قوله : { فَلاَ وَرَبّكَ } . قال ابن جرير : قوله : { فَلا } ردّ على ما تقدم ذكره ، تقديره فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، وما أنزل من قبلك ، ثم استأنف القسم بقوله : { وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } وقيل : إنه قدّم «لا » على القسم اهتماماً بالنفي ، وإظهاراً لقوته ، ثم كرره بعد القسم تأكيداً ، وقيل : لا مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد معنى النفي ، والتقدير : فوربك لا يؤمنون ، كما في قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم } [ الواقعة : 75 ] { حتى يُحَكّمُوكَ } أي : يجعلوك حكماً بينهم في جميع أمورهم لا يحكمون أحداً غيرك وقيل : معناه : يتحاكمون إليك ، ولا ملجىء لذلك { فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } أي : اختلف بينهم واختلط ، ومنه الشجر لاختلاف أغصانه ، ومنه قول طرفة :
وهم الحكام أرباب الهدى *** وسعاة الناس في الأمر الشجر
أي : المختلف ، ومنه : تشاجر الرماح ، أي : اختلافها { ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً ممَّا قَضَيْتَ } قيل : هو معطوف على مقدّر ينساق إليه الكلام ، أي : فتقضي بينهم ، ثم لا يجدوا . والحرج : الضيق ، وقيل : الشك ، ومنه قيل للشجر الملتفّ : حرج وحرجة ، وجمعها حراج . وقيل : الحرج : الإثم ، أي : لا يجدون في أنفسهم إثماً بإنكارهم ما قضيت { وَيُسَلّمُوا تَسْلِيماً } أي : ينقادوا لأمرك ، وقضائك انقياداً لا يخالفونه في شيء . قال الزجاج : { تَسْلِيماً } مصدر مؤكد ، أي : ويسلمون لحكمك تسليماً لا يدخلون على أنفسهم شكاً ، ولا شبهة فيه . والظاهر أن هذا شامل لكل فرد في كل حكم ، كما يؤيد ذلك قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله } فلا يختص بالمقصودين بقوله : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطاغوت } وهذا في حياته صلى الله عليه وسلم ، وأما بعد موته ، فتحكيم الكتاب والسنة ، وتحكيم الحاكم بما فيهما من الأئمة والقضاة إذا كان لا يحكم بالرأي المجرد مع وجود الدليل في الكتاب والسنة ، أو في أحدهما . وكان يعقل ما يردّ عليه من حجج الكتاب والسنة ، بأن يكون عالماً باللغة العربية ، وما يتعلق بها من نحو وتصريف ومعاني وبيان عارفاً بما يحتاج إليه من علم الأصول ، بصيراً بالسنة المطهرة ، مميزاً بين الصحيح وما يلحق به ، والضعيف وما يلحق به ، منصفاً غير متعصب لمذهب من المذاهب ، ولا لنحلة من النحل ، ورعاً لا يحيف ، ولا يميل في حكمه ، فمن كان هكذا فهو قائم في مقام النبوّة ، مترجم عنها ، حاكم بأحكامها . وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود ، وترجف له الأفئدة ، فإنه أوّلاً أقسم سبحانه بنفسه مؤكداً لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون ، فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله ، حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال : { ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً ممَّا قَضَيْتَ } فضم إلى التحكيم أمراً آخر ، وهو عدم وجود حرج ، أي : حرج في صدورهم ، فلا يكون مجرد التحكيم ، والإذعان كافياً حتى يكون من صميم القلب عن رضاً واطمئنان وانثلاج قلب وطيب نفس ، ثم لم يكتف بهذا كله ، بل ضمّ إليه قوله : { وَيُسَلّمُوا } أي : يذعنوا ، وينقادوا ظاهراً وباطناً ، ثم لم يكتف بذلك ، بل ضم إليه المصدر المؤكد ، فقال : { تَسْلِيماً } فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم ، ولا يجد الحرج في صدره بما قضي عليه ، ويسلم لحكم الله وشرعه ، تسليماً لا يخالطه ردّ ، ولا تشوبه مخالفة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.