هذه السورة مدنية نزلت بالمدينة بعد الهجرة ، وهي أطول سورة في القرآن الكريم حسب ترتيب المصحف ، وقد ابتدأت هذه السورة بتفصيل ما انتهت إليه سورة الفاتحة ، فقد ذكرت أن القرآن مصدر الهدى ، وذكرت الذين أنعم الله عليهم بالرضا ، والذين غضب عليهم من الكفار والمنافقين .
وقد تحدثت السورة عن صدق القرآن ، وأن دعوته حق لا ريب فيها ، ثم تحدثت عن أصناف الناس الثلاثة : المؤمنين ، والكافرين ، والمنافقين ، وعن الدعوة إلى عبادة الله وحده ، وعن إنذار الكافرين وتبشير المؤمنين ، ثم خصت بني إسرائيل بالدعوة والمراجعة ، وجاء فيها تذكيرهم بأيام الله وبحوادثهم مع موسى عليه السلام ، وتذكيرهم كذلك بإبراهيم وإسماعيل وبنائهما الكعبة ، واستغرق ذلك نحو نصف السورة ، وتخلله حديث موجه إلى المؤمنين للاعتبار بما حدث لليهود والنصارى .
وانتقل الحديث إلى خطاب أهل القرآن بذكر ما هو مشترك بين قوم موسى وقوم محمد من فضل إبراهيم وهدايته ونسبه ، وبذكر مسألة القبلة ونحوها .
ثم جاء الحديث عن التوحيد والتذكير بآيات الله الدالة عليه ، وجاء الحديث عن الشرك ، وعن المحرمات من الطعام ، وأن التحريم والتحليل من حق الله وحده .
وتعرضت السورة لبيان أصول البر ، وذكر بعض أحكام الصيام والوصية وأكل أموال الناس بالباطل ، والقصاص والقتال والحج والخمر والميسر والنكاح والطلاق والرضاع والعدة وغيرها ، كما تعرضت للحديث عن العقائد العامة كالرسالة والتوحيد والبعث ، وتحدثت عن الإنفاق وعن تحريم الربا والتجارة وكتابة الدّين ، ثم ختمت السورة بدعاء من المؤمنين لربهم أن ينصرهم ويؤيدهم .
وقد تضمنت هذه السورة عدة قواعد منها :
أن اتباع سبيل الله وإقامة دينه هما الموجبان للسعادة في الدنيا والآخرة ، وأنه لا يليق بعاقل أن يدعو إلى البر والفضيلة وينسى نفسه ، وأنه يجب إيثار الخير على الشر ، وترجيح الأعلى على الأدنى .
وأن أصول الدين ثلاثة ، وهي : الإيمان بالله ، والإيمان بالبعث ، والعمل الصالح .
وأن الجزاء على الإيمان والعمل معا ، وأن شرط الإيمان هو : الإذعان النفسي والتسليم القلبي لكل ما جاء به الرسول ، وأن غير المسلمين لن يرضوا عن المسلمين حتى يتبع المسلمون دين هؤلاء .
وأن الولاية العامة الشرعية يجب أن تكون لأهل الإيمان والعدل ، لا لأهل الكفر والظلم . وأن الإيمان بدين الله كما أنزله يستلزم الوحدة والاتفاق ، وأن ترك الاهتداء بذلك يورث الاختلاف والشقاق ، وأن تحقيق الأمور الجليلة يستعان عليه بالصبر والصلاة ، وأن التقليد الأعمى باطل يؤدي إلى الجهالة والعصبية .
وأن الله أحل لعباده الطيبات من المطعم ، وحرم أشياء خبيثة محدودة ، ولا يجوز لغير الله أن يحل أو يحرم ، وأن المحرمات تباح للمضطر لأن الضرورات تبيح المحظورات وتقدر الضرورة بقدرها ، وأن الدين مبني على اليسر ورفع الحرج ، فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، ولا يأمر عباده إلا بما يطيقون ، وأن إلقاء النفس إلى التهلكة حرام لا يجوز ، وأن الأشياء تطلب بأسبابها ووسائلها المؤدية إليها ، وأن الإكراه في الدين ممنوع ، وأن القتال مشروع في الإسلام للدفاع ، ولتأمين حرية الدين ، وتأمين سيادة الإسلام في مجتمعه .
وأن للمسلم أن يطلب حظه من الدنيا ، كما يؤدي واجبه نحو الآخرة ، وأن سد الذرائع وتقرير المصالح من مقاصد الشريعة .
وأن الإيمان والصبر سببان لنصرة القلة العادلة على الكثرة الباغية ، وأن أكل أموال الناس بالباطل حرام ، وأن الإنسان مجزي بعمله لا بعمل غيره ، وأن حكمة التشريع يدركها العقل السليم لما فيها من الحق والعدل ومصالح العباد .
1- ألف لام ميم : هذه حروف ابتدأ الله سبحانه وتعالى بها ليشير بها إلى إعجاز القرآن الكريم المؤلف من حروف كالحروف التي يؤلِّف منها العرب كلامهم ، ومع ذلك عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن ، وهى مع ذلك تنطوي على التنبيه للاستماع لتميز جرسها .
قوله تعالى : { الم } . قال الشعبي وجماعة : الم وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ، وهي سر القرآن ، فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله تعالى ، وفائدة ذكرها طلب الإيمان بها . قال أبو بكر الصديق : في كل كتاب سر وسر الله في القرآن أوائل السور ، وقال علي : لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي . قال داود بن أبي هند : كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور فقال : يا داود إن لكل كتاب سراً ، وإن سر القرآن فواتح السور ، فدعها وسل عما سوى ذلك . وقال جماعة : هي معلومة المعاني ، فقيل : كل حرف منها مفتاح اسم من أسمائه كما قال ابن عباس في كهيعص : الكاف من كاف والهاء من هاد والياء من حكيم والعين من عليم والصاد من صادق . وقيل في ( المص ) أنا الله الملك الصادق ، وقال الربيع بن أنس : في الم الألف مفتاح اسمه الله ، واللام مفتاح اسمه اللطيف ، والميم مفتاح اسمه المجيد . وقال محمد بن كعب : الألف آلاء الله ، واللام لطفه ، والميم ملكه . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال معنى ( الم ) : أنا الله أعلم : ومعنى ( المص ) : أنا الله أعلم وأفصل ، ومعنى ( الر ) : أنا الله أرى ، ومعنى ( المر ) : أنا الله أعلم وأرى . قال الزجاج : وهذا حسن فإن العرب تذكر حرفاً من كلمة يريدها كقولهم :
قلت لها قفى لنا فقالت لي قاف *** . . . . . . . .
أي : وقفت ، وعن سعيد بن جبير قال : هي أسماء الله تعالى مقطعة لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم ، ألا ترى أنك تقول ( الر ، وحم ، ون ) ، فيكون الرحمن ، وكذلك سائرها إلا أنا لا نقدر على وصلها ، وقال قتادة : هذه الحروف أسماء القرآن . وقال مجاهد و ابن زيد : هي أسماء السور ، وبيانه : أن القائل إذا قال : قرأت ( المص ) . عرف السامع أنه قرأ السورة التي افتتحت ب ( المص ) ، وروى عن ابن عباس أنها أقسام ، وقال الأخفش : إنما أقسم الله بهذه الحروف لشرفها وفضلها لأنها مباني كتبه المنزلة ، ومبادي أسمائه الحسنى .
[ بسم الله الرحمن الرحيم ]{[1]}
قال الإمام أحمد : حدثنا عارم ، حدثنا معتمر ، عن أبيه ، عن رجل ، عن أبيه ، عن معقل بن يسار ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «البقرة سَنَام القرآن وذروته ، نزل مع كل آية منها ثمانون مَلَكًا ، واستخرجت : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [ البقرة : 255 ] من تحت العرش ، فوصلت بها ، أو فوصلت بسورة البقرة ، ويس : قلب القرآن ، لا يقرؤها رجل يريد الله ، والدار الآخرة إلا غفر له ، واقرؤوها على موتاكم » انفرد به أحمد{[2]} .
وقد رواه أحمد - أيضًا - عن عارم ، عن عبد الله بن المبارك ، عن سليمان التيمي{[3]} عن أبي عثمان - وليس بالنَّهْدي - عن أبيه ، عن مَعْقِل بن يَسَار ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اقرؤوها على موتاكم » يعني : يس{[4]} .
فقد بَيَّنَّا بهذا الإسناد معرفة المبهم في الرواية الأولى . وقد أخرج هذا الحديث على هذه الصفة في الرواية الثانية أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه{[5]} .
وقد روى الترمذي من حديث حكيم بن جبير ، وفيه ضعف ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لكل شيء سنام ، وإن سَنَام القرآن البقرة ، وفيها آية هي سيدة آي القرآن : آية الكرسي »{[6]} .
وفي مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذي والنسائي ، من حديث سهيل{[7]} بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا ، فإن البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان »{[8]} وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثني ابن أبي مريم ، عن ابن{[9]} لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن سِنان بن سعد ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الشيطان يخرج من البيت إذا سمع سورة البقرة تقرأ فيه »{[10]} .
سنان بن سعد ، ويقال بالعكس ، وثقه ابن معين واستنكر حديثه أحمد بن حنبل وغيره .
وقال أبو عبيد : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، يعني ابن مسعود ، قال : إن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع فيه سورة البقرة . ورواه النسائي في اليوم والليلة ، وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث شعبة{[11]} ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .
وقال ابن مَرْدُويه : حدثنا أحمد بن كامل ، حدثنا أبو إسماعيل الترمذي ، حدثنا أيوب بن سليمان بن بلال ، حدثني أبو بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، عن محمد بن عجلان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا ألْفَيَنَّ أحَدَكم ، يَضَع إحدى رجليه على الأخرى يتغنى ، ويدع سورة البقرة يقرؤها ، فإن الشيطان يفرّ من البيت تقرأ فيه سورة البقرة ، وإن أصفْرَ البيوت ، الجَوْفُ الصِّفْر من كتاب الله » .
وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة ، عن محمد بن نصر ، عن أيوب بن سليمان ، به{[12]} .
وروى الدارمي في مسنده عن ابن مسعود قال : ما من بيت تقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط{[13]} . وقال : إن لكل شيء سناما ، وإن سنام القرآن سورة البقرة ، وإن لكل شيء لبابًا ، وإن لباب القرآن المفصل{[14]} . وروى - أيضا - من طريق الشعبي قال : قال عبد الله بن مسعود : من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة أربع من أولها وآية الكرسي وآيتان بعدها وثلاث آيات من آخرها{[15]} وفي رواية : لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شيء يكرهه ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق .
وعن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن لكل شيء سناما ، وإن سنام القرآن البقرة ، من قرأها في بيته ليلة{[16]} لم يدخله الشيطان{[17]} ثلاث ليال ، ومن قرأها في بيته نهارًا لم يدخله الشيطان{[18]} ثلاثة أيام » .
رواه أبو القاسم الطبراني ، وأبو حاتم ، وابن حبان في صحيحه{[19]} .
وقد روى الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه من حديث عبد الحميد بن جعفر ، عن سعيد المقبري ، عن عطاء مولى أبي أحمد ، عن أبي هريرة ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وهم ذوو عدد ، فاستقرأهم فاستقرأ كُلّ واحد منهم ، يعني ما معه من القرآن ، فأتى على رجل من أحدثهم سنًا ، فقال : «ما معك يا فلان ؟ » قال : معي كذا وكذا وسورة البقرة ، فقال : «أمعك سورة البقرة ؟ » قال : نعم . قال : «اذهب فأنت أميرهم » فقال رجل من أشرافهم : والله ما منعني أن أتعلم البقرة{[20]} إلا أني خشيت ألا أقوم بها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تعلموا القرآن واقرؤوه ، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأ وقام به كمثل جراب محشو مسْكًا يفوح ريحه في كل مكان ، ومثل من تعلمه ، فيرقد وهو في جوفه ، كمثل جراب أوكِي على مسك »{[21]} .
هذا لفظ رواية الترمذي ، ثم قال : هذا حديث حسن . ثم رواه من حديث الليث ، عن سعيد ، عن عطاء مولى أبي أحمد مرسلا فالله أعلم{[22]} .
قال{[23]} البخاري : وقال الليث : حدثني يزيد بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أسَيد بن حُضَير{[24]} قال : بينما هو يقرأ من الليل{[25]} سورة البقرة ، وفرسه مربوطة عنده ، إذ جالت الفرس ، فسكت ، فسكَنتْ ، فقرأ{[26]} فجالت الفرس ، فسكت ، فسكنت ، ثم قرأ فجالت الفرس ، فانصرف ، وكان ابنه يحيى قريبًا منها . فأشفق أن تصيبه ، فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها ، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال : «اقرأ يا ابن حُضَير{[27]} » . قال : فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى ، وكان منها قريبًا ، فرفعت رأسي وانصرفت إليه ، فرفعت رأسي إلى السماء ، فإذا مثل الظُّلَّة فيها أمثال المصابيح ، فخرجت حتى لا أراها ، قال : «وتدري ما ذاك ؟ » . قال : لا . قال : «تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحت{[28]} ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم{[29]} » .
وهكذا رواه الإمام العَالم أبو عبيد القاسم بن سلام ، في كتاب فضائل القرآن ، عن عبد الله بن صالح ، ويحيى بن بكير ، عن الليث به{[30]} .
وقد روي من وجه آخر{[31]} عن أسيد بن حضير ، كما تقدم{[32]} ، والله أعلم .
وقد وقع نحو من هذا لثابت بن قيس بن شماس{[33]} رضي الله عنه ، وذلك فيما رواه أبو عبيد [ القاسم ]{[34]} : حدثنا عباد بن عباد ، عن جرير بن حازم ، عن جرير{[35]} بن يزيد : أن أشياخ أهل المدينة حدثوه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قيل له : ألم تر ثابت بن قيس بن شماس ؟ لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح ، قال : «فلعله قرأ سورة البقرة » . قال : فسئل ثابت ، فقال : قرأت سورة البقرة{[36]} .
وهذا إسناد جيد ، إلا أن فيه إبهاما ، ثم هو مرسل ، والله أعلم . [ ذكر ]{[37]} ما ورد في فضلها مع آل عمران قال{[38]} الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا بشير بن مهاجر{[39]} حدثني عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، قال : كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول : «تعلموا سورة البقرة ، فإن أخذها بركة ، وتركها حسرة ، ولا تستطيعها البطلة » . قال : ثم سكت ساعة ، ثم قال : «تعلموا سورة البقرة ، وآل عمران ، فإنهما الزهراوان ، يُظلان صاحبهما يوم القيامة ، كأنهما غمامتان أو غيايتان ، أو فرْقان من طير صَوافّ ، وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب ، فيقول له : هل تعرفني ؟ فيقول : ما أعرفك . فيقول : أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر ، وأسهرت ليلك ، وإن كل تاجر من وراء تجارته ، وإنك اليوم من وراء كل تجارة . فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، ويكسى والداه حلتين ، لا يقوم لهما{[40]} أهل الدنيا ، فيقولان : بم كسينا هذا ؟ فيقال : بأخذ ولدكما القرآن ، ثم يقال : اقرأ واصعد في دَرَج الجنة وغرفها ، فهو في صعود ما دام يقرأ هَذًّا كان أو ترتيلا » .
وروى ابن ماجه من حديث بشير بن المهاجر{[41]} بعضه{[42]} ، وهذا إسناد حسن{[43]} على شرط مسلم ، فإن بشيرا هذا أخرج له مسلم ، ووثقه ابن معين ، وقال النسائي : ليس به بأس ، إلا أن الإمام أحمد قال فيه : هو منكر الحديث ، قد اعتبرت أحاديثه فإذا هي تجيء بالعجب . وقال البخاري : يخالف في بعض حديثه . وقال أبو حاتم الرازي : يكتب حديثه ولا يحتج به . وقال ابن عدي : روى ما لا يتابع عليه . وقال الدارقطني : ليس بالقوي .
قلت : ولكن لبعضه شواهد ؛ فمن ذلك حديث أبي أمامة الباهلي ؛ قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا هشام ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلام ، عن أبي أمامة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «اقرؤوا القرآن فإنه شافع لأهله يوم القيامة ، اقرؤوا الزهراوين : البقرة وآل عمران ، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان ، أو كأنهما غيايتان ، أو كأنهما فِرْقان من طير صوافّ يحاجان عن أهلهما »{[44]} ثم قال : «اقرؤوا البقرة فإن أخذها بركة{[45]} ، وتركها حسرة ، ولا تستطيعها البطلة »{[46]} .
وقد رواه مسلم في الصلاة من حديث معاوية بن سلام ، عن أخيه زيد بن سلام ، عن جده أبي سلام مَمْطور الحَبَشِيّ ، عن أبي أمامة صُدَيّ بن عجلان [ الباهلي ]{[47]} ، به{[48]} .
الزهراوان : المنيران ، والغياية : ما أظلك من فوقك . والفِرْقُ : القطعة من الشيء ، والصواف : المصطفة المتضامة{[49]} . والبطلة السحرة ، ومعنى " لا تستطيعها " أي : لا يمكنهم حفظها ، وقيل : لا تستطيع النفوذ في قارئها ، والله أعلم .
ومن ذلك حديث النَّوّاس{[50]} بن سَمْعان . قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن محمد بن مهاجر ، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي ، عن جُبَير بن نُفَير ، قال : سمعت النواس بن سمعان الكلابي ، يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به ، تقدمهم سورة البقرة وآل عمران » . وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد ، قال : «كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شَرْق ، أو كأنهما فرْقَان من طير صَوَاف{[51]} يُحَاجَّان عن صاحبهما »{[52]} .
ورواه مسلم ، عن إسحاق بن منصور ، عن يزيد بن عبد ربه ، به{[53]} .
والترمذي ، من حديث الوليد بن عبد الرحمن الجرشي ، به{[54]} . وقال : حسن غريب .
وقال أبو عبيد : حدثنا حجاج ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الملك بن عمير ، قال : قال حماد : أحسبه عن أبي منيب ، عن عمه ؛ أن رجلا قرأ البقرة وآل عمران ، فلما قضى صلاته قال له كعب : أقرأت البقرة وآل عمران ؟ قال : نعم . قال : فوالذي نفسي بيده ، إن فيهما اسم الله الذي إذا دعي به استجاب{[55]} . قال : فأخبرني به . قال : لا والله لا أخبرك ، ولو أخبرتك لأوشكت أن تدعوه بدعوة أهلك فيها أنا وأنت{[56]} .
[ قال أبو عبيد ]{[57]} : وحدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن سليم بن عامر : أنه سمع أبا أمامة يقول : إن أخًا لكم{[58]} أرِي في المنام أن الناس يسلكون في صدع جبل وعر طويل ، وعلى رأس الجبل شجرتان خضراوان تهتفان : هل فيكم من يقرأ سورة البقرة ؟ وهل فيكم من يقرأ سورة آل عمران ؟ قال : فإذا قال الرجل : نعم . دنتا منه بأعذاقهما ، حتى يتعلق بهما فتُخطران به الجبل{[59]} .
[ قال أبو عبيد ]{[60]} وحدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن أبي عمران : أنه سمع أم الدرداء تقول : إن رجلا ممن قرأ القرآن أغار على جار له ، فقتله ، وإنه أقيدَ به{[61]} ، فقتل ، فما زال القرآن ينسل منه سورة سورة ، حتى بقيت البقرة وآل عمران جمعة ، ثم إن آل عمران انسلت منه ، وأقامت البقرة جمعة ، فقيل لها : { مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ } [ ق : 29 ] قال : فخرجت كأنها السحابة العظيمة{[62]} .
قال أبو عبيد : أراه ، يعني : أنهما كانتا معه في قبره تدفعان عنه وتؤنسانه ، فكانتا من آخر ما بقي معه من القرآن .
وقال - أيضًا - : حدثنا أبو مُسْهِر الغساني ، عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي : أن يزيد بن الأسود الجُرَشي كان يحدث{[63]} : أنه من قرأ البقرة وآل عمران في يوم ، برئ من النفاق حتى يمسي ، ومن قرأهما من ليلة برئ من النفاق حتى يصبح ، قال : فكان يقرؤهما كل يوم وليلة سوى جزئه{[64]} .
[ قال أيضًا ]{[65]} : وحدثنا يزيد ، عن وقاء{[66]} بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : من قرأ البقرة وآل عمران في ليلة كان - أو كتب - من القانتين{[67]} .
فيه انقطاع ، ولكن ثبت في الصحيحين{[68]} : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما{[69]} في ركعة واحدة{[70]} .
[ ذكر ]{[71]} ما ورد في فضل السبع الطول
قال أبو عبيد : حدثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي ، عن محمد بن شعيب ، عن سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن أبي المليح ، عن واثلة بن الأسقع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «أعطيت السبع الطُّوال مكان التوراة ، وأعطيت المئين مكان الإنجيل ، وأعطيت المثاني{[72]} مكان الزبور ، وفضلت بالمفصّل »{[73]} .
هذا حديث غريب ، وسعيد بن بشير ، فيه لين .
وقد رواه أبو عبيد [ أيضا ]{[74]} ، عن عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن سعيد بن أبي هلال ، قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال . . . فذكره ، والله أعلم . ثم قال{[75]} حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن عمرو{[76]} بن أبي عمرو ، مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب ، عن حبيب بن هند الأسلمي ، عن عروة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من أخذ السبع فهو حَبْر »{[77]} .
وهذا أيضًا غريب ، وحبيب بن هند بن أسماء بن هند بن حارثة الأسلمي ، روى عنه عمرو بن أبي عمرو وعبد الله بن أبي بكرة ، وذكره أبو حاتم الرازي ولم يذكر فيه جرحا ، فالله أعلم .
وقد رواه الإمام أحمد ، عن سليمان بن داود ، وحسين ، كلاهما عن إسماعيل بن جعفر ، به{[78]} .
ورواه - أيضًا - عن أبي سعيد ، عن سليمان بن بلال ، عن حبيب بن هند ، عن عروة ، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «من أخذ السبع الأوَل من القرآن فهو حَبْر »{[79]} .
قال أحمد : وحدثنا حسين ، حدثنا ابن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله{[80]} .
قال عبد الله بن أحمد : وهذا أرى فيه ، عن أبيه ، عن الأعرج ، ولكن كذا كان في الكتاب بلا " أبي " {[81]} ، أغفله أبي ، أو كذا هو مرسل ، ثم قال أبو عبيد : حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي } [ الحجر : 87 ] ، قال : هي السبع الطول : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، ويونس . قال : وقال مجاهد : هي السبع الطول . وهكذا قال مكحول ، وعطية بن قيس ، وأبو محمد الفارسي{[82]} ، وشَداد بن عبيد الله ، ويحيى بن الحارث الذماري في تفسير الآية بذلك ، وفي تعدادها ، وأن يونس هي السابعة .
والبقرة جميعها مدنية بلا خلاف ، قال بعض العلماء : وهي مشتملة على ألف خبر ، وألف أمر ، وألف نهي .
وقال العادون : آياتها مائتان وثمانون وسبع آيات ، وكلماتها ستة آلاف كلمة ومائة وإحدى وعشرون كلمة ، وحروفها خمسة{[83]} وعشرون ألفًا وخمسمائة حرف ، فالله أعلم .
قال ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : أنزل بالمدينة سورة البقرة .
وقال خَصيف : عن مجاهد ، عن عبد الله بن الزبير ، قال : أنزل بالمدينة سورة البقرة .
وقال الواقدي : حدثني الضحاك بن عثمان ، عن أبي الزِّناد ، عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبيه ، قال : نزلت البقرة بالمدينة .
وهكذا قال غير واحد من الأئمة والعلماء ، والمفسرين ، ولا خلاف فيه .
وقال ابن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن مَعْمَر ، حدثنا الحسن بن علي بن الوليد [ الفارسي ]{[84]} حدثنا خلف بن هشام ، حدثنا عُبيس{[85]} بن ميمون ، عن موسى بن أنس بن مالك ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تقولوا : سورة البقرة ، ولا سورة آل عمران ، ولا سورة النساء ، وكذا القرآن كله ، ولكن قولوا : السورة التي يذكر فيها البقرة ، والتي يذكر فيها آل عمران ، وكذا القرآن كله »{[86]} .
هذا حديث غريب لا يصح رفعه ، وعيسى بن ميمون هذا هو أبو سلمة الخواص ، وهو ضعيف الرواية ، لا يحتج به . وقد ثبت في الصحيحين{[87]} ، عن ابن مسعود : أنه رمى الجمرة من بطن الوادي ، فجعل البيت عن يساره ، ومنى عن يمينه ، ثم قال{[88]} : هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة . أخرجاه{[89]} .
وروى ابن مَرْدُويه ، من حديث شعبة ، عن عقيل بن طلحة ، عن عتبة بن فرقد{[90]} قال : رأى النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخرًا{[91]} ، فقال : «يا أصحاب سورة البقرة »{[92]} . وأظن هذا كان يوم حنين ، حين ولوا مدبرين أمر العباس فناداهم : " يا أصحاب الشجرة " ، يعني أهل بيعة الرضوان . وفي رواية : " يا أصحاب البقرة{[93]} " ؛ لينشطهم بذلك ، فجعلوا يقبلون من كل وجه{[94]} . وكذلك يوم اليمامة مع أصحاب مسيلمة ، جعل الصحابة يفرون لكثافة حَشْر{[95]} بني حنيفة ، فجعل المهاجرون والأنصار يتنادون : يا أصحاب سورة البقرة ، حتى فتح الله عليهم{[96]} . رضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين .
قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور ، فمنهم من قال : هي مما استأثر الله بعلمه ، فردوا علمها إلى الله ، ولم يفسروها [ حكاه القرطبي في تفسيره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم به ، وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خثيم ، واختاره أبو حاتم بن حبان{[1117]} ]{[1118]} .
ومنهم من فسَّرها ، واختلف هؤلاء في معناها ، فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إنما هي أسماء السور [ قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره : وعليه إطباق الأكثر ، ونقله عن سيبويه أنه نص عليه ]{[1119]} ، ويعتضد هذا بما ورد في الصحيحين ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة : الم السجدة ، وهل أتى على الإنسان{[1120]} .
وقال سفيان الثوري ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : أنه قال : الم ، وحم ، والمص ، وص ، فواتح افتتح الله بها القرآن .
وكذا قال غيره : عن مجاهد . وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عنه ، أنه قال : الم ، اسم من أسماء القرآن .
وهكذا قال قتادة ، وزيد بن أسلم ، ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبد الرحمن بن زيد : أنه اسم من أسماء السور{[1121]} ، فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن ، فإنه يبعد أن يكون " المص " اسما للقرآن كله ؛ لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول : قرأت " المص " ، إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف ، لا لمجموع القرآن . والله أعلم .
وقيل : هي اسم من أسماء الله تعالى . فقال الشعبي : فواتح السور من أسماء الله تعالى ، وكذلك قال سالم بن عبد الله ، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير ، وقال شعبة عن السدي : بلغني أن ابن عباس قال : الم اسم من أسماء الله الأعظم . هكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة .
ورواه ابن جرير عن بُنْدَار ، عن ابن مَهْدِي ، عن شعبة ، قال : سألت السدي عن حم وطس والم ، فقال : قال ابن عباس : هي اسم الله الأعظم .
وقال ابن جرير : وحدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا أبو النعمان ، حدثنا شعبة ، عن إسماعيل السدي ، عن مُرَّة الهمداني قال : قال عبد الله ، فذكر نحوه [ وحكي مثله عن علي وابن عباس ]{[1122]} .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو قسم أقسم الله به ، وهو من أسماء الله تعالى .
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث ابن عُلية ، عن خالد الحذاء ، عن عكرمة أنه قال : الم ، قسم .
ورويا{[1123]} - أيضًا - من حديث شريك بن عبد الله ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الضُّحَى ، عن ابن عباس : الم ، قال : أنا الله أعلم .
وكذا قال سعيد بن جبير ، وقال السُّدِّي عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس – وعن مرّة الهمذاني عن ابن مسعود . وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : الم . قال : «أما الم فهي حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله تعالى » .
وقال أبو جعفر الرّازي ، عن الرّبيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله تعالى : { الم } قال : هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفًا دارت فيها الألسن كلها ، ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه ، وليس منها حرف إلا وهو من آلائه وبلائه ، وليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم . قال عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، وعَجب ، فقال : وأعْجَب أنهم ينطقون بأسمائه ويعيشون في رزقه ، فكيف يكفرون به ؛ فالألف مفتاح اسم الله ، واللام مفتاح اسمه لطيف{[1124]} والميم مفتاح اسمه مجيد{[1125]} فالألف آلاء الله ، واللام لطف الله ، والميم مجد الله ، والألف{[1126]} سنة ، واللام ثلاثون سنة ، والميم أربعون [ سنة ]{[1127]} . هذا لفظ ابن أبي حاتم . ونحوه رواه ابن جرير ، ثم شرع يوجه كل واحد من هذه الأقوال ويوفق بينها ، وأنه لا منافاة بين كل واحد منها وبين الآخر ، وأن الجمع ممكن ، فهي أسماء السور ، ومن أسماء الله تعالى يفتتح بها السور ، فكل حرف منها دَلّ على اسم من أسمائه وصفة من صفاته ، كما افتتح سورا كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه . قال : ولا مانع من دلالة الحرف منها على اسم من أسماء الله ، وعلى صفة من صفاته ، وعلى مدة وغير ذلك ، كما ذكره الرّبيع بن أنس عن أبي العالية ؛ لأن الكلمة الواحدة تطلق على معان كثيرة ، كلفظة الأمة فإنها تطلق ويراد به الدين ، كقوله تعالى : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } [ الزخرف : 22 ، 23 ] . وتطلق ويراد بها الرجل المطيع لله ، كقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 120 ] وتطلق ويراد بها الجماعة ، كقوله : { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ } [ القصص : 23 ] ، وقوله : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا } [ النحل : 36 ] وتطلق ويراد بها الحين من الدهر كقوله : { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] أي : بعد حين على أصح القولين ، قال : فكذلك هذا .
هذا حاصل كلامه موجهًا ، ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية ، فإن أبا العالية زعم أن الحرف دل على هذا ، وعلى هذا ، وعلى هذا معًا ، ولفظة الأمة وما أشبهها{[1128]} من الألفاظ المشتركة في الاصطلاح ، إنما دل في القرآن في كل موطن على معنى واحد دل عليه سياق الكلام ، فأما حمله على مجموع محامله إذا أمكن فمسألة مختلف فيها بين علماء الأصول ، ليس هذا{[1129]} موضع البحث فيها ، والله أعلم ؛ ثم إن لفظ الأمة تدل على كل{[1130]} معانيه في سياق الكلام بدلالة الوضع ، فأما دلالة الحرف الواحد على اسم يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن يكون أحدهما أولى من الآخر في التقدير أو الإضمار بوضع ولا بغيره ، فهذا مما لا يفهم إلا بتوقيف ، والمسألة مختلف فيها ، وليس فيها إجماع حتى يحكم به .
وما أنشدوه من الشواهد على صحة إطلاق الحرف الواحد على بقية الكلمة ، فإن في السياق ما يدل على ما حذف بخلاف هذا ، كما قال الشاعر :
قلنا قفي لنا فقالت قاف *** لا تَحْسَبِي أنا نَسينا الإيجاف{[1131]}
ما للظليم عَالَ كَيْفَ لا يا *** ينقَدُّ عنه جلده إذا يا{[1132]}
قال ابن جرير : كأنه أراد أن يقول : إذا يفعل كذا وكذا ، فاكتفى بالياء من يفعل ، وقال الآخر :
بالخير خيرات وإن شرًّا فا *** ولا أريد الشر إلا أن تا{[1133]}
يقول : وإن شرًّا فشر ، ولا أريد الشر إلا أن تشاء ، فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن بقيتهما ، ولكن هذا ظاهر من سياق الكلام ، والله أعلم .
[ قال القرطبي : وفي الحديث : «من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة »{[1134]} الحديث . قال شقيق : هو أن يقول في اقتل : اق ]{[1135]} .
وقال خصيف ، عن مجاهد ، أنه قال : فواتح السور كلها " ق وص وحم وطسم والر " وغير ذلك هجاء موضوع . وقال بعض أهل العربية : هي حروف من حروف المعجم ، استغنى بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها ، التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفًا ، كما يقول القائل : ابني يكتب في : ا ب ت ث ، أي : في حروف المعجم الثمانية والعشرين فيستغني بذكر بعضها عن مجموعها . حكاه ابن جرير .
قلت : مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفًا ، وهي : ا ل م ص ر ك ي ع ط س ح ق ن ، يجمعها قولك : نص حكيم قاطع له سر . وهي نصف الحروف عدداً ، والمذكور منها أشرف من المتروك ، وبيان ذلك من صناعة التصريف .
[ قال الزمخشري : وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أنصاف أجناس الحروف يعني من المهموسة والمجهورة ، ومن الرخوة والشديدة ، ومن المطبقة والمفتوحة ، ومن المستعلية والمنخفضة ومن حروف القلقلة . وقد سردها مفصلة ثم قال : فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته ، وهذه الأجناس المعدودة ثلاثون بالمذكورة منها ، وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله ]{[1136]} .
ومن هاهنا لحظ{[1137]} بعضهم في هذا المقام كلامًا ، فقال : لا شك أن هذه الحروف لم ينزلها سبحانه وتعالى عبثًا ولا سدى ، ومن قال من الجهلة : إنَّه في القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلية ، فقد أخطأ خطأ كبيرًا ، فتعين أن لها معنى في نفس الأمر ، فإن صح لنا فيها عن المعصوم شيء قلنا به ، وإلا وقفنا حيث وقفنا ، وقلنا : { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } [ آل عمران : 7 ] .
ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين ، وإنما اختلفوا ، فمن ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه ، وإلا فالوقف حتى يتبين . هذا مقام .
المقام الآخر في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور ، ما{[1138]} هي ؟ مع قطع النظر عن معانيها في أنفسها . فقال بعضهم : إنما ذكرت لنعرف بها أوائل السور . حكاه ابن جرير ، وهذا ضعيف ؛ لأن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه ، وفيما ذكرت فيه بالبسملة تلاوة وكتابة .
وقال آخرون : بل ابتدئ بها لتُفْتَحَ لاستماعها أسماعُ المشركين - إذ{[1139]} تواصوا بالإعراض عن القرآن - حتى إذا استمعوا له تُلي عليهم المؤلَّف منه . حكاه ابن جرير - أيضًا - ، وهو ضعيف أيضًا ؛ لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور لا{[1140]} يكون في بعضها ، بل غالبها ليس كذلك ، ولو كان كذلك - أيضًا - لانبغي{[1141]} الابتداء بها في أوائل الكلام معهم ، سواء كان افتتاح سورة أو غير ذلك . ثم إن هذه السورة والتي تليها أعني البقرة وآل عمران مدنيتان ليستا خطابًا للمشركين ، فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه .
وقال آخرون : بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانًا لإعجاز القرآن ، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله ، هذا مع أنه [ تركب ]{[1142]} من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها .
ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته ، وهذا معلوم بالاستقراء ، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة ، ولهذا يقول تعالى : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 1 ، 2 ] . { الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [ آل عمران : 1 - 3 ] . { المص كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ } [ الأعراف : 1 ، 2 ] . { الر كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } [ إبراهيم : 1 ]{ الم تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ السجدة : 1 ، 2 ] . { حم تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [ فصلت : 1 ، 2 ] . { حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الشورى : 1 - 3 ] ، وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن{[1143]} النظر ، والله أعلم .
وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد ، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم ، فقد ادعى ما ليس له ، وطار في غير مطاره ، وقد ورد في ذلك حديث ضعيف ، وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته . وهو ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار ، صاحب المغازي ، حدثني الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، عن جابر بن عبد الله بن رئاب ، قال : مر أبو ياسر{[1144]} بن أخطب ، في رجال من يهود ، برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يتلو فاتحة سورة البقرة : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [ هدى للمتقين ]{[1145]} } [ البقرة : 1 ، 2 ] فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود ، فقال : تعلمون - والله - لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل الله عليه : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ } فقال : أنت سمعته ؟ قال : نعم . قال : فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود{[1146]} إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقالوا : يا محمد ، ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل الله عليك : { الم ذلك الكتاب لا [ ريب ] }{[1147]} ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بلى » . فقالوا : جاءك{[1148]} بهذا جبريل من عند الله ؟ فقال : «نعم » . قالوا : لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه{[1149]} بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك . فقام{[1150]} حيي بن أخطب ، وأقبل على من كان معه ، فقال لهم : الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون سنة ، أفتدخلون في دين نبي ، إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة ؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، هل مع هذا غيره ؟ فقال : «نعم » ، قال : ما ذاك ؟ قال : «المص » ، قال : هذا أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد سبعون{[1151]} ، فهذه إحدى وثلاثون{[1152]} ومائة سنة . هل مع هذا يا محمد غيره{[1153]} ؟ قال : «نعم » قال : ما ذاك{[1154]} ؟ قال : " الر " . قال : هذا{[1155]} أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والراء مائتان . فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة . فهل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال : «نعم » ، قال : ماذا ؟ قال : «المر » . قال : فهذه أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون ومائتان ، ثم قال : لقد لبس علينا أمرك يا محمد ، حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا . ثم قال : قوموا عنه . ثم قال أبو ياسر{[1156]} لأخيه حيي بن أخطب ، ولمن معه من الأحبار : ما يدريكم ؟ لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وثلاثون{[1157]} ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان ، فذلك سبعمائة وأربع سنين{[1158]} . فقالوا : لقد تشابه علينا أمره ، فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم : { هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [ آل عمران : 7 ]{[1159]} .
فهذا مداره على محمد بن السائب الكلبي ، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به ، ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحًا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها ، وذلك يبلغ منه جملة كثيرة ، وإن حسبت مع التكرر فأتم وأعظم{[1160]} والله أعلم .
قال أبو جعفر : اختلفت تراجمة القرآن في تأويل قول الله تعالى ذكره : ( الم ) فقال بعضهم : هو اسم من أسماء القران . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : الم قال : اسم من أسماء القران .
حدثني المثنى بن إبراهيم الاَملي ، قال : حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود ، قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : الم اسم من أسماء القران .
حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : الم اسم من أسماء القران .
وقال بعضهم : هو فواتح يفتح الله بها القرآن . ذكر من قال ذلك :
حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : الم فواتح يفتح الله بها القران .
حدثنا أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد ، قال : الم فواتح .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن يحيى بن ادم ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، قال : الم وحم والمص وص فواتح افتتح الله بها .
حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثل حديث هارون بن إدريس .
وقال بعضهم : هو اسم للسورة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أنبأنا عبد الله بن وهب ، قال : سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن قول الله : الم ذلك الكتابُ والم تَنْزِيلُ والمر تِلْك فقال : قال أبي : إنما هي أسماء السور .
وقال بعضهم : هو اسم الله الأعظم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سألت السديّ عن ( حم ) و( طسم ) و( الم ) فقال : قال ابن عباس : هو اسم الله الأعظم .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثني أبو النعمان ، قال : حدثنا شعبة عن إسماعيل السدي ، عن مرة الهمداني ، قال : قال عبد الله فذكر نحوه .
حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبيد الله بن موسى ، عن إسماعيل ، عن الشعبي قال : فواتح السور من أسماء الله .
وقال بعضهم : هو قَسَمٌ أقسم الله به وهي من أسمائه . ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهمي ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : هو قَسَم أقسم الله به وهو من أسماء الله .
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال : الم قسم .
وقال بعضهم : هو حروف مقطعة من أسماء وأفعال ، كل حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الاَخر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا ابن أبي شريك ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس : الم فقال : أنا الله أعلم .
وحدثت عن أبي عبيد قال : حدثنا أبو اليقظان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد ابن جبير ، قال قوله : الم قال : أنا الله أعلم .
حدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن حماد القناد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن إسماعيل السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( الم ) قال : أما : الم فهو حرف اشتق من حروف هجاء أسماء الله جل ثناؤه .
حدثنا محمد بن معمر ، قال : حدثنا عباس بن زياد الباهلي ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : ( الم ) و( حم ) و( ن ) قال : اسم مقطع .
وقال بعضهم : هي حروف هجاء موضوع . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن منصور بن أبي نويرة ، قال : حدثنا أبو سعيد المؤدب ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : فواتح السور كلها ( ق ) و( ص ) و( حم ) و( طسم ) و( الر ) وغير ذلك هجاء موضوع .
وقال بعضهم : هي حروف يشتمل كل حرف منها على معان شتى مختلفة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي جعفر الرازي قال : حدثني أبي ، عن الربيع بن أنس في قول الله تعالى ذكره : ( الم ) قال : هذه الأحرف من التسعة والعشرين حرفا ، دارت فيها الألسن كلها ، ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه ، وليس منها حرف إلا وهو في آلائه وبلائه ، وليس منها حرف إلا وهو مدة قوم وآجالهم . وقال عيسى ابن مريم : «وعجيب ينطقون في أسمائه ، ويعيشون في رزقه ، فكيف يكفرون » ؟ قال : الألف : مفتاح اسمه «الله » ، واللام : مفتاح اسمه «لطيف » ، والميم : مفتاح اسمه «مجيد » والألف : آلاء الله ، واللام : لطفه ، والميم : مجده الألف : سنة ، واللام ثلاثون سنة ، والميم : أربعون سنة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام عن أبي جعفر ، عن الربيع بنحوه .
وقال بعضهم : هي حروف من حساب الجمل ، كرهنا ذكر الذي حكي ذلك عنه ، إذ كان الذي رواه ممن لا يُعتمد على روايته ونقله ، وقد مضت الرواية بنظير ذلك من القول عن الربيع بن أنس .
وقال بعضهم : لكل كتاب سرّ ، وسرّ القرآن فواتحه .
وأما أهل العربية فإنهم اختلفوا في معنى ذلك ، فقال بعضهم : هي حروف من حروف المعجم استُغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفا ، كما استغنَى المخبرُ عمن أخبر عنه أنه في حروف المعجم الثمانية والعشرين بذكر «أ ب ت ث » عن ذكر بواقي حروفها التي هي تتمة الثمانية والعشرين ، قال : ولذلك رفع ذلك الكتابُ لأن معنى الكلام : الألف واللام والميم من الحروف المقطعة ذلك الكتاب الذي أنزلته إليه مجموعا لا ريب فيه . . . .
فإن قال قائل : فإن «أ ب ت ث » قد صارت كالاسم في حروف الهجاء كما صارت الحمد اسما لفاتحة الكتاب قيل له : لما كان جائزا أن يقول القائل : ابني في «ط ظ » ، وكان معلوما بقيله ذلك لو قاله إنه يريد الخبر عن ابنه أنه في الحروف المقطعة ، علم بذلك أن «أ ب ت ث » ليس لها باسم ، وإن كان ذلك آثَرَ في الذكر من سائرها . قال : وإنما خولف بين ذكر حروف المعجم في فواتح السور ، فذكرت في أوائلها مختلفة ، وذِكْرُها إذا ذُكرت بأوائلها التي هي «أ ب ت ث » مؤتلفة ليفصل بين الخبر عنها ، إذا أريد بذكر ما ذكر منها مختلفا الدلالة على الكلام المتصل ، وإذا أريد بذكر ما ذكر منها مؤتلفا الدلالة على الحروف المقطعة بأعيانها . واستشهدوا لإجازة قول القائل : ابني في «ط ظ » ، وما أشبه ذلك من الخبر عنه أنه في حروف المعجم ، وأن ذلك من قيله في البيان يقوم مقام قوله : «ابني في أ ب ت ث » برجز بعض الرجاز من بني أسد :
لَمّا رأيْتُ أمْرَها في حُطّي *** وفَنَكَتْ في كَذِبٍ ولَطّ
أخَذْتُ منْها بِقُرُونٍ شُمْطِ *** فَلَمْ يَزَلْ ضَرْبي بها ومَعْطِي
*** حتى عَلا الرأسَ دَمٌ يُغَطّي***
فزعم أنه أراد بذلك الخبر عن المرأة أنها في «أبي جاد » ، فأقام قوله : «لما رأيت أمرها في حُطي » مقام خبره عنها أنها في «أبي جاد » ، إذ كان ذاك من قوله يدل سامعه على ما يدله عليه قوله : لما رأيت أمرها في أبي جاد .
وقال آخرون : بل ابتدئت بذلك أوائل السور ليفتح لاستماعه أسماع المشركين ، إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن ، حتى إذا استمعوا له تُلي عليهم المؤلف منه .
وقال بعضهم : الحروف التي هي فواتح السور حروف يستفتح الله بها كلامه .
فإن قيل : هل يكون من القرآن ما ليس له معنى ؟ فإن معنى هذا أنه افتتح بها ليعلم أن السورة التي قبلها قد انقضت ، وأنه قد أخذ في أخرى ، فجعل هذا علامة انقطاع ما بينهما ، وذلك في كلام العرب ينشد الرجل منهم الشعر فيقول :
بل . . . . وَبَلْدَةٍ ما الإنْسُ مِنْ آهالهَا
ما هاجَ أحْزَانا وشَجَوْا قَدْ شَجا
و«بل » ليست من البيت ولا تعدّ في وزنه ، ولكن يقطع بها كلاما ويستأنف الاَخر .
قال أبو جعفر : ولكل قول من الأقوال التي قالها الذين وصفنا قولهم في ذلك وجه معروف . فأما الذين قالوا : ( الم ) اسم من أسماء القرآن ، فلقولهم ذلك وجهان : أحدهما أن يكونوا أرادوا أن : ( الم ) اسم للقرآن كما الفرقان اسم له . وإذا كان معنى قائل ذلك كذلك ، كان تأويل قوله : ( الم ) : ذلكَ الكِتابُ على معنى القسم كأنه قال : والقرآن هذا الكتاب لا ريب فيه . والاَخر منهما أن يكونوا أرادوا أنه اسم من أسماء السورة التي تعرف به كما تعرف سائر الأشياء بأسمائها التي هي لها أمارات تعرف بها ، فيفهم السامع من القائل يقول : قرأت اليوم ( المص ) و( ن ) أي السورة التي قرأها من سور القرآن ، كما يفهم عنه إذا قال : لقيت اليوم عمرا وزيدا ، وهما بزيد وعمر وعارفان مَنِ الذي لقي من الناس . وإن أشكل معنى ذلك على امرىء فقال : وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك ونظائر الم المر في القرآن جماعة من السور ؟ وإنما تكون الأسماء أماراتٍ ، إذا كانت مميزة بين الأشخاص ، فأما إذا كانت غير مميزة فليست أمارات . قيل : إن الأسماء وإن كانت قد صارت لاشتراك كثير من الناس في الواحد منها غير مميزة إلا بمعان أخر معها من ضم نسبة المسمى بها إليها أو نعته أو صفته بما يفرق بينه وبين غيره من أشكالها ، فإنها وضعت ابتداء للتمييز لا شك ثم احتيج عند الاشتراك إلى المعاني المفرّقة بين المسمّى بها . فكذلك ذلك في أسماء السور ، جعل كل اسم في قول قائل هذه المقالة أمارةً للمسمى به من السور . فلما شارك المسمّى به فيه غيره من سور القرآن احتاج المخبر عن سورة منها أن يضم إلى اسمها المسمى به من ذلك ما يفرق به للسامع بين الخبر عنها وعن غيرها من نعت وصفة أو غير ذلك ، فيقول المخبر عن نفسه إنه تلا سورة البقرة إذا سماها باسمها الذي هو الم : قرأت الم البقرة ، وفي آل عمران : قرأت الم آل عمران ، والم ذَلِكَ الكِتابُ والم اللّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الحَيّ القَيّومُ . كما لو أراد الخبر عن رجلين اسم كل واحد منهما عمرو ، غير أن أحدهما تميميّ والاَخر أزدي ، للزمه أن يقول لمن أراد إخباره عنهما : لقيت عمرا التميمي وعمرا الأزدي ، إذ كان لا فرق بينهما وبين غيرهما ممن يشاركهما في أسمائهما إلا بنسبتهما كذلك ، فكذلك ذلك في قول من تأول في الحروف المقطعة أنها أسماء للسور .
وأما الذين قالوا : ذلك فواتح يفتتح الله عز وجل بها كلامه ، فإنهم وجهوا ذلك إلى نحو المعنى الذي حكيناه عمن حكينا عنه من أهل العربية أنه قال : ذلك أدلة على انقضاء سورة وابتداء في أخرى وعلامة لانقطاع ما بينهما ، كما جعلت «بل » في ابتداء قصيدة دلالة على ابتداء فيها وانقضاء أخرى قبلها كما ذكرنا عن العرب إذا أرادوا الابتداء في إنشاد قصيدة ، قال : بل . . .
***ما هاجَ أحْزَانا وشَجْوا قَدْ شَجا***
و«بل » ليست من البيت ولا داخلة في وزنه ، ولكن ليدل به على قطع كلام وابتداء آخر .
وأما الذين قالوا : ذلك حروف مقطعة بعضها من أسماء الله عزّ وجل ، وبعضها من صفاته ، ولكل حرف من ذلك معنى غير معنى الحرف الاَخر . فإنهم نحوا بتأويلهم ذلك نحو قول الشاعر :
قُلْنا لَهَا قِفِي لنا قالَتْ قافْ *** لا تَحْسبِي أنّا نَسِينا الإيجَافْ
يعني بقوله : قالت قاف : قالت قد وقفت . فدلّت بإظهار القاف من «وقفت » على مرادها من تمام الكلمة التي هي «وقفت » ، فصرفوا قوله : الم وما أشبه ذلك إلى نحو هذا المعنى ، فقال بعضهم : الألف ألف «أنا » ، واللام لام «الله » ، والميم ميم «أعلم » ، وكل حرف منها دال على كلمة تامة . قالوا : فجملة هذه الحروف المقطعة إذا ظهر مع كل حرف منهن تمام حروف الكلمة «أنا الله أعلم » . قالوا : وكذلك سائر جميع ما في أوائل سور القرآن من ذلك ، فعلى هذا المعنى وبهذا التأويل . قالوا : ومستفيض ظاهر في كلام العرب أن ينقص المتكلم منهم من الكلمة الأحرف إذا كان فيما بقي دلالة على ما حذف منها ، ويزيد فيها ما ليس منها إذا لم تكن الزيادة مُلَبّسة معناها على سامعها كحذفهم في النقص في الترخيم من «حارث » «الثاء » فيقولون : يا حار ، ومن «مالك » «الكاف » فيقولون : يا مال ، وأما أشبه ذلك . وكقول راجزهم :
ما للظّلِيمِ عَالَ كَيْفَ لاَ يا*** يَنْقَدّ عَنْهُ جِلْدُهُ إذَا يا
كأنه أراد أن يقول : إذا يفعل كذا وكذا ، فاكتفى بالياء من «يفعل » . وكما قال آخر منهم :
*** بالخَيْرِ خَيْرَاتٌ وَإِنْ شَرّا فَا***
***ولا أُرِيدُ الشّرّ إِلاّ أنْ تَا***
يريد إلا أن تشاء . فاكتفى بالتاء والفاء في الكلمتين جميعا من سائر حروفهما ، وما أشبه ذلك من الشواهد التي يطول الكتاب باستيعابه . وكما
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب وابن عون ، عن محمد ، قال : لما مات يزيد بن معاوية ، قال لي عبدة : إني لا أراها إلا كائنة فتنة فافزع من ضيعتك والحق بأهلك قلت : فما تأمرني ؟ قال : أحبّ إليّ لك أن تا- قال أيوب وابن عون بيده تحت خده الأيمن يصف الاضطجاع حتى ترى أمرا تعرفه .
قال أبو جعفر : يعني ب «تا » تضطجع ، فاجتزأ بالتاء من تضطجع . وكما قال الاَخر في الزيادة في الكلام على النحو الذي وصفت :
أقولُ إذْ خَرّتْ على الكَلْكالِ *** يا ناقَتِي ما جُلْتِ مِن مَجَالِ
يريد الكلكل . وكما قال الاَخر :
إِنّ شَكْلِي وإِنّ شَكْلَكِ شَتّى *** فالزَمِي الخُصّ واخْفِضي تَبْيَضِضّي
قالوا : فكذلك ما نقص من تمام حروف كل كلمة من هذه الكلمات التي ذكرنا أنها تتمة حروف الم ونظائرها ، نظير ما نقص من الكلام الذي حكيناه عن العرب في أشعارها وكلامها .
وأما الذين قالوا : كل حرف من الم ونظائرها دالّ على معان شتى نحو الذي ذكرنا عن الربيع بن أنس ، فإنهم وجهوا ذلك إلى مثل الذي وجهه إليه من قال هو بتأويل : «أنا الله أعلم » في أن كل حرف منه بعض حروف كلمة تامة استُغني بدلالته على تمامه عن ذكر تمامه ، وإن كانوا له مخالفين في كل حرف من ذلك ، أهو من الكلمة التي ادعى أنه منها قائلو القول الأول أم من غيرها ؟ فقالوا : بل الألف من الم من كلمات شتى هي دالة على معاني جميع ذلك وعلى تمامه . قالوا : وإنما أفرد كل حرف من ذلك وقصر به عن تمام حروف الكلمة أن جميع حروف الكلمة لو أظهرت لم تدل الكلمة التي تظهر بعض هذه الحروف المقطعة بعضٌ لها ، إلاّ على معنى واحد لا على معنيين وأكثر منهما . قالوا : وإذا كان لا دلالة في ذلك لو أظهر جميعها إلا على معناها الذي هو معنى واحد ، وكان الله جل ثناؤه قد أراد الدلالة بكل حرف منها على معان كثيرة لشيء واحد ، لم يجز إلا أن يفرد الحرف الدال على تلك المعاني ، ليعلم المخاطبون به أن الله عز وجل لم يقصد قصد معنى واحد ودلالة على شيء واحد بما خاطبهم به ، وأنه إنما قصد الدلالة به على أشياء كثيرة . قالوا : فالألف من الم مقتضية معاني كثيرة ، منها : إتمام اسم الرب الذي هو الله ، وتمام اسم نعماء الله التي هي آلاء الله ، والدلالة على أَجَلِ قوم أنه سنة ، إذا كانت الألف في حساب الجُمّل واحدا . واللام مقتضية تمام اسم الله الذي هو لطيف ، وتمام اسم فضله الذي هو لطف ، والدلالة على أجل قوم أنه ثلاثون سنة . والميم مقتضية تمام اسم الله الذي هو مجيد ، وتمام اسم عظمته التي هي مجد ، والدلالة على أجل قوم أنه أربعون سنة . فكان معنى الكلام في تأويل قائل القول الأول : أن الله جل ثناؤه افتتح كلامه بوصف نفسه بأنه العالم الذي لا يخفى عليه شيء ، وجعل ذلك لعباده منهجا يسلكونه في مفتتح خطبهم ورسائلهم ومهمّ أمورهم ، وابتلاء منه لهم ليستوجبوا به عظيم الثواب في دار الجزاء ، كما افتتح ( بالحمد لله رب العالمين ) ، و( الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي خَلَقَ السموَاتِ وَالأرْضَ ) وما أشبه ذلك من السور التي جعل مفاتحها الحمد لنفسه . وكما جعل مفاتح بعضها تعظيم نفسه وإجلالها بالتسبيح كما قال جل ثناؤه : ( سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بعَبْدِهِ لَيْلاً ) وما أشبه ذلك من سائر سور القرآن التي جعل مفاتح بعضها تحميد نفسه ، ومفاتح بعضها تمجيدها ، ومفاتح بعضها تعظيمها وتنزيهها . فكذلك جعل مفاتح السور الأخرى التي أوائلها بعض حروف المعجم مدائح نفسه أحيانا بالعلم ، وأحيانا بالعدل والإنصاف ، وأحيانا بالإفضال والإحسان بإيجاز واختصار ، ثم اقتصاص الأمور بعد ذلك . وعلى هذا التأويل يجب أن يكون الألف واللام والميم في أماكن الرفع مرفوعا بعضها ببعض دون قوله : ( ذلكَ الكِتابُ ) ويكون ذلك الكتاب خبر مبتدأ منقطعا عن معنى الم ، وكذلك «ذلك » في تأويل قول قائل هذا القول الثاني مرفوعٌ بعضه ببعض ، وإن كان مخالفا معناه معنى قول قائل القول الأول .
وأما الذين قالوا : هن حروف من حروف حساب الجُمّل دون ما خالف ذلك من المعاني ، فإنهم قالوا : لا نعرف للحروف المقطعة معنى يفهم سوى حساب الجمل وسوى تَهَجّي قول القائل : الم . وقالوا : غير جائز أن يخاطب الله جل ثناؤه عبادَهُ إلا بما يفهمونه ويعقلونه عنه . فلما كان ذلك كذلك وكان قوله : ( الم ) لا يعقل لها وجهه تُوجّه إليه إلا أحد الوجهين اللذين ذكرنا ، فبطل أحد وجهيه ، وهو أن يكون مرادا بها تهجي الم ، صحّ وثبت أنه مراد به الوجه الثاني وهو حساب الجمل لأن قول القائل : ( الم ) لا يجوز أن يليه من الكلام ذلك الكتاب لاستحالة معنى الكلام وخروجه عن المعقول إذا ولي ( الم ذلك الكتاب ) . واحتجوا لقولهم ذلك أيضا بما :
حدثنا به محمد بن حميد الرازي ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل . قال : حدثني محمد بن إسحاق ، قال : حدثني الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، عن جابر ابن عبد الله بن رباب ، قال : مرّ أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة : ( الم ذَلِكَ الكِتابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ) فأتى أخاه حييّ بن أخطب في رجال من يهود فقال : تعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل الله عز وجل عليه : ( الم ذَلِكَ الكِتابُ ) فقالوا : أنت سمعته ؟ قال : نعم . فمشى حييّ بن أخطب في أولئك النفر من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك : ( الم ذَلِكَ الكِتابُ ) ؟ فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بَلَى » فقالوا : أجاءك بهذا جبريل من عند الله ؟ قال : «نَعَمْ » قالوا : لقد بعث الله جل ثناؤه قبلك أنبياء ما نعلمه بين النبي منهم ما مدة ملكه وما أَجَل أمته غيرك فقال حييّ بن أخطب : وأقبل على من كان معه ، فقال لهم : الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون سنة ، قال : فقال لهم : أتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة ؟ قال : ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد هل مع هذه غيره ؟ قال : «نَعَمْ » قال : ماذا ؟ قال : «المص » قال : هذه أثقل وأطول : الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون . فهذه مائة وإحدى وستون سنة هل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال : «نَعَمْ » قال : ماذا ؟ قال : «الر » قال : هذه أثقل وأطول الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة فقال : هل مع هذا غيره يا محمد ؟ قال : «نَعَمْ المر » ، قال : فهذه أثقل وأطول : الألف واحدة واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة . ثم قال : لقد لُبّس علينا أمرك يا محمد ، حتى ما ندري أقليلاً أُعطيتَ أم كثيرا ثم قاموا عنه ، فقال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار : ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد : إحدى وسبعون ، وإحدى وستون ومائة ، ومائتان وإحدى وثلاثون ، ومائتان وإحدى وسبعون ، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون ، فقالوا : لقد تشابه علينا أمره . ويزعمون أن هؤلاء الاَيات نزلت فيهم : ( هُوَ الذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٍ مُحْكماتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) .
فقالوا : قد صرّح هذا الخبر بصحة ما قلنا في ذلك من التأويل وفساد ما قاله مخالفونا فيه .
والصواب من القول عندي في تأويل مفاتح السور التي هي حروف المعجم : أن الله جل ثناؤه جعلها حروفا مقطعة ولم يصل بعضها ببعض فيجعلها كسائر الكلام المتصل الحروف لأنه عز ذكره أراد بلفظه الدلالة بكل حرف منه على معان كثيرة لا على معنى واحد ، كما قال الربيع بن أنس ، وإن كان الربيع قد اقتصر به على معان ثلاثة دون ما زاد عليها . والصواب في تأويل ذلك عندي أن كل حرف منه يحوي ما قاله الربيع وما قاله سائر المفسرين غيره فيه ، سوى ما ذكرت من القول عمن ذكرت عنه من أهل العربية أنه كان يوجّه تأويل ذلك إلى أنه حروف هجاء استُغني بذكر ما ذكر منه في مفاتح السور عن ذكر تتمة الثمانية والعشرين حرفا من حروف المعجم بتأويل : أن هذه الحروف ، ذلك الكتاب ، مجموعةٌ لا ريب فيه ، فإنه قول خطأ فاسد لخروجه عن أقوال جميع الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم من الخالفين من أهل التفسير والتأويل ، فكفى دلالة على خطئه شهادة الحجة عليه بالخطأ مع إبطال قائل ذلك قوله الذي حكيناه عنه ، إذ صار إلى البيان عن رفع ذلك الكتاب بقوله مرة إنه مرفوع كل واحد منهما بصاحبه ومرة أخرى أنه مرفوع بالراجع من ذكره في قوله : لاَ ( رَيْبَ فِيهِ ) ومرة بقوله : ( هُدًى لِلْمُتّقِينَ ) وذلك ترك منه لقوله إن ( الم ) رافعة ( ذَلِكَ الكِتَابُ ) وخروج من القول الذي ادّعاه في تأويل ( الم ذَلِكَ الكِتَابُ ) وأن تأويل ذلك : هذه الحروف ذلك الكتاب .
فإن قال لنا قائل : وكيف يجوز أن يكون حرف واحد شاملاً الدلالة على معان كثيرة مختلفة ؟ قيل : كما جاز أن تكون كلمة واحدة تشتمل على معان كثيرة مختلفة كقولهم للجماعة من الناس : أمة ، وللحين من الزمان : أمة ، وللرجل المتعبد المطيع لله : أمة ، وللدين والملة : أمة . وكقولهم للجزاء والقصاص : دين ، وللسلطان والطاعة : دين ، وللتذلل : دين ، وللحساب : دين في أشباه لذلك كثيرة يطول الكتاب بإحصائها ، مما يكون من الكلام بلفظ واحد ، وهو مشتمل على معان كثيرة . وكذلك قول الله جل ثناؤه : «الم والمر » ، و«المص » وما أشبه ذلك من حروف المعجم التي هي فواتح أوائل السور ، كل حرف منها دالّ على معان شتى ، شامل جميعها من أسماء الله عز وجل وصفاته ما قاله المفسرون من الأقوال التي ذكرناها عنهم وهن مع ذلك فواتح السور كما قاله من قال ذلك . وليس كونُ ذلك من حروف أسماء الله جل ثناؤه وصفاته بمانعها أن تكون للسور فواتح لأن الله جل ثناؤه قد افتتح كثيرا من سور القرآن بالحمد لنفسه والثناء عليها ، وكثيرا منها بتمجيدها وتعظيمها ، فغير مستحيل أن يبتدىء بعض ذلك بالقسم بها . فالتي ابتُدىء أوائلها بحروف المعجم أحد معاني أوائلها أنهنّ فواتح ما افتتح بهنّ من سور القرآن ، وهنّ مما أقسم بهن لأن أحد معانيهن أنهن من حروف أسماء الله تعالى ذكره وصفاته على ما قدمنا البيان عنها ، ولا شك في صحة معنى القسم بالله وأسمائه وصفاته ، وهن من حروف حساب الجمل ، وهنّ للسور التي افتتحت بهن شعار وأسماء . فذلك يحوي معاني جميع ما وصفنا مما بينا من وجوهه ، لأن الله جل ثناؤه لو أراد بذلك أو بشيء منه الدلالة على معنى واحد مما يحتمله ذلك دون سائر المعاني غيره ، لأبان ذلك لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إبانة غير مشكلة ، إذ كان جل ثناؤه إنما أنزل كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم ليبين لهم ما اختلفوا فيه . وفي تركه صلى الله عليه وسلم إبانة ذلك أنه مراد به من وجوه تأويله البعض دون البعض أوضح الدليل على أنه مراد به جميع وجوهه التي هو لها محتمل ، إذ لم يكن مستحيلاً في العقل وجهٌ منها أن يكون من تأويله ومعناه كما كان غير مستحيل اجتماع المعاني الكثيرة للكلمة الواحدة باللفظ الواحد في كلام واحد .
ومن أبى ما قلناه في ذلك سئل الفرق بين ذلك وبين سائر الحروف التي تأتي بلفظ واحد مع اشتمالها على المعاني الكثيرة المختلفة كالأمة والدين وما أشبه ذلك من الأسماء والأفعال . فلن يقول في أحد ذلك قولاً إلا أُلزم في الاَخر مثله . وكذلك يُسأل كل من تأوّل شيئا من ذلك على وجه دون الأوجه الأخر التي وصفنا عن البرهان على دعواه من الوجه الذي يجب التسليم له ثم يعارض بقول يخالفه في ذلك ، ويسأل الفرق بينه وبينه : من أصْلٍ ، أو مما يدل عليه أصلٌ ، فلن يقول في أحدهما قولاً إلا ألزم في الاَخر مثله . وأما الذي زعم من النحويين أن ذلك نظير ، «بل » في قول المنشد شعرا :
*** بل . . . ما هاجَ أحْزَانا وَشَجْوا قَدْ شَجا ***
وأنه لا معنى له ، وإنما هو زيادة في الكلام معناه الطرح فإنه أخطأ من وجوه شتى :
أحدها : أنه وصف الله تعالى ذكره بأنه خاطب العرب بغير ما هو من لغتها وغير ما هو في لغة أحد من الاَدميين ، إذ كانت العرب وإن كانت قد كانت تفتتح أوائل إنشادها ما أنشدت من الشعر ب«بل » ، فإنه معلوم منها أنها لم تكن تبتدىء شيئا من الكلام ب«الم » و«الر » و«المص » بمعنى ابتدائها ذلك ب«بل » . وإذ كان ذلك ليس من ابتدائها ، وكان الله جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم من القرآن بما يعرفون من لغاتهم ويستعملون بينهم من منطقهم في جميع آيهِ ، فلا شك أن سبيل ما وصفنا من حروف المعجم التي افتتحت بها أوائل السور التي هن لها فواتح سبيل سائر القرآن في أنه لم يعدل بها عن لغاتهم التي كانوا بها عارفين ولها بينهم في منطقهم مستعملين لأن ذلك لو كان معدولاً به عن سبيل لغاتهم ومنطقهم كان خارجا عن معنى الإبانة التي وصف الله عز وجل بها القرآن ، فقال تعالى ذكره : ( نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأمِينُ على قَلْبِكَ لِتَكَونَ مِنَ المُنْذِرِينِ بِلسانٍ عَرَبيّ مُبِينٍ ) . وأنّى يكون مبينا ما لا يعقله ولا يفقهه أحد من العالمين في قول قائل هذه المقالة ، ولا يعرف في منطق أحد من المخلوقين في قوله ؟ وفي إخبار الله جل ثناؤه عنه أنه عربيّ مبين ما يكذّب هذه المقالة ، وينبىء عنه أن العرب كانوا به عالمين وهو لها مستبين . فذلك أحد أوجه خطئه .
والوجه الثاني من خطئه في ذلك : إضافته إلى الله جل ثناؤه أنه خاطب عباده بما لا فائدة لهم فيه ولا معنى له من الكلام الذي سواء الخطاب به وترك الخطاب به ، وذلك إضافة العبث الذي هو منفي في قول جميع الموحدين عن الله ، إلى الله تعالى ذكره .
والوجه الثالث من خطئه : أن «بل » في كلام العرب مفهوم تأويلها ومعناها ، وأنها تدخلها في كلامها رجوعا عن كلام لها قد تقضى كقولهم : مَا جاءني أخوك بل أبوك وما رأيت عمرا بل عبد الله ، وما أشبه ذلك من الكلام ، كما قال أعشى بني ثعلبة :
وَلأشْرَبَنّ ثَمَانِيا وثَمَانِيا *** وَثَلاثَ عَشْرَةَ وَاثْنَتَيْنَ وَأرْبَعا
بالجُلّسانِ وَطَيّبٌ أرْدَانُهُ *** بالوَنّ يَضْرِبُ لي يَكُرّ الأصْبُعا
بَلْ عُدّ هَذَا في قَرِيضِ غَيْرِهِ *** وَاذْكُرْ فَتًى سَمْحَ الخَلِيقَةِ أرْوَعا
فكأنه قال : دع هذا وخذ في قريض غيره . ف«بل » إنما يأتي في كلام العرب على هذا النحو من الكلام . فأما افتتاحا لكلامها مبتدأ بمعنى التطويل والحذف من غير أن يدل على معنى ، فذلك مما لا نعلم أحدا ادعاه من أهل المعرفة بلسان العرب ومنطقها ، سوى الذي ذكرت قوله ، فيكون ذلك أصلاً يشبّه به حروف المعجم التي هي فواتح سور القرآن التي افتتحت بها لو كان له مشبهة ، فكيف وهي من الشبه به بعيدة ؟
{ ألم } وسائر الألفاظ التي يتهجى بها ، أسماء مسمياتها الحروف التي ركبت منها الكلم لدخولها في حد الاسم ، واعتوار ما يخص به من التعريف والتنكير والجمع والتصغير ونحو ذلك عليها ، وبه صرح الخليل وأبو علي . وما روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : " من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف " فالمراد به غير المعنى الذي اصطلح عليه ، فإن تخصيصه به عرف مجدد بل المعنى اللغوي ، ولعله سماه باسم مدلوله .
ولما كانت مسمياتها حروفا وحدانا وهي مركبة ، صدرت بها لتكون تأديتها بالمسمى أول ما يقرع السمع ، واستعيرت الهمزة مكان الألف لتعذر الابتداء بها وهي ما لم تلها العوامل موقوفة خالية عن الإعراب لفقد موجبه ومقتضيه ، لكنها قابلة إياه ومعرضة له إذا لم تناسب مبنى الأصل ولذلك قيل : { ص } و { ق } مجموعا فيهما بين الساكنين ولم تعامل معاملة أين وهؤلاء . ثم إن مسمياتها لما كانت عنصر الكلام وبسائطه التي يتركب منها . افتتحت السورة بطائفة منها إيقاظا لمن تحدى بالقرآن وتنبيها على أن أصل المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم ، فلو كان من عند غير الله لما عجزوا عن آخرهم مع تظاهرهم وقوة فصاحتهم عن الإتيان بما يدانيه ، وليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلا بنوع من الإعجاز ، فإن النطق بأسماء الحروف مختص بمن خط ودرس ، فأما من الأمي الذي لم يخالط الكتاب فمستبعد مستغرب خارق للعادة كالكتابة والتلاوة سيما وقد راعى في ذلك ما يعجز عنه الأديب الأريب الفائق في فنه ، وهو أنه أورد في هذه الفواتح أربعة عشر اسما هي نصف أسامي حروف المعجم ، إن لم يعد فيها الألف حرفا برأسها في تسع وعشرين سورة بعددها إذا عد فيها الألف الأصلية مشتملة على أنصاف أنواعها ، فذكر من المهموسة وهي ما يضعف الاعتماد على مخرجه ويجمعها ( ستشحثك خصفه ) نصفها الحاء والكاف والهاء والصاد والسين والكاف ، ومن البواقي المجهورة نصفها يجمعه " لن يقطع أمر " ومن الشديدة الثمانية المجموعة في ( أجدت طبقك ) أربعة يجمعها ( أقطك ) . ومن البواقي الرخوة عشرة يجمعها " خمس " على نصره ، ومن المطبقة التي هي الصاد والضاد والطاء والظاء نصفها ، ومن البواقي المنفتحة نصفها ، ومن القلقلة وهي : حروف تضطرب عند خروجها ويجمعها ( قد طبج ) نصفها الأقل لقلتها ، ومن اللينتين الياء لأنها أقل ثقلا ، ومن المستعلية وهي : التي يتصعد الصوت بها في الحنك الأعلى ، وهي سبعة القاف والصاد والطاء والخاء والغين والضاد والظاء نصفها الأقل ، ومن البواقي المنخفضة نصفها ، ومن حروف البدل وهي أحد عشر على ما ذكره سيبويه ، واختاره ابن جني ويجمعها ( أحد طويت ) منها الستة الشائعة المشهورة التي يجمعها " أهطمين " وقد زاد بعضهم سبعة أخرى وهي اللام في ( أصيلال ) والصاد والزاي في ( صراط وزراط ) والفاء في ( أجداف ) والعين في ( أعن ) والثاء في ( ثروغ الدلو ) والباء في " باسمك " حتى صارت ثمانية عشر وقد ذكر منها تسعة الستة المذكورة واللام والصاد والعين . ومما يدغم في مثله ولا يدغم في المقارب وهي خمسة عشر : الهمزة والهاء والعين والصاد والطاء والميم والياء والخاء والغين والضاد والفاء والظاء والشين والزاي والواو نصفها الأقل . ومما يدغم فيهما وهي الثلاثة عشر الباقية نصفها الأكثر : الحاء والقاف والراء والسين واللام والنون لما في الإدغام من الخفة والفصاحة ، ومن الأربعة التي لا تدغم فيما يقاربها ويدغم فيها مقاربها وهي : الميم والزاي والسين والفاء نصفها .
ولما كانت الحروف الذلقية التي يعتمد عليها بذلف اللسان وهي ستة يجمعها ( رب منفل ) والحلقية التي هي الحاء والخاء والعين والغين والهاء والهمزة ، كثيرة الوقوع في الكلام ذكر ثلثيهما . ولما كانت أبنية المزيد لا تتجاوز عن السباعية ذكر من الزوائد العشرة التي يجمعها ( اليوم تنساه ) سبعة أحرف منها تنبيها على ذلك ، ولو استقريت الكلم وتراكيبها وجدت الحروف المتروكة من كل جنس مكثورة بالمذكورة ثم إنه ذكرها مفردة وثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية ، إيذانا بأن المتحدى به مركب من كلماتهم التي أصولها كلمات مفردة ، ومركبة من حرفين فصاعدا إلى الخمسة ، وذكر ثلاث مفردات في ثلاث سور لأنها توجد في الأقسام الثلاثة : الاسم والفعل والحرف وأربع ثنائيات لأنها تكون في الحرف بلا حذف ( كبل ) ، وفي الفعل بحذف ثقل كقل . وفي الاسم بغير حذف كمن ، وبه كدم في تسع سور لوقوعها في كل واحد من الأقسام الثلاثة على ثلاثة أوجه : ففي الأسماء من وإذ وذو . وفي الأفعال قل وبع وخف . وفي الحروف من وإن ومذ على لغة من جربها . وثلاث ثلاثيات لمجيئها في الأقسام الثلاثة في ثلاث عشرة سورة تنبيها على أن أصول الأبنية المستعملة ثلاثة عشر ، عشرة منها للأسماء ، وثلاثة للأفعال ، ورباعيتين وخماسيتين تنبيها على أن لكل منهما أصلا : كجعفر وسفرجل ، وملحقا . كقردد وجحنفل ، ولعلها فرقت على السور ولم تعد بأجمعها في أول القرآن لهذه الفائدة مع ما فيه من إعادة التحدي وتكرير التنبيه والمبالغة فيه .
والمعنى أن هذا المتحدى به مؤلف من جنس هذه الحروف . أو المؤلف منها ، كذا وقيل : هي أسماء للسور ، وعليه إطباق الأكثر . سميت بها إشعارا بأنها كلمات معروفة التركيب فلو لم تكن وحيا من الله تعالى لم تتساقط مقدرتهم دون معارضتها ، واستدل عليه بأنها لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل والتكلم بالزنجي مع العربي ، ولم يكن القرآن بأسره بيانا وهدى . ولما أمكن التحدي به وإن كانت مفهمة ، فإما أن يراد بها السور التي هي مستهلها على أنها ألقابها ، أو غير ذلك . والثاني باطل لأنه ؛ إما أن يكون المراد ما وضعت له في لغة العرب فظاهر أنه ليس كذلك ، أو غيره وهو باطل لأن القرآن نزل على لغتهم لقوله تعالى : { بلسان عربي مبين } فلا يحمل على ما ليس في لغتهم .
لا يقال : لم لا يجوز أن تكون مزيدة للتنبيه ؟ والدلالة على انقطاع كلام واستئناف آخر ؟ كما قاله قطرب ، أو إشارة إلى كلمات هي منها اقتصرت عليها اقتصار الشاعر في قوله :
قلت لها قفي فقالت قاف *** . . .
كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : الألف آلاء الله ، واللام لفظه ، والميم ملكه . وعنه أن الر وحم ون مجموعها الرحمن . وعنه أن الم معناه : أنا الله أعلم ونحو ذلك في سائر الفواتح . وعنه أن الألف من الله ، واللام من جبريل ، والميم من محمد أي : القرآن منزل من الله بلسان جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام ، أو إلى مدد أقوام وآجال بحساب الجمل كما قال أبو العالية متمسكا بما روي : " أنه عليه الصلاة والسلام لما أتاه اليهود تلا عليهم ألم البقرة . فحسبوه وقالوا : كيف ندخل في دين مدته إحدى وسبعون سنة ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : فهل غيره ، فقال : المص والر والمر ، فقالوا : خلطت علينا فلا ندري بأيها نأخذ " . فإن تلاوته إياها بهذا الترتيب عليهم وتقريرهم على استنباطهم دليل على ذلك ، وهذه الدلالة وإن لم تكن عربية لكنها لاشتهارها فيما بين الناس حتى العرب تلحقها بالمعربات كالمشكاة والسجيل والقسطاس ، أو دلالة على الحروف المبسوطة مقسما بها لشرفها من حيث إنها بسائط أسماء الله تعالى ومادة خطابه .
هذا وإن القول بأنها أسماء السور يخرجها ما ليس في لغة العرب ، لأن التسمية بثلاثة أسماء فصاعدا مستكره عندهم ويؤدي إلى اتحاد الاسم والمسمى ، ويستدعي تأخر الجزء عن الكل من حيث إن الاسم متأخر عن المسمى بالرتبة ، لأنا نقول : إن هذه الألفاظ لم تعهد مزيدة للتنبيه والدلالة على الانقطاع والاستئناف يلزمها وغيرها من حيث إنها فواتح السور ، ولا يقتضي ذلك أن لا يكون لها معنى في حيزها ولم تستعمل للاختصار من كلمات معينة في لغتهم ، أما الشعر فشاذ ، وأما قول ابن عباس ، فتنبيه على أن هذه الحروف منبع الأسماء ومبادئ الخطاب وتمثيل بأمثلة حسنة ، ألا ترى أنه عد كل حرف من كلمات متباينة لا تفسير ، وتخصيص بهذه المعاني دون غيرها إذ لا مخصص لفظا ومعنى ولا بحساب الجمل فتلحق بالمعربات ، والحديث لا دليل فيه ، لجواز أنه عليه الصلاة والسلام تبسم تعجبا من جهلهم ، وجعلها مقسما بها وإن كان غير ممتنع لكنه يحوج إلى إضمار أشياء لا دليل عليها ، والتسمية بثلاثة أسماء إنما تمتنع إذا ركبت وجعلت اسما واحدا على طريقة بعلبك ، فأما إذا نثرت نثر أسماء العدد فلا ، وناهيك بتسوية سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر وطائفة من أسماء حروف المعجم ، والمسمى هو مجموع السورة والاسم جزؤها فلا اتحاد ، وهو مقدم من حيث ذاته مؤخر باعتبار كونه اسما ، فلا دور لاختلاف الجهتين . والوجه الأول أقرب إلى التحقيق وأوفق للطائف التنزيل وأسلم من لزوم النقل ووقوع الاشتراك في الأعلام من واضع واحد فإنه يعود بالنقض على ما هو مقصود بالعلمية ، وقيل إنها أسماء القرآن ولذلك أخبر عنها بالكتاب والقرآن .
وقيل إنها أسماء لله تعالى ويدل عليه أن عليا كرم الله وجهه كان يقول : يا كهيعص ، ويا حمعسق ، ولعله أراد يا منزلهما .
وقيل الألف : من أقصى الحلق وهو مبدأ المخارج ، واللام : من طرف اللسان وهو أوسطها ، والميم : من الشفة وهو آخرها جمع بينها إيماء إلى أن العبد ينبغي أن يكون أول كلامه وأوسطه وآخره ذكر الله تعالى .
وقيل : إنه سر استأثر الله بعلمه وقد روي عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة ما يقرب منه ، ولعلهم أرادوا أنها أسرار بين الله تعالى ورسوله ورموز لم يقصد بها إفهام غيره إذ يبعد الخطاب بما لا يفيد . فإن جعلتها أسماء الله تعالى ، أو القرآن ، أو السور كان لها حظ من الإعراب إما الرفع على الابتداء ، أو الخبر ، أو النصب بتقدير فعل القسم على طريقة الله لأفعلن بالنصب أو غيره كما ذكر ، أو الجر على إضمار حرف القسم ، ويتأتى الإعراب لفظا والحكاية فيما كانت مفردة أو موازنة لمفرد كحم فإنها كهابيل ، والحكاية ليست إلا فيما عدا ذلك ، وسيعود إليك ذكره مفصلا إن شاء الله تعالى ، وإن أبقيتها على معانيها فإن قدرت بالمؤلف من هذه الحروف كان في حيز الرفع بالابتداء أو الخبر على ما مر ، وإن جعلتها مقسما بها يكون كل كلمة منها منصوبا أو مجرورا على اللغتين في الله لأفعلن ، وتكون جملة قسمية بالفعل المقدر له ، وإن جعلتها أبعاض كلمات أو أصواتا منزلة منزلة حروف التنبيه لم يكن لها محل من الإعراب كالجمل المبتدأة والمفردات المعدودة ويوقف عليها وقف التمام إذا قدرت بحيث لا تحتاج إلى ما بعدها ، وليس شيء منها آية عند غير الكوفيين . وأما عندهم ف{ الم } في مواضعها و{ المص } و{ كهيعص } و{ طه } و{ طسم } و{ طس } و{ يس } و{ حم } آية و{ حم } { عسق } آيتان ، والبواقي ليست بآيات وهذا توقيف لا مجال للقياس فيه .