فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا} (65)

قوله : { فَلاَ وَرَبّكَ } . قال ابن جرير : قوله : { فَلا } ردّ على ما تقدم ذكره ، تقديره فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، وما أنزل من قبلك ، ثم استأنف القسم بقوله : { وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } وقيل : إنه قدّم «لا » على القسم اهتماماً بالنفي ، وإظهاراً لقوته ، ثم كرره بعد القسم تأكيداً ، وقيل : لا مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد معنى النفي ، والتقدير : فوربك لا يؤمنون ، كما في قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم } [ الواقعة : 75 ] { حتى يُحَكّمُوكَ } أي : يجعلوك حكماً بينهم في جميع أمورهم لا يحكمون أحداً غيرك وقيل : معناه : يتحاكمون إليك ، ولا ملجىء لذلك { فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } أي : اختلف بينهم واختلط ، ومنه الشجر لاختلاف أغصانه ، ومنه قول طرفة :

وهم الحكام أرباب الهدى *** وسعاة الناس في الأمر الشجر

أي : المختلف ، ومنه : تشاجر الرماح ، أي : اختلافها { ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً ممَّا قَضَيْتَ } قيل : هو معطوف على مقدّر ينساق إليه الكلام ، أي : فتقضي بينهم ، ثم لا يجدوا . والحرج : الضيق ، وقيل : الشك ، ومنه قيل للشجر الملتفّ : حرج وحرجة ، وجمعها حراج . وقيل : الحرج : الإثم ، أي : لا يجدون في أنفسهم إثماً بإنكارهم ما قضيت { وَيُسَلّمُوا تَسْلِيماً } أي : ينقادوا لأمرك ، وقضائك انقياداً لا يخالفونه في شيء . قال الزجاج : { تَسْلِيماً } مصدر مؤكد ، أي : ويسلمون لحكمك تسليماً لا يدخلون على أنفسهم شكاً ، ولا شبهة فيه . والظاهر أن هذا شامل لكل فرد في كل حكم ، كما يؤيد ذلك قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله } فلا يختص بالمقصودين بقوله : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطاغوت } وهذا في حياته صلى الله عليه وسلم ، وأما بعد موته ، فتحكيم الكتاب والسنة ، وتحكيم الحاكم بما فيهما من الأئمة والقضاة إذا كان لا يحكم بالرأي المجرد مع وجود الدليل في الكتاب والسنة ، أو في أحدهما . وكان يعقل ما يردّ عليه من حجج الكتاب والسنة ، بأن يكون عالماً باللغة العربية ، وما يتعلق بها من نحو وتصريف ومعاني وبيان عارفاً بما يحتاج إليه من علم الأصول ، بصيراً بالسنة المطهرة ، مميزاً بين الصحيح وما يلحق به ، والضعيف وما يلحق به ، منصفاً غير متعصب لمذهب من المذاهب ، ولا لنحلة من النحل ، ورعاً لا يحيف ، ولا يميل في حكمه ، فمن كان هكذا فهو قائم في مقام النبوّة ، مترجم عنها ، حاكم بأحكامها . وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود ، وترجف له الأفئدة ، فإنه أوّلاً أقسم سبحانه بنفسه مؤكداً لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون ، فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله ، حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال : { ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً ممَّا قَضَيْتَ } فضم إلى التحكيم أمراً آخر ، وهو عدم وجود حرج ، أي : حرج في صدورهم ، فلا يكون مجرد التحكيم ، والإذعان كافياً حتى يكون من صميم القلب عن رضاً واطمئنان وانثلاج قلب وطيب نفس ، ثم لم يكتف بهذا كله ، بل ضمّ إليه قوله : { وَيُسَلّمُوا } أي : يذعنوا ، وينقادوا ظاهراً وباطناً ، ثم لم يكتف بذلك ، بل ضم إليه المصدر المؤكد ، فقال : { تَسْلِيماً } فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم ، ولا يجد الحرج في صدره بما قضي عليه ، ويسلم لحكم الله وشرعه ، تسليماً لا يخالطه ردّ ، ولا تشوبه مخالفة .

/خ65