون بالفعل . مثل ( لا أقسم بهذا البلد ) {[1954]} ( لا أقسم بيوم القيامة ){[1955]} ( فلا أقسم بالخنس ) {[1956]} ( فلا أقسم بمواقع النجوم ) {[1957]} ( فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون ) {[1958]} ولم تدخل أيضا الا على القسم بغير الله تعالى . ولذلك سر يأبى كونها في هذه الآية لتأكيد القسم . ويعين كونها للتوطئة : وذلك أن المراد بها في جميع الآيات التي عددناها تأكيد تعظيم المقسم به . إذ لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له . فكأنه بدخولها يقول : ان إعظامي لهذه الأشياء بالقسم بها ، كلا اعظام . يعني أنها تستوجب من التعظيم فوق ذلك . وهذا التأكيد انما يؤتى به رفعا لتوهم كون هذه الأشياء غير مستحقة للتعظيم ، وللاقسام بها . فيزاح هذا الوهم بالتأكيد ، في ابراز فعل القسم مؤكدا بالنفي المذكور . وقد قرر الزمخشري هذا المعنى في دخول ( لا ) عند قوله : ( لا أقسم بيوم القيامة ) على وجه مجمل ، هذا بسطه وايضاحه . فإذا بين ذلك ، فهذا الوهم الذي يراد ازاحته في القسم بغير الله ، مندفع في الاقسام بالله . فلا يحتاج إلى دخول ( لا ) مؤكدة للقسم . فيتعين حملها على الموطئة . ولا تكاد تجدها ، في غير الكتاب العزيز ، داخلة على قسم مثبت . وأما دخولها في القسم ، وجوابه نفي ، فكثير مثل :
فلا وأبيك ابنة العامري*** لا يدعي القوم أنى أفر{[1959]}
/ وكقوله{[1960]} :
ألا نادت أمامة باحتمال *** لتحزنني ، فلا بك ما أبالي
رأى برقا فأوضع فوق بكر*** فلا بك ما أسأل ولا أغاما
/ وقوله{[1961]} :
فحالف . فلا والله تهبط تلعة *** من الأرض الا أنت للذل عارف
وهو أكثر من أن يحصى . فتأمل هذا الفصل فإنه حقيق بالتأمل . انتهى .
الخامس : اعلم أن كل حديث صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأن رواه جامعو الصحاح ، من يرجع اليه في التصحيح من أئمة الحديث ، فهو مما تشمله هذه الآية . أعني قوله تعالى : ( مما قضيت ) فحينئذ يتعين على كل مؤمن بالله ورسوله الأخذ به وقبوله ظاهرا وباطنا . والا بأن التمس مخارج لرده أو تأويله ، بخلاف ظاهره ، لتمذهب تقلده وعصبية ربي عليها ، كما هو شأن المقلدة أعداء الحديث وأهله – فيدخل في هذا الوعيد الشديد المذكور في هذه الآية . الذي تقشعر له الجلود وترتجف منه الأفئدة .
قال الإمام الشافعي{[1962]} في الرسالة التي أرسلها إلى عبد الرحمن بن مهدي : أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن يزيد عن أبيه قال : " أرسله عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى شيخ من زهرة كان يسكن دارنا . فذهبت معه إلى عمر . فسأل عن وليدة من ولائد الجاهلية . فقال : أما الفراش فلفلان . وأما النطفة فلفلان . فقال : صدقت . ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالفراش " .
قال الشافعي : وأخبرني من لا أتهم عن ابن ذئب قال : أخبرني مخلد بن خفاف قال : / " ابتعت غلاما فاستغللته . ثم ظهرت منه على عيب فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العزيز . فقضى لي برده . وقضى علي برد غلته . فأتيت عروة فأخبرته فقال : أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مثل هذا ، أن الخراج بالضمان . فعجلت إلى عمر فأخبرته بما أخبرني به عروة عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال عمر بن عبد العزيز : فما أيسر علي من قضاء قضيته ، والله يعلم أني لم أرد فيه إلا الحق – فبلغتني فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرد قضاء عمر وأنفذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فراح إليه عروة فقضى لي أن آخذ الخراج الذي قضى به علي له " .
قال الشافعي : وأخبرني من لا أتهم من أهل المدينة عن ابن أبي ذئب قال : " قضى سعيد بن إبراهيم على رجل . بقضية ، برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن . فأخبرته عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قضى به . فقال سعد لربيعة : هذا ابن أبي ذئب ، وهو عندي ثقة ، يخبرني عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قضيت به . فقال له ربيعة : قد اجتهدت ومضى حكمك . فقال سعد : واعجبا . أنفذ قضاء سعد بن أم سعد وأرد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ! بل أرد قضاء سعد بن أم سعد وأنفذ قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . فدعى سعد بكتاب القضية فشقه ، فقضى للمقضي عليه " .
قال الشافعي : أخبرنا أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابي . قال : حدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي : " أن النبي صلى الله عليه وسلم{[1963]} قال عام الفتح : من قتل له قتيل فهو بخير النظرين . ان أحب أخذ العقل وان أحب فله القود . قال أبو حنيفة : فقلت لابن أبي ذئب : أتأخذ بهذا ، يا أبا الحرث ؟ فضرب صدري وصاح علي صياحا كثيرا ، ونال مني وقال : أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أتأخذ به ؟ نعم . آخذ به . وذلك الفرض علي وعلى من سمعه . ان الله تبارك وتعالى اختار محمدا صلى الله عليه وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه . واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه . فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين داخرين . لا مخرج لمسلم من ذلك .
وما سكت حتى تمنين أن يسكت " . انتهى .
قال الإمام الفلاني في ( ايقاظ الهمم ) بعد نقل ما مر : تأمل فعل عمر بن الخطاب وفعل عمر بن عبد العزيز وفعل سعد بن إبراهيم ، يظهر لك أن المعروف عند الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعند سائر العلماء المسلمين ، أن حكم الحاكم المجتهد ، إذا خالف نص كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجب نقضه ومنع نفوذه . ولا يعارض نص الكتاب والسنة بالاحتمالات العقلية والخيالات النفسانية والعصبية الشيطانية ، بأن يقال : لعل هذا المجتهد قد اطلع على هذا النص وتركه لعلة ظهرت له . أو أنه اطلع على دليل آخر . ونحو هذا ، مما لهج به فرق الفقهاء المتعصبين ، وأطبق عليه المقلدين فافهم . انتهى .
/ وقال ولي الدين التبريزي في ( مشكاة المصابيح ) في ( الفصل الثالث عشر ) من ( باب الجماعة وفضلها ) : وعن بلال بن عبد الله بن عمر عن أبيه{[1964]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم . فقال بلال : والله ! لنمنعهن . فقال عبد الله : أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . وتقول أنت : لنمنعهن ؟ " ( وفي رواية سالم عن أبيه ) قال : " فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا ما سمعت سبه مثله قط . وقال : أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقول : والله ! لنمنعهن " . رواه مسلم . وعن مجاهد عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم {[1965]}قال : " لا يمنعن رجل أهله أن يأتوا المساجد . فقال ابن لعبد الله بن عمر : فانا نمنعهن . فقال عبد الله : أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول هذا ؟ قال فما كلمه عبد الله حتى مات " . رواه الإمام أحمد .
وقال الطيبي شارح ( المشكاة ) : عجبت ممن سمي بالسني ، إذا سمع من سنة رسول الله وله رأي ، رجح رأيه عليها . وأي فرق بينه وبين المبتدع ؟ أما سمع " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " ؟ وها هو ابن عمر ، وهو من أكابر الصحابة وفقهائها ، كيف غضب لله ورسوله وهجر فلذة كبده لتلك الهنة ، عبرة لأولي الألباب .
وروى الإمام مسلم {[1966]}في ( صحيحه ) في ( كراهة الحذف ) قبيل ( كتاب الأضاحي ) ، عن / سعيد بن جبير " أن قريبا لعبد الله بن مغفل خذف . قال فنهاه وقال : ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف ، وقال : انها لا تصيد صيدا ولا تنكا عدوا ، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين . فقال فعاد . فقال : أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ثم تخذف . لا أكلمك أبدا " .
قال النووي : فيه جواز هجران أهل البدع والفسوق . وأنه يجوز هجرانهم دائما . فالنهي عنه فوق ثلاثة أيام انما هو في هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا . وأما هجر أهل البدع ، فيجوز على الدوام . كما يدل هذا مع نظائر له ، لحديث كعب بن مالك .
قال السيوطي : وقد ألفت مؤلفا سميته ( الزجر بالهجر ) لأني كثير الملازمة لهذه السنة . اه .
أقول : حديث الخذف ساقه الحافظ الدارمي{[1967]} في ( سننه ) تحت باب ( تعجيل عقوبة من بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث فلم يعظمه ولم يوقره ) ورواه من طرق متنوعة . وفي بعضها : " أحدثك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الخذف ثم تخذف ؟ والله ! لا أشهد لك جنازة ولا أعودك في مرض ولا أكلمك أبدا " . وأسند الدارمي في هذا الباب عن قتادة عن ابن سيرين ، أنه حدث رجلا بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم . فقال رجل : قال فلان وفلان : كذا وكذا ! فقال ابن سيرين : أحدثك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقول : قال فلان وفلان ؟ لا أكلمك أبدا . وأسند أيضا فيه عن عبد الرحمان بن حرملة قال : " جاء رجل إلى سعيد بن المسيب يودعه / بحج أو عمرة . فقال له : لا تبرح حتى تصلي . فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يخرج بعد النداء من المسجد إلا منافق . إلا رجل أخرجته حاجة وهو يريد الرجعة إلى المسجد . فقال : إن أصحابي بالحرة . قال فخرج . قال فلم يزل سعيد يولع بذكره حتى أخبر انه وقع من راحلته فانكسرت فخذه " .
وذكر الدارمي رضي الله عنه قبل هذا الباب ( باب ما يتقى من تفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقول غيره عند قوله صلى الله عليه وسلم ) وأسند{[1968]} عن معتمر عن أبيه عن ابن عباس أنه قال : " أما تخافون أن تعذبوا أو يخسف بكم أن تقولوا : قال رسول الله ، وقال فلان " .
قال الإمام شمس الدين بن القيم في ( أعلام الموقعين ) : ترى كثيرا من الناس إذا جاء الحديث يوافق قول من قلده ، وقد خالفه راويه يقول : الحجة فيما روى لا في قوله . فإذا جاء قول الراوي موافقا لقول من قلده ، والحديث يخالفه قال : لم يكن الراوي يخالف ما رواه إلا وقد صح عنده نسخه . وإلا كان قدحا في عدالته . فيجمعون في كلامهم بين هذا وهذا . بل قد رأينا ذلك في الباب الواحد . وهذا من أقبح التناقض ، والذي ندين الله به ، ولا يسعنا غيره ، أن الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه ، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه . ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان . لا راويه ولا غيره : إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث ولا يحضره وقت الفتيا . أولا يتفطن لدلالته على تلك المسألة . أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا . أو يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضا في نفس الأمر . أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه ، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه . ولو قدر انتفاء ذلك كله ، ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه ، لم يكن الراوي معصوما . ولم توجب مخالفته ، لما رواه ، سقوط عدالته . حتى تغلب سيئاته حسناته . وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك اه .
/ وقال الفلاني رحمه الله تعالى في ( الايقاظ ) قال عثمان بن عمر : جاء رجل إلى مالك بن أنس فسأله عن مسألة فقال له : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا . فقال الرجل : أرأيت ؟ فقال مالك : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) قال مالك : لم تكن من فتيا الناس أن يقال لهم : لم قلت هذا ؟ كانوا يكتفون بالرواية ويرضون بها .
قال الجنيد رضي الله عنه : الطرق كلها مسدودة الا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم اه .
وقال شيخ الاسلام ابن تيمية في ( فتوى له ) قد ثبت بالكتاب والسنة والاجماع أن الله تعالى افترض على العباد طاعته وطاعة رسوله . ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه ، في كل ما أمر به ونهى عنه ، الا رسوله صلى الله عليه وسلم . حتى كان صديق الأمة وأفضلها بعد نبيها صلى الله عليه وسلم ورضي عنه يقول : " أطيعوني ما أطعت الله . فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم " . واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوما في كل ما أمر به ونهى عنه الا رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولهذا قال غير واحد من الأئمة : كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك الا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهؤلاء الأئمة الأربعة قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه . وذلك هو الواجب . وقال أبو حنيفة : هذا رأيي . وهذا أحسن ما رأيت . فمن جاء برأي خير منه قبلناه . ولهذا ، لما اجتمع أفضل أصحابه ، أبو يوسف بإمام دار الهجرة ، مالك بن أنس ، وسأله عن مسألة الصاع ، وصدقة الخضراوات ، ومسألة الأحباس ، فأخبره مالك رضي الله عنه بما دلت عليه السنة في ذلك – فقال : رجعت لقولك يا أبا عبد الله . ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت .
ومالك رحمه الله كان يقول : انما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة . أو كلام هذا معناه .
/ والشافعي رحمه الله كان يقول : إذا صح الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط . واذا رأيت الحجة موضوعة على طريق فهي قولي .
ثم قال ابن تيمية : وإذا قيل لهذا المستفتي المسترشد : أنت أعلم أم الإمام الفلاني ؟ كانت هذه معارضة فاسدة . لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة . ولست من هذا ولا من هذا . ولكن نسبة هؤلاء الأئمة إلى نسبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة وغيرهم . فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع ، فإذا تنازعوا في شيء ردوه إلى الله والى رسوله ، وان كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر . وكذلك موارد النزاع بين الأئمة . وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما في مسألة تيمم الجنب . وأخذوا بقول أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وغيره ، لما احتج بالكتاب والسنة . وتركوا قول عمر رضي الله عنه في دية الأصابع ، وأخذوا بقول معاوية بن أبي سفيان ، لما كان من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " هذه وهذه سواء " . وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس رضي الله عنهما في المتعة . فقال له : قال أبو بكر وعمر . فقال ابن عباس : " يوشك أن ينزل عليكم حجارة من السماء . أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر " . وكذلك ابن عمر رضي الله عنهما . ، لما سألوه عنها ، فأمر بها فعارضوه بقول عمر . فبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه . فألحوا عليه فقال لهم . أرسول الله أحق أن يتبع أم عمر ؟ مع علم الناس بأن أبا بكر وعمر أعلم من ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم . ولو فتح هذا الباب لأوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله ، وبقي كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي في أمته . وهذا تبديل للدين وشبيه بما عاب الله به النصارى في قوله{[1969]} : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباب من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا * سبحانه عما يشركون ) والله سبحانه أعلم . انتهى .
/ وقال الإمام ابن القيم في خطبة ( زاد المعاد ) : فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته صلى الله عليه وسلم ، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته . فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح والعزة والكفاية والنصرة والولاية والتأييد وطيب العيش في الدنيا والآخرة . ولمخالفيه الذلة والصغار والخوف والضلال والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة . وقد أقسم صلى الله عليه وسلم{[1970]} بأن لا يؤمن أحد حتى يكون هو أحب إليه من نفسه وولده ووالداه والناس أجمعين . وأقسم سبحانه بأنه لا يؤمن من لم يحكمه في كل ما تنازع فيه هو وغيره ، ثم يرضى بحكمه ، ولا يجد في نفسه حرجا مما حكم به ، ثم يسلم له تسليما ، وينقاد له انقيادا . وقال تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) {[1971]} . فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله . فليس لمؤمن أن يختار شيئا / بعد أمره صلى الله عليه وسلم . بل إذا أمر فأمره حتم . وانما الخيرة في قول غيره ، إذا خفي أمره ، وكان ذلك الغير من أهل العلم به وبسنته . فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الإتباع ، لا واجب الإتباع . فلا يجب على أحد إتباع قول أحد سواه . بل غايته أن يسوغ له إتباعه . ولو ترك الأخذ بقول غيره ، لم يكن عاصيا لله ورسوله . فأين هذا ممن يجب على جميع المكلفين إتباعه ، ويحرم عليهم مخالفته ، ويجب عليهم ترك كل قول لقوله . فلا حكم لأحد معه . ولا قول لأحد معه . كما لا تشريع لأحد معه . وكل حي سواه ، فانما يجب اتباعه على قوله ، إذا أمر بما أمر به ونهى عنه . فكان مبلغا محضا ومخبرا ، لا منشئا ومؤسسا . فمن أنشأ أقوالا وأسس قواعد ، بحسب فهمه وتأوله ، لم يجب على الأمة اتباعها ولا التحاكم اليها ، حتى تعرض على ما جاء به . فإن طابقته ووافقته وشهد لها بالصحة ، قبلت حينئذ . وان خالفته وجب ردها واطراحها . وان لم يتبين فيها أحد الأمرين ، جعلت موقوفة . وكان أحسن أحوالها أن يجوز الحكم والافتراء بها . وأما أنه يجب ويتعين ، فكلا . انتهى .