هذه السورة مدنية نزلت بالمدينة بعد الهجرة ، وهي أطول سورة في القرآن الكريم حسب ترتيب المصحف ، وقد ابتدأت هذه السورة بتفصيل ما انتهت إليه سورة الفاتحة ، فقد ذكرت أن القرآن مصدر الهدى ، وذكرت الذين أنعم الله عليهم بالرضا ، والذين غضب عليهم من الكفار والمنافقين .
وقد تحدثت السورة عن صدق القرآن ، وأن دعوته حق لا ريب فيها ، ثم تحدثت عن أصناف الناس الثلاثة : المؤمنين ، والكافرين ، والمنافقين ، وعن الدعوة إلى عبادة الله وحده ، وعن إنذار الكافرين وتبشير المؤمنين ، ثم خصت بني إسرائيل بالدعوة والمراجعة ، وجاء فيها تذكيرهم بأيام الله وبحوادثهم مع موسى عليه السلام ، وتذكيرهم كذلك بإبراهيم وإسماعيل وبنائهما الكعبة ، واستغرق ذلك نحو نصف السورة ، وتخلله حديث موجه إلى المؤمنين للاعتبار بما حدث لليهود والنصارى .
وانتقل الحديث إلى خطاب أهل القرآن بذكر ما هو مشترك بين قوم موسى وقوم محمد من فضل إبراهيم وهدايته ونسبه ، وبذكر مسألة القبلة ونحوها .
ثم جاء الحديث عن التوحيد والتذكير بآيات الله الدالة عليه ، وجاء الحديث عن الشرك ، وعن المحرمات من الطعام ، وأن التحريم والتحليل من حق الله وحده .
وتعرضت السورة لبيان أصول البر ، وذكر بعض أحكام الصيام والوصية وأكل أموال الناس بالباطل ، والقصاص والقتال والحج والخمر والميسر والنكاح والطلاق والرضاع والعدة وغيرها ، كما تعرضت للحديث عن العقائد العامة كالرسالة والتوحيد والبعث ، وتحدثت عن الإنفاق وعن تحريم الربا والتجارة وكتابة الدّين ، ثم ختمت السورة بدعاء من المؤمنين لربهم أن ينصرهم ويؤيدهم .
وقد تضمنت هذه السورة عدة قواعد منها :
أن اتباع سبيل الله وإقامة دينه هما الموجبان للسعادة في الدنيا والآخرة ، وأنه لا يليق بعاقل أن يدعو إلى البر والفضيلة وينسى نفسه ، وأنه يجب إيثار الخير على الشر ، وترجيح الأعلى على الأدنى .
وأن أصول الدين ثلاثة ، وهي : الإيمان بالله ، والإيمان بالبعث ، والعمل الصالح .
وأن الجزاء على الإيمان والعمل معا ، وأن شرط الإيمان هو : الإذعان النفسي والتسليم القلبي لكل ما جاء به الرسول ، وأن غير المسلمين لن يرضوا عن المسلمين حتى يتبع المسلمون دين هؤلاء .
وأن الولاية العامة الشرعية يجب أن تكون لأهل الإيمان والعدل ، لا لأهل الكفر والظلم . وأن الإيمان بدين الله كما أنزله يستلزم الوحدة والاتفاق ، وأن ترك الاهتداء بذلك يورث الاختلاف والشقاق ، وأن تحقيق الأمور الجليلة يستعان عليه بالصبر والصلاة ، وأن التقليد الأعمى باطل يؤدي إلى الجهالة والعصبية .
وأن الله أحل لعباده الطيبات من المطعم ، وحرم أشياء خبيثة محدودة ، ولا يجوز لغير الله أن يحل أو يحرم ، وأن المحرمات تباح للمضطر لأن الضرورات تبيح المحظورات وتقدر الضرورة بقدرها ، وأن الدين مبني على اليسر ورفع الحرج ، فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، ولا يأمر عباده إلا بما يطيقون ، وأن إلقاء النفس إلى التهلكة حرام لا يجوز ، وأن الأشياء تطلب بأسبابها ووسائلها المؤدية إليها ، وأن الإكراه في الدين ممنوع ، وأن القتال مشروع في الإسلام للدفاع ، ولتأمين حرية الدين ، وتأمين سيادة الإسلام في مجتمعه .
وأن للمسلم أن يطلب حظه من الدنيا ، كما يؤدي واجبه نحو الآخرة ، وأن سد الذرائع وتقرير المصالح من مقاصد الشريعة .
وأن الإيمان والصبر سببان لنصرة القلة العادلة على الكثرة الباغية ، وأن أكل أموال الناس بالباطل حرام ، وأن الإنسان مجزي بعمله لا بعمل غيره ، وأن حكمة التشريع يدركها العقل السليم لما فيها من الحق والعدل ومصالح العباد .
1- ألف لام ميم : هذه حروف ابتدأ الله سبحانه وتعالى بها ليشير بها إلى إعجاز القرآن الكريم المؤلف من حروف كالحروف التي يؤلِّف منها العرب كلامهم ، ومع ذلك عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن ، وهى مع ذلك تنطوي على التنبيه للاستماع لتميز جرسها .
قوله تعالى : { الم } . قال الشعبي وجماعة : الم وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ، وهي سر القرآن ، فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله تعالى ، وفائدة ذكرها طلب الإيمان بها . قال أبو بكر الصديق : في كل كتاب سر وسر الله في القرآن أوائل السور ، وقال علي : لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي . قال داود بن أبي هند : كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور فقال : يا داود إن لكل كتاب سراً ، وإن سر القرآن فواتح السور ، فدعها وسل عما سوى ذلك . وقال جماعة : هي معلومة المعاني ، فقيل : كل حرف منها مفتاح اسم من أسمائه كما قال ابن عباس في كهيعص : الكاف من كاف والهاء من هاد والياء من حكيم والعين من عليم والصاد من صادق . وقيل في ( المص ) أنا الله الملك الصادق ، وقال الربيع بن أنس : في الم الألف مفتاح اسمه الله ، واللام مفتاح اسمه اللطيف ، والميم مفتاح اسمه المجيد . وقال محمد بن كعب : الألف آلاء الله ، واللام لطفه ، والميم ملكه . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال معنى ( الم ) : أنا الله أعلم : ومعنى ( المص ) : أنا الله أعلم وأفصل ، ومعنى ( الر ) : أنا الله أرى ، ومعنى ( المر ) : أنا الله أعلم وأرى . قال الزجاج : وهذا حسن فإن العرب تذكر حرفاً من كلمة يريدها كقولهم :
قلت لها قفى لنا فقالت لي قاف *** . . . . . . . .
أي : وقفت ، وعن سعيد بن جبير قال : هي أسماء الله تعالى مقطعة لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم ، ألا ترى أنك تقول ( الر ، وحم ، ون ) ، فيكون الرحمن ، وكذلك سائرها إلا أنا لا نقدر على وصلها ، وقال قتادة : هذه الحروف أسماء القرآن . وقال مجاهد و ابن زيد : هي أسماء السور ، وبيانه : أن القائل إذا قال : قرأت ( المص ) . عرف السامع أنه قرأ السورة التي افتتحت ب ( المص ) ، وروى عن ابن عباس أنها أقسام ، وقال الأخفش : إنما أقسم الله بهذه الحروف لشرفها وفضلها لأنها مباني كتبه المنزلة ، ومبادي أسمائه الحسنى .
سورة البقرة مدنية وآياتها ست وثمانون ومائتان
هذه السورة من أوائل ما نزل من السور بعد الهجرة . وهي أطول سور القرآن على الإطلاق . والمرجح أن آياتها لم تنزل متوالية كلها حتى اكتملت قبل نزول آيات من سور أخرى ؛ فمراجعة أسباب نزول بعض آياتها وبعض الآيات من السور المدنية الأخرى - وإن تكن هذه الأسباب ليست قطعية الثبوت - تفيد أن السور المدنية الطوال لم تنزل آياتها كلها متوالية ؛ إنما كان يحدث أن تنزل آيات من سورة لاحقة قبل استكمال سورة سابقة نزلت مقدماتها ؛ وأن المعول عليه في ترتيب السور من حيث النزول هو سبق نزول أوائلها - لا جميعها - وفي هذه السورة آيات في أواخر ما نزل من القرآن كأيات الربا ، في حين أن الراجح أن مقدماتها كانت من أول ما نزل من القرآن في المدينة .
فأما تجميع آيات كل سورة في السورة ، وترتيت هذه الآيات ، فهو توقيفي موحى به . . روى الترمذي - بإسناده - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين ، وقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر : بسم الله الرحمن الرحيم ، ووضعتموها في السبع الطوال ؟ وما حملكم على ذلك ؟ فقال عثمان : كان رسول الله [ ص ] كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد ؛ فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب ، فيقول : " ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا " . وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن ؛ وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، وخشيت أنها منها ؛ وقبض رسول الله [ ص ] ولم يبين لنا أنها منها . فمن أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بينهما سطر : بسم الله الرحمن الرحيم ، ووضعتها في السبع الطوال .
فهذه الرواية تبين أن ترتيب الآيات في كل سورة كان بتوقيف من رسول الله [ ص ] وقد روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان النبي [ ص ] أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل . وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي [ ص ] القرآن ، وفي رواية فيدارسه القرآن ، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة . ومن الثابت أن رسول الله [ ص ] وقد قرأ القرآن كله على جبريل - عليه السلام - كما أن جبريل قد قرأه عليه . . ومعنى هذا أنهما قرآه مرتبة آياته في سوره .
ومن ثم يلحظ من يعيش في ظلال القرآن أن لكل سورة من سوره شخصية مميزة ! شخصية لها روح يعيش معها القلب كما لو كان يعيش مع روح حي مميز الملامح والسمات والأنفاس ! ولها موضوع رئيسي أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة إلى محور خاص . ولها جو خاص يظلل موضوعاتها كلها ؛ ويجعل سياقها يتناول هذه الموضوعات من جوانب معينة ، تحقق التناسق بينها وفق هذا الجو . ولها إيقاع موسيقي خاص - إذا تغير في ثنايا السياق فإنما يتغير لمناسبة موضوعية خاصة . . وهذا طابع عام في سور القرآن جميعا . ولا يشذ عن هذه القاعدة طوال السور كهذه السورة .
هذه السورة تضم عدة موضوعات . ولكن المحور الذي يجمعها كلها محور واحد مزدوج يترابط الخطان الرئيسيان فيه ترابطا شديدا . . فهي من ناحية تدور حول موقف بني إسرائيل من الدعوة الإسلامية في المدينة ، واستقبالهم لها ، ومواجهتهم لرسولها [ ص ] وللجماعة المسلمة الناشئة على أساسها . . . وسائر ما يتعلق بهذا الموقف بما فيه تلك العلاقة القوية بين اليهود والمنافقين من جهة ، وبين اليهود والمشركين من جهة أخرى . . وهي من الناحية الأخرى تدور حول موقف الجماعة المسلمة في أول نشأتها ؛ وإعدادها لحمل أمانة الدعوة والخلافة في الأرض ، بعد أن تعلن السورة نكول بني إسرائيل عن حملها ، ونقضهم لعهد الله بخصوصها ، وتجريدهم من شرف الانتساب الحقيقي لإبراهيم - عليه السلام - صاحب الحنيفية الأولى ، وتبصير الجماعة المسلمة وتحذيرها من العثرات التي سببت تجريد بني إسرائيل من هذا الشرف العظيم . . وكل موضوعات السورة تدور حول هذا المحور المزدوج بخطيه الرئيسيين ، كما سيجيء في استعراضها التفصيلي .
ولكي يتضح مدى الارتباط بين محور السورة وموضوعاتها من جهة ، وبين خط سير الدعوة أول العهد بالمدينة ، وحياة الجماعة المسلمة وملابساتها من الجهة الأخرى . . يحسن أن نلقي ضوءا على مجمل هذه الملابسات التي نزلت آيات السورة لمواجهتها ابتداء . مع التنبيه الدائم إلى أن هذه الملابسات في عمومها هي الملابسات التي ظلت الدعوة الإسلامية وأصحابها يواجهونها - مع اختلاف يسير - على مر العصور وكر الدهور ؛ من أعدائها وأوليائها على السواء . مما يجعل هذه التوجيهات القرآنية هي دستور هذه الدعوة الخالد ؛ ويبث في هذه النصوص حياة تتجدد لمواجهة كل عصر وكل طور ؛ ويرفعها معالم للطريق أمام الأمة المسلمة تهتدي بها في طريقها الطويل الشاق ، بين العداوات المتعددة المظاهر المتوحدة الطبيعة . . وهذا هو الإعجاز يتبدى جانب من جوانبه في هذه السمة الثابتة المميزة في كل نص قرآني .
لقد تمت هجرة الرسول [ ص ] إلى المدينة بعد تمهيد ثابت وإعداد محكم . تمت تحت تأثير ظروف حتمت هذه الهجرة ؛ وجعلتها إجراء ضروريا لسير هذه الدعوة في الخط المرسوم الذي قدره الله لها بتدبيره . . كان موقف قريش العنيد من الدعوة في مكة - وبخاصة بعد وفاة خديجة - رضي الله عنها - وموت أبي طالب كافل النبي وحاميه . . كان هذا الموقف قد انتهى إلى تجميد الدعوة تقريبا في مكة وما حولها . ومع استمرار دخول أفراد في الإسلام على الرغم من جميع الاضطهادات والتدبيرات فإن الدعوة كانت تعتبر قد تجمدت فعلا في مكة وما حولها ، بموقف قريش منها ، وتحالفهم على حربها بشتى الوسائل ، مما جعل بقية العرب تقف موقف التحرز والانتظار ، في ارتقاب نتيجة المعركة بين الرسول وعشيرته الأقربين ، وعلى رأسهم أبو لهب وعمرو بن هشام وأبو سفيان بن حرب وغيرهم ممن يمتون بصلة القرابة القوية لصاحب الدعوة . وما كان هناك ما يشجع العرب في بيئة قبلية لعلاقات القرابة عندها وزن كبير ، على الدخول في عقيدة رجل تقف منه عشيرته هذا الموقف . وبخاصة أن عشيرته هذه هي التي تقوم بسدانة الكعبة ، وهي التي تمثل الناحية الدينية في الجزيرة !
ومن ثم كان بحث الرسول [ ص ] عن قاعدة أخرى غير مكة ، قاعدة تحمي هذه العقيدة وتكفل لها الحرية ، ويتاح لها فيها أن تخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في مكة . حيث تظفر بحرية الدعوة وبحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة . . وهذا في تقديري كان هو السبب الأول والأهم للهجرة .
ولقد سبق الاتجاه إلى يثرب ، لتكون قاعدة للدعوة الجديدة ، عدة اتجاهات . . سبقها الاتجاه إلى الحبشة ، حيث هاجر إليها كثير من المؤمنين الأوائل . والقول بأنهم هاجروا إليها لمجرد النجاة بأنفسهم لا يستند إلى قرائن قوية . فلو كان الأمر كذلك لهاجر إذن أقل الناس جاها وقوة ومنعة من المسلمين . غير أن الأمر كان على الضد من هذا ، فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب عليهم معظم الاضطهاد والتعذيب والفتنة لم يهاجروا . إنما هاجر رجال ذوو عصبيات ، لهم من عصبيتهم - في بيئة قبلية - ما يعصمهم من الأذى ، ويحميهم من الفتنة ؛ وكان عدد القرشيين يؤلف غالبية المهاجرين ، منهم جعفر بن أبي طالب - وأبوه وفتيان بني هاشم معه هم الذين كانوا يحمون النبي [ ص ] ومنهم الزبير بن العوام ، وعبد الرحمن ابن عوف ، وأبو سلمة المخزومي ، وعثمان بن عفان الأموي . . . . وغيرهم . وهاجرت نساء كذلك من أشرف بيوتات مكة ما كان الأذى لينالهن أبدا . . وربما كان وراء هذه الهجرة أسباب أخرى كإثارة هزة في أوساط البيوت الكبيرة في قريش ؛ وأبناؤها الكرام المكرمون يهاجرون بعقيدتهم ، فرارا من الجاهلية ، تاركين وراءهم كل وشائج القربى ، في بيئة قبلية تهزها هذه الهجرة على هذا النحو هزا عنيفا ؛ وبخاصة حين يكون من بين المهاجرين مثل أم حبيبة ، بنت أبي سفيان ، زعيم الجاهلية ، وأكبر المتصدين لحرب العقيدة الجديدة وصاحبها . . ولكن مثل هذه الأسباب لا ينفي احتمال أن تكون الهجرة إلى الحبشة أحد الاتجاهات المتكررة في البحث عن قاعدة حرة ، أو آمنة على الأقل للدعوة الجديدة . وبخاصة حين نضيف إلى هذا الاستنتاج ما ورد عن إسلام نجاشي الحبشة . ذلك الإسلام الذي لم يمنعه من إشهاره نهائيا إلا ثورة البطارقة عليه ، كما ورد في روايات صحيحة .
كذلك يبدو اتجاه الرسول [ ص ] إلى الطائف محاولة أخرى لإيجاد قاعدة حرة أو آمنة على الأقل للدعوة . . وهي محاولة لم تكلل بالنجاح لأن كبراء ثقيف استقبلوا رسول الله [ ص ] أسوأ استقبال ، وسلطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم يرجمونه بالحجارة ، حتى أدموا قدميه الشريفتين ، ولم يتركوه حتى آوى إلى حائط [ أي حديقة ] لعتبة وشيبة إبني ربيعة . . وهناك انطلق لسانه بذلك الدعاء الخالص العميق : " اللهم أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس . يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي . إلى من تكلني ؟ إلى عدو ملكته أمري ! أم بعيد يتجهمني ؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي . ولكن عافيتك أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن تنزل بي غضبك ، أو تحل علي سخطك . لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " .
بعد ذلك فتح الله على الرسول [ ص ] وعلى الدعوة من حيث لا يحتسب ، فكانت بيعة العقبة الأولى ، ثم بيعة العقبة الثانية . وهما ذواتا صلة قوية بالموضوع الذي نعالجه في مقدمة هذه السورة ، وبالملابسات التي وجدت حول الدعوة في المدينة .
وقصة ذلك في اختصار : أن النبي [ ص ] التقى قبل الهجرة إلى يثرب بسنتين بجماعة من الخزرج في موسم الحج ، حيث كان يعرض نفسه ودعوته على الوافدين للحج ؛ ويطلب حاميا يحميه حتى يبلغ دعوة ربه . وكان سكان يثرب من العرب - الأوس والخزرج - يسمعون من اليهود المقيمين معهم ، أن هنالك نبيا قد أطل زمانه ؛ وكانت يهود تستفتح به على العرب ، أي تطلب أن يفتح لهم على يديه ، وأن يكون معهم على كل من عداهم . فلما سمع وفد الخزرج دعوة النبي [ ص ] قال بعضهم لبعض : تعلمن والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود ، فلا تسبقنكم إليه . . وأجابوه لما دعاهم . وقالوا له : إننا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم . فعسى الله أن يجمعهم بك . . ولما عادوا إلى قومهم ، وعرضوا الأمر عليهم ، ارتاحوا له ، ووافقوا عليه .
فلما كان العام التالي وافى الموسم جماعة من الأوس والخزرج ، فالتقوا بالنبي [ ص ] وبايعوه على الإسلام . وقد أرسل معهم من يعلمهم أمر دينهم .
وفي الموسم التالي وفد عليه جماعة كبيرة من الأوس والخزرج كذلك ، فطلبوا أن يبايعوه ، وتمت البيعة بحضور العباس عم النبي [ ص ] على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأموالهم . وتسمى هذه البيعة الثانية بيعة العقبة الكبرى . . ومما وردت به الروايات في هذه البيعة ما قاله محمد بن كعب القرظي : قال عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - لرسول الله [ ص ] يعني ليلة العقبة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال : " اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ؛ واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قال : فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ قال : " الجنة " . قالوا : ربح البيع ولا نقيل ولا نستقبل !
وهكذا أخذوا الأمر بقوة . . ومن ثم فشا الإسلام في المدينة ، حتى لم يبق فيها بيت لم يدخله الإسلام . وأخذ المسلمون في مكة يهاجرون إلى المدينة تباعا ، تاركين وراءهم كل شيء ، ناجين بعقيدتهم وحدها ، حيث لقوا من إخوانهم الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ، من الإيثار والإخاء ما لم تعرف له الإنسانية نظيرا قط . ثم هاجر رسول الله [ ص ] وصاحبه الصديق . هاجر إلى القاعدة الحرة القوية الآمنة التي بحث عنها من قبل طويلا . . وقامت الدولة الإسلامية في هذه القاعدة منذ اليوم الأول لهجرة الرسول [ ص ] .
من أولئك السابقين من المهاجرين والأنصار تكونت طبقة ممتازة من المسلمين نوه القرآن بها في مواضع كثيرة . وهنا نجد السورة تفتتح بتقرير مقومات الإيمان ، وهي تمثل صفة المؤمنين الصادقين إطلاقا . ولكنها أولا تصف ذلك الفريق من المسلمين الذي كان قائما بالمدينة حينذاك : ( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه ، هدى للمتقين ، الذين يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ، ومما رزقناهم ينفقون . والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، وبالآخرة هم يوقنون . أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون . . )
ثم نجد بعدها مباشرة في السياق وصفا للكفار ؛ وهو يمثل مقومات الكفر على الإطلاق . ولكنه أولا وصف مباشر للكفار الذين كانت الدعوة تواجههم حينذاك ، سواء في مكة أو فيما حول المدينة ذاتها من طوائف الكفار : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون . ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ، ولهم عذاب عظيم ) . .
كذلك كانت هناك طائفة المنافقين . ووجود هذه الطائفة نشأ مباشرة من الأوضاع التي أنشأتها الهجرة النبوية إلى المدينة في ظروفها التي تمت فيها ، والتي أشرنا إليها من قبل ؛ ولم يكن لها وجود بمكة . فالإسلام في مكة لم تكن له دولة ولم تكن له قوة ، بل لم تكن له عصبة يخشاها أهل مكة فينافقونها . على الضد من ذلك كان الإسلام مضطهدا ، وكانت الدعوة مطاردة ، وكان الذين يغامرون بالانضمام إلى الصف الإسلامي هم المخلصون في عقيدتهم ، الذين يؤثرونها على كل شيء ويحتملون في سبيلها كل شيء . فأما في يثرب التي أصبحت منذ اليوم تعرف باسم المدينة - أي مدينة الرسول - فقد أصبح الإسلام قوة يحسب حسابها كل أحد ؛ ويضطر لمصانعتها كثيرا أو قليلا - وبخاصة بعد غزوة بدر وانتصار المسلمين فيها انتصارا عظيما - وفي مقدمة من كان مضطرا لمصانعتها نفر من الكبراء ، دخل أهلهم وشيعتهم في الإسلام وأصبحوا هم ولا بد لهم لكي يحتفظوا بمقامهم الموروث بينهم وبمصالحهم كذلك أن يتظاهروا باعتناق الدين الذي اعتنقه أهلهم وأشياعهم . ومن هؤلاء عبد الله بن أبي بن سلول الذي كان قومه ينظمون له الخرز ليتوجوه ملكا عليهم قبيل مقدم الإسلام على المدينة . .
وسنجد في أول السورة وصفا مطولا لهؤلاء المنافقين ، ندرك من بعض فقراته أن المعني بهم في الغالب هم أولئك الكبراء الذين أرغموا على التظاهر بالإسلام ، ولم ينسوا بعد ترفعهم على جماهير الناس ، وتسمية هذه الجماهير بالسفهاء على طريقة العلية المتكبرين ! : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين . يخادعون الله والذين آمنوا ، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون . في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ؛ ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون . وإذا قيل لهم : لا تفسدوا في الأرض قالوا : إنما نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون . وإذا قيل لهم : آمنوا كما آمن الناس قالوا : أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون . وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزؤون . الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون . أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم ، وما كانوا مهتدين . مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم ، وتركهم في ظلمات لا يبصرون . صم بكم عمي فهم لا يرجعون . أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ، يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت ، والله محيط بالكافرين . يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه ، وإذا أظلم عليهم قاموا ، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ، إن الله على كل شيء قدير . . )
وفي ثنايا هذه الحملة على المنافقين - الذين في قلوبهم مرض - نجد إشارة إلى( شياطينهم ) . والظاهر من سياق السورة ومن سياق الأحداث في السيرة أنها تعني اليهود ، الذين تضمنت السورة حملات شديدة عليهم فيما بعد . أما قصتهم مع الدعوة فنلخصها في هذه السطور القليلة :
لقد كان اليهود هم أول من اصطدم بالدعوة في المدينة ؛ وكان لهذا الاصطدام أسبابه الكثيرة . . كان لليهود في يثرب مركز ممتاز بسبب أنهم أهل كتاب بين الأميين من العرب - الأوس والخزرج - ومع أن مشركي العرب لم يظهروا ميلا لاعتناق ديانة أهل الكتاب هؤلاء ، إلا أنهم كانوا يعدونهم أعلم منهم وأحكم بسبب ما لديهم من كتاب . ثم كان هنالك ظرف موات لليهود فيما بين الأوس والخزرج من فرقة وخصام - وهي البيئة التي يجد اليهود دائما لهم فيها عملا ! - فلما أن جاء الإسلام سلبهم هذه المزايا جميعا . . فلقد جاء بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه . ثم إنه أزال الفرقة التي كانوا ينفذون من خلالها للدس والكيد وجر المغانم ، ووحد الصف الإسلامي الذي ضم الأوس والخزرج ، وقد أصبحوا منذ اليوم يعرفون بالأنصار ، إلى المهاجرين ، وألف منهم جميعا ذلك المجتمع المسلم المتضام المتراص الذي لم تعهد له البشرية من قبل ولا من بعد نظيرا على الإطلاق .
ولقد كان اليهود يزعمون أنهم شعب الله المختار ، وأن فيهم الرسالة والكتاب . فكانوا يتطلعون أن يكون الرسول الأخير فيهم كما توقعوا دائما . فلما أن جاء من العرب ظلوا يتوقعون أن يعتبرهم خارج نطاق دعوته ، وأن يقصر الدعوة على الأميين من العرب ! فلما وجدوه يدعوهم - أول من يدعو - إلى كتاب الله ، بحكم أنهم أعرف به من المشركين ، وأجدر بالاستجابة له من المشركين . . أخذتهم العزة بالإثم ، وعدوا توجيه الدعوة إليهم إهانة واستطالة !
ثم إنهم حسدوا النبي [ ص ] حسدا شديدا . حسدوه مرتين : مرة لأن الله اختاره وأنزل عليه الكتاب - وهم لم يكونوا يشكون في صحته - وحسدوه لما لقيه من نجاح سريع شامل في محيط المدينة .
على أنه كان هناك سبب آخر لحنقهم ولموقفهم من الإسلام موقف العداء والهجوم منذ الأيام الأولى : ذلك هو شعورهم بالخطر من عزلهم عن المجتمع المدني الذي كانوا يزاولون فيه القيادة العقلية والتجارة الرابحة والربا المضعف ! هذا أو يستجيبوا للدعوة الجديدة . ويذوبوا في المجتمع الإسلامي . وهما أمران - في تقديرهم - أحلاهما مر !
لهذا كله وقف اليهود من الدعوة الإسلامية هذا الموقف الذي تصفه سورة البقرة ، [ وسور غيرها كثيرة ] في تفصيل دقيق ، نقتطف هنا بعض الآيات التي تشير إليه . . جاء في مقدمة الحديث عن بني إسرائيل هذ النداء العلوي لهم : ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون . وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم . ولا تكونوا أول كافر به ، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ، وإياي فاتقون . ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون . وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين . أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ؟ وأنتم تتلون الكتاب ؟ أفلا تعقلون ؟ ) . . وبعد تذكيرهم طويلا بمواقفهم مع نبيهم موسى - عليه السلام - وجحودهم لنعم الله عليهم ، وفسوقهم عن كتابهم وشريعتهم . . ونكثهم لعهد الله معهم . . جاء في سياق الخطاب لتحذير المسلمين منهم : ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ؟ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ؟ أفلا تعقلون ؟ ) . . ( وقالوا : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة . قل : أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ؟ أم تقولون على الله ما لا تعلمون ؟ ) . . ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، فلعنة الله على الكافرين ) . . . ( وإذا قيل لهم : آمنوا بما أنزل الله . قالوا : نؤمن بما أنزل علينا ، ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم ) . . . ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ) . . . ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ) . . . ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ) . . . ( وقالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى . تلك أمانيهم ) . . . ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) . . . الخ الخ .
وكانت معجزة القرآن الخالدة أن صفتهم التي دمغهم بها هي الصفة الملازمة لهم في كل أجيالهم من قبل الإسلام ومن بعده إلى يومنا هذا . مما جعل القرآن يخاطبهم - في عهد النبي [ ص ] كما لو كانوا هم أنفسهم الذين كانوا على عهد موسى - عليه السلام - وعلى عهود خلفائه من أنبيائهم باعتبارهم جبلة واحدة . سماتهم هي هي ، ودورهم هو هو ، وموقفهم من الحق والخلق موقفهم على مدار الزمان ! ومن ثم يكثر الالتفات في السياق من خطاب قوم موسى ، إلى خطاب اليهود في المدينة ، إلى خطاب أجيال بين هذين الجيلين . ومن ثم تبقى كلمات القرآن حية كأنما تواجه موقف الأمة المسلمة اليوم وموقف اليهود منها . وتتحدث عن استقبال يهود لهذه العقيدة ولهذه الدعوة اليوم وغدا كما استقبلتها بالأمس تماما ! وكأن هذه الكلمات الخالدة هي التنبيه الحاضر والتحذير الدائم للأمة المسلمة ، تجاه أعدائها الذين واجهوا أسلافها بما يواجهونها اليوم به من دس وكيد ، وحرب منوعة المظاهر ، متحدة الحقيقة !
وهذه السورة التي تضمنت هذا الوصف ، وهذا التنبيه ، وهذا التحذير ، تضمنت كذلك بناء الجماعة المسلمة وإعدادها لحمل أمانة العقيدة في الأرض بعد نكول بني إسرائيل عن حملها قديما ، ووقوفهم في وجهها هذه الوقفة أخيرا . .
تبدأ السورة - كما أسلفنا - بوصف تلك الطوائف التي كانت تواجه الدعوة أول العهد بالهجرة - بما في ذلك تلك الإشارة إلى الشياطين اليهود الذين يرد ذكرهم فيما بعد مطولا - وتلك الطوائف هي التي تواجه هذه الدعوة على مدار التاريخ بعد ذلك . ثم تمضي السورة على محورها بخطيه الأساسيين إلى نهايتها . في وحدة ملحوظة ، تمثل الشخصية الخاصة للسورة ، مع تعدد الموضوعات التي تتناولها وتنوعها .
فبعد استعراض النماذج الثلاثة الأولى : المتقين . والكافرين . والمنافقين . وبعد الإشارة الضمنية لليهود الشياطين . . نجد دعوة للناس جميعا إلى عبادة الله والإيمان بالكتاب المنزل على عبده . وتحدي المرتابين فيه أن يأتوا بسورة من مثله . وتهديد الكافرين بالنار وتبشير المؤمنين بالجنة . . ثم نجد التعجيب من أمر الذين يكفرون بالله : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ، ثم يميتكم ثم يحييكم ، ثم إليه ترجعون ! هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ، وهو بكل شيء عليم ) . .
وعند هذا المقطع الذي يشير إلى خلق ما في الأرض جميعا للناس تجيء قصة استخلاف آدم في الأرض : ( وإذ قال ربك للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة ) . . وتمضي القصة تصف المعركة الخالدة بين آدم والشيطان حتى تنتهي بعهد الاستخلاف - وهو عهد الإيمان - : ( قلنا : اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى ، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . .
بعد هذا يبدأ السياق جولة واسعة طويلة مع بني إسرائيل - أشرنا إلى فقرات منها فيما سبق - تتخللها دعوتهم للدخول في دين الله وما أنزله الله مصدقا لما معهم مع تذكيرهم بعثراتهم وخطاياهم والتوائهم وتلبيسهم منذ أيام موسى - عليه السلام - وتستغرق هذه الجولة كل هذا الجزء الأول من السورة .
ومن خلال هذه الجولة ترتسم صورة واضحة لاستقبال بني إسرائيل للإسلام ورسوله وكتابه . . لقد كانوا أول كافر به . وكانوا يلبسون الحق بالباطل . وكانوا يأمرون الناس بالبر - وهو الإيمان - وينسون أنفسهم . وكانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه . وكانوا يخادعون الذين آمنوا باظهار الإيمان وإذا خلا بعضهم إلى بعض حذر بعضهم بعضا من إطلاع المسلمين على ما يعلمونه من أمر النبي وصحة رسالته ! وكانوا يريدونإن يردوا المسلمين كفارا . وكانوا يدعون من أجل هذا أن المهتدين هم اليهود وحدهم - كما كان النصارى يدعون هذا أيضا - وكانوا يعلنون عداءهم لجبريل - عليه السلام - بما أنه هو الذي حمل الوحي إلى محمد دونهم ! وكانوا يكرهون كل خير للمسلمين ويتربصون بهم السوء . وكانوا ينتهزون كل فرصة للتشكيك في صحة الأوامر النبوية ومجيئها من عند الله تعالى - كما فعلوا عند تحويل القبلة - وكانوا مصدر إيحاء وتوجيه للمنافقين . كما كانوا مصدر تشجيع للمشركين .
ومن ثم تتضمن السورة حملة قوية على أفاعيلهم هذه ؛ وتذكرهم بمواقفهم المماثلة من نبيهم موسى - عليه السلام - ومن شرائعهم وأنبيائهم على مدار أجيالهم . وتخاطبهم في هذا كأنهم جيل واحد متصل ، وجبلة واحدة لا تتغير ولا تتبدل .
وتنتهي هذه الحملة بتيئيس المسلمين من الطمع في إيمانهم لهم ، وهم على هذه الجبلة الملتوية القصد ، المؤوفة الطبع . كما تنتهي بفصل الخطاب في دعواهم أنهم وحدهم المهتدون ، بما أنهم ورثة إبراهيم . وتبين أن ورثة إبراهيم الحقيقيين هم الذين يمضون على سنته ، ويتقيدون بعهده مع ربه ؛ وأن وراثة إبراهيم قد انتهت إذن إلى محمد [ ص ] والمؤمنين به ، بعد ما انحرف اليهود وبدلوا ونكلوا عن حمل أمانة العقيدة ، والخلافة في الأرض بمنهج الله ؛ ونهض بهذا الأمر محمد والذين معه . وأن هذا كان استجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وهما يرفعان القواعد من البيت : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ، وأرنا مناسكنا ، وتب علينا ، إنك أنت التواب الرحيم . ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ، إنك أنت العزيز الحكيم ) .
وعند هذا الحد يبدأ سياق السورة يتجه إلى النبي [ ص ] وإلى الجماعة المسلمة من حوله ؛ حيث يأخذ في وضع الأسس التي تقوم عليها حياة هذا الجماعة المستخلفة على دعوة الله في الأرض ، وفي تمييز هذه الجماعة بطابع خاص ، وبمنهج في التصور وفي الحياة خاص .
ويبدأ في هذا بتعيين القبلة التي تتجه إليها هذه الجماعة . وهي البيت المحرم الذي عهد الله لإبراهيم وإسماعيل أن يقيماه ويطهراه ليعبد فيه الله وحده ، هذه القبلة التي كان النبي [ ص ] يرغب ولا يصرح في الاتجاه إليها : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ، فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) . .
ثم تمضي السورة في بيان المنهج الرباني لهذه الجماعة المسلمة . منهج التصور والعبادة ، ومنهج السلوك والمعاملة ، تبين لها أن الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتا بل أحياء . وأن الإصابة بالخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات ليس شرا يراد بها ، إنما هو ابتلاء ، ينال الصابرون عليه صلوات الله ورحمته وهداه . وأن الشيطان يعد الناس الفقر ويأمرهم بالفحشاء والله يعدهم مغفرة منه وفضلا . وأن الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات . . وتبين لهم بعض الحلال والحرام في المطاعم والمشارب . وتبين لهم حقيقة البر لا مظاهره وأشكاله . وتبين لهم أحكام القصاص في القتلى . وأحكام الوصية . وأحكام الصوم . وأحكام الجهاد . وأحكام الحج . وأحكام الزواج والطلاق مع التوسع في دستور الأسرة بصفة خاصة . وأحكام الصدقة وأحكام الربا . وأحكام الدين والتجارة . . .
وفي مناسبات معينة يرجع السياق إلى الحديث عن بني إسرائيل من بعد موسى . وعن حلقات من قصةإبراهيم . ولكن جسم السورة - بعد الجزء الأول منها - ينصرف إلى بناء الجماعة المسلمة ، وإعدادها لحمل أمانة العقيدة ، والخلافة في الأرض بمنهج الله وشريعته . وتمييزها بتصورها الخاص للوجود ، وارتباطها بربها الذي اختارها لحمل هذه الأمانة الكبرى .
وفي النهاية نرى ختام السورة ينعطف على افتتاحها ، فيبين طبيعة التصور الإيماني ، وإيمان الأمة المسلمة بالأنبياء كلهم ، وبالكتب كلها وبالغيب وما وراءه ، مع السمع والطاعة : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، لا نفرق بين أحد من رسله ، وقالوا : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا وإليك المصير . لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ، واعف عنا واغفر لنا ، وارحمنا ، أنت مولانا ، فانصرنا على القوم الكافرين . . )
ومن ثم يتناسق البدء والختام ، وتتجمع موضوعات السورة بين صفتين من صفات المؤمنين وخصائص الإيمان .
تبدأ السورة بهذه الأحرف الثلاثة المقطعة : " ألف . لام . ميم " . يليها الحديث عن كتاب الله : ( ذلك الكتاب لا ريب فيه ، هدى للمتقين ) . .
ومثل هذه الأحرف يجيء في مقدمة بعض السور القرآنية . وقد وردت في تفسيرها وجوه كثيرة . نختار منها وجها . إنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف ، وهي في متناول المخاطبين به من العرب . ولكنه - مع هذا - هو ذلك الكتاب المعجز ، الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله . الكتاب الذي يتحداهم مرة ومرة ومرة أن يأتوا بمثله أو بعشر سور مثله ، أو بسورة من مثله فلا يملكون لهذا التحدي جوابا !
والشأن في هذا الإعجاز هو الشأن في خلق الله جميعا . وهو مثل صنع الله في كل شيء وصنع الناس . . أن هذه التربة الأرضية مؤلفة من ذرات معلومة الصفات . فإذا أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما يصوغونه منها لبنة أو آجرة ، أو آنية أو أسطوانة ، أو هيكل أو جهاز . كائنا في دقته ما يكون . . ولكن الله المبدع يجعل من تلك الذرات حياة . حياة نابضة خافقة . تنطوي على ذلك السر الإلهي المعجز . . سر الحياة . . ذلك السر الذي لا يستطيعه بشر ، ولا يعرف سره بشر . . وهكذا القرآن . . حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاما وأوزانا ، ويجعل منها الله قرآنا وفرقانا ، والفرق بين صنع البشر وصنع الله من هذه الحروف والكلمات ، هو الفرق ما بين الجسد الخامد والروح النابض . . هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة الحياة !
كذا سميت هذه السورة سورة البقرة في المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وما جرى في كلام السلف ، فقد ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه ، وفيه عن عائشة لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا قرأهن رسول الله ثم قام فحرم التجارة في الخمر . ووجه تسميتها أنها ذكرت فيها قصة البقرة التي أمر الله بني إسرائيل بذبحها لتكون آية ووصف سوء فهمهم لذلك ، وهي مما انفردت به هذه السورة بذكره ، وعندي أنها أضيفت إلى قصة البقرة تمييزا لها عن السور آل آلم~ من الحروف المقطعة لأنهم كانوا ربما جعلوا تلك الحروف المقطعة أسماء للسور الواقعة هي فيها وعرفوها بها نحو : طه ، ويس ، وص وفي الاتفاق عن المستدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنها سنام القرآن ، وسنام كل شيء أعلاه وهذا ليس علما لها ولكنه وصف تشريف . وكذلك قول خالد بن معدان إنها فسطاط القرآن والفسطاط ما يحيط بالمكان لإحاطتها بأحكام كثيرة .
نزلت سورة البقرة بالمدينة بالاتفاق وهي أول ما نزل في المدينة وحكى ابن حجر في شرح البخاري الاتفاق عليه ، وقيل نزلت سورة المطففين قبلها بناء على أن سورة المطففين مدنية ، ولا شك أن سورة البقرة فيها فرض الصيام ، والصيام فرض في السنة الأولى من الهجرة ، فرض فيها صوم عاشوراء ثم فرض صيام رمضان في السنة الثانية لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام سبع رمضانات أولها رمضان من العام الثاني من الهجرة . فتكون سورة البقرة نزلت في السنة الأولى من الهجرة في أواخرها أو في الثانية . وفي البخاري عن عائشة ما نزلت سورة البقرة إلا وأنا عنده تعني النبي صلى الله عليه وسلم وكان بناء رسول الله على عائشة في شوال من السنة الأولى للهجرة . وقيل في أول السنة الثانية ، وقد روى عنها أنها مكثت عنده تسع سنين فتوفي وهي بنت ثمان عشرة سنة وبنى بها وهي بنت تسع سنين ، إلا أن اشتمال سورة البقرة على أحكام الحج والعمرة وعلى أحكام القتال من المشركين في الشهر الحرام والبلد الحرام ينبئ بأنها استمر نزولها إلى سنة خمس وسنة ست كما سنبينه عند آية { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } وقد يكون ممتدا إلى ما بعد سنة ثمان كما يقتضيه قوله { الحج أشهر معلومات } الآيات إلى قوله { لمن اتقى } . على أنه قد قيل إن قوله { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } الآية هو آخر ما نزل من القرآن ، وقد بينا في المقدمة الثامنة أنه قد يستمر نزول السورة فتنزل في أثناء مدة نزولها سور أخرى .
وقد عدت سورة البقرة السابعة والثمانين في ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة المطففين وقبل آل عمران .
وإذ قد كان نزول هذه السورة في أول عهد بإقامة الجامعة الإسلامية واستقلال أهل الإسلام بمدينتهم كان من أول أغراض هذه السورة تصفية الجامعة الإسلامية من أن تختلط بعناصر مفسدة لما أقام الله لها من الصلاح سعيا لتكوين المدينة الفاضلة النقية من شوائب الدجل والدخل .
وإذ كانت أول سورة نزلت بعد الهجرة فقد عني بها الأنصار وأكبوا على حفظها ، يدل لذلك ما جاء في السيرة أنه لما انكشف المسلمون يوم حنين قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس اصرخ يا معشر الأنصار يا أهل السمرة يعني شجرة البيعة في الحديبية يا أهل سورة البقرة فقال الأنصار : لبيك لبيك يا رسول الله أبشر . وفي الموطأ قال مالك إنه بلغه أن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها ، وفي صحيح البخاري : كان نصراني أسلم فقرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتد إلى آخر القصة .
وعدد آيها مائتان وخمس وثمانون آية عند أهل العدد بالمدينة ومكة والشام ، وست وثمانون عند أهل العدد بالكوفة ، وسبع وثمانون عند أهل العدد بالبصرة .
هذه السورة مترامية أطرافها ، وأساليبها ذات أفنان . قد جمعت من وشائج أغراض السور ما كان مصداقا لتلقيبها فسطاط القرآن . فلا تستطيع إحصاء محتوياتها بحسبان ، وعلى الناظر أن يترقب تفاصيل منها فيما يأتي لنا من تفسيرها ، ولكن هذا لا يحجم بنا عن التعرض إلى لائحات منها ، وقد حيكت بنسج المناسبات والاعتبارات البلاغية من لحمة محكمة في نظم الكلام ، وسدى متين من فصاحة الكلمات .
ومعظم أغراضها ينقسم إلى قسمين : قسم يثبت سمو هذا الدين على ما سبقه وعلو هديه وأصول تطهيره النفوس ، وقسم يبين شرائع هذا الدين لأتباعه وإصلاح مجتمعهم .
وكان أسلوبها أحسن ما يأتي عليه أسلوب جامع لمحاسن الأساليب الخطابية ، وأساليب الكتب التشريعية ، وأساليب التذكير والموعظة ، يتجدد بمثله نشاط السامعين بتفنن الأفانين ، ويحضر لنا من أغراضها أنها ابتدئت بالرمز إلى تحدي العرب المعاندين تحديا إجماليا بحروف التهجي المفتتح بها رمزا يقتضي استشرافهم لما يرد بعده وانتظارهم لبيان مقصده ، فأعقب بالتنويه بشأن القرآن فتحول الرمز إيماء إلى بعض المقصود من ذلك الرمز له أشد وقع على نفوسهم فتبقى في انتظار ما يتعقبه من صريح التعجيز الذي سيأتي بعد قوله { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } الآيات .
فعدل بهم إلى ذات جهة التنويه بفائق صدق هذا الكتاب وهديه ، وتخلص إلى تصنيف الناس تجاه تلقيهم هذا الكتاب وانتفاعهم بهديه أصنافا أربعة وكانوا قبل الهجرة صنفين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك التلقي . وإذ قد كان أخص الأصناف انتفاعا بهديه هم المؤمنين بالغيب المقيمين الصلاة يعني المسلمين ابتدئ بذكرهم ، ولما كان أشد الأصناف عنادا وحقدا صنفا المشركين الصرحاء والمنافقين لف الفريقان لفا واحدا فقورعوا بالحجج الدامغة والبراهين الساطعة ، ثم خص بالإطناب صنف أهل النفاق تشويها لنفاقهم وإعلانا لدخائلهم ورد مطاعنهم ، ثم كان خاتمة ما قرعت به أنوفهم صريح التحدي الذي رمز إليه بدءا تحديا يلجئهم إلى الاستكانة . ويخرس ألسنتهم عن التطاول والإبانة ، ويلقى في قرارات أنفسهم مذلة الهزيمة وصدق الرسول الذي تحداهم ، فكان ذلك من رد العجز على الصدر فاتسع المجال لدعوة المنصفين إلى عبادة الرب الحق الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض ، وأنعم عليهم بما في الأرض جميعا . وتخلص إلى صفة بدء خلق الإنسان فإن في ذلك تذكيرا لهم بالخلق الأول قبل أن توجد أصنامهم التي يزعمونها من صالحي قوم نوح ومن بعدهم ، ومنة على النوع بتفضيل أصلهم على مخلوقات هذا العالم ، وبمزيته بعلم ما لم يعلمه أهل الملأ الأعلى وكيف نشأت عداوة الشيطان له ولنسله ، لتهيئة نفوس السامعين لاتهام شهواتها ولمحاسبتها على دعواتها . فهذه المنة التي شملت كل الأصناف الأربعة المتقدم ذكرها كانت مناسبة للتخلص إلى منة عظمى تخص الفريق الرابع وهم أهل الكتاب الذين هم أشد الناس مقاومة لهدى القرآن ، وأنفذ الفرق قولا في عامة العرب لأن أهل الكتاب يومئذ هم أهل العلم ومظنة اقتداء العامة لهم من قوله { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي } الآيات ، فأطنب في تذكيرهم بنعم الله وأيامه لهم ، ووصف ما لاقوا به نعمه الجمة من الانحراف عن الصراط السوي انحرافا بلغ بهم حد الكفر وذلك جامع لخلاصة تكوين أمة إسرائيل وجامعتهم في عهد موسى ، ثم ما كان من أهم أحداثهم مع الأنبياء الذين قفوا موسى إلى أن تلقوا دعوة الإسلام بالحسد والعداوة حتى على الملك جبريل ، وبيان أخطائهم ، لأن ذلك يلقي في النفوس شكا في تأهلهم للاقتداء بهم . وذكر من ذلك نموذجا من أخلاقهم من تعلق الحياة { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } ومحاولة العمل بالسحر { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } الخ وأذى النبي بموجه الكلام { لا تقولوا راعنا } .
ثم قرن اليهود والنصارى والمشركون في قرن حسدهم المسلمين والسخط على الشريعة الجديدة { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين } إلى قوله { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } ، ثم ما أثير من الخلاف بين اليهود والنصارى وادعاء كل فريق أنه هو المحق { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء } إلى { يختلفون } ثم خص المشركون بأنهم أظلم هؤلاء الأصناف الثلاثة لأنهم منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام وسعوا بذلك في خرابه وأنهم تشابهوا في ذلك هم واليهود والنصارى واتحدوا في كراهية الإسلام .
وانتقل بهذه المناسبة إلى فضائل المسجد الحرام ، وبانيه ، ودعوته لذريته بالهدى ، والاحتراز عن إجابتها في الذين كفروا منهم ، وأن الإسلام على أساس ملة إبراهيم وهو التوحيد ، وأن اليهودية والنصرانية ليستا ملة إبراهيم ، وأن من ذلك الرجوع إلى استقبال الكعبة ادخره الله للمسلمين آية على أن الإسلام هو القائم على أساس الحنيفية ، وذكر شعائر الله بمكة ، وإبكات أهل الكتاب في طعنهم على تحويل القبلة ، وأن العناية بتزكية النفوس أجدر من العناية باستقبال الجهات { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } . وذكروا بنسخ الشرائع لصلاح الأمم وأنه لا بدع في نسخ شريعة التوراة أو الإنجيل بما هو خير منهما .
ثم عاد إلى محاجة المشركين بالاستدلال بآثار صنعة الله { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك } إلخ ، ومحاجة المشركين في يوم يتبرأون فيه من قادتهم ، وإبطال مزاعم دين الفريقين في محرمات من الأكل { يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } ، وقد كمل ذلك بذكر صنف من الناس قليل وهم المشركون الذين لم يظهروا الإسلام ولكنهم أظهروا مودة المسلمين { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } .
ولما قضي حق ذلك كله بأبدع بيان وأوضح برهان ، انتُقل إلى قسم تشريعات الإسلام إجمالا بقوله { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } ، ثم تفصيلا : القصاص ، الوصية ، الصيام ، الاعتكاف ، الحج ، الجهاد ، ونظام المعاشرة والعائلة ، المعاملات المالية ، والإنفاق في سبيل الله ، والصدقات ، والمسكرات ، واليتامى ، والمواريث ، والبيوع والربا ، والديون ، والإشهاد ، والرهن ، والنكاح ، وأحكام النساء ، والعدة ، والطلاق ، والرضاع ، والنفقات ، والأيمان .
وختمت السورة بالدعاء المتضمن لخصائص الشريعة الإسلامية وذلك من جوامع الكلم فكان هذا الختام تذييلا وفذلكة { لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه } الآيات .
وكانت في خلال ذلك كله أغراض شتى سبقت في معرض الاستطراد في متفرق المناسبات تجديدا لنشاط القارئ والسامع ، كما يسفر وجه الشمس إثر نزول الغيوث الهوامع ، وتخرج بوادر الزهر عقب الرعود القوارع ، من تمجيد الله وصفاته { الله لا اله إلا هو } ورحمته وسماحة الإسلام ، وضرب أمثال { أو كصيب } واستحضار نظائر { وإن من الحجارة } { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } وعلم وحكمة ، ومعاني الإيمان والإسلام ، وتثبيت المسلمين { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر } والكمالات الأصلية ، والمزايا التحسينية ، وأخذ الأعمال والمعاني من حقائقها وفوائدها لا من هيئاتها ، وعدم الاعتداد بالمصطلحات إذا لم ترم إلى غايات { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } { ليس البر أن تولوا وجوهكم } { وإخراج أهله منه أكبر عند الله } والنظر والاستدلال ، ونظام المحاجة ، وأخبار الأمم الماضية ، والرسل وتفاضلهم ، واختلاف الشرائع .
تحير المفسرون في محل هاته الحروف الواقعة في أول هاته السور ، وفي فواتح سور أخرى عدة جميعها تسع وعشرون سورة ومعظمها في السور المكية ، وكان بعضها في ثاني سورة نزلت وهي { ن والقلم } [ القلم : 1 ] ، وأَخْلِقْ بها أن تكون مثار حيرة ومصدر ، أقوال متعددة وأبحاث كثيرة ، ومجموع ما وقع من حروف الهجاء أوائل السور أربعة عشر حرفاً وهي نصف حروف الهجاء وأكثر السور التي وقعت فيها هذه الحروف : السورُ المكية عدا البقرة وآل عمران ، والحروف الواقعة في السور هي : أ ، ح ، ر ، س ، ص ، ط ، ع ، ق ، ك ، ل ، م ، ن ، ه ، ي ، بعضها تكرر في سور وبعضها لم يتكرر وهي من القرآن لا محالة ومن المتشابه في تأويلها .
ولا خلاف أن هاته الفواتح حين ينطق بها القارىء أسماء الحروف التهجي التي يُنطق في الكلام بمسمياتها وأن مسمياتها الأصوات المكيفة بكيفيات خاصة تحصل في مخارج الحروف ولذلك إنما يقول القارىء : ( أَلِفْ لاَمْ ميمْ ) مثلاً ولا يقول ( أَلَمَ ) . وإنما كتبوها في المصاحف بصور الحروف التي يتهجى بها في الكلام التي يَقُوم رسمُ شكلها مقام المنطوق به في الكلام ولم يكتبوها بدَوَالِّ ما يقرأُونَها به في القرآن لأن المقصود التهجي بها وحروف التهجي تكتب بصورها لا بأسمائها . وقيل لأن رسم المصحف سنة لا يقاس عليه وهذا أولى لأنه أشمل للأقوال المندرجة تحتها ، وإلى هنا خلص أن الأرجح من تلك الأقوال ثلاثة وهي كونها تلك الحروف لتبكت المعاندين وتسجيلاً لعجزهم عن المعارضة ، أو كونها أسماء للسور الواقعة هي فيها ، أو كونها أقساماً أقسم بها لتشريف قدر الكتابة ، وتنبيه العرب الأميين إلى فوائد الكتابة لإخراجهم من حالة الأمية ، وأرجح هذه الأقوال الثلاثة هو أولها ، فإن الأقوال الثاني والسابع والثامن والثاني عشر والخامس عشر والسادس عشر يبطلها أن هذه الحروف لو كانت مقتضبة من أسماء أو كلمات لكان حق أن ينطق بمسمياتها لا بأسمائها ؛ لأن رسم المصحف سنة لا يقاس عليها ، وهذا أولى لأنه أشمل للأقوال .
وعرفت اسميتها من دليلين : أحدهما اعتوار أحوال الأسماء عليها مثل التعريف حين تقول : الألف ، والباء ، ومثل الجمع حين تقول الجيمات ، وحين الوصف حين تقول ألف ممدودة والثاني ما حكاه سيبويه في « كتابه » : قال الخليل يوماً وسأل أصحابه كيف تلفظون بالكاف التي في لك والباء التي في ضرب فقيل نقول كافْ ، باء ، فقال إنما جئتم بالاسم ولم تلفظوا بالحرف وقال أقول كه ، وبه ( يعني بهاء وقعت في آخر النطق به ليعتمد عليها اللسان عند النطق إذْ أبقيت على حرف واحد لا يظهر في النطق به مفرداً ) .
والذي يستخلص من أقوال العلماء بعد حذف متداخِلِه وتوحيد متشاكله يؤول إلى واحد وعشرين قولاً ولشدة خفاء المراد من هذه الحروف لم أر بداً من استقصاء الأقوال على أننا نضبط انتشارها بتنويعها إلى ثلاثة أنواع :
النوع الأول يرجع إلى أنها رموز اقتضبت من كَلم أو جمل ، فكانت أسراراً يفتح غلقها مفاتيح أهل المعرفة ويندرج تحت هذا النوع ثمانية أقوال : الأول أنها علم استأثر الله تعالى به ونسب هذا إلى الخلفاء الأربعة في روايات ضعيفة ولعلهم يثبتون إطلاع الله على المقصود منها رسوله صلى الله عليه وسلم وقاله الشعبي وسفيان .
والثاني أنها حروف مقتضبة من أسماء وصفات لله تعالى المفتتحة بحروف مماثلة لهذه الحروف المقطعة رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وقاله محمد بن القرظي أو الربيع بن أنس فألم مثلاً الألف إشارة إلى أحد أو أول أو أزلي ، واللام إلى لطيف ، والميم إلى ملك أو مجيد ، ونحو ذلك ، وعلى هذا يحتاج في بيانها إلى توقيف وأنى لهم به .
الثالث أنها رموز لأسماء الله تعالى وأسماء الرسول صلى الله عليه وسلم والملائكة فألم مثلاً ، الألف من الله ، واللام من جبريل ، والميم من محمد ، قاله الضحاك ، ولا بد من توقيف في كل فاتحة منها ، ولعلنا سننبه على ذلك في مواضعه .
الرابع جزم الشيخ محي الدين في الباب الثامن والتسعين والمائة في الفصل 27 منه من كتابه « الفتوحات » أن هاته الحروف المقطعة في أوائل السور أسماء للملائكة وأنها إذا تليت كانت كالنداء لملائكتها فتصغي أصحاب تلك الأسماء إلى ما يقوله التالي بعد النطق بها ، فيقولون صدقت إن كان ما بعدها خبر ، ويقولون هذا مؤمن حقاً نطق حقاً وأخبر بحق فيستغفرون له ، وهذا لم يقله غيره وهو دعوى .
الخامس أنها رموز كلها لأسماء النبيء صلى الله عليه وسلم وأوصافه خاصة قاله الشيخ محمد بن صالح المعروف بابن مُلوكة التونسي{[62]} في « رسالة » له قال إن كل حرف من حروف الهجاء في فواتح السور مكنى به عن طائفة من أسمائه الكريمة وأوصافه الخاصة ، فالألف مكنى به عن جملة أسمائه المفتتحة بالألف كأحمد وأبي القاسم ، واللام مكنيّ به عن صفاته مثل لب الوجود ، والميم مكني به عن محمد ونحوه مثل مبشر ومنذر ، فكلها منادًى بحرف نداء مقدر بدليل ظهور ذلك الحرف في يس . ولم يَعْزُ هذا القول إلى أحد ، وعلق على هذه « الرسالة » تلميذه شيخ الإسلام محمد معاوية « تعليقة » أكثر فيها من التعداد ، وليست مما ينثلج لمباحثه الفؤاد ( وهي وأصلها موجودة بخزنة جامع الزيتونة بتونس عدد 514 ) ويرُدُّ هذا القولَ التزام حذف حرف النداء وما قاله من ظهروه في يس مبني على قول من قال : إن يس بمعنى يا سيد وهو ضعيف ؛ لأن الياء فيه حرف من حروف الهجاء لأن الشيخ نفسه عد يس بعد ذلك من الحروف الدالة على الأسماء مدلولاً لنحو الياء من{ كهيعص } [ مريم : 1 ] .
القول السادس أنها رموز لمدة دوام هذه الأمة بحساب الجُمَّل{[63]} قاله أبو العالية أخذاً بقصة رواها ابن إسحاق عن جابر بن عبد الله بن وثاب قال : « جاء أبو ياسر بن أخطب وحُيي بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوا رسول الله عن ألم وقالوا هذا أجل هذه الأمة من السنين إحدى وسبعون سنة فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم ص والمر فقالوا اشتبه علينا الأمر فلا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير ؟ » ا هـ . وليس في جواب رسول الله إياهم بعدة حروف أخرى من هذه الحروف المتقطعة في أوائل السور تقريرٌ لاعتبارها رموزاً لأعداد مدة هذه الأمة ، وإنما أراد إبطال ما فهموه بإبطال أن يكون مفيداً لزعمهم على نحو الطريقة المسماة بالنقض في الجدل ومرجعُها إلى المَنع والمانع لا مذهب له . وأما ضحكه صلى الله عليه وسلم فهو تعجب من جهلهم .
القول السابع أنها رموز كل حرف رمز إلى كلمة فنحو : ( ألم ) أنا الله أعلم ، و ( ألمر ) أنا الله أرى ، و ( ألمص ) أنا الله أعلم وأفصل . رواه أبو الضحى عن ابن عباس ، ويوهنه أنه لا ضابط له لأنه أخذ مرة بمقابلة الحرف بحرفِ أول الكلمة ، ومرة بمقابلته بحرف وسط الكلمة أو آخرها . ونظروه بأن العرب قد تتكلم بالحروف المقطعة بدلاً من كلمات تتألف من تلك الحروف نظماً ونثراً ، من ذلك قول زهير :
بالخير خيرات وإن شرٌّ فَا *** ولا أُريد الشر إلا أنْ تَا
أراد وإن شر فشر وأراد إلا أن تَشا ، فأتى بحرف من كل جملة . وقال الآخر ( قرطبي ) :
ناداهم ألا الجموا ألا تا *** قالوا جميعاً كلهم ألا فا
أراد بالحرف الأول ألا تركبون ، وبالثاني ألا فاركبوا . وقال الوليد بن المغيرة عامل عثمان يخاطب عدي بن حاتم :
قلت لها قفي لنا قالتْ قافْ *** لا تَحْسِبَنِّي قد نسيت الإيجاف{[64]}
أراد قالت وقفت . وفي الحديث : " من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة " قال شقيق : هو أن يقول أُقْ مكان اقتل . وفي الحديث أيضاً : « كفى بالسيف شَا » ، أي شاهداً{[65]} . وفي « كامل المبرد » من قصيدة لعلي بن عيسى القمي وهو مولد :
وليس العجاجة والخافقا *** تِ تريك المَنَا برؤوس الأسل
أي تريك المنايا . وفي « تلع » من « صحاح الجوهري » قال لبيد :
دَرَسَ المَنَا بمتالعٍ فأبَانِ *** فتقادمت بالحبس فالسوبان
أراد درس المنازل . وقال علقمة الفحل ( « خصائص » ص 82 ) :
كأن إبريقهم ظبي على شرف *** مفدم بِسَبَا الكَتــان ملثوم
أراد بسبائب الكتان . وقال الراجز :
حين ألقت بقُباء بَرْكها *** واستمر القتلُ في عبد الأشَل
أي عبد الأشهل . وقول أبي فؤاد :
يدرين حَندل حائر لجنوبها *** فكأنما تُذْكى سنابكها الحُبَا
أمست مَنَاهَا بأرض ما يبلغها *** بصاحب الهم إلا الجَسْرَة الأُجُد
أراد منازلها . ووقع ( « طراز المجالس » المجلس ) {[66]} للمتأخرين من هذا كثير مع التورية كقول ابن مكانس :
لم أنس بدراً زارني ليلة *** مستوفزاً مطلعاً للخطـر
فلم يقم إلا بمقدار مــا *** قلت له أهلاً وسهلاً ومَرْ
أراد بعض كلمة مرحباً وقد أكثرت من شواهده توسعة في مواقع هذا الاستعمال الغريب ولست أريد بذلك تصحيح حمل حروف فواتح السور على ذلك لأنه لا يحسن تخريج القرآن عليه وليس معها ما يشير إليه مع التورية بجعل مَرَّ من المرور .
القول الثامن أنها إشارات إلى أحوال من تزكية القلب ، وجعَلها في « الفتوحات » في الباب الثاني إيماء إلى شعب الإيمان ، وحاصله أن جملة الحروف الواقعة في أوائل سور القرآن على تكرار الحروف ثمانية وسبعون حرفاً والثمانية هنا هي حقيقة البضع حصل له ذلك بالكشف فيكون عدد الحروف ثمانية وسبعين وقد قال النبيء صلى الله عليه وسلم " الإيمان بضع وسبعون شعبة " فهذه الحروف هي شعب الإيمان ، ولا يكمل لأحد أسرار الإيمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها . وكيف يزعم زاعم أنها واردة في معان غير معروفة مع ثبوت تلقي السامعين لها بالتسليم من مؤمن ومعاند ، ولولا أنهم فهموا منها معنى معروفاً دلت عليه القرائن لسأل السائلون وتورك المعاندون .
قال القاضي أبو بكر بن العربي : لولا أن العرب كانوا يعرفون لها مدلولاً متداولاً بينهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبيء صلى الله عليه وسلم بل تلا عليهم حم فصلت وص وغيرهما فلم ينكروا ذلك مع تشوفهم إلى عثرة وحرصهم على زلة قلت وقد سألوا عن أوضح من هذا فقالوا { وما الرحمن } [ الفرقان : 60 ] ، وأما ما استشهدوا به من بيت زهير وغيره فهو من نوادر كلام العرب ، ومما أخرج مخرج الألغاز والتمليح وذلك لا يناسب مقام الكتاب المجيد .
النوع الثاني يجمع الأقوال الراجعة إلى أن هاته الحروف وضعت بتلك الهيئات أسماء أو أفعالاً وفيه من الأقوال أربعة .
التاسع في عداد الأقوال في أولها لجماعة من العلماء والمتكلمين واختاره الفخر أنها أسماء للسور التي وقعت فيها ، قاله زيد بن أسلم ونسب لسيبويه في « كتابه » باب أسماء السور من أبواب ما لا ينصرف أو للخليل ونسبه صاحب « الكشاف » للأكثر ويعضده وقوع هاته الحروف في أوائل السور فتكون هاته الحروف قد جعلت أسماء بالعلامة على تلك السور ، وسميت بها كما نقول الكراسة ب والرزمة ج ونظره القفال بما سمت العرب بأسماء الحروف كما سموا لاَمَ الطائي والد حارثة ، وسموا الذهب عَيْن ، والسحاب غَيْن ، والحوتَ نونْ ، والجبل قاف ، وأقوال ، وحاء قبيلة من مَذحج ، وقال شريح بن أوفى العنسي أو العبسي :
يذكرني حَامِيمَ والرمحُ شاجر *** فهَلاَّ تلا حاميمَ قبل التقدم{[67]}
يريد { حم عسق } [ الشورى : 1 ، 2 ] التي فيها : { قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } [ الشورى : 23 ] . ويبعد هذا القول بعداً مَّا إن الشأن أن يكون الاسم غير داخل في المسمى وقد وجدنا هذه الحروف مقروءة مع السور بإجماع المسلمين ، على أنه يرده اتحاد هذه الحروف في عدة سور مثل آلم وآلر وحم .
وأنه لم توضع أسماء السور الأخرى في أوائلها .
القول العاشر وقال جماعة إنها أسماء للقرآن اصطلح عليها قاله الكلبي والسدي وقتادة ويبطله أنه قد وقع بعد بعضها ما لا يناسبها لو كانت أسماء للقرآن ، نحو { آلم غلبت الروم } [ الروم : 1 ، 2 ] ، و { آلم أحسب الناس } [ العنكبوت : 1 ، 2 ] .
القول الحادي عشر أن كل حروفٍ مركبةِ منها هي اسم من أسماء الله رووا عن علي أنه كان يقول يا كهيعص يا حم عسق وسكت عن الحروف المفردة فيُرجع بها إلى ما يناسبها أن تندرج تحته من الأقوال ويبطله عدم الارتباط بين بعضها وبين ما بعده لأن يكون خبراً أو نحوه عن اسم الله مثل { الم ذلك الكتاب } [ البقرة : 1 ، 2 ] و { آلمص كتاب أنزل إليك } [ الأعراف : 1 ، 2 ] .
الثاني عشر قال الماوردي : هي أفعال فإن حروف المص كتاب فعل ألمّ بمعنى نزل فالمراد { آلم ذلك الكتاب } أي نزل عليكم ، ويبطل كلامه أنها لا تُقْرَأ بصيغ الأفعال على أن هذا لا يتأتى في جميعها نحو كهيعص وأَلمص والر ولولا غرابة هذا القول لكان حرياً بالإعراض عنه .
النوع الثالث تندرج فيه الأقوال الراجعة إلى أن هاته الحروف حروف هجاء مقصودة بأسمائها لأغراض داعية لذلك وفيه من الأقوال :
القول الثالث عشر : أن هاته الحروف أقسم الله تعالى بها كما أقسم بالقلم تنويهاً بها لأن مسمياتها تألفت منها أسماء الله تعالى وأصول التخاطب والعلوم قاله الأخفش ، وقد وهن هذا القول بأنها لو كانت مقسماً بها لذكر حرف القسم إذ لا يحذف إلا مع اسم الجلالة عند البصريين وبأنها قد ورد بعدها في بعض المواضع قسم نحو : { ن والقلم } [ القلم : 1 ] و { حم والكتاب المبين } [ الزخرف : 1 ] ، قال صاحب الكشاف : وقد استكرهوا الجمع بين قسمين على مقسم واحد حتى قال الخليل في قوله تعالى : { والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى } [ الليل : 1 ، 2 ] أن الواو الثانية هي التي تضم الأسماء للأسماء أي واو العطف ، والجواب عن هذا أن اختصاص الحذف باسم الجلالة مختلف فيه وأن كراهية جمع قسمين تنفع بجعل الواو التالية لهاته الفواتح واو العطف على أنهم قد جمعوا بين قسمين ، قال النابغة :
واللَّهِ واللَّهِ لَنِعْمَ الفتى الْ *** حارثُ لا النكسُ ولا الخاملُ
القول الرابع عشر : أنها سيقت مساق التهجي مسرودة على نمط التعديد في التهجية تبكيتاً للمشركين وإيقاظاً لنظرهم في أن هذا الكتاب المتلو عليهم وقد تُحدوا بالإتيان بسورة مثله هو كلام مؤلف من عين حروف كلامهم كأنه يغريهم بمحاولة المعارضة ويستأنس لأنفسهم بالشروع في ذلك بتهجي الحروف ومعالجة النطق تعريضاً بهم بمعاملتهم معاملة من لم يعرف تقاطيع اللغة ، فيلقنها كتهجي الصبيان في أول تعلمهم بالكتّاب حتى يكون عجزهم عن المعارضة بعد هذه المحاولة عجزاً لا معذرة لهم فيه ، وقد ذهب إلى هذا القول المبرد وقطرب والفراء ، قال في « الكشاف » وهذا القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزلة ، وقلت وهو الذي نختاره وتظهر المناسبة لوقوعها في فواتح السور أن كل سورة مقصودة بالإعجاز لأن الله تعالى يقول : { فأتوا بسورة من مثله } [ البقرة : 23 ] فناسب افتتاح ما به الإعجاز بالتمهيد لمحاولته ويؤيد هذا القول أن التهجي ظاهر في هذا المقصد فلذلك لم يسألوا عنه لظهور أمره وأن التهجي معروف عندهم للتعليم فإذا ذكرت حروف الهجاء على تلك الكيفية المعهودة في التعليم في مقام غير صالح للتعليم عرف السامعون أنهم عوملوا معاملة المتعلم لأن حالهم كحاله في العجز عن الإتيان بكلام بليغ ، ويعضد هذا الوجه تعقيب هاته الحروف في غالب المواقع بذكر القرآن وتنزيله أو كتابيته إلا في { كهيعص } [ مريم : 1 ] و { الم أحسِب الناسُ } [ العنكبوت : 1 ، 2 ] و { الم غلبت الروم } [ الروم : 1 ، 2 ] ووجه تخصيص بعض تلك الحروف بالتهجي دون بعض ، وتكرير بعضها لأمر لا نعلمه ولعله لمراعاة فصاحة الكلام ، ويؤيده أن معظم مواقع هذه الحروف في أوائل السور المكية عدا البقرة على قول من جعلوها كلها مدنية وآل عمران ، ولعل ذلك لأنهما نزلتا بقرب عهد الهجرة من مكة وأن قصد التحدي في القرآن النازل بمكة قصد أولي ، ويؤيده أيضاً الحروف التي أسماؤها مختومة بألف ممدودة مثل الياء والهاء والراء والطاء والحاء قرئت فواتح السور مقصودة على الطريقة التي يتهجى بها للصبيان في الكتَّاب طلباً للخفة كما سيأتي قريباً في آخر هذا المبحث من تفسير { الم } .
القول الخامس عشر : أنها تعليم للحروف المقطعة حتى إذا وردت عليهم بعد ذلك مؤلفة كانوا قد علموها كما يتعلم الصبيان الحروف المقطعة ، ثم يتعلمونها مركبة قاله عبد العزيز بن يحيى ، يعني إذ لم يكن فيهم من يحسن الكتابة إلا بعض المدن كأهل الحيرة وبعض طيء وبعض قريش وكنانة من أهل مكة ، ولقد تقلبت أحوال العرب في القراءة والكتابة تقلبات متنوعة في العصور المختلفة ، فكانوا بادىء الأمر أهل كتابة لأنهم نزحوا إلى البلاد العربية من العراق بعد تبلبل الألسن ، والعراق مهد القراءة والكتابة وقد أثبت التاريخ أن ضخم بن إرم أول من علم العرب الكتابة ووضع حروف المعجم التسعة والعشرين ، ثم إن العرب لما بادوا ( أي سكنوا البادية ) تناست القبائل البادية بطول الزمان القراءة والكتابة ، وشغلهم حالهم عن تلقي مبادىء العلوم ، فبقيت الكتابة في الحواضر كحواضر اليمن والحجاز ، ثم لما تفرقوا بعد سيل العرم نقلوا الكتابة إلى المواطن التي نزلوها فكانت طيء بنجد يعرفون القراءة والكتابة ، وهم الفرقة الوحيدة من القحطانيين ببلاد نجد ولذلك يقول أهل الحجاز ونجد إن الذين وضعوا الكتابة ثلاثة نفر من بني بولان من طيء يريدون من الوضع أنهم علموها للعدنانيين بنجد ، وكان أهل الحيرة يعلمون الكتابة فالعرب بالحجاز تزعم أن الخط تعلموه عن أهل الأنبار والحيرة ، وقصة المتلمس في كتب الأدب تذكرنا بذلك إذ كان الذي قرأ له الصحيفة غلام من أغيلمة الحيرة .
ولقد كان الأوس والخزرج مع أنهم من نازحة القحطانيين ، قد تناسوا الكتابة إذ كانوا أهل زرع وفروسية وحروب ، فقد ورد في السير أنه لم يكن أحد من الأنصار يحسن الكتابة بالمدينة وكان في أسرى المشركين يوم بدر من يحسن ذلك فكان من لا مال له من الأسرى يفتدي بأن يعلم عشرة من غلمان أهل المدينة الكتابة فتعلم زيد بن ثابت في جماعة ، وكانت الشفاء بنت عبد الله القرشية تحسن الكتابة وهي علمتها لحفصة أم المؤمنين . ويوجد في أساطير العرب ما يقتضي أن أهل الحجاز تعلموا الكتابة من أهل مدين في جوارهم فقد ذكروا قصة وهي أن المحض بن جندل من أهل مدين وكان ملكاً كان له ستة أبناء وهم : أبجد ، وهوز ، وحطي ، وكلمن ، وسعفص ، وقرشت ، فجعل أبناءه ملوكاً على بلاد مدين وما حولها فجعل أبجد بمكة وجعل هوزاً وحطياً بالطائف ونجد ، وجعل الثلاثة الباقين بمدين ، وأن كلمناً كان في زمن شعيب وهو من الذين أخذهم عذاب يوم الظلة{[68]} قالوا فكانت حروف الهجاء أسماء هؤلاء الملوك ثم ألحقوا بها ثخذ وضغط فهذا يقتضي أن القصة مصنوعة لتلقين الأطفال حروف المعجم بطريقة سهلة تناسب عقولهم وتقتضي أن حروف ثخذ وضغظ لم تكن في معجم أهل مدين فألحقها أهل الحجاز ، وحقاً إنها من الحروف غير الكثيرة الاستعمال ولا الموجودة في كل اللغات إلا أن هذا القول يبعده عدم وجود جميع الحروف في فواتح السور بل الموجود نصفها كما سيأتي بيانه من كلام « الكشاف » .
القول السادس عشر : أنها حروف قصد منها تنبيه السامع مثل النداء المقصود به التنبيه في قولك يَافتى لإيقاظ ذهن السامع قاله ثعلب والأخفش وأبو عبيدة ، قال ابن عطية كما يقول في إنشاد أشهر القصائد لاَ وبل لا ، قال الفخر في تفسير سورة العنكبوت : إن الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة أو مشغول البال يُقدِّم على الكلام المقصود شيئاً ليلفت المخاطب إليه بسبب ذلك المقدم ثم يشرع في المقصود فقد يكون ذلك المقدم كلاماً مثل النداء وحروفِ الاستفتاح ، وقد يكون المقدم صوتاً كمن يصفق ليُقْبِل عليه السامع فاختار الحكيم للتنبيه حروفاً من حروف التهجي لتكون دلالتها على قصد التنبيه متعينة إذ ليس لها مفهوم فتمحضت للتنبيه على غرض مهم .
القول السابع عشر : أنها إعجاز بالفعل وهو أن النبيء الأمي الذي لم يقرأ قد نطق بأصول القراءة كما ينطق بها مهرة الكتبة فيكون النطق بها معجزة وهذا بيِّن البطلان لأن الأمي لا يعسر عليه النطق بالحروف .
القول الثامن عشر : أن الكفار كانوا يُعرضون عن سماع القرآن فقالوا :
{ لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فيه } [ فصلت : 26 ] فأوردت لهم هذه الحروف ليقبلوا على طلب فهم المراد منها فيقع إليهم ما يتلوها بلا قَصد ، قاله قُطرب وهو قريب من القول السادس عشر .
القول التاسع عشر : أنها علامة لأهل الكتاب وُعدوا بها من قِبَل أنبيائهم أن القرآن يفتتح بحروف مقطعة .
القول العشرون : قال التبريزي : علم الله أن قوماً سيقولون بقدم القرآن فأراهم أنه مؤلف من حروف كحروف الكلام ، وهذا وهم لأن تأليف الكلام من أصوات الكلمات أشد دلالة على حدوثه من دلالة الحروف المقطعة لقلة أصواتها .
القول الحادي والعشرون : روي عن ابن عباس أنها ثناء أثنى الله به على نفسه وهو يرجع إلى القول الأول أو الثاني .
هذا جماع الأقوال ، ولا شك أن قراءة كافة المسلمين إياها بأسماء حروف الهجاء مثل ألف . لاَمْ . ميمْ دون أن يقرأوا ألَمْ وأن رسْمها في الخط بصورة الحروف يزيف جميع أقوال النوع الأول ويعين الاقتصار على النوعين الثاني والثالث في الجملة ، على أن ما يندرج تحت ذينك النوعين متفاوت في درجات القبول ، فإن الأقوال الثاني ، والسابع ، والثامن ، والثاني عشر ، والخامس عشر ، والسادس عشر ، يبطلها أن هذه الحروف لو كانت مقتضبَة من أسماء أو كلمات لكان الحق أن ينطق بمسمياتها لا بأسمائها . فإذا تعين هذان النوعان وأسقطنا ما كان من الأقوال المندرجة تحتهما واهياً ، خلَص أن الأرجح من تلك الأقوال ثلاثة : وهي كون تلك الحروف لتبكيتِ المعاندين وتسجيلاً لعجزهم عن المعارضة ، أو كونُها أسماء للسور الواقعة هي فيها ، أو كونُها أقساماً أقسم بها لتشريف قدر الكتابة وتنبيهِ العرب الأميين إلى فوائد الكتابة لإخراجهم من حالة الأُمية وأرجح هذه الأقوال الثلاثةِ هو أولها .
قال في « الكشاف » : ما ورد في هذه الفواتح من أسماء الحروف هو نصف أسامي حروف المعجم إذ هي أربعة عشر وهي : الألف ، واللام ، والميم ، والصاد ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والياء ، والعين ، والطاء ، والسين ، والحاء ، والقاف ، والنون ، في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم ، وهذه الأربعة عشر مشتملة على أنصاف أجناس صفات الحروف ففيها من المهموسة نصفها : الصاد ، والكاف ، والهاء ، والسين ، والحاء ، ومن المجهورة نصفها : الألف ، واللام ، والميم ، والراء ، والعين ، والطاء ، والقاف ، والياء ، والنون ، ومن الشديدة نصفها : الألف ، والكاف ، والطاء ، والقاف ، ومن الرخوة نصفها : اللام ، والميم ، والراء ، والصاد ، والهاء ، والعين ، والسين ، والحاء ، والياء ، والنون . ومن المُطْبَقَة نصفها : الصاد ، والطاء . ومن المنفتحة نصفها : الألف ، واللام ، والميم ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والعين ، والسين ، والقاف ، والياء ، والنون . ومن المستعلية نصفها القاف ، والصاد ، والطاء . ومن المستَفِلة نصفها : الألف ، واللام ، والميم ، والراء والكاف ، والهاء ، والياء ، والعين ، والسين ، والحاء ، والنون . ومن حروف القَلْقلة نصفها : القاف ، والطاء .
ثم إن الحروف التي ألغى ذكرها مكثورة بالمذكورة ، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته ا هـ وزاد البيضاوي على ذلك أصنافاً أخرى من صفات الحروف لا نطيل بها فمن شاء فليراجعها .
ومحصول كلامهما أنه قد قضى بذكر ما ذُكر من الحروف وإهمال ذكر ما أهمل منها حقُّ التمثيل لأنواع الصفات بذكر النصف ، وترك النصف من باب « وليُقس ما لم يقل » لحصول الغرض وهو الإشارة إلى العناية بالكتابة ، وحقُّ الإيجاز في الكلام . فيكون ذكر مجموع هذه الفواتح في سور القرآن من المعجزات العلمية وهي المذكورة في الوجه الثالث من وجوه الإعجاز التي تقدمت في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير .
وكيفيةُ النطقِ أن يُنطق بها موقوفة دون علاماتِ إعراب على حكم الأسماء المسرودة إذ لم تكن معمولة لعوامل فحَالها كحال الأعداد المسرودة حين تقول ثلاثهْ أربعهْ خمسهْ . وكحال أسماء الأشياء التي تُملى على الجارد لها ، إذ تقول مثلاً : ثَوْب ، بِساطْ ، سَيْف ، دون إعراب ، ومن أعربها كان مخطئاً . ولذلك نطق القراء بها ساكنة سكون الموقوف عليه فما كان منها صحيح الآخِرِ نُطق به ساكناً نحو أَلِفْ ، لاَمْ ، مِيمْ . وما كان من أسماء الحروف ممدود الآخر نُطق به في أوائل السور أَلفاً مقصوراً لأنها مسوقة مَساق المتهجَّى بها وهي في حالة التهجي مقصورة طلباً للخفة لأن التهَجِّي إنما يكون غالباً لتعليم المبتدىء ، واستعمالها في التهجي أكثر فوقعت في فواتح السور مقصورة لأنها على نمط التعْديد أو مأخوذة منه .
ولكن الناس قد يجعلون فاتحة إحدى السور كالاسم لها فيقولون قرأتُ : { كهيعص } كما يجعلون أول كلمة من القصيدة اسماً للقصيدة فيقولون قرأت : « قِفَا نَبْكِ » و« بانت سعاد » فحينئذٍ قد تعامل جملة الحروف الواقعة في تلك الفاتحة معاملة كلمة واحدة فيجري عليها من الإعراب ما هو لنظائر تلك الصيغة من الأسماء فلا يصرف حَامِيم كما قال شُريح بن أَوفى العَنْسي المتقدم آنفاً :
يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ والرُّمْحُ شَاجِر *** فهلاَّ تَلاَ حَامِيمَ قبلَ التَّقَدُّم
قرأْنا لَكُم في آلِ حَامِيمَ آية *** تأوَّلها مِنَّا فقيهٌ ومُعْرِب
ولا يعرب { كهيعص } [ مريم : 1 ] إذ لا نظير له في الأسماء إفراداً ولا تركيباً . وأما طسم فيعرب اعترابَ المركب المزجي نحو حَضْرَمَوْتَ ودَارَاَبجِرْدَ{[69]} وقال سيبويه : إنك إذا جعلت ( هُود ) اسم السورة لم تَصرفها فتقول قرأت هُودَ للعَلَمِيَّة والتأنيث قال لأنها تصير بمنزلة امرأة سميتَها بعَمْرو . ولك في الجميع أن تأتي به في الإعراب على حاله من الحكاية وموقع هاته الفواتح مع ما يليها من حيث الإعراب ، فإن جعلتها حروفاً للتهجي تعريضاً بالمشركين وتبكيتاً لهم فظاهر أنها حينئذٍ محكية ولا تقبَل إعراباً ، لأنها حينئذٍ بمنزلة أسماء الأصوات لا يقصد إلا صُدورها فدلالتها تشبه الدلالة العقلية فهي تدل على أن الناطق بها يهيّىء السامع إلى ما يرد بعدها مثل سرد الأعداد الحِسابية على من يراد منه أن يجمع حاصلها ، أو يَطرح ، أو يقسم ، فلا إعراب لها مع ما يليها ، ولا معنى للتقدير بالمؤلف من هذه الحروف إذ ليس ذلك الإعلام بمقصودٍ لظهوره وإنما المقصود ما يحصل عند تعدادها من التعريض لأن الذي يتهجَّى الحروف لمن ينافي حالُه أن يقصد تعليمُه يتعين من المقام أنه يَقصِد التعريض .
وإذا قَدَّرتها أسماء للسور أو للقرآن أو لله تعالى مقسَماً بها فقيل إن لها أحكاماً مع ما يليها من الإعراب بعضُها محتاج للتقدير الكثير ، فدع عنك الإطالة بها فإن الزمان قصير .
وهاته الفواتح قرآن لا محالة ولكن اختلف في أنها آيات مستقلة والأظهر أنها ليست بآيات مستقلة بل هي أجزاء من الآيات الموالية لها على المختار من مذاهب جمهور القراء . وروي عن قراء الكوفة أن بعضها عدُّوه آياتٍ مستقلة وبعضها لم يعدوه وجعلوه جزء آية مع ما يليه ، ولم يظهر وجه التفصيل حتى قال صاحب « الكشاف » إن هذا لا دخل للقياس فيه . والصحيح عن الكوفيين أن جميعها آيات وهو اللائق بأصحاب هذا القول إذ التفصيل تحكم ؛ لأن الدليل مفقود . والوجه عندي أنها آيات لأن لها دلالة تعريضية كنائية إذ المقصود إظهار عجزهم أو نحو ذلك فهي تطابق مقتضى الحال مع ما يعقُبها من الكلام ولا يشترط في دلالة الكلام على معنى كنائي أن يكون له معنى صريح بل تعتبر دلالةُ المطابقة في هذه الحروف تقديريةً إن قلنا باشتراط ملازمة دلالة المطابقة لدلالة الالتزام . ويدل لإجراء السلف حكم أجزاء الآيات عليها أنهم يقرأونها إذا قرأوا الآية المتصلة بها ، ففي « جامع الترمذي » في كتاب التفسير في ذكر سبب نزول سورة الروم فنَزلت : { الم غلبت الروم } [ الروم : 1 ، 2 ] ، وفيه أيضاً : « فخرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكةٍ { الم غلبت الروم } وفي سيرة ابن إسحاق من رواية ابن هشام عنه : « فقرأ رسول الله على عُتبة بن ربيعة : { حم تنزيل من الرحمن الرحيم } حتى بلغ قوله : { فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } [ فصلت : 1 13 ] الحديث .
وعلى هذا الخلاف اختُلف في إجزاء قراءتها في الصلاة عند الذين يكتفون في قراءة السورة مع الفاتحة بآية واحدة مثل أصحاب أبي حنيفة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
روى عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن النبي أنه قال: «تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة» أي: السحرة. وفي هذا دليل على فضيلة هذه السورة، وعلى جواز تسميتها سورة البقرة، وسمى بعض المتقدمين هذه السورة: فسطاط القرآن؛ لشرفها وفضلها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
نزلت في مدد شتى، وفيها آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: [واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون].
ويقال لسورة البقرة: فسطاط القرآن لعظمها وبهائها، وما تضمنت من الأحكام والمواعظ. وتعلمها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بفقهها وجميع ما تحتوي عليه من العلوم في ثمانية أعوام. وفيها خمسمائة حكم، وخمسة عشر مثلا...
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غيايتان بينهما شرق، أو غمامتان سوداوان، أو كأنهما ظلة من طير صواف تجادلان عن صاحبهما)، وفي البخاري أنه عليه السلام قال: (من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه). وروى أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان). وروي عنه عليه السلام أنه قال: (لكل شيء سنام، وسنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن، وهي آية الكرسي).
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
اعْلَمُوا وَفَّقَكُمُ اللَّهُ أَنَّ عُلَمَاءَنَا قَالُوا: إنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَعْظَمِ سُوَرِ الْقُرْآنِ؛ سَمِعْتُ بَعْضَ أَشْيَاخِي يَقُولُ: فِيهَا أَلْفُ أَمْرٍ، وَأَلْفُ نَهْيٍ، وَأَلْفُ حُكْمٍ، وَأَلْفُ خَبَرٍ. وَلِعَظِيمِ فِقْهِهَا أَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ثَمَانِي سِنِينَ فِي تَعَلُّمِهَا... وَلَيْسَ فِي فَضْلِهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ إلَّا مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، وَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ لَا يَدْخُلُهُ شَيْطَانٌ» خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال أبو عبيد: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سلمة بن كُهَيْل، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، يعني ابن مسعود، قال: إن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع فيه سورة البقرة. ورواه النسائي في اليوم والليلة، وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث شعبة ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه...
قال البخاري: وقال الليث: حدثني يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن أُسَيد بن حُضَير قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده، إذ جالت الفرس، فسكت، فسكَنتْ، فقرأ فجالت الفرس، فسكت، فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبًا منها. فأشفق أن تصيبه، فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اقرأ يا ابن حُضَير». قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى، وكان منها قريبًا، فرفعت رأسي وانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظُّلَّة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال: «وتدري ما ذاك؟». قال: لا. قال: «تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم»...
ومن ذلك حديث النَّوّاس بن سَمْعان، قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا الوليد بن مسلم، عن محمد بن مهاجر، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي، عن جُبَير بن نُفَير، قال: سمعت النواس بن سمعان الكلابي، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمهم سورة البقرة وآل عمران». وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: «كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شَرْق، أو كأنهما فرْقَان من طير صَوَاف يُحَاجَّان عن صاحبهما». ورواه مسلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
إقامة الدليل على أن الكتاب هدى ليتبع في كل ما قال، وأعظم ما يهدي إليه الإيمان بالغيب، ومجمعه الإيمان بالآخرة، فمداره الإيمان بالبعث الذي أعربت عنه قصة البقرة التي مدارها الإيمان بالغيب، فلذلك سميت بها السورة، وكانت بذلك أحق من قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنها في نوع البشر، ومما تقدمها في قصة بني إسرائيل من الإحياء بعد الإماتة بالصعق، وكذلك ما شاكلها، لأن الإحياء في قصة البقرة عن سبب ضعيف في الظاهر بمباشرة من كان من آحاد الناس، فهي أدل على القدرة، ولا سيما وقد أتبعت بوصف القلوب والحجارة بما عم المهتدين بالكتاب والضالين، فوصفها بالقسوة الموجبة للشقوة ووصفت الحجارة بالخشية الناشئة في الجملة عن التقوى، المانحة للمدد المتعدي نفعه إلى عبادة الله. وفيها إشارة إلى أن هذا الكتاب فينا كما لو كان فينا خليفة من أولى العزم من الرسل، يرشدنا في كل أمر إلى صواب المخرج منه، فمن أعرض خاب، ومن تردد كاد، ومن أجاب اتقى وأجاد...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
خلاصة سورة البقرة وما فيها من دعوة الإسلام وأحكامه وقواعده:
بدأ الله عز وجل سورة البقرة بدعوة القرآن، وكونه حقا لا مجال فيه لشك ولا ارتياب، وجعل الناس تجاه هدايته ثلاثة أقسام:
(1) المؤمنون، وهم قسمان: الذين يؤمنون بالغيب بمجرد سلامة الفطرة، ويقيمون ركني الدين؛ البدني الروحي، والمالي الاجتماعي. والذين يؤمنون به بتأثير إيمانهم بما أنزل من قبله من كتب الرسل، إذ يرونه أكمل منها هداية وأصح رواية، وأقوى دلالة. ثم فصل هذه الأصول للإيمان في آية 176 "ليس البر... "وآيتي 284و 285 "لله ما في السموات وما في الأرض...".
(2) الكافرون الراسخون في الكفر وطاعة الهوى، الذين فقدوا الاستعداد للإيمان والهدى.
(3) المنافقون الذين يظهرون غير ما يخفون، ويقولون مالا يفعلون، فهذه آياتها الأولى إلى 20 آية.
وقَفَّى على هذا بدعوة الناس جميعا إلى عبادة ربهم وحده، وعدم اتخاذ الأنداد له، الذين يحبون من جنس حبه، ويذكرون معه في مقامات ذكره، ويشركون معه في مخ العبادة – الدعاء – أو يدعون من دونه (أنظر الآيتين 21و 22، وآيات الإسلام في قصة إبراهيم وإسماعيل، ووصية إبراهيم ويعقوب لأبنائهم، من 124 – 138 كما يأتي، والآيات التي سنشير إليها في خطاب أمة الإجابة من 163- 171).
ثم ثنى دعوة التوحيد بدعوة الوحي والرسالة، واحتج على حقية هذه الدعوة بهذا الكتاب المنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم بتحدي الناس كافة بالإتيان بسورة من مثله، مع التصريح القطعي بعجزهم أجمعين، ورتب على هذا إنذار الكافرين بالنار، وتبشير المؤمنين بجنات تجري من تحتها الأنهار، وقفى على هذا ببيان بعض الأدلة العقلية على الإيمان، وبخلاصة النشأة الآدمية وعداوة الشيطان للإنسان. وتم ذلك بالآية 39.
ثم خص بني إسرائيل بالدعوة، تاليا عليهم ما لم يكن يعلمه محمد لولا وحيه تعالى له، فذكرهم بنعمه، وأمرهم أن يؤمنوا بما أنزله على خاتم رسله، ونهاهم أن يكون المعاصرون له منهم أول كافر به، وحاجهم في الدين بتذكيرهم بأيام الله، وبأهم الوقائع التي كانت لسلفهم مع كليمه، من كفر وإيمان، وطاعة وعصيان، ثم بالتذكير لهم وللعرب بهدي جدهم إبراهيم الخليل، وبنائه لبيت الله الحرام مع ولده إسماعيل، ودعائهما إياه تعالى أن يبعث في الأميين رسولا منهم، وبأن علماءهم يعرفون أن محمدا هو الرسول الذي دعا به إبراهيم وبشر به موسى كما يعرفون أبناءهم، وبأن فريقا منهم يكتمون الحق وهم يعلمون، أي والفريق الآخر يؤمنون به، ويعترفون بوعد الله لإبراهيم ثم لموسى بقيام نبي من أبناء إخوتهم مثله.
بدئ هذا السياق بالآية 40 من السورة {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم...} وانتهى بالآية 142 منها، وتخلله بعض الآيات الموجهة للمؤمنين للاعتبار بما فيه من شؤون أهل الكتاب السابقين والحاضرين من اليهود بالتفصيل، ومن النصارى بالإجمال، إذ لم يكن أحد منهم مجاورا ولا مخالطا للمسلمين في تلك الحال، فإن نزول البقرة كان في أول عهد الهجرة.
وما تقدم يناهز نصف السورة، وهو شطرها الخاص بأمة الدعوة، والشطر الثاني قد وجه لأمة الإجابة.
خطاب أمة الإجابة بموضوع الدعوة العام:
كان الانتقال من خطاب أهل الكتاب من أمة الدعوة إلى خطاب أهل القرآن من أمة الإجابة بذكر ما هو مشترك بين قوم موسى وقوم محمد من نسب إبراهيم والاتفاق على فضله وهدايته، وكان العرب في الجاهلية يعترفون بذلك إجمالا كالمسلمين، ثم بذكر أول مسألة عملية اختلف فيها القومان وهي مسألة القبلة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة إلى الكعبة المشرفة من جهة الشمال حيث تكون بينه وبين بيت المقدس في بلاد الشام، وهو قبلة بني إسرائيل؛ فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع استقبال الكعبة التي هي في جنوبها، وبيت المقدس الذي هو في شمالها، فأعطى الله خاتم رسله سؤله بأمره بالتوجه إلى الكعبة وحدها ومسألة القبلة من شعائر الملة وخصائصها الدينية الاجتماعية، حتى إن النصارى وهم في الأصل مع رسولهم (عيسى المسيح عليه السلام) من أتباع شريعة التوراة قد ميزوا أنفسهم دون اليهود بابتداع قبلة خاصة بهم غير قبلة رسولهم الذي اتخذوه إلها لهم، وهي صخرة بيت المقدس.
بعد تأكيد أمر القبلة، وأنه من إتمام النعمة على هذه الأمة بين وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم وهي كما في دعاء إبراهيم وهي وتربية الأمة، وتعليمها الكتابة والحكمة، ما لم تكن تعلم من القضاء والسياسة وأمور الدولة؛ فقال تعالى {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون 151}، ثم أمرهم بذكره وشكره تعالى، وبالاستعانة بالصبر والصلاة على النهوض بمهمات الأمور، وذكر التطواف والسعي بين الصفا والمروة لمناسبة اقتضاها المقام، ولعن الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى بعد تبيينه للناس في الكتاب، واستثنى من تاب وأصلح وبين وأناب، وسجل اللعنة على من مات على كفره، وكونهم خالدين في النار لا يخفف عنهم العذاب.
ثم ذكر الأساس الأعظم للدين، وهو توحيد الإلهية، بتخصيص الخالق سبحانه بالعبودية، وهو قوله تعالى {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمان الرحيم 163} وقرن ذلك بالتذكير بآياته الكثيرة الدالة عليه في السموات والأرض وما بينهما، ثم ذكر ما يقابل هذا التوحيد مقابلة التضاد، وهو الشرك باتخاذ الأنداد، والاعتماد فيه على تقليد الآباء والأجداد، وشنع على المقلدين والذين يدعون غير الله تعالى من المشركين. فجردهم من حلية العقل، وشبههم بالصم البكم العمي، وانتهى هذا بالآية 171.
ثم أوجب على المؤمنين الأكل من أجناس جميع الطيبات وأمرهم بالشكر له عليها، وحصر محرمات الطعام عليهم في الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، واستثنى من اضطر إليها، وإنما ذكر هذا في سياق كليات الدين المجملة لإبطال ما كان عليه المشركون وأهل الكتاب من التحليل والتحريم فيها الذي هو حق الله تعالى بتحكيم الأهواء. وقفى على هذا كله بوعيد الذين يكتمون ما أنزل الله، إيذانا بوجوب الدعوة وبيان الحق على كل من آمن بالله، وتحذيرا مما وقع بين أهل الكتاب من الاختلاف والشقاق والتحريف والنسيان لحظ عظيم مما أنزله الله.
وختم هذا السياق العام ببيان أصول البر ومجامعه في الآية المعجزة الجامعة لكليات العقائد والآداب والأعمال: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب.. 176 – الخ}.
وقفى عليه بسياق طويل في الأحكام الشرعية الفرعية؛ بدأ بأحكام القصاص في القتلى من آية (177)، وانتهى بأحكام القتال وما تقتضيه من أمور الاجتماع وقواعده في آخر الجزء الثاني من تجزئة القرآن الثلاثينية.
ثم عاد الكلام على بدئه في العقائد العامة من الرسالة والتوحيد وحججه والبعث، وفي الأحكام والآداب العامة التي هي سياج الدين ونظام الدنيا، ورأسها الإنفاق في سبيل الله، وهي طريق الحق والخير وسعادة الدارين، والإخلاص فيه وفي سائر الأعمال. ثم عاد إلى الأحكام الفرعية العملية إلى ما قبل ختم السورة كلها بالدعاء المعروف.
وهاك بيان ما في السورة من أنواع أحكام الفروع العملية:
خطاب أمة الإجابة بالفروع العملية:
كانت الأحكام الشرعية العملية منها تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم عند استعداد الأمة لها بالنسبة إلى العبادات، وعند الحاجة إليها في العمل بالنسبة إلى المعاملات، والمذكور منها في سورة البقرة أنواع، نلخصها فيما يلي:
(1) إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بمدح أهلها في الآية 3 والأمر بهما في الآية 10
(2) تحريم السحر، وكونه فتنة وكفرا أو مستلزما للكفر.
(3) أحكام القصاص في القتلى وهو المساواة فيها وحكمته (آيتا 178و 179).
(4) الوصية للوالدين والأقربين (آيتا 181و 182).
(5) أحكام الصيام مفصلة، وقد نزلت في السنة الثانية للهجرة (آيات 183- 187).
(6) تحريم أكل أموال الناس بالباطل والإدلاء بها إلى الحكام للاستعانة بهم على أكل فريق منها بالإثم كما هو الفاشي في هذه الأزمنة (آية 188).
(7) جعل الأشهر الهلالية هي المعتمد عليها في المواقيت الدينية للناس، ومنها الصيام والحج وعدة النساء ومدة الإيلاء (آية 189).
(8) أحكام القتال وكونه ضرورة مقيدة بقتال من يقاتلنا ويهدد حرية ديننا دون غيرهم وبتحريم الاعتداء فيه، وغايته منع الفتنة في الدين وهو الإكراه فيه والتعذيب والإيذاء للصد عنه، والمراد ما يسمى في عرف هذا العصر بحيرة الاعتقاد والوجدان، ومنه أحكام القتال في الشهر الحرام (آيات 190 – 195؛ 216- 218. ثم 224 – 252).
(9) الأمر بإنفاق المال في سبيل الله لأنه وسيلة للوقاية من التهلكة، وهذا يتناول الإنفاق للاستعداد للقتال الذي يرجى أن يكون سببا للسلم ومنع القتال، والسلامة من الهلاك، ويتناول غير ذلك كمنع العدوان العام والخاص، والنظم الضارة بالاجتماع (آية 195)، ثم الأمر بالإنفاق لأجل السلامة من هلاك الآخرة (في الآية 254)، ثم الترغيب في الإنفاق، والوعد بمضاعفة الأجر عليه بسبعمائة ضعف وأكثر، وبيان شرط قبوله وآدابه وضرب الأمثال للإخلاص وللرياء فيه في سياق طويل (من آية 196- 203)
(10) أحكام الحج والعمرة (من آية 196- 203).
(11) النفقات والمستحقون لها من الناس (210و 219و 273).
(12) تحريم الخمر والميسر تحريما ظنيا اجتهاديا راجحا غير قطعي تمهيدا للتحريم الصريح بالنص القطعي (219).
(13) معاملة اليتامى ومخالطتهم في المعيشة (220).
(14) تحريم نكاح المؤمنين المشركات، وإنكاح المشركين المؤمنات (221).
(15) تحريم إتيان النساء في المحيض وفي غير مكان الحرث ووجوب إتيانهن من حيث أمر الله بأي صفة كانت (222و 223).
(16) بعض أحكام الأيمان بالله، كجعلها مانعة من البر والتقوى والإصلاح، وعدم المؤاخذة بيمين اللغو (224و 225).
(17) حكم الإيلاء من النساء (226و 227).
(18) أحكام الزوجية من الطلاق والرضاعة والعدة وخطبة المعتدة ونفقتها ومتعة المطلقة (228 – 237 و 241).
(19) حظر الربا والأمر بترك ما بقي منه، والاكتفاء برءوس الأموال منه، وإيجاب إنظار المعسر، أي إمهاله إلى ميسرة (275 -280).
(20) أحكام الدين من كتابة وإشهاد وشهادة وحكم النساء والرجال فيها والرهان ووجوب أداء الأمانة وتحريم كتمان الشهادة (282و 283).
(21) خاتمة الأحكام العملية: الدعاء العظيم في خاتمة السورة.
الأصول والقواعد الشرعية العامة في سورة البقرة:
(القاعدة الأولى): إن اتباع هدى الله المنزل على رسله وهو الدين موجب للسعادة بأن أصحابه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهذا وعد يشمل الدنيا والآخرة لإطلاقه، ولكنه في الدنيا إضافي مطرد في الأمم وإضافي مقيد غير مطرد في الإفراد، وفي الآخرة حقيقي مطرد للجميع، وموجب لشقاء من أعرض عنه بعد بلوغ دعوته على وجهها. على نسبة مقابله في الدارين والشاهد عليه قوله تعالى لآدم ومن معه {قلنا اهبطوا منها جميعا، فإما يأتينكم مني هدى} – الآية 38 والتي بعدها 39 – وراجع معناها في سورة طه {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} الآية (20: 123 وما بعدها إلى 128 فهي موضحة لما أردنا هنا.
(استدراكات وبيان لأغلاط معنوية):
قولنا في القاعدة الأولى: ولكنه في الدنيا إضافي مطرد في الأمم... الخ، فيه ضعف وإبهام إجمال، والمراد به الوعد بسعادة متبع هدى الله عز وجل باعتبار متعلقه، أعني أن الأمم المهتدية بالدين تكون سعيدة بالنسبة إلى الأمم غير المهتدية باطراد، وأما الأفراد فتكون سعادتهم حتى بالإضافة إلى غير المهتدين غير مطردة، فإن منهم من يصيبه من الأمراض وشدة الفقر والبؤس ما يكون به أسوأ حالا من بعض غير المهتدين، إلا أن يعتبر في المقابلة بين كل فردين من المهتدين وغير المهتدين تساويهما في الأحوال البدنية والاجتماعية والمعاشية، فحينئذ يكون المهتدي أسعد من غيره بالحالة النفسية، لأنه يكون أصبر على البؤس والضراء من غير المهتدي. وهذا أمر خفي لا تظهر به سعادة بعض الأفراد على بعض الناس...
(القاعدة الثانية): قوله تعالى {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} الآية 40، وهي مقيدة لسعادة الدين، بأنها إنما تحصل بإقامته، فالله يقول: {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} في باب الإطلاق، ويقول في باب التقييد: {إن تنصروا الله ينصركم}، وهذا شاهد على التقييد الذي ذكرناه في القاعدة الأولى، ومثله {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا} راجع الآيات 84- 86.
(القاعدة الثالثة): قوله تعالى: {44 أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب، أفلا تعقلون} وهي صريحة في أن هذا مخالف للمنقول الشرعي وهو الكتاب، وللمعقول الفطري، إذ لا يخفى على عاقل قبح عمل من يأمر غيره بالخير وهو يتركه، أو ينهاه عن فعل ما يضره من الشر وهو يفعله، وأنه يقيم بذلك الحجة على نفسه، ولا يكون أهلا لأن يمتثل أمره ونهيه.
(القاعدة الرابعة): قوله تعالى في مقام الإنكار على بني إسرائيل: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} صريح في وجوب ترجيح الأعلى على الأدنى، وإيثار الخير على الشر، والإرشاد إلى طلب ما هو خير وأفضل مما يقابله، وفي طلب المعالي والكمال في أمور الدنيا والآخرة، وفي معناه قوله تعالى: {130 ومن يرغب عن ملة إبراهيم من سفه}.
(القاعدة الخامسة): قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا} – الآية 62 صريح في أن أصول دين الله تعالى على ألسنة جميع رسله هذه الثلاثة: الإيمان بالله، الإيمان باليوم الآخر وما فيه من الجزاء، والعمل الصالح – ومنه ما ذكر في آية 83 من ميثاق بني إسرائيل، فثمرة الإيمان منوطة بالثلاثة.
(القاعدة السادسة): أن الجزاء على الإيمان والعمل معا، لأن الدين إيمان وعمل. ومن الغرور أن يظن المنتمي إلى دين نبي من الأنبياء، أنه ينجو من الخلود في النار بمجرد الانتماء، الشاهد عليه ما حكاه الله لنا عن بني إسرائيل من غرورهم بدينهم ومارد به عليهم حتى لا نتبع سنتهم فيه، وهو {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} – آية 80- 82 وما حكاه عن اليهود والنصارى جميعا من قولهم: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم} الخ الآيتين 111و 112 ولكنا قد اتبعنا سنتهم شبرا بشبر وذراعا بذراع مصداقا لما ورد وفي الحديث الصحيح. وإنما نمتاز عليهم بأن المتبعين لهم بعض الأمة لا كلها، وبحفظ نص كتابنا كله وضبط سنة نبينا في بيانه، وبأن حجة أهل العلم والهدى منا قائمة إلى يوم القيامة.
(القاعدة السابعة): أن شرط الإيمان الإذعان النفسي لكل ما جاء به الرسول الذي يلزمه العمل عند انتفاء المانع، ومأخذه قوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل 83} إلى آخر آية 86 وقوله: {100 أو كلما عاهدوا عهدا} الآية، فمن ترك بعض العمل بجهالة فهو فاسق إلى أن يتوب، ومن تركه لعدم الإذعان له كان كافرا به، والكفر بالبعض كالكفر بالكل، والشاهد عليه قوله تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} الآية. وليس هذا من الكفر العملي لا الذي يخرج به صاحبه من الملة الذي استشهدوا له بحديث "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" الخ، كما قال بعض العلماء لأن هذا النوع من عمل الأفراد الذي تغلبهم عليه داعية طبيعية كالشهوة والغضب – وما نحن فيه عبارة عن عدم العمل بالشرع الإلهي لعدم الإذعان له، كاستباحة قتل فريق من الأمة ونفي فريق آخر من وطنه بمحض اتباع الهوى والطمع في عرض الدنيا، لا بجهالة عارضة يغلب فيها الفرد على أمره يثوب إليه رشده فيتوب إلى ربه.
(القاعدة الثامنة): النسخ أو الإنساء للآيات الإلهية التي يؤيد الله بها رسله كما يقتضيه سياق قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها} اقرأها وما بعدها (106 و107) أو للآيات التشريعية كما فهم الجمهور، كلاهما من رحمة الله، يجعل البدل خيرا من الأصل، أو مثله على الأقل، وتكون الخيرية في المثل التنويع وكثرة الآيات.
(القاعدة التاسعة): قوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم 120} آية للنبي كاشفة عن حال أهل الملتين في عصره، ولا تزال مطردة في أمته من بعده، وقد اغتر زعماء بعض الشعوب الإسلامية فحاولوا إرضاء بعض الدول بما دون اتباع ملتهم من الكفر فلم يرضوا عنهم، ولو اتبعوا ملتهم لاشترطوا أن يتبعوهم في فهمها وصور العمل بها، حتى لا يبقى لهم أدنى استقلال في دينهم ولا في أنفسهم.
(القاعدة العاشرة): أن الولاية العامة الشرعية حق أهل الإيمان والعدل، وأن الله تعالى لن يعهد بإمامة الناس وتولى أمورهم للظالمين، فكل حاكم ظالم فهو ناقض لعهد الله تعالى – راجع قول الله تعالى في إبراهيم عليه السلام بعد ابتلائه مما ظهر به استحقاقه للإمامة {قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين 123}.
(القاعدة الحادية عشرة): إن الإيمان الحق والاعتصام بدين الله تعالى المنزل كما أنزله يقتضي الوحدة والاتفاق، وترك الاهتداء به يورث الاختلاف والشقاق، وشواهده من السورة قوله تعالى: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق 137}، وقوله: {ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد 176}، وقوله: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين الخ 213}.
(القاعدة الثانية عشرة): الاستعانة على النهوض بمهمات الأمور بالصبر والصلاة، قال تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين 45}، وقوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين 153} وهذه قاعدة جليلة راجع تفصيلها في تفسيرنا للآيتين وأمثالهما.
(القاعدة الثالثة عشرة): بطلان التقليد للآباء والأجداد والمشايخ والمعلمين والرؤساء، لأنه جهل وعصبية جاهلية، والشواهد عليه في هذه السورة وغيرها عديدة أظهرها هنا ما حكاه تعالى لنا عن تبرؤ المتبوعين من الاتباع يوم القيامة في آيتي (166و 167) وقوله عز وجل: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون 170}، وإن في تحريم التقليد وتصريح الكتاب العزيز بأن الله تعالى لا يقبله ولا يعذر صاحبه به في الآخرة لتأكيد شديد لإيجاب العلم الاستقلالي الاستدلالي في الدين، وهو لا يقتضي الاجتهاد المطلق في جميع مسائل التشريع، أعني – الاستنباط العام بوضع الأحكام لكل ما يحتاج إليه الأفراد والحكام – وإن في إطلاق مقلدة المصنفين من خلف القرون الوسطى القول بإيجاب تقليد المجتهدين في أمور الدين، وتحريم الأخذ بالدليل فيه – لاشتراطهم فيه استعداد كل مستدل مستقل للتشريع لا افتياتا على دين الله، ونسخا لكتاب الله، وشرعا لم يأذن به الله، خلاصته تحريم العلم وإيجاب الجهل، وهذا منتهى الإفساد للفطرة والعقل، وهو أقطع المدى لأوصال الإسلام، وأفعل المعاول في هدم قواعد الإيمان، وعلة العلل لانتشار البدع التي ذهبت بهداية الدين، واستبدلت بها الخرافات ودجل الدجالين.
(القاعدة الرابعة عشر): إباحة جميع طيبات المطعم الطبيعية بحسب أفرادها وإيجاب الأكل منه بحسب جنسها، وامتناع التحريم الديني العام لما لم يحرم الله تعالى منها، وذلك قوله تعالى: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا 168} وقوله: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم 172} الآية، وقوله بعدها: {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله 173} فحصر المحرمات في هذه الأربعة. ومثله في سورة الأنعام والنحل من السور المكية، وفي سورة المائدة المدنية تفصيل في الميتة بجعل المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع منها، إذا ماتت بذلك ولم تدرك تذكيتها، وقيدت آية الأنعام الدم بالمسفوح.
(القاعدة الخامسة عشرة): إباحة المحرمات للمضطر إليها بشرط أن يكون غير باغ لها ولا عاد فيه بتجاوز قدر الضرورة أو الحاجة منها وذلك قوله تعالى في تتمة الآية الأخيرة من شواهد القاعدة التي قبل هذه {فمن اضطر غر باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم} وليست القاعدة مقصورة على محرمات المطاعم بل عامة لكل ما يتحقق الاضطرار إليه لأجل الحياة واتقاء الهلاك ولم يعارضه مثله أو ما هو أقوى منه. فالزنا ليس مما يضطر الناس إليه لذلك كما قال العلماء، ومن اضطر إلى رغيف مضطر مثله فليس له أن يرجح نفسه على صاحب اليد وهو مالك الرغيف.
(القاعدة السادسة عشرة): بناء الدين عباداته وغيرها على أساس اليسر، ورفع الحرج والعسر – كما علل سبحانه به رخصة الفطر في رمضان بقوله: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} ومثله تعليل رخصة التيمم برفع الحرج كما في سورة المائدة. وهذه القاعدة أوسع مما قبلها، لأن هذه في ترك الواجب، إلى بدل عاجل أو آجل، وتلك في استباحة المحرم ولو مؤقتا، فإن ترك الواجبات أهون من فعل المنهيات، لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه"، رواه الشيخان وهذا اللفظ لمسلم وهو من أثناء حديث. وسبب هذا أن الترك أهون على غير المضطر من الفعل لأن الأصل عدمه.
(القاعدة السابعة عشرة): عدم تكليف ما لا يطلق وهذه أصل للتين قبلها والنص فيها قوله تعالى في آخر الآية من السور: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها 286} ووسع الإنسان ما لا حرج فيه عليه ولا عسر؛ لأنه ضد الضيق، ولذلك كانت هذه أوسع مما قبلها وأصلا لهما، فالله لم يكلفنا في دينه وشرعه ما لا طاقة لنا به، ولا يدخل في وسعنا امتثاله بغير عسر ولا حرج، فإذا عرض العسر عروضا بأسبابه العادية كالاضطرار لأكل الميتة والدم المسفوح وكالمرض والسفر اللذين يشق فيهما الصوم واستعمال الماء في الغسل والوضوء أو يضر ترك الأول بنية القضاء، والثاني إلى التيمم المبيح للصلاة، ولا تترك الصلاة نفسها لعسر أحد شروطها وعدم عسرها في نفسها، وهي لا تعسر من حيث هي توجه إلى الله تعالى مناجاة له بكتابه وذكره ودعائه، فإن شق على المصلي أفعالها كالقيام استبدل به القعود فإن شق عليه القعود صلى مضطجعا أو متلقيا.
(القاعدة الثامنة عشرة): حظر التعرض للهلكة، في قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة 195} فلا يجوز للمؤمنين ولا سيما جماعتهم أن يتعمدوا إلقاء أنفسهم إلى الهلاك بسعيهم واختيارهم – ويلزمه وجوب اجتناب أسباب التهلكة من فعلية وتركية- وبتعبير المناطقة من سلبية وإيجابية – ويدل عليه ذكر هذا النهي عقب الأمر بالإنفاق في سبيل الله لما يحتاج إليه الدفاع من النفقات الكثيرة، ولا سيما في هذا العصر الذي تعددت فيه آلات القتال ووسائله وعظمت نفقاتها فصارت الأمم العزيزة تنفق الملايين من الجنيهات على وسائل الحرب البرية والبحرية والجوية، وفروع هذه القاعدة كثيرة.
(القاعدة التاسعة عشرة): إتيان البيوت من أبوابها لا من ظهورها، أي طلب الأشياء بأسبابها دون غيرها، فلا تجعل العادة عبادة، ولا العبادة عادة، ولا تطلب فنون الدنيا من نصوص الدين {أنتم أعلم بأمر دنياكم} كما قال خاتم النبيين، وأصل هذه القاعدة ما يدل عليه قوله تعالى: {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وآتوا البيوت من أبوابها 189} فللزراعة والتجارة والصناعة وفنون الحرب وآلاته وأسلحته أبواب لا يصل إليها إلا من يدخل منها، ولعقائد الدين وعباداته وآدابه وحلاله وحرامه أبواب معروفة من كتاب الله وسنة رسوله، ولأصول تشريعه السياسي أبواب من النصوص والاجتهاد معروفة أيضا، فما اعتيد في هذه القرون الأخيرة من قراءة صحيح البخاري في المساجد لأجل النصر على الأعداء مخالف لهذه القاعدة، وليس من المخالف لها الدعاء وتوجه المقاتلة إلى الله لنصرهم بعد إعداد ما استطاعوا من القوة لعدوهم، فإن الدعاء من أسباب القوة المعنوية.
(القاعدة العشرون): حرية الدين والاعتقاد ومنع الاضطهاد الديني ولو بالقتال حتى يكون الدين كله لله ومنع الإكراه على الدين، وذلك قوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين 193} الفتنة اضطهاد الإنسان لأجل دينه بالتعذيب والقتل والنفي كما فعل المشركون بالمسلمين في صدر الإسلام ولذلك قال في آيات القتال التي نزلت قبل هذه في سورة الحج {22: 39 إذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير 40 الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} الخ.
ولذلك مهد لهذه الغاية هنا بقوله قبلها: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل 191} ثم قفى عليها بقوله: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام، وإخراج أهله منه أكبر عند الله، والفتنة أكبر من القتل. ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا 217} الآية.
وأما النهي عن الإكراه في الدين حتى الإسلام فقوله تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي 256} وقد ذكرنا في تفسيرها ما رواه المحدثون ومصنفو التفسير المأثور من سبب نزولها.
وملخصه: أنه كان لدى بني النضير من يهود المدينة أولاد من أبناء الصحابة ربوهم وهودوهم، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلائهم لتواتر إيذائهم، أراد المسلمون أن يأخذوا أبناءهم منهم ويكرهوهم على الإسلام فنزلت الآية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم" قد خير الله أصحابكم، فإن اختاروهم فهم منهم، وإن اختاروكم فهم منكم".
ومع هذه النصوص لا يزال يوجد حتى في المسلمين من يصدق افتراء أعداء الإسلام بأنه قام بالسيف والإكراه على الدين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يبدأ المشركين بالقتال؟
(القاعدة الحادية والعشرون): أن القتال شرع في الإسلام لمصلحتين أو ثلاث:
" الأولى ": الدفاع عن المسلمين وأوطانهم، فإن المشركين أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان آمن معه من أهل مكة ثم بدأوهم بالقتال وساعدهم عليهم أهل الكتاب وما زالوا يبدأونهم ويقاتلونهم حتى عجزوا؛ وذلك قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين 190)
" الثانية ": تأمين حرية الدين ومنع الاضطهاد فيه وهو قوله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين 193} هذا ما نزل في هذه السورة.
" الثالثة ": ما في سورة التوبة من تأمين سلطان الإسلام وسيادته بدفع المخالفين له للجزية.
(القاعدة الثانية والعشرون): أن من شأن المسلمين طلب ما هو أثر لازم للإسلام من سعادة الدنيا والآخرة معا، كما تقدم في القاعدة الأولى، وإنما تتحقق الغايات ولوازم الأمور بطلبها والسعي لها.
فليس من هديه أن يترك المسلمون الدنيا ومعايشها وسياستها ويكونوا فقراء أذلاء، تابعين للمخالفين لهم من الأقوياء – ولا أن يكونوا كالأنعام لا همّ لهم إلا في شهواتهم البدنية، وكالوحوش التي يفترس قويها ضعيفا. وهذا الجمع بين الأمرين مقتضى الفطرة، والإسلام دين الفطرة، وذلك هو ما أرشدنا الله إليه بقوله: {فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق، ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار 200- 201) إلخ.
(القاعدة الثالثة والعشرون): أن الأحكام الاجتهادية التي لم تثبت بالنص القطعي الصريح رواية ودلالة لا تجعل تشريعا عاما إلزاميا بل تفوض إلى اجتهاد الأفراد في العبادات الشخصية والتحريم الديني الخاص بهم – وإلى اجتهاد أولي الأمر من الحكام وأهل الحل والعقد في الأمور السياسية والقضائية والإدارية ومأخذه آية {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما 219) ووجهه: أن هذه الآية تدل على تحريم الخمر والميسر بضرب من الاجتهاد في الاستدلال، وهو أن ما كان إثمه وضرره أكبر من نفعه فهو محرم يجب اجتنابه، وذلك ما فهمه بعض الصحابة فامتنعوا من الخمر والميسر. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم الأمة هذا، بل أقر من تركهما ومن لم يتركهما على اجتهادهما إلى أن نزل النص القطعي الصريح في تحريمهما والأمر باجتنابهما في سورة المائدة فحينئذ بطل الاجتهاد فيهما، وأهرق كل واحد من الصحابة ما كان عنده من الخمر وصار النبي صلى الله عليه وسلم يعاقب من شربها.
وبناء على هذه القاعدة كان يعذر كل أحد من سلف الأمة من خالفه أو خالف بعض الأخبار والآثار الاجتهادية غير القطعية رواية ودلالة، ولم يوجبوا على أحد أن يتبع أحدا في اجتهاده كما يفعل الخلف المقلدون.
وبناء على هذه القاعدة لم يقبل الإمام مالك رحمه الله تعالى من المنصور ولا من هارون الرشيد ثانيا أن يُحمل المسلمون على العمل بكتبه ولا بالموطأ الذي هو أصح ما رواه من الأخبار المرفوعة وآثار الصحابة وواطأه عليه جمهور من علماء عصره.
(القاعدة الرابعة والعشرون – إلى السابعة والعشرين): بناء أمور الزوجية والبيوت وتربية الأولاد على أربع دعائم:
(1) قيام النساء بالأمور التي تقتضيها وظيفتهن كالرضاعة وغيرها من أمور تربية الأطفال، ويقوم الزوج بالنفقة كلها.
(2) أن يكلف كل منهما ما ليس في وسعه مما يدخل في حدود وظيفته والواجب عليه.
(3) لا يضار أحد منهما بالولد، ولا بغيره بالأولى، والمضارة دون تكليف ما ليس في الوسع.
(4) إبرام الأمور غير القطعية بالتراضي والتشاور.
وهذه القواعد ظاهرة صريحة في آية {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف، لا تكلف نفس إلا وسعها، لا تضارّ والدة بولدها ولا مولود له بولده، وعلى الوارث مثل ذلك، فإن أراد فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليها 233} ولو عمل المسلمون بهذه القواعد وأمثالها من أحكام الكتاب والسنة لكانوا أسعد الأمم في بيوتهم، ولما وجد من أعدائهم ولا من زنادقتهم من يهذي بإسناد ظلم النساء إلى الإسلام، أو حاجة المسلمين إلى تقليد غيرهم في شيء من إصلاح البيوت (العائلات).
(القاعدة الثامنة والعشرون): جعل سد ذرائع الفساد والشر وتقرير المصالح وإقامة الحق والعدل في تنازع الناس بعضهم مع بعض – مناطا للتشريع وأصلا من أصول الأحكام الاجتهادية، وذلك أن الله تعالى علل به شرعه للقتال، ومنته عليه نبيه داود وجنده بالنصر على عدوهم؛ وما ترتب عليه من إيتائه الحكم والنبوة إذ قال {فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض. ولكن الله ذو فضل على العالمين 251} وفي معناه تعليل الإذن للمسلمين في القتال أول مرة بآيات صورة الحج التي استشهدنا به في القاعدة العشرين {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا} وما هنا أعم؛ لأنه يشمل درء هذه المفسدة في الدين وغيرها من الفساد الديني والدنيوي، وهو المتأخر في النزول.
(القاعدة التاسعة والعشرون): أن الإيمان بلقاء الله تعالى في الآخرة والاعتصام بالصبر الذي هو من أركان البر وكماله من ثمرات الإيمان سببان من أسباب نصر العدد القليل على العدد الكثير وذلك قوله عز وجل {قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين 250}
(القاعدة الثلاثون): تحريم أكل أموال الناس بالباطل في "آية 188" وهي أصل لكل المحرمات ومن أدلتها تعليل تحريم الربا بعد الأمر بترك ما كان باقيا لأصحابه منه لدى المدينين بقوله تعالى {فإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون 281} فإن الذي كان يقرض المحتاج بالربا إلى أجل إذا حل قال له: إما أن تقضي وإما أن تربي. فإن لم يجد ما يقضي به أنسأ له في الدين إلى أجل آخر بمثل الربا الأول فإذا حل الأجل الثاني قال له. إما أن تقضي وإما أن تربي – وهلم جرا – فكل ما يأخذه من هذه الزيادات باطل لا مقابل له وهو ظلم. وأما العقود والمعاملات التي لا ظلم فيها بأكل مال أحد المتعاقدين بالباطل فليست من الربا.
(القاعدة الحادية والثلاثون): أن عمل كل إنسان له أو عليه، لا يجزى إلا به ولا يجزى به سواء، فلا ينفعه علم غيره ولا يضره، وذلك قوله تعالى في خاتمة هذه السورة {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} ويعززها قوله تعالى في الآية التي ورد أنها آخر آية نزلت من القرآن، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها بعد آيات الربا من هذه السورة وهي {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون 281} وإن لم ترد بصيغة الحصر، وفيه آيات كثيرة. فقد سبق بيان هذه القاعدة من قواعد العقائد في بعض السور المكية التي نزلت قبلها، كقوله تعالى في سورة النجم {53: 38 ألاّ تزر وازرة وزر أخرى 39 وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} الخ وكقوله في سورة الأنعام {6: 165 ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى} ويجد القارئ في تفسير هذه الآية من الجزء الثامن ما يؤيد هذه القاعدة من الشواهد وما جعلوه معارضا لها مخصصا لعمومها من انتفاع الميت والحي بعمل غيره وما يصح منه وما لا يصح، وكون الصحيح منه لا ينافي عموم القاعدة.
(القاعدة الثانية والثلاثون): بيان بطلان الشفاعة الوثنية التي كانت أساس شرك العرب ومن قبلهم، وهي التقرب إلى غير الله تعالى بالدعاء وغيره ليشفعوا لهم عند الله تعالى فيكشف ما بهم من ضر، ويؤتيهم ما طلبوا من نفع. وزاد عليهم مشركو أهل الكتاب والمؤمنين بالبعث، والاعتماد على الشفعاء بالنجاة من عذاب الآخرة قال تعالى: {10: 18 ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} الآية وقد نفى الله تعالى هذه الشفاعة بقوله من هذه السورة خطابا لهذه الأمة {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة 253} وقوله في خطاب بني إسرائيل {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون 47} وفي معناها آية 122. وأما الشفاعة الثابتة في الأحاديث فهي غير هذه ولا تنافي التوحيد وكون الشفاعة لله جميعا وسيأتي بيانها.
(القاعدة الثالثة الثلاثون): بناء أصول الدين في العقائد وحكمة التشريع على إدراك العقل لها واستبانته لما فيها من الحق والعدل ومصالح العباد، وسد ذرائع الفساد، والشاهد عليه من هذه السورة قوله تعالى في الاستدلال على توحيده بآياته في السموات والأرض وما بينهما: {إن في خلق السموات والأرض – إلى قوله – لآيات لقوم يعقلون 164} ثم قوله في إبطال التقليد: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل قالوا بل نتبع ما ألقينا عليه آباءنا. أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون 170} وكذلك قال تعالى بعد ذكر طائفة من الأحكام العملية: {كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون 242}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة من أوائل ما نزل من السور بعد الهجرة، وهي أطول سور القرآن على الإطلاق. والمرجح أن آياتها لم تنزل متوالية كلها حتى اكتملت قبل نزول آيات من سور أخرى؛ فمراجعة أسباب نزول بعض آياتها وبعض الآيات من السور المدنية الأخرى -وإن تكن هذه الأسباب ليست قطعية الثبوت- تفيد أن السور المدنية الطوال لم تنزل آياتها كلها متوالية؛ إنما كان يحدث أن تنزل آيات من سورة لاحقة قبل استكمال سورة سابقة نزلت مقدماتها؛ وأن المعول عليه في ترتيب السور من حيث النزول هو سبق نزول أوائلها -لا جميعها- وفي هذه السورة آيات في أواخر ما نزل من القرآن كآيات الربا، في حين أن الراجح أن مقدماتها كانت من أول ما نزل من القرآن في المدينة.
فأما تجميع آيات كل سورة في السورة، وترتيب هذه الآيات، فهو توقيفي موحى به.. روى الترمذي -بإسناده- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين، وقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر: بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطوال؟ وما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله [ص] كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد؛ فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب، فيقول:"ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا". وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن؛ وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وخشيت أنها منها؛ وقبض رسول الله [ص] ولم يبين لنا أنها منها. فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر: بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتها في السبع الطوال.
فهذه الرواية تبين أن ترتيب الآيات في كل سورة كان بتوقيف من رسول الله [ص] وقد روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان النبي [ص] أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي [ص] القرآن، وفي رواية فيدارسه القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة. ومن الثابت أن رسول الله [ص] وقد قرأ القرآن كله على جبريل -عليه السلام- كما أن جبريل قد قرأه عليه.. ومعنى هذا أنهما قرآه مرتبة آياته في سوره.
ومن ثم يلحظ من يعيش في ظلال القرآن أن لكل سورة من سوره شخصية مميزة! شخصية لها روح يعيش معها القلب كما لو كان يعيش مع روح حي مميز الملامح والسمات والأنفاس! ولها موضوع رئيسي أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة إلى محور خاص. ولها جو خاص يظلل موضوعاتها كلها؛ ويجعل سياقها يتناول هذه الموضوعات من جوانب معينة، تحقق التناسق بينها وفق هذا الجو. ولها إيقاع موسيقي خاص -إذا تغير في ثنايا السياق فإنما يتغير لمناسبة موضوعية خاصة.. وهذا طابع عام في سور القرآن جميعا. ولا يشذ عن هذه القاعدة طوال السور كهذه السورة.
هذه السورة تضم عدة موضوعات، ولكن المحور الذي يجمعها كلها محور واحد مزدوج يترابط الخطان الرئيسيان فيه ترابطا شديدا.. فهي من ناحية تدور حول موقف بني إسرائيل من الدعوة الإسلامية في المدينة، واستقبالهم لها، ومواجهتهم لرسولها [ص] وللجماعة المسلمة الناشئة على أساسها... وسائر ما يتعلق بهذا الموقف بما فيه تلك العلاقة القوية بين اليهود والمنافقين من جهة، وبين اليهود والمشركين من جهة أخرى.. وهي من الناحية الأخرى تدور حول موقف الجماعة المسلمة في أول نشأتها؛ وإعدادها لحمل أمانة الدعوة والخلافة في الأرض، بعد أن تعلن السورة نكول بني إسرائيل عن حملها، ونقضهم لعهد الله بخصوصها، وتجريدهم من شرف الانتساب الحقيقي لإبراهيم- عليه السلام -صاحب الحنيفية الأولى، وتبصير الجماعة المسلمة وتحذيرها من العثرات التي سببت تجريد بني إسرائيل من هذا الشرف العظيم.. وكل موضوعات السورة تدور حول هذا المحور المزدوج بخطيه الرئيسيين، كما سيجيئ في استعراضها التفصيلي.
ولكي يتضح مدى الارتباط بين محور السورة وموضوعاتها من جهة، وبين خط سير الدعوة أول العهد بالمدينة، وحياة الجماعة المسلمة وملابساتها من الجهة الأخرى.. يحسن أن نلقي ضوءا على مجمل هذه الملابسات التي نزلت آيات السورة لمواجهتها ابتداء. مع التنبيه الدائم إلى أن هذه الملابسات في عمومها هي الملابسات التي ظلت الدعوة الإسلامية وأصحابها يواجهونها- مع اختلاف يسير -على مر العصور وكر الدهور؛ من أعدائها وأوليائها على السواء. مما يجعل هذه التوجيهات القرآنية هي دستور هذه الدعوة الخالد؛ ويبث في هذه النصوص حياة تتجدد لمواجهة كل عصر وكل طور؛ ويرفعها معالم للطريق أمام الأمة المسلمة تهتدي بها في طريقها الطويل الشاق، بين العداوات المتعددة المظاهر المتوحدة الطبيعة.. وهذا هو الإعجاز يتبدى جانب من جوانبه في هذه السمة الثابتة المميزة في كل نص قرآني.
لقد تمت هجرة الرسول [ص] إلى المدينة بعد تمهيد ثابت وإعداد محكم. تمت تحت تأثير ظروف حتمت هذه الهجرة؛ وجعلتها إجراء ضروريا لسير هذه الدعوة في الخط المرسوم الذي قدره الله لها بتدبيره.. كان موقف قريش العنيد من الدعوة في مكة- وبخاصة بعد وفاة خديجة -رضي الله عنها- وموت أبي طالب كافل النبي وحاميه.. كان هذا الموقف قد انتهى إلى تجميد الدعوة تقريبا في مكة وما حولها. ومع استمرار دخول أفراد في الإسلام على الرغم من جميع الاضطهادات والتدبيرات فإن الدعوة كانت تعتبر قد تجمدت فعلا في مكة وما حولها، بموقف قريش منها، وتحالفهم على حربها بشتى الوسائل، مما جعل بقية العرب تقف موقف التحرز والانتظار، في ارتقاب نتيجة المعركة بين الرسول وعشيرته الأقربين، وعلى رأسهم أبو لهب وعمرو بن هشام وأبو سفيان بن حرب وغيرهم ممن يمتون بصلة القرابة القوية لصاحب الدعوة. وما كان هناك ما يشجع العرب في بيئة قبلية لعلاقات القرابة عندها وزن كبير، على الدخول في عقيدة رجل تقف منه عشيرته هذا الموقف. وبخاصة أن عشيرته هذه هي التي تقوم بسدانة الكعبة، وهي التي تمثل الناحية الدينية في الجزيرة!
ومن ثم كان بحث الرسول [ص] عن قاعدة أخرى غير مكة، قاعدة تحمي هذه العقيدة وتكفل لها الحرية، ويتاح لها فيها أن تخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في مكة. حيث تظفر بحرية الدعوة وبحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة.. وهذا في تقديري كان هو السبب الأول والأهم للهجرة.
ولقد سبق الاتجاه إلى يثرب، لتكون قاعدة للدعوة الجديدة، عدة اتجاهات.. سبقها الاتجاه إلى الحبشة، حيث هاجر إليها كثير من المؤمنين الأوائل. والقول بأنهم هاجروا إليها لمجرد النجاة بأنفسهم لا يستند إلى قرائن قوية. فلو كان الأمر كذلك لهاجر إذن أقل الناس جاها وقوة ومنعة من المسلمين. غير أن الأمر كان على الضد من هذا، فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب عليهم معظم الاضطهاد والتعذيب والفتنة لم يهاجروا. إنما هاجر رجال ذوو عصبيات، لهم من عصبيتهم -في بيئة قبلية- ما يعصمهم من الأذى، ويحميهم من الفتنة؛ وكان عدد القرشيين يؤلف غالبية المهاجرين، منهم جعفر بن أبي طالب -وأبوه وفتيان بني هاشم معه هم الذين كانوا يحمون النبي [ص] ومنهم الزبير بن العوام، وعبد الرحمن ابن عوف، وأبو سلمة المخزومي، وعثمان بن عفان الأموي...
وغيرهم. وهاجرت نساء كذلك من أشرف بيوتات مكة ما كان الأذى لينالهن أبدا.. وربما كان وراء هذه الهجرة أسباب أخرى كإثارة هزة في أوساط البيوت الكبيرة في قريش؛ وأبناؤها الكرام المكرمون يهاجرون بعقيدتهم، فرارا من الجاهلية، تاركين وراءهم كل وشائج القربى، في بيئة قبلية تهزها هذه الهجرة على هذا النحو هزا عنيفا؛ وبخاصة حين يكون من بين المهاجرين مثل أم حبيبة، بنت أبي سفيان، زعيم الجاهلية، وأكبر المتصدين لحرب العقيدة الجديدة وصاحبها.. ولكن مثل هذه الأسباب لا ينفي احتمال أن تكون الهجرة إلى الحبشة أحد الاتجاهات المتكررة في البحث عن قاعدة حرة، أو آمنة على الأقل للدعوة الجديدة. وبخاصة حين نضيف إلى هذا الاستنتاج ما ورد عن إسلام نجاشي الحبشة. ذلك الإسلام الذي لم يمنعه من إشهاره نهائيا إلا ثورة البطارقة عليه، كما ورد في روايات صحيحة.
كذلك يبدو اتجاه الرسول [ص] إلى الطائف محاولة أخرى لإيجاد قاعدة حرة أو آمنة على الأقل للدعوة.. وهي محاولة لم تكلل بالنجاح لأن كبراء ثقيف استقبلوا رسول الله [ص] أسوأ استقبال، وسلطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم يرجمونه بالحجارة، حتى أدموا قدميه الشريفتين، ولم يتركوه حتى آوى إلى حائط [أي حديقة] لعتبة وشيبة ابني ربيعة.. وهناك انطلق لسانه بذلك الدعاء الخالص العميق: "اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى عدو ملكته أمري! أم بعيد يتجهمني؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي. ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك".
بعد ذلك فتح الله على الرسول [ص] وعلى الدعوة من حيث لا يحتسب، فكانت بيعة العقبة الأولى، ثم بيعة العقبة الثانية. وهما ذواتا صلة قوية بالموضوع الذي نعالجه في مقدمة هذه السورة، وبالملابسات التي وجدت حول الدعوة في المدينة.
وقصة ذلك في اختصار: أن النبي [ص] التقى قبل الهجرة إلى يثرب بسنتين بجماعة من الخزرج في موسم الحج، حيث كان يعرض نفسه ودعوته على الوافدين للحج؛ ويطلب حاميا يحميه حتى يبلغ دعوة ربه. وكان سكان يثرب من العرب- الأوس والخزرج -يسمعون من اليهود المقيمين معهم، أن هنالك نبيا قد أطل زمانه؛ وكانت يهود تستفتح به على العرب، أي تطلب أن يفتح لهم على يديه، وأن يكون معهم على كل من عداهم. فلما سمع وفد الخزرج دعوة النبي [ص] قال بعضهم لبعض: تعلمن والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه.. وأجابوه لما دعاهم. وقالوا له: إننا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم. فعسى الله أن يجمعهم بك.. ولما عادوا إلى قومهم، وعرضوا الأمر عليهم، ارتاحوا له، ووافقوا عليه.
فلما كان العام التالي وافى الموسم جماعة من الأوس والخزرج، فالتقوا بالنبي [ص] وبايعوه على الإسلام. وقد أرسل معهم من يعلمهم أمر دينهم.
وفي الموسم التالي وفد عليه جماعة كبيرة من الأوس والخزرج كذلك، فطلبوا أن يبايعوه، وتمت البيعة بحضور العباس عم النبي [ص] على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأموالهم. وتسمى هذه البيعة الثانية بيعة العقبة الكبرى.. ومما وردت به الروايات في هذه البيعة ما قاله محمد بن كعب القرظي: قال عبد الله بن رواحة- رضي الله عنه -لرسول الله [ص] يعني ليلة العقبة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: "اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا؛ واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم". قال: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال:"الجنة". قالوا: ربح البيع ولا نقيل ولا نستقبل!
وهكذا أخذوا الأمر بقوة.. ومن ثم فشا الإسلام في المدينة، حتى لم يبق فيها بيت لم يدخله الإسلام. وأخذ المسلمون في مكة يهاجرون إلى المدينة تباعا، تاركين وراءهم كل شيء، ناجين بعقيدتهم وحدها، حيث لقوا من إخوانهم الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم، من الإيثار والإخاء ما لم تعرف له الإنسانية نظيرا قط. ثم هاجر رسول الله [ص] وصاحبه الصديق. هاجر إلى القاعدة الحرة القوية الآمنة التي بحث عنها من قبل طويلا.. وقامت الدولة الإسلامية في هذه القاعدة منذ اليوم الأول لهجرة الرسول [ص].
من أولئك السابقين من المهاجرين والأنصار تكونت طبقة ممتازة من المسلمين نوه القرآن بها في مواضع كثيرة. وهنا نجد السورة تفتتح بتقرير مقومات الإيمان، وهي تمثل صفة المؤمنين الصادقين إطلاقا. ولكنها أولا تصف ذلك الفريق من المسلمين الذي كان قائما بالمدينة حينذاك: (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون. والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون..)
ثم نجد بعدها مباشرة في السياق وصفا للكفار؛ وهو يمثل مقومات الكفر على الإطلاق. ولكنه أولا وصف مباشر للكفار الذين كانت الدعوة تواجههم حينذاك، سواء في مكة أو فيما حول المدينة ذاتها من طوائف الكفار: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة، ولهم عذاب عظيم)..
كذلك كانت هناك طائفة المنافقين. ووجود هذه الطائفة نشأ مباشرة من الأوضاع التي أنشأتها الهجرة النبوية إلى المدينة في ظروفها التي تمت فيها، والتي أشرنا إليها من قبل؛ ولم يكن لها وجود بمكة. فالإسلام في مكة لم تكن له دولة ولم تكن له قوة، بل لم تكن له عصبة يخشاها أهل مكة فينافقونها. على الضد من ذلك كان الإسلام مضطهدا، وكانت الدعوة مطاردة، وكان الذين يغامرون بالانضمام إلى الصف الإسلامي هم المخلصون في عقيدتهم، الذين يؤثرونها على كل شيء ويحتملون في سبيلها كل شيء. فأما في يثرب التي أصبحت منذ اليوم تعرف باسم المدينة- أي مدينة الرسول -فقد أصبح الإسلام قوة يحسب حسابها كل أحد؛ ويضطر لمصانعتها كثيرا أو قليلا- وبخاصة بعد غزوة بدر وانتصار المسلمين فيها انتصارا عظيما -وفي مقدمة من كان مضطرا لمصانعتها نفر من الكبراء، دخل أهلهم وشيعتهم في الإسلام وأصبحوا هم ولا بد لهم لكي يحتفظوا بمقامهم الموروث بينهم وبمصالحهم كذلك أن يتظاهروا باعتناق الدين الذي اعتنقه أهلهم وأشياعهم. ومن هؤلاء عبد الله بن أبي بن سلول الذي كان قومه ينظمون له الخرز ليتوجوه ملكا عليهم قبيل مقدم الإسلام على المدينة..
وسنجد في أول السورة وصفا مطولا لهؤلاء المنافقين، ندرك من بعض فقراته أن المعني بهم في الغالب هم أولئك الكبراء الذين أرغموا على التظاهر بالإسلام، ولم ينسوا بعد ترفعهم على جماهير الناس، وتسمية هذه الجماهير بالسفهاء على طريقة العلية المتكبرين!: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين. يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون. في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا؛ ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون. وإذا قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض قالوا: إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون. وإذا قيل لهم: آمنوا كما آمن الناس قالوا: أنؤمن كما آمن السفهاء؟ ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون. وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزؤون. الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون. أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم، وما كانوا مهتدين. مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم، وتركهم في ظلمات لا يبصرون. صم بكم عمي فهم لا يرجعون. أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق، يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت، والله محيط بالكافرين. يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم، إن الله على كل شيء قدير..)
وفي ثنايا هذه الحملة على المنافقين- الذين في قلوبهم مرض -نجد إشارة إلى (شياطينهم). والظاهر من سياق السورة ومن سياق الأحداث في السيرة أنها تعني اليهود، الذين تضمنت السورة حملات شديدة عليهم فيما بعد. أما قصتهم مع الدعوة فنلخصها في هذه السطور القليلة:
لقد كان اليهود هم أول من اصطدم بالدعوة في المدينة؛ وكان لهذا الاصطدام أسبابه الكثيرة.. كان لليهود في يثرب مركز ممتاز بسبب أنهم أهل كتاب بين الأميين من العرب- الأوس والخزرج -ومع أن مشركي العرب لم يظهروا ميلا لاعتناق ديانة أهل الكتاب هؤلاء، إلا أنهم كانوا يعدونهم أعلم منهم وأحكم بسبب ما لديهم من كتاب. ثم كان هنالك ظرف موات لليهود فيما بين الأوس والخزرج من فرقة وخصام- وهي البيئة التي يجد اليهود دائما لهم فيها عملا! -فلما أن جاء الإسلام سلبهم هذه المزايا جميعا.. فلقد جاء بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه. ثم إنه أزال الفرقة التي كانوا ينفذون من خلالها للدس والكيد وجر المغانم، ووحد الصف الإسلامي الذي ضم الأوس والخزرج، وقد أصبحوا منذ اليوم يعرفون بالأنصار، إلى المهاجرين، وألف منهم جميعا ذلك المجتمع المسلم المتضام المتراص الذي لم تعهد له البشرية من قبل ولا من بعد نظيرا على الإطلاق.
ولقد كان اليهود يزعمون أنهم شعب الله المختار، وأن فيهم الرسالة والكتاب. فكانوا يتطلعون أن يكون الرسول الأخير فيهم كما توقعوا دائما. فلما أن جاء من العرب ظلوا يتوقعون أن يعتبرهم خارج نطاق دعوته، وأن يقصر الدعوة على الأميين من العرب! فلما وجدوه يدعوهم- أول من يدعو -إلى كتاب الله، بحكم أنهم أعرف به من المشركين، وأجدر بالاستجابة له من المشركين.. أخذتهم العزة بالإثم، وعدوا توجيه الدعوة إليهم إهانة واستطالة!
ثم إنهم حسدوا النبي [ص] حسدا شديدا. حسدوه مرتين: مرة لأن الله اختاره وأنزل عليه الكتاب- وهم لم يكونوا يشكون في صحته -وحسدوه لما لقيه من نجاح سريع شامل في محيط المدينة.
على أنه كان هناك سبب آخر لحنقهم ولموقفهم من الإسلام موقف العداء والهجوم منذ الأيام الأولى: ذلك هو شعورهم بالخطر من عزلهم عن المجتمع المدني الذي كانوا يزاولون فيه القيادة العقلية والتجارة الرابحة والربا المضعف! هذا أو يستجيبوا للدعوة الجديدة. ويذوبوا في المجتمع الإسلامي. وهما أمران- في تقديرهم -أحلاهما مر!
لهذا كله وقف اليهود من الدعوة الإسلامية هذا الموقف الذي تصفه سورة البقرة، [وسور غيرها كثيرة] في تفصيل دقيق، نقتطف هنا بعض الآيات التي تشير إليه.. جاء في مقدمة الحديث عن بني إسرائيل هذ النداء العلوي لهم: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون. وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم. ولا تكونوا أول كافر به، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا، وإياي فاتقون. ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون. وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين. أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم؟ وأنتم تتلون الكتاب؟ أفلا تعقلون؟).. وبعد تذكيرهم طويلا بمواقفهم مع نبيهم موسى- عليه السلام -وجحودهم لنعم الله عليهم، وفسوقهم عن كتابهم وشريعتهم.. ونكثهم لعهد الله معهم.. جاء في سياق الخطاب لتحذير المسلمين منهم: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون؟ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم؟ أفلا تعقلون؟).. (وقالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة. قل: أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده؟ أم تقولون على الله ما لا تعلمون؟).. (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلعنة الله على الكافرين)... (وإذا قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله. قالوا: نؤمن بما أنزل علينا، ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم)... (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون)... (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم)... (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق)... (وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. تلك أمانيهم)... (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)... الخ الخ.
وكانت معجزة القرآن الخالدة أن صفتهم التي دمغهم بها هي الصفة الملازمة لهم في كل أجيالهم من قبل الإسلام ومن بعده إلى يومنا هذا. مما جعل القرآن يخاطبهم- في عهد النبي [ص] كما لو كانوا هم أنفسهم الذين كانوا على عهد موسى -عليه السلام- وعلى عهود خلفائه من أنبيائهم باعتبارهم جبلة واحدة. سماتهم هي هي، ودورهم هو هو، وموقفهم من الحق والخلق موقفهم على مدار الزمان! ومن ثم يكثر الالتفات في السياق من خطاب قوم موسى، إلى خطاب اليهود في المدينة، إلى خطاب أجيال بين هذين الجيلين. ومن ثم تبقى كلمات القرآن حية كأنما تواجه موقف الأمة المسلمة اليوم وموقف اليهود منها. وتتحدث عن استقبال يهود لهذه العقيدة ولهذه الدعوة اليوم وغدا كما استقبلتها بالأمس تماما! وكأن هذه الكلمات الخالدة هي التنبيه الحاضر والتحذير الدائم للأمة المسلمة، تجاه أعدائها الذين واجهوا أسلافها بما يواجهونها اليوم به من دس وكيد، وحرب منوعة المظاهر، متحدة الحقيقة!
وهذه السورة التي تضمنت هذا الوصف، وهذا التنبيه، وهذا التحذير، تضمنت كذلك بناء الجماعة المسلمة وإعدادها لحمل أمانة العقيدة في الأرض بعد نكول بني إسرائيل عن حملها قديما، ووقوفهم في وجهها هذه الوقفة أخيرا..
تبدأ السورة -كما أسلفنا- بوصف تلك الطوائف التي كانت تواجه الدعوة أول العهد بالهجرة -بما في ذلك تلك الإشارة إلى الشياطين اليهود الذين يرد ذكرهم فيما بعد مطولا- وتلك الطوائف هي التي تواجه هذه الدعوة على مدار التاريخ بعد ذلك. ثم تمضي السورة على محورها بخطيه الأساسيين إلى نهايتها. في وحدة ملحوظة، تمثل الشخصية الخاصة للسورة، مع تعدد الموضوعات التي تتناولها وتنوعها.
فبعد استعراض النماذج الثلاثة الأولى: المتقين. والكافرين. والمنافقين. وبعد الإشارة الضمنية لليهود الشياطين.. نجد دعوة للناس جميعا إلى عبادة الله والإيمان بالكتاب المنزل على عبده. وتحدي المرتابين فيه أن يأتوا بسورة من مثله. وتهديد الكافرين بالنار وتبشير المؤمنين بالجنة.. ثم نجد التعجيب من أمر الذين يكفرون بالله: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم، ثم يميتكم ثم يحييكم، ثم إليه ترجعون! هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، وهو بكل شيء عليم)..
وعند هذا المقطع الذي يشير إلى خلق ما في الأرض جميعا للناس تجيء قصة استخلاف آدم في الأرض: (وإذ قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة).. وتمضي القصة تصف المعركة الخالدة بين آدم والشيطان حتى تنتهي بعهد الاستخلاف -وهو عهد الإيمان -: (قلنا: اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)..
بعد هذا يبدأ السياق جولة واسعة طويلة مع بني إسرائيل- أشرنا إلى فقرات منها فيما سبق -تتخللها دعوتهم للدخول في دين الله وما أنزله الله مصدقا لما معهم مع تذكيرهم بعثراتهم وخطاياهم والتوائهم وتلبيسهم منذ أيام موسى- عليه السلام -وتستغرق هذه الجولة كل هذا الجزء الأول من السورة.
ومن خلال هذه الجولة ترتسم صورة واضحة لاستقبال بني إسرائيل للإسلام ورسوله وكتابه.. لقد كانوا أول كافر به. وكانوا يلبسون الحق بالباطل. وكانوا يأمرون الناس بالبر- وهو الإيمان -وينسون أنفسهم. وكانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه. وكانوا يخادعون الذين آمنوا بإظهار الإيمان وإذا خلا بعضهم إلى بعض حذر بعضهم بعضا من إطلاع المسلمين على ما يعلمونه من أمر النبي وصحة رسالته! وكانوا يريدون أن يردوا المسلمين كفارا. وكانوا يدعون من أجل هذا أن المهتدين هم اليهود وحدهم- كما كان النصارى يدعون هذا أيضا -وكانوا يعلنون عداءهم لجبريل- عليه السلام -بما أنه هو الذي حمل الوحي إلى محمد دونهم! وكانوا يكرهون كل خير للمسلمين ويتربصون بهم السوء. وكانوا ينتهزون كل فرصة للتشكيك في صحة الأوامر النبوية ومجيئها من عند الله تعالى- كما فعلوا عند تحويل القبلة -وكانوا مصدر إيحاء وتوجيه للمنافقين. كما كانوا مصدر تشجيع للمشركين.
ومن ثم تتضمن السورة حملة قوية على أفاعيلهم هذه؛ وتذكرهم بمواقفهم المماثلة من نبيهم موسى- عليه السلام -ومن شرائعهم وأنبيائهم على مدار أجيالهم. وتخاطبهم في هذا كأنهم جيل واحد متصل، وجبلة واحدة لا تتغير ولا تتبدل.
وتنتهي هذه الحملة بتيئيس المسلمين من الطمع في إيمانهم لهم، وهم على هذه الجبلة الملتوية القصد، المؤوفة الطبع. كما تنتهي بفصل الخطاب في دعواهم أنهم وحدهم المهتدون، بما أنهم ورثة إبراهيم. وتبين أن ورثة إبراهيم الحقيقيين هم الذين يمضون على سنته، ويتقيدون بعهده مع ربه؛ وأن وراثة إبراهيم قد انتهت إذن إلى محمد [ص] والمؤمنين به، بعد ما انحرف اليهود وبدلوا ونكلوا عن حمل أمانة العقيدة، والخلافة في الأرض بمنهج الله؛ ونهض بهذا الأمر محمد والذين معه. وأن هذا كان استجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام -وهما يرفعان القواعد من البيت: (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم. ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، إنك أنت العزيز الحكيم).
وعند هذا الحد يبدأ سياق السورة يتجه إلى النبي [ص] وإلى الجماعة المسلمة من حوله؛ حيث يأخذ في وضع الأسس التي تقوم عليها حياة هذا الجماعة المستخلفة على دعوة الله في الأرض، وفي تمييز هذه الجماعة بطابع خاص، وبمنهج في التصور وفي الحياة خاص.
ويبدأ في هذا بتعيين القبلة التي تتجه إليها هذه الجماعة. وهي البيت المحرم الذي عهد الله لإبراهيم وإسماعيل أن يقيماه ويطهراه ليعبد فيه الله وحده، هذه القبلة التي كان النبي [ص] يرغب ولا يصرح في الاتجاه إليها: (قد نرى تقلب وجهك في السماء، فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره)..
ثم تمضي السورة في بيان المنهج الرباني لهذه الجماعة المسلمة. منهج التصور والعبادة، ومنهج السلوك والمعاملة، تبين لها أن الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتا بل أحياء. وأن الإصابة بالخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات ليس شرا يراد بها، إنما هو ابتلاء، ينال الصابرون عليه صلوات الله ورحمته وهداه. وأن الشيطان يعد الناس الفقر ويأمرهم بالفحشاء والله يعدهم مغفرة منه وفضلا. وأن الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات.. وتبين لهم بعض الحلال والحرام في المطاعم والمشارب. وتبين لهم حقيقة البر لا مظاهره وأشكاله. وتبين لهم أحكام القصاص في القتلى. وأحكام الوصية. وأحكام الصوم. وأحكام الجهاد. وأحكام الحج. وأحكام الزواج والطلاق مع التوسع في دستور الأسرة بصفة خاصة. وأحكام الصدقة وأحكام الربا. وأحكام الدين والتجارة...
وفي مناسبات معينة يرجع السياق إلى الحديث عن بني إسرائيل من بعد موسى. وعن حلقات من قصة إبراهيم. ولكن جسم السورة- بعد الجزء الأول منها -ينصرف إلى بناء الجماعة المسلمة، وإعدادها لحمل أمانة العقيدة، والخلافة في الأرض بمنهج الله وشريعته. وتمييزها بتصورها الخاص للوجود، وارتباطها بربها الذي اختارها لحمل هذه الأمانة الكبرى.
وفي النهاية نرى ختام السورة ينعطف على افتتاحها، فيبين طبيعة التصور الإيماني، وإيمان الأمة المسلمة بالأنبياء كلهم، وبالكتب كلها وبالغيب وما وراءه، مع السمع والطاعة: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير. لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا، فانصرنا على القوم الكافرين..)
ومن ثم يتناسق البدء والختام، وتتجمع موضوعات السورة بين صفتين من صفات المؤمنين وخصائص الإيمان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كذا سميت هذه السورة سورة البقرة في المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وما جرى في كلام السلف، فقد ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه، وفيه عن عائشة لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا قرأهن رسول الله ثم قام فحرم التجارة في الخمر.
ووجه تسميتها أنها ذكرت فيها قصة البقرة التي أمر الله بني إسرائيل بذبحها لتكون آية ووصف سوء فهمهم لذلك، وهي مما انفردت به هذه السورة بذكره، وعندي أنها أضيفت إلى قصة البقرة تمييزا لها عن السور آلم من الحروف المقطعة لأنهم كانوا ربما جعلوا تلك الحروف المقطعة أسماء للسور الواقعة هي فيها وعرفوها بها نحو: طه، ويس، وص.
وفي الاتفاق عن المستدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنها سنام القرآن، وسنام كل شيء أعلاه، وهذا ليس علَما لها، ولكنه وصف تشريف. وكذلك قول خالد بن معدان إنها فسطاط القرآن والفسطاط ما يحيط بالمكان لإحاطتها بأحكام كثيرة.
نزلت سورة البقرة بالمدينة بالاتفاق، وهي أول ما نزل في المدينة، وحكى ابن حجر في شرح البخاري الاتفاق عليه، وقيل نزلت سورة المطففين قبلها بناء على أن سورة المطففين مدنية، ولا شك أن سورة البقرة فيها فرض الصيام، والصيام فرض في السنة الأولى من الهجرة، فرض فيها صوم عاشوراء ثم فرض صيام رمضان في السنة الثانية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام سبع رمضانات؛ أولها رمضان من العام الثاني من الهجرة. فتكون سورة البقرة نزلت في السنة الأولى من الهجرة في أواخرها أو في الثانية. وفي البخاري عن عائشة: ما نزلت سورة البقرة إلا وأنا عنده، -تعني النبي صلى الله عليه وسلم- وكان بناء رسول الله على عائشة في شوال من السنة الأولى للهجرة. وقيل في أول السنة الثانية، وقد روى عنها أنها مكثت عنده تسع سنين فتوفي وهي بنت ثمان عشرة سنة، وبنى بها وهي بنت تسع سنين، إلا أن اشتمال سورة البقرة على أحكام الحج والعمرة، وعلى أحكام القتال مع المشركين في الشهر الحرام والبلد الحرام ينبئ بأنها استمر نزولها إلى سنة خمس وسنة ست كما سنبينه عند آية {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} وقد يكون ممتدا إلى ما بعد سنة ثمان كما يقتضيه قوله {الحج أشهر معلومات} الآيات إلى قوله {لمن اتقى}. على أنه قد قيل إن قوله {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله} الآية هو آخر ما نزل من القرآن، وقد بينا في المقدمة الثامنة أنه قد يستمر نزول السورة فتنزل في أثناء مدة نزولها سور أخرى...
وإذ قد كان نزول هذه السورة في أول عهد بإقامة الجامعة الإسلامية واستقلال أهل الإسلام بمدينتهم، كان من أول أغراض هذه السورة تصفية الجامعة الإسلامية من أن تختلط بعناصر مفسدة لما أقام الله لها من الصلاح سعيا لتكوين المدينة الفاضلة النقية من شوائب الدجل والدخل.
وإذ كانت أول سورة نزلت بعد الهجرة فقد عني بها الأنصار وأكبوا على حفظها، يدل لذلك ما جاء في السيرة أنه لما انكشف المسلمون يوم حنين قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس اصرخ يا معشر الأنصار يا أهل السمرة يعني شجرة البيعة في الحديبية يا أهل سورة البقرة فقال الأنصار: لبيك لبيك يا رسول الله أبشر.
وفي الموطأ قال مالك إنه بلغه أن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها...
هذه السورة مترامية أطرافها، وأساليبها ذات أفنان. قد جمعت من وشائج أغراض السور ما كان مصداقا لتلقيبها فسطاط القرآن. فلا تستطيع إحصاء محتوياتها بحسبان، وعلى الناظر أن يترقب تفاصيل منها فيما يأتي لنا من تفسيرها، ولكن هذا لا يحجم بنا عن التعرض إلى لائحات منها، وقد حيكت بنسج المناسبات والاعتبارات البلاغية من لحمة محكمة في نظم الكلام، وسدى متين من فصاحة الكلمات.
ومعظم أغراضها ينقسم إلى قسمين: قسم يثبت سمو هذا الدين على ما سبقه وعلو هديه وأصول تطهيره النفوس، وقسم يبين شرائع هذا الدين لأتباعه وإصلاح مجتمعهم.
وكان أسلوبها أحسن ما يأتي عليه أسلوب جامع لمحاسن الأساليب الخطابية، وأساليب الكتب التشريعية، وأساليب التذكير والموعظة، يتجدد بمثله نشاط السامعين بتفنن الأفانين، ويحضر لنا من أغراضها أنها ابتدئت بالرمز إلى تحدي العرب المعاندين تحديا إجماليا بحروف التهجي المفتتح بها رمزا يقتضي استشرافهم لما يرد بعده وانتظارهم لبيان مقصده، فأعقب بالتنويه بشأن القرآن فتحول الرمز إيماء إلى بعض المقصود من ذلك الرمز له أشد وقع على نفوسهم فتبقى في انتظار ما يتعقبه من صريح التعجيز الذي سيأتي بعد قوله {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} الآيات.
فعدل بهم إلى ذات جهة التنويه بفائق صدق هذا الكتاب وهديه، وتخلص إلى تصنيف الناس تجاه تلقيهم هذا الكتاب وانتفاعهم بهديه أصنافا أربعة وكانوا قبل الهجرة صنفين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك التلقي. وإذ قد كان أخص الأصناف انتفاعا بهديه هم المؤمنين بالغيب المقيمين الصلاة يعني المسلمين ابتدئ بذكرهم، ولما كان أشد الأصناف عنادا وحقدا صنفا المشركين الصرحاء والمنافقين لف الفريقان لفا واحدا فقورعوا بالحجج الدامغة والبراهين الساطعة، ثم خص بالإطناب صنف أهل النفاق تشويها لنفاقهم وإعلانا لدخائلهم ورد مطاعنهم، ثم كان خاتمة ما قرعت به أنوفهم صريح التحدي الذي رمز إليه بدءا تحديا يلجئهم إلى الاستكانة. ويخرس ألسنتهم عن التطاول والإبانة، ويلقى في قرارات أنفسهم مذلة الهزيمة وصدق الرسول الذي تحداهم، فكان ذلك من رد العجز على الصدر فاتسع المجال لدعوة المنصفين إلى عبادة الرب الحق الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض، وأنعم عليهم بما في الأرض جميعا. وتخلص إلى صفة بدء خلق الإنسان فإن في ذلك تذكيرا لهم بالخلق الأول قبل أن توجد أصنامهم التي يزعمونها من صالحي قوم نوح ومن بعدهم، ومنة على النوع بتفضيل أصلهم على مخلوقات هذا العالم، وبمزيته بعلم ما لم يعلمه أهل الملأ الأعلى وكيف نشأت عداوة الشيطان له ولنسله، لتهيئة نفوس السامعين لاتهام شهواتها ولمحاسبتها على دعواتها. فهذه المنة التي شملت كل الأصناف الأربعة المتقدم ذكرها كانت مناسبة للتخلص إلى منة عظمى تخص الفريق الرابع وهم أهل الكتاب الذين هم أشد الناس مقاومة لهدى القرآن، وأنفذ الفرق قولا في عامة العرب لأن أهل الكتاب يومئذ هم أهل العلم ومظنة اقتداء العامة لهم من قوله {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي} الآيات، فأطنب في تذكيرهم بنعم الله وأيامه لهم، ووصف ما لاقوا به نعمه الجمة من الانحراف عن الصراط السوي انحرافا بلغ بهم حد الكفر وذلك جامع لخلاصة تكوين أمة إسرائيل وجامعتهم في عهد موسى، ثم ما كان من أهم أحداثهم مع الأنبياء الذين قفوا موسى إلى أن تلقوا دعوة الإسلام بالحسد والعداوة حتى على الملك جبريل، وبيان أخطائهم، لأن ذلك يلقي في النفوس شكا في تأهلهم للاقتداء بهم. وذكر من ذلك نموذجا من أخلاقهم من تعلق الحياة {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} ومحاولة العمل بالسحر {واتبعوا ما تتلوا الشياطين} الخ وأذى النبي بموجه الكلام {لا تقولوا راعنا}.
ثم قرن اليهود والنصارى والمشركون في قرن حسدهم المسلمين والسخط على الشريعة الجديدة {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين} إلى قوله {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، ثم ما أثير من الخلاف بين اليهود والنصارى وادعاء كل فريق أنه هو المحق {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء} إلى {يختلفون} ثم خص المشركون بأنهم أظلم هؤلاء الأصناف الثلاثة لأنهم منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام وسعوا بذلك في خرابه وأنهم تشابهوا في ذلك هم واليهود والنصارى واتحدوا في كراهية الإسلام.
وانتقل بهذه المناسبة إلى فضائل المسجد الحرام، وبانيه، ودعوته لذريته بالهدى، والاحتراز عن إجابتها في الذين كفروا منهم، وأن الإسلام على أساس ملة إبراهيم وهو التوحيد، وأن اليهودية والنصرانية ليستا ملة إبراهيم، وأن من ذلك الرجوع إلى استقبال الكعبة ادخره الله للمسلمين آية على أن الإسلام هو القائم على أساس الحنيفية، وذكر شعائر الله بمكة، وإبكات أهل الكتاب في طعنهم على تحويل القبلة، وأن العناية بتزكية النفوس أجدر من العناية باستقبال الجهات {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب}. وذكروا بنسخ الشرائع لصلاح الأمم وأنه لا بدع في نسخ شريعة التوراة أو الإنجيل بما هو خير منهما.
ثم عاد إلى محاجة المشركين بالاستدلال بآثار صنعة الله {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك} إلخ، ومحاجة المشركين في يوم يتبرؤون فيه من قادتهم، وإبطال مزاعم دين الفريقين في محرمات من الأكل {يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم}، وقد كمل ذلك بذكر صنف من الناس قليل وهم المشركون الذين لم يظهروا الإسلام ولكنهم أظهروا مودة المسلمين {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا}.
ولما قضي حق ذلك كله بأبدع بيان وأوضح برهان، انتُقل إلى قسم تشريعات الإسلام إجمالا بقوله {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب}، ثم تفصيلا: القصاص، الوصية، الصيام، الاعتكاف، الحج، الجهاد، ونظام المعاشرة والعائلة، المعاملات المالية، والإنفاق في سبيل الله، والصدقات، والمسكرات، واليتامى، والمواريث، والبيوع والربا، والديون، والإشهاد، والرهن، والنكاح، وأحكام النساء، والعدة، والطلاق، والرضاع، والنفقات، والأيمان.
وختمت السورة بالدعاء المتضمن لخصائص الشريعة الإسلامية وذلك من جوامع الكلم فكان هذا الختام تذييلا وفذلكة {لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه} الآيات.
وكانت في خلال ذلك كله أغراض شتى سبقت في معرض الاستطراد في متفرق المناسبات تجديدا لنشاط القارئ والسامع، كما يسفر وجه الشمس إثر نزول الغيوث الهوامع، وتخرج بوادر الزهر عقب الرعود القوارع، من تمجيد الله وصفاته {الله لا اله إلا هو} ورحمته وسماحة الإسلام، وضرب أمثال {أو كصيب} واستحضار نظائر {وإن من الحجارة} {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم} وعلم وحكمة، ومعاني الإيمان والإسلام، وتثبيت المسلمين {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر} والكمالات الأصلية، والمزايا التحسينية، وأخذ الأعمال والمعاني من حقائقها وفوائدها لا من هيئاتها، وعدم الاعتداد بالمصطلحات إذا لم ترم إلى غايات {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها} {ليس البر أن تولوا وجوهكم} {وإخراج أهله منه أكبر عند الله} والنظر والاستدلال، ونظام المحاجة، وأخبار الأمم الماضية، والرسل وتفاضلهم، واختلاف الشرائع.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلفت تراجمة القرآن في تأويل قول الله تعالى ذكره: (الم)
فقال بعضهم: هو اسم من أسماء القرآن.
وقال بعضهم: هو فواتح يفتح الله بها القرآن.
وقال بعضهم: هو اسم الله الأعظم.
وقال بعضهم: هو قَسَمٌ أقسم الله به وهي من أسمائه.
وقال بعضهم: هو حروف مقطعة من أسماء وأفعال، كل حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الآخر.
وقال بعضهم: هي حروف هجاء موضوع.
وقال بعضهم: هي حروف يشتمل كل حرف منها على معان شتى مختلفة.
وقال بعضهم: لكل كتاب سرّ، وسرّ القرآن فواتحه.
وقال بعضهم: الحروف التي هي فواتح السور حروف يستفتح الله بها كلامه.
فإن قيل: هل يكون من القرآن ما ليس له معنى؟ فإن معنى هذا أنه افتتح بها ليعلم أن السورة التي قبلها قد انقضت، وأنه قد أخذ في أخرى، فجعل هذا علامة انقطاع ما بينهما، وذلك في كلام العرب.
ولكل قول من الأقوال التي قالها الذين وصفنا قولهم في ذلك وجه معروف.
والصواب من القول عندي في تأويل مفاتح السور التي هي حروف المعجم: أن الله جل ثناؤه جعلها حروفا مقطعة، ولم يصل بعضها ببعض فيجعلها كسائر الكلام المتصل الحروف؛ لأنه عز ذكره أراد بلفظه الدلالة بكل حرف منه على معان كثيرة لا على معنى واحد...
فإن قال لنا قائل: وكيفَ يجوز أن يكون حرفٌ واحدٌ شاملا الدلالةَ على معانٍ كثيرة مختلفة؟
قيل: كما جاز أن تكون كلمة واحدةٌ تشتمل على معانٍ كثيرة مختلفةٍ، كقولهم للجماعة من الناس: أمَّة، وللحين من الزمان: أمَّة، وللرجل المتعبِّد المطيع لله: أمّة، وللدين والملة: أمّة. وكقولهم للجزاء والقصاص: دين، وللسلطان والطاعة: دين، وللتذلل: دين، وللحساب: دِينٌ، في أشباه لذلك كثيرةٍ يطول الكتاب بإحصائها -مما يكون من الكلام بلفظ واحد، وهو مشتمل على معان كثيرة. وكذلك قول الله جل ثناؤه:"ألم" و"ألر"، و"ألمص" وما أشبه ذلك من حروف المعجم التي هي فواتح أوائل السور، كل حرف منها دالّ على معانٍ شتى، شاملٌ جميعُها من أسماء الله عز وجل وصفاته ما قاله المفسِّرُون من الأقوال التي ذكرناها عنهم. وهنّ، مع ذلك، فواتح السور، كما قاله من قال ذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(الم)... وقيل: إنه من المتشابه الذي لم يطلع الله خلقه على ذلك. ولله أن يمتحن عباده بما شاء من المحن.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله عز وجل: {الم} اختلف فيه المفسرون على ثمانية أقاويل:
الثامن: أنه حروف هجاء أَعلم الله تعالى بها العَرَب حين تحداهم بالقرآن، أنه مُؤلَّف من حروف كلام، هي هذه التي منها بناء كلامهم ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم، إذ لم يخرج عن كلامهم.
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
الحروف المقطعة التي في أوائل بعض السور: من المتشابه الذي نهينا عن اتباعه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
اختلف في الحروف التي في أوائل السورة على قولين:
قال الشعبي عامر بن شراحيل وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين: «هي سرّ الله في القرآن، وهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه، ولا يجب أن يتكلم فيها، ولكن يؤمن بها وتُمَرُّ كما جاءت».
وقال الجمهور من العلماء: «بل يجب أن يُتكلم فيها وتُلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها»
...المسألة الثانية: للناس في قوله تعالى {الم} وما يجري مجراه من الفواتح قولان:
أحدهما: أن هذا علم مستور وسر محجوب استأثر الله تبارك وتعالى به...
القول الثاني: قول من زعم أن المراد من هذه الفواتح معلوم، ثم اختلفوا فيه وذكروا وجوها:
الأول: أنها أسماء السور، وهو قول أكثر المتكلمين واختيار الخليل وسيبويه...
العاشر: ما قاله المبرد واختاره جمع عظيم من المحققين -إن الله تعالى إنما ذكرها احتجاجا على الكفار، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن، أو بعشر سور، أو بسورة واحدة فعجزوا عنه أنزلت هذه الحروف تنبيها على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف، وأنتم قادرون عليها، وعارفون بقوانين الفصاحة، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن، فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند الله لا من البشر،...
والمختار عند أكثر المحققين من هذه الأقوال أنها أسماء السور...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
...والذي أراه لنفسي ولكل من أحبّ السلامة واقتدى بسلف الأمة ألا يتكلم بشيء من ذلك، مع الاعتراف بأن في إنزالها حكمة لله عزّ وجل لا تبلغها عقولنا ولا تهتدي إليها أفهامنا، وإذا انتهيت إلى السلامة في مداك فلا تجاوزه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
في هذا المقطع، الذي يكون افتتاح السورة الكبيرة، نجد الملامح الأساسية للطوائف التي واجهتها الدعوة في المدينة باستثناء طائفة اليهود التي ترد إشارة صغيرة لها، ولكنها كافية، فإن تسميتهم بشياطين المنافقين تشير إلى الكثير من صفاتهم، ومن حقيقة دورهم، حتى يرد التفصيل الكامل بعد قليل.
وفي رسم هذه الملامح نجد خصائص التعبير القرآنية، التي تتجلى في قيام الكلمة مقام الخط واللون، إذ سرعان ما ترتسم الصور من خلال الكلمات؛ ثم سرعان ما تنبض هذه الصور وكأنها تموج بالحياة..
وهنا.. في عدد قليل من الكلمات والعبارات في أول السورة ترتسم ثلاث صور لثلاثة أنماط من النفوس. كل نمط منها نموذج حي لمجموعات ضخمة من البشر. نموذج أصيل عميق متكرر في كل زمان ومكان. حتى ما تكاد البشرية كلها في جميع أعصارها وأقطارها تخرج عن تلك الأنماط الثلاثة.. وهذا هو الإعجاز..
في تلك الكلمات القلائل والآيات المعدودات ترتسم هذه الصور واضحة كاملة، نابضة بالحياة، دقيقة السمات، مميزة الصفات. حتى ما يبلغ الوصف المطول والإطناب المفصل شيئا وراء هذه اللمسات السريعة المبينة، الجميلة النسق، الموسيقية الإيقاع.
فإذا انتهى السياق من عرض هذه الصور الثلاث دعا الناس.. الناس جميعا.. إلى الصورة الأولى؛ وناداهم.
ناداهم كافة.. أن يفيئوا إليها. أن يفيئوا إلى عبادة الله الواحد، والخالق الواحد، والرازق الواحد، بلا شركاء ولا أنداد. وتحدى الذين يرتابون في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وتنزيل الكتاب عليه أن يأتوا بسورة من مثله. وأنذرهم إذا تولوا عذابا مفزعا مرهوبا؛ وبشر المؤمنين وصور ما ينتظرهم من نعيم مقيم.
ثم أخذ يرد على اليهود والمنافقين الذين استنكروا ضرب الله للأمثال في القرآن، واتخذوا منه وسيلة للتشكيك في أنه منزل من عند الله. وحذرهم ما وراء ضرب الأمثال، أن يزيدهم ضلالا -كما يزيد المؤمنين هدى- ثم استنكر أن يكفروا بالله المحيي المميت الخالق المدبر، العليم بكل شيء في هذا الوجود، وهو الذي أنعم على البشر فخلق لهم ما في الأرض جميعا واستخلفهم في هذا الملك الطويل العريض.
تلك مجمل الخطوط الرئيسية في هذا الدرس الأول من سورة البقرة. فلنحاول أن نتناول هذا الإجمال بشيء من التفصيل.
تبدأ السورة بهذه الأحرف الثلاثة المقطعة:"ألف. لام. ميم". يليها الحديث عن كتاب الله: (ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدى للمتقين)..
ومثل هذه الأحرف يجيء في مقدمة بعض السور القرآنية. وقد وردت في تفسيرها وجوه كثيرة. نختار منها وجها أنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف، وهي في متناول المخاطبين به من العرب. ولكنه -مع هذا- هو ذلك الكتاب المعجز، الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله. الكتاب الذي يتحداهم مرة ومرة ومرة أن يأتوا بمثله أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله فلا يملكون لهذا التحدي جوابا!
والشأن في هذا الإعجاز هو الشأن في خلق الله جميعا. وهو مثل صنع الله في كل شيء وصنع الناس.. أن هذه التربة الأرضية مؤلفة من ذرات معلومة الصفات. فإذا أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما يصوغونه منها لبنة أو آجرة، أو آنية أو أسطوانة، أو هيكل أو جهاز. كائنا في دقته ما يكون.. ولكن الله المبدع يجعل من تلك الذرات حياة. حياة نابضة خافقة. تنطوي على ذلك السر الإلهي المعجز.. سر الحياة.. ذلك السر الذي لا يستطيعه بشر، ولا يعرف سره بشر.. وهكذا القرآن.. حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاما وأوزانا، ويجعل منها الله قرآنا وفرقانا، والفرق بين صنع البشر وصنع الله من هذه الحروف والكلمات، هو الفرق ما بين الجسد الخامد والروح النابض.. هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة الحياة!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تحير المفسرون في محل هاته الحروف الواقعة في أول هاته السور، وفي فواتح سور أخرى عدة جميعها تسع وعشرون سورة ومعظمها في السور المكية... والذي يستخلص من أقوال العلماء بعد حذف متداخِلِه وتوحيد متشاكله، يؤول إلى أنها سيقت مساق التهجي مسرودة على نمط التعديد في التهجية تبكيتاً للمشركين وإيقاظاً لنظرهم في أن هذا الكتاب المتلو عليهم وقد تُحدوا بالإتيان بسورة مثله هو كلام مؤلف من عين حروف كلامهم كأنه يغريهم بمحاولة المعارضة ويستأنس لأنفسهم بالشروع في ذلك بتهجي الحروف ومعالجة النطق تعريضاً بهم بمعاملتهم معاملة من لم يعرف تقاطيع اللغة، فيلقنها كتهجي الصبيان في أول تعلمهم بالكتّاب حتى يكون عجزهم عن المعارضة بعد هذه المحاولة عجزاً لا معذرة لهم فيه.
وقد ذهب إلى هذا القول المبرد وقطرب والفراء، قال في « الكشاف» وهذا القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزلة. قلت: وهو الذي نختاره.
وتظهر المناسبة لوقوعها في فواتح السور أن كل سورة مقصودة بالإعجاز لأن الله تعالى يقول: {فأتوا بسورة من مثله} [البقرة: 23] فناسب افتتاح ما به الإعجاز بالتمهيد لمحاولته.
ويؤيد هذا القول أن التهجي ظاهر في هذا المقصد فلذلك لم يسألوا عنه لظهور أمره وأن التهجي معروف عندهم للتعليم فإذا ذكرت حروف الهجاء على تلك الكيفية المعهودة في التعليم في مقام غير صالح للتعليم عرف السامعون أنهم عوملوا معاملة المتعلم لأن حالهم كحاله في العجز عن الإتيان بكلام بليغ.
بدأت سورة البقرة بقوله تعالى {الم}.. وهذه الحروف حروف مقطعة ومعنى مقطعة أن كل حرف ينطق بمفرده. لأن الحروف لها أسماء ولها مسميات.. فالناس حين يتكلمون ينطقون بمسمى الحرف وليس باسمه... فعندما تقول كتب تنطق بمسميات الحروف. فإذا أردت أن تنطق بأسمائها. تقول كاف وتاء وباء.. ولا يمكن أن ينطق بأسماء الحروف إلا من تعلم ودرس، أما ذلك الذي لم يتعلم، فقد ينطق بمسميات الحروف، ولكنه لا ينطق بأسمائها، ولعل هذه أول ما يلفتنا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، ولذلك لم يكن يعرف شيئا عن أسماء الحروف، فإذا جاء ونطق بأسماء الحروف يكون هذا إعجازاً من الله سبحانه وتعالى.. بأن هذا القرآن موحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم.. ولو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم درس وتعلم لكان شيئا عاديا أن ينطق بأسماء الحروف. ولكن تعال إلى أي أمي لم يتعلم.. أنه يستطيع أن ينطق بمسميات الحروف.. يقول الكتاب وكوب وغير ذلك.. فإذا طلبت منه أن ينطق بمسميات الحروف فإنه لا يستطيع أن يقول لك. إن كلمة كتاب مكونة من الكاف والتاء والألف والباء.. وتكون هذه الحروف دالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاغ عن ربه. وأن هذا القرآن موحى به من الله سبحانه وتعالى.
ونجد في فواتح السور التي تبدأ بأسماء الحروف. تنطق الحروف بأسمائها وتجد الكلمة نفسها في آية أخرى تنطق بمسمياتها. ف"الم" في أول سورة البقرة نطقتها بأسماء الحروف ألف لام ميم. بينما تنطقها بمسميات الحروف في سورة الشرح في قوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك "1 "} (سورة الشرح).
وفي سورة الفيل في قوله تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل" 1 "} (سورة الفيل).
ما الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ينطق "الم" في سورة البقرة بأسماء الحروف.. وينطقها في سورتي الشرح والفيل بمسميات الحروف. لابد أن رسول الله عليه الصلاة والسلام سمعها من الله كما نقلها جبريل عليه السلام إليه هكذا.
إذن فالقرآن أصله السماع لا يجوز أن تقرأه إلا بعد أن تسمعه. لتعرف أن هذه تقرأ ألف لام ميم والثانية تقرأ ألم.. مع أن الكتابة واحدة في الاثنين.. ولذلك لابد أن تستمع إلى فقيه يقرأ القرآن قبل أن تتلوه.. والذي يتعب الناس أنهم لم يجلسوا إلى فقيه ولا استمعوا إلى قارئ.. ثم بعد ذلك يريدون أن يقرأوا القرآن كأي كتاب. نقول لا.. القرآن له تميز خاص.. أنه ليس كأي كتاب تقرأه.. لأنه مرة يأتي باسم الحرف. ومرة يأتي بمسميات الحرف. وأنت لا يمكن أن تعرف هذا إلا إذا استمعت لقارئ يقرأ القرآن.
والقرآن مبني على الوصل دائما وليس على الوقف، فإذا قرأت في آخر سورة يونس مثلا: {وهو خير الحاكمين} لا تجد النون عليها سكون بل تجد عليها فتحة، موصولة بقول الله سبحانه وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم. ولو كانت غير موصولة لوجدت عليها سكون..
إذن فكل آيات القرآن الكريم مبنية على الوصل.. ما عدا فواتح السور المكونة من حروف فهي مبنية على الوقف.. فلا تقرأ في أول سورة البقرة: "الم" والميم عليها ضمة. بل تقرأ ألفا عليها سكون ولاما عليها سكون وميما عليها سكون. إذن كل حرف منفرد بوقف. مع أن الوقف لا يوجد في ختام السور ولا في القرآن الكريم كله.
وهناك سور في القرآن الكريم بدأت بحرف واحد مثل قوله تعالى: {ص والقرآن ذي الذكر "1 "} (سورة ص). {ن والقلم وما يسطرون" 1 "} (سورة القلم).
ونلاحظ أن الحرف ليس آية مستقلة. بينما "الم" في سورة البقرة آية مستقلة. و: "حم". و:"عسق "آية مستقلة مع أنها كلمة حروف مقطعة. وهناك سور تبدأ بآية من خمسة حروف مثل" كهيعص "في سورة مريم.. وهناك سور تبدأ بأربعة حروف. مثل" المص "في سورة" الأعراف". وهناك سور تبدأ بأربعة حروف وهي ليست آية مستقلة مثل "ألمر" في سورة "الرعد" متصلة بما بعدها.. بينما تجد سورة تبدأ بحرفين هما آية مستقلة مثل: "يس" في سور يس. و "حم" في سورة غافر وفصلت.. و: "طس" في سورة النمل. وكلها ليست موصلة بالآية التي بعدها.. وهذا يدلنا على أن الحروف في فواتح السور لا تسير على قاعدة محددة.
" الم "مكونة من ثلاث حروف تجدها في ست سور مستقلة.. فهي آية في البقرة وآل عمران والعنكبوت والروم والسجدة ولقمان. و" الر "ثلاثة حروف ولكنها ليست آية مستقلة. بل جزء من الآية في أربع سور هي: يونس ويوسف وهود وإبراهيم.. و:"المص "من أربعة حروف وهي آية مستقلة في سورة" الأعراف "و" المر "أربعة حروف، ولكنها ليست آية مستقلة في سورة الرعد إذن فالمسألة ليست قانونا يعمم، ولكنها خصوصية في كل حرف من الحروف.
وإذا سألت ما هو معنى هذه الحروف؟.. نقول إن السؤال في أصله خطأ.. لأن الحرف لا يسأل عن معناه في اللغة إلا إن كان حرف معنى.. والحروف نوعان: حرف مبنى وحرف معنى. حرف المبنى لا معنى له إلا للدلالة على الصوت فقط.. أما حروف المعاني فهي مثل: في. ومن.. وعلى...
وإذا كانت الحروف في أوائل السور في القرآن الكريم قد خرجت عن قاعدة الوصل لأنها مبنية على السكون لابد أن يكون لذلك حكمة.. أولا لنعرف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف".
ولذلك ذكرت في القرآن كحروف استقلالية لنعرف ونحن نتعبد بتلاوة القرآن الكريم أننا نأخذ حسنة على كل حرف. فإذا قرأنا بسم الله الرحمن الرحيم. يكون لنا بالباء حسنة وبالسين حسنة وبالميم حسنة فيكون لنا ثلاثة حسنات بكلمة واحدة من القرآن الكريم. والحسنة بعشر أمثالها. وحينما نقرأ "الم" ونحن لا نفهم معناها نعرف أن ثواب القرآن على كل حرف نقرأه سواء فهمناه أم لم نفهمه.. وقد يضع الله سبحانه وتعالى من أسراره في هذه الحروف التي لا نفهمها ثوابا وأجرا لا نعرفه.
ويريدنا بقراءتها أن نحصل على هذا الأجر..
والقرآن الكريم ليس إعجازا في البلاغة فقط. ولكنه يحوي إعجازا في كل ما يمكن للعقل البشري أن يحوم حوله. فكل مفكر متدبر في كلام الله يجد إعجازا في القرآن الكريم. فالذي درس البلاغة رأى الإعجاز البلاغي، والذي تعلم الطب وجد إعجازا طبيا في القرآن الكريم. وعالم النباتات رأى إعجازا في آيات القرآن الكريم، وكذلك عالم الفلك. وإذا أراد إنسان منا أن يعرف معنى هذه الحروف فلا نأخذها على قدر بشريتنا.. ولكن نأخذها على قدر مراد الله فيها.. وقدراتنا تتفاوت وأفهامنا قاصرة. فكل منا يملك مفتاحاً من مفاتيح الفهم كل على قدر علمه.. هذا مفتاح بسيط يفتح مرة واحدة وآخر يدور مرتين.. وآخر يدور ثلاث مرات وهكذا.. ولكن من عنده العلم يملك كل المفاتيح، أو يملك المفتاح الذي يفتح كل الأبواب..
ونحن لا يصح أن نجهد أذهاننا لفهم هذه الحروف. فحياة البشر تقتضي منا في بعض الأحيان أن نضع كلمات لا معنى لها بالنسبة لغيرنا.. وإن كانت تمثل أشياء ضرورية بالنسبة لنا. تماما ككلمة السر التي تستخدمها الجيوش لا معنى لها إذا سمعتها. ولكن بالنسبة لمن وضعها يكون ثمنها الحياة أو الموت.. فخذ كلمات الله التي تفهمها بمعانيها.. وخذ الحروف التي لا تفهمها بمرادات الله فيها. فالله سبحانه وتعالى شاء أن يبقى معناها في الغيب عنده.
والقرآن الكريم لا يؤخذ على نسق واحد حتى نتنبه ونحن نتلوه أو نكتبه. لذلك تجد مثلا بسم الله الرحمن الرحيم مكتوبة بدون ألف بين الباء والسين. ومرة تجدها مكتوبة بالألف في قوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} (سورة العلق" 1 ").
وكلمة تبارك مرة تكتب بالألف ومرة بغير الألف.. ولو أن المسألة رتابة في كتابة القرآن لجاءت كلها على نظام واحد. ولكنها جاءت بهذه الطريقة لتكون كتابة القرآن معجزة وألفاظه معجزة.
ونحن نقول للذين يتساءلون عن الحكمة في بداية بعض السور بحروف.. نقول إن لذلك حكمة عند الله فهمناها أو لم نفهمها.. والقرآن نزل على أمة عربية فيها المؤمن والكافر.. ومع ذلك لم نسمع أحداً يطعن في الأحرف التي بدأت بها السور. وهذا دليل على أنهم فهموها بملكاتهم العربية.. ولو أنهم لم يفهموها لطعنوا فيها.
وأنا أنصح من يقرأ القرآن الكريم للتعبد.. ألا يشغل نفسه بالتفكير في المعنى. أما الذي يقرأ القرآن ليستنبط منه فليقف عند اللفظ والمعنى.. فإذا قرأت القرآن لتتعبد فاقرأه بسر الله فيه.. ولو جلست تبحث عن المعنى.. تكون قد حددت معنى القرآن الكريم بمعلوماتك أنت. وتكون قد أخذت المعنى ناقصا نقص فكر البشر.. ولكن اقرأ القرآن بسر الله فيه.
إننا لو بحثنا معنى كل لفظ في القرآن الكريم فقد أخرجنا الأمي وكل من لم يدرس اللغة العربية دراسة متعمقة من قراءة القرآن. ولكنك تجد أميا لم يقرأ كلمة واحدة ومع ذلك يحفظ القرآن كله. فإذا قلت كيف؟ نقول لك بسر الله فيه.
والكلام وسيلة إفهام وفهم بين المتكلم والسامع. المتكلم هو الذي بيده البداية، والسامع يفاجأ بالكلام لأنه لا يعلم مقدما ماذا سيقول المتكلم.. وقد يكون ذهن السامع مشغولا بشيء آخر.. فلا يستوعب أول الكلمات.. ولذلك قد تنبهه بحروف أو بأصوات لا مهمة لها إلا التنبيه للكلام الذي سيأتي بعدها.
وإذا كنا لا نفهم هذه الحروف. فوسائل الفهم والإعجاز في القرآن الكريم لا تنتهي، لأن القرآن كلام الله. والكلام صفة من صفات المتكلم.. ولذلك لا يستطيع فهم بشري أن يصل إلى منتهى معاني القرآن الكريم، إنما يتقرب منها. لأن كلام الله صفة من صفاته.. وصفاته فيها كمال بلا نهاية.
فإذا قلت إنك قد عرفت كل معنى للقرآن الكريم.. فإنك تكون قد حددت معنى كلام الله بعلمك.. ولذلك جاءت هذه الحروف إعجازا لك. حتى تعرف إنك لا تستطيع أن تحدد معاني القرآن بعلمك..
إن عدم فهم الإنسان لأشياء لا يمنع انتفاعه بها.. فالريفي مثلا ينتفع بالكهرباء والتليفزيون وما يذاع بالقمر الصناعي وهو لا يعرف عن أي منها شيئا. فلماذا لا يكون الله تبارك وتعالى قد أعطانا هذه الحروف نأخذ فائدتها ونستفيد من أسرارها ويتنزل الله بها علينا بما أودع فيها من فضل سواء أفهم العبد المؤمن معنى هذه الحروف أو لم يفهمها.
وعطاء الله سبحانه وتعالى وحكمته فوق قدرة فهم البشر.. ولو أراد الإنسان أن يحوم بفكره وخواطره حول معاني هذه الحروف لوجد فيها كل يوم شيئا جديدا. لقد خاض العلماء في البحث كثيرا.. وكل عالم أخذ منها على قدر صفائه، ولا يدعي أحد العلماء أن ذلك هو الحق المراد من هذه الحروف.. بل كل منهم يقول والله أعلم بمراده...
ولكن ما الذي يتعبكم أو يرهقكم في محاولة إيجاد معان لهذه الحروف؟!..
لو أن الله سبحانه وتعالى الذي أنزل القرآن يريد أن يفهمنا معانيها.. لأوردها بمعنى مباشر أو أوضح لنا المعنى. فمثلا أحد العلماء يقول إن معنى (الم) هو أنا الله أسمع وأرى.. نقول لهذا العالم لو أن الله أراد ذلك فما المانع من أن يورده بشكل مباشر لنفهمه جميعا.. لابد أن يكون هناك سر في هذه الحروف.. وهذا السر هو من أسرار الله التي يريدنا أن ننتفع بقراءتها دون أن نفهمها..
ولابد أن نعرف أنه كما أن للبصر حدوداً. وللأذن حدوداً وللمس والشم والتذوق حدوداً، فكذلك عقل الإنسان له حدود يتسع لها في المعرفة.. وحدود فوق قدرات العقل لا يصل إليها.
والإنسان حينما يقرأ القرآن والحروف الموجودة في أوائل بعض السور يقول إن هذا أمر خارج عن قدرة عقلي.. وليس ذلك حجراً أو سداً لباب اجتهاد.. لأننا إن لم ندرك فإن علينا أن نعترف بحدود قدراتنا أمام قدرات خالقنا سبحانه وتعالى التي هي بلا حدود.
وفي الإيمان هناك ما يمكن فهمه وما لا يمكن فهمه.. فتحريم أكل لحم الخنزير أو شرب الخمر لا ننتظر حتى نعرف حكمته لنمتنع عنه. ولكننا نمتنع عنه بإيمان أنه مادام الله قد حرمه فقد أصبح حراما.
ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما عرفتم من محكمه فاعملوا به، وما لم تدركوا فآمنوا به".
{هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} (سورة آل عمران "7 ").
إذن فعدم فهمنا للمتشابه لا يمنع أن نستفيد من سر وضعه الله في كتابه.. ونحن نستفيد من أسرار الله في كتابه فهمناها أم لم نفهمها.