تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان  
{الٓمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة ، عدد آياتها مئتان وست وثمانون .

من أوائل ما نزل بعد الهجرة ، وهي أطول سورة في القرآن ، إذ استغرقت جزئين ونصف جزء ، وبلغ عدد آياتها ستا وثمانين ومائتي آية .

وقد سميت بهذا الإسم لأنها انفردت بذكر حادثة قتل وقعت في بني إسرائيل على عهد موسى عليه السلام ، وكان للبقرة فيها شأن عجيب .

وقد ابتدأت هذه السورة بتفصيل ما انتهت إليه سورة الفاتحة ، فذكرت أن القرآن هو مصدر الهدى ، ذلك الكتاب لا ريب فيه . وبينت بالتفصيل من هم الذين أنعم الله عليهم بالرضا ، والآخرين الذين غضب الله عليهم من الكفار والمنافقين .

وقد تحدثت السورة عن صدق القرآن ، وأن دعوته حق لا ريب فيها .

وبعد أن بيّنت أصناف الناس الثلاثة : المؤمنين ، والكافرين ، والمنافقين- تحدثت عن الدعوة إلى عبادة الله وحده ، وعن إنذار الكافرين وتبشير المؤمنين . ثم إنها خصت بني إسرائيل بالدعوة والمراجعة ، وذكّرتهم بأيام الله وبحوادثهم مع موسى ، وبإبراهيم وإسماعيل وبنائهما الكعبة . وقد استغرق ذلك نحو نصف السورة ، لكنه تخلله حديث موجه إلى المؤمنين للاعتبار بما حدث لليهود والنصارى .

ثم انتقل الحديث إلى خطاب المسلمين بذكر ما هو مشترك بينهم وبين قوم موسى من فضل إبراهيم وهدايته ونسبه . بعد ذلك جاء الحديث عن القِبلة وتحويلها عن القدس ، واحتجاج أهل الكتاب على ذلك والرد عليهم ، كما جاء ذكر التوحيد والتذكير بآيات الله الدالة عليه ، ثم ذكر الشرك والمحرّم من الطعام على أساس أن التحرم والتحليل من حق الله وحده .

كذلك تعرضت سورة البقرة لبيان أصول البر بتفصيل عظيم ، وبينت بعض التشريع ، مع أحكام الصيام ، والوصية ، وأكل أموال الناس بالباطل ، والقتال والقتل ، والقصاص ، والحج ، والخمر والميسر ، والنكاح ، والطلاق ، والرضاع ، والعِدة ، وغيرها . كما تعرضت للحديث عن العقائد العامة كالرسالة ، والتوحيد ، والبعث ، وتحدثت عن الإنفاق ، والربا ، والتجارة ، وكتابة الدّين . ثم خُتمت السورة بدعاء من المؤمنين لربهم .

هذا مجمل لمحتوى السورة ، يمكن اعتباره تلخيصا وتعدادا .

من هذا نرى أن سورة البقرة من أجمع السور ، فقد احتوت على أصول العقيدة ، وعلى كثير من أدلة التوحيد ، كما ذكرت مبدأ خلق الإنسان ، ثم وجهت عنايتها إلى أمرين اقتضت الإفاضة فيهما حالة المسلمين عقب هجرتهم من مكة إلى المدينة . . .

أحدهما : أن المسلمين تركّزوا جماعة مستقلة في المدينة ، حيث بنى النبي مسجده لأداء الصلوات المفروضة ، وليكون بمثابة ندوة جامعة لهم ، فهو مدرستهم ومحكمتهم ودار شوارهم . وذلك بعد أن آخى النبي بين المهاجرين والأنصار ، وصاروا جبهة مؤمنة واحدة تحتاج إلى تشريع تنظم به شئونها .

وثانيهما : أن هجرتهم جعلت لهم جوارا في المدينة غير جوارهم في مكة ، فهم الآن جيران اليهود بعد أن كانوا جيران المشركين من العرب .

بهذين الأمرين نجد أن السورة تهدف إلى غرضين رئيسَين غير ما سبق .

الأول : توجيه الدعوة إلى الجيران الجدد ومناقشتهم فيما كانوا يثيرونه حول رسالة محمد من تشكيك وشُبه .

والثاني : التشريع الذي اقتضته صيرورة المسلمين جماعة متميزة عن غيرها في عبادتها ومعاملاتها .

وقد تضمنت هذه السورة عدة قواعد منها :

أن اتّباع سبيل الله وإقامة دينه هما الموجبان للسعادة في الدنيا والآخرة ، وأنه لا يليق بعاقل أن يدعو إلى البر والفضيلة وينسى نفسه ، بل يجب إيثار الخير على الشر في كل حال . وأن أصول الدين ثلاثة وهي : الإيمان بالله ورسوله ، والإيمان بالبعث ، والعمل الصالح .

أما الجزاء فهو على الإيمان والعمل معا .

وأما شرط الإيمان فهو الإذعان النفسي والتسليم بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم .

أما الولاية العامة الشرعية فيجب أن تكون لأهل الإيمان والعدل وحدهم . ويستعان على تحقيق الأمور الجليلة بالصبر والصلاة ، وبهما تنتصرُ القلة على الكثرة .

وبصدد ما أحله الله لعباده وما حرمه ، فقد أحل لهم الطيبات من المطعم ، وحرّم أشياء خبيثة محدودة . ومع ذلك فإن المحرّمات تباح للمضطر ، لأن الضرورات تبيح المحظورات ، وتقدّر بقدْرها . فالدين مبني على اليسر ورفع الحرج ، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها .

أما الإكراه في الدين فهو ممنوع ، فيما القتال مشروع للدفاع ، ولتأمين حرية الدين ، وسيادة الإسلام في مجتمعه .

وأن للمسلم أن يطلب حظه من الدنيا ، كما يؤدي واجبه نحو الآخرة . وأن سدّ الذرائع وتقرير المصالح من مقاصد الشريعة . والإنسان في الإسلام مجزي بعمله لا بعمل غيره ، فإذا كان في الأديان دين يجتبي القبيلة بنسبها أو المرء بمولده في أمة معينة ، أو يحاسبه على خطيئته يزعم توارثها ، فليس في الإسلام إنسان ينجو بالميلاد أو يهلك بالميلاد ، ولكنه الدين الذي ترتبط فيه النجاة والهلاك بسعي المرء وعمله ، { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } النجم : 39 .

بدئت سورة البقرة بهذه الحروف الثلاثة ، وهي تُقرأ حروفاً مفرّقة ، لا لفظة واحدة ، وفي القرآن عدة سور بدئت بحروف على هذا النحو ، منها : البقرة ، وآل عمران مدنيّتان ، والباقي سور مكيّة .

وقد جاءت بدايات هذه السوَر على أنواع : منها ما هو حرف واحد ، مثل : «ص . والقرآنِ ذي الذِكر » ، «ق . والقرآن المجيد » ، «ن . والقلمِ وما يسطُرون » ، ومنها ما هو حرفان ، مثل : «طه ما أنزلنا عليكَ القرآن لتشقى » ، «يس والقرآنِ الحكيم » ، «حم تنزيلُ الكتاب من اللهِ العزيزِ الحكيم » ، ومنها ما هو ثلاثة أحرف أو أكثر ، مثل : «ألم » ، «المص » ، «كهيعص » ، و «حم عسق » الخ .

وهذه الحروف أربعة عشر حرفاً ، جمعها بعضهم في عبارة «نصٌّ حكيم قاطع له سر » .

والعلماء في تفسير معنى هذه الحروف فريقان :

فريق يرى أنها مما استأثر الله بعلمه . ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم المراد منها ، فالله أعلم بمراده .

وفريق يقول : لا يجوز أن يرد في كتاب الله ما ليس مفهوماً للخلْق . وهؤلاء اختلفوا في تفسير هذه الحروف اختلافاً كثيرا . فبعضهم يقول إنها أسماء للسور التي بدئت بها ، وبعضهم يعتبرها رموزاً لبعض أسماء الله تعالى أو صفاته ، فالألف مثلاً إشارة إلى أنه تعالى «أحد ، أول ، آخر ، أبدي ، أزلي » ، واللام مثلا إشارة إلى أنه «لطيف » ، والميم إلى أنه «ملك ، مجيد ، منان » الخ . .

أما الرأي الأشهر الذي اختاره المحققون فهو أنها حروف أنزلت للتنبيه على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف ، وفي متناول المخاطَبين به من العرب ، فهو يتحداهم أن يصوغوا من تلك الحروف مثله ، وهم أمراء الكلام ، واللغةُ لغتهم هم .

من هذه الحروف يصوغ البشر كلاما وشعرا ، ومنها يجعل الله قرآنا معجزاً ، فما أعظم الفرق بين صنع البشر وصنع الله !