السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{الٓمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة البقرة مدنية

مدنية وهي مائتان وسبع وثمانون آية

{ بسم الله الرحمن الرحيم }

قال الشعبي وجماعة : { ألم } وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه وهي سرّ القرآن فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله سبحانه وتعالى ، وفائدة ذكره طلب الإيمان بها والسبب في ذلك أنّ العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش والله تعالى استأثر بعلم لا تقدر عليه عقول الأنبياء ، والأنبياء استأثروا بعلم لا تقدر عليه عقول العلماء ، والعلماء استأثروا بعلم لا تقدر عليه عقول العامّة ، وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : في كل كتاب سرّ وسرّ الله في القرآن أوائل السور . وقال عليّ رضي الله عنه : إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي ، قال داود بن أبي هند : كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور فقال : يا داود إنّ لكل كتاب سرّاً وإنّ سرّ القرآن فواتح السور فدعها واسأل عما سوى ذلك ، وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : معنى { ألم } أنا الله أعلم ومعنى { الر } ( يونس : 1 ) أنا الله أرى ومعنى { المر } ( الرحمن ، 1 ) أنا الله أعلم وأرى ، قال الزجاج : وهذا حسن فإنّ العرب تذكر حرفاً من كلمة تريدها كقولهم :

قلت لها قفي فقالت : قاف***

أي : وقفت . وقيل : هي أسماء السور وعليه إطباق أكثر المتكلمين واختاره الخليل وسيبويه ، سميت بها إشعاراً بأنها كلمات معروفة التركيب فلو لم تكن وحياً من الله تعالى لم تتساقط قدرتهم عند معارضتها ، ونقضه الإمام الرازي بأنها لو كانت اسماً لها لوجب اشتهارها بها وقد اشتهرت بغيرها كسورة البقرة وآل عمران وقيل : أسماء للقرآن قاله قتادة . والحكمة في الإتيان بهذه الأحرف الثلاثة أنّ الألف من أقصى الحلق وهو مبدأ المخارج ، واللام من طرف اللسان وهو وسطها ، والميم من الشفة وهي آخرها ، جمع الله تعالى بينها إيماء إلى أنّ العبد ينبغي أن يكون أوّل كلامه وأوسطه وآخره ذكر الله تعالى ولما تكاثر وقوع الألف واللام في تراكيب الكلام جاءتا في معظم الفواتح مكرّرتين وهي فواتح سورة البقرة وأوّل آل عمران والأعراف ويونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة .

فإن قيل : هلا عددت هذه الأحرف بأجمعها في أوائل القرآن وما لها جاءت مفرّقة على السور ؟ أجيب : بأنّ إعادة التنبيه على أنّ المتحدّى به مؤلف منها لا غير وتجديده في غير موضع واحد أوصل إلى الغرض وأقرّ له في الإسماع والقلوب من أن يفرد ذكره مرّة ، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن فمطلوب به تمكين المكرّر في النفوس وتقريره .

فإن قيل : هلا جاءت على وتيرة واحدة ولم اختلفت أعداد حروفها فوردت ص وق ون على حرف ، وطه وطس ويس وحم على حرفين ، وألم وألر وطسم على ثلاثة أحرف ، وألمص وألمر على أربعة أحرف ، وكهيعص وحمعسق على خمسة أحرف ؟ أجيب : بأنّ هذا على عادة افتنانهم في أساليب الكلام وتصرّفهم فيه على طرق شتى ومذاهب عدّة ، وكما أنّ أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف لم تتجاوز ذلك سلك بهذه الفواتح تلك المسالك .

فإن قيل : ما وجه اختصاص كل سورة بالفاتحة التي اختصت بها ؟ أجيب : بأنه لما كان الغرض هو التنبيه والمبادي كلها في تأدية هذا الغرض سواء لا مفاضلة كان تطلب وجه الاختصاص ساقطاً كما إذا سمى الرجل بعض أولاده زيداً والآخر عمراً لم يقل له : لم خصصت ولدك هذا بزيد وذاك بعمرو ؟ لأنّ الغرض هو التمييز وهو حاصل بذلك .

فإن قيل : هل لهذه الفواتح محل من الإعراب ؟ أجيب : بأنّ لها محلاً عند من جعلها أسماء لأنها عنده كسائر الأعلام محلها يحتمل ثلاثة أوجه : إمّا الرفع بأنها مبتدأ أو خبر لمبتدأ محذوف أي : هذه ألم ، أو النصب بفعل مقدّر كاذكر أو اقرأ أو اتل ألم ، أو الجرّ بتقدير حذف حرف القسم .