3- حرَّم الله عليكم - أيها المؤمنون - أكل لحم الميتة - وهي كل ما فارقته الروح من غير ذبح شرعي - ، وأكل الدم السائل ، ولحم الخنزير ، وما ذكر اسم غير الله عليه عند ذبحه ، وما مات خنقاً ، أو التي ضربت حتى ماتت ، وما سقط من علو فمات ، وما مات بسبب نطح غيره له ، وما مات بسبب أكل حيوان مفترس منه . وأما ما أدركتموه وفيه حياة مما يحل لكم أكله وذبحتموه فهو حلال لكم بالذبح . وحرَّم الله عليكم ما ذبح قربة للأصنام ، وحرم عليكم أن تطلبوا معرفة ما كتب في الغيب بواسطة القرعة بالأقداح . وتناول شيء مما سبق تحريمه ذنب عظيم وخروج عن طاعة الله . ومن الآن انقطع رجاء الكفار في القضاء على دينكم ، فلا تخافوا أن يتغلبوا عليكم ، واتقوا مخالفة أوامري . اليوم أكملت لكم أحكام دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي بإعزازكم وتثبيت أقدامكم ، واخترت لكم الإسلام ديناً . فمن ألجأته ضرورة جوع إلى تناول شيء من المحرمات السابقة ففعل لدفع الهلاك عن نفسه غير منحرف إلى المعصية ، فإن الله يغفر للمضطر ما أكل ، دفعاً للهلاك ، وهو رحيم به فيما أباح له{[49]} .
قوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به } . أي : ما ذكر على ذبحه اسم غير الله تعالى .
قوله تعالى : { والمنخنقة } . وهي التي تختنق فتموت ، قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة ، حتى إذا ماتت أكلوها .
قوله تعالى : { والموقوذة } . هي المقتولة بالخشب ، قال قتادة : كانوا يضربونها بالعصا ، فإذا ماتت أكلوها .
قوله تعالى : { والمتردية } . هي التي تتردى من مكان عال ، أو في بئر ، فتموت . قوله تعالى : { والنطيحة } . هي التي تنطحها أخرى فتموت ، وهاء التأنيث تدخل في الفعيل إذا كان بمعنى الفاعل ، فإذا كان بمعنى المفعول استوى فيه المذكر والمؤنث ، نحو عين كحيل ، وكف خضيب ، فإذا حذفت الاسم ، وأفردت الصفة ، أدخلوا الهاء ، فقالوا : كحيلة ، وخضيبة . وهنا أدخل الهاء ، لأنه لم يتقدمها الاسم ، فلو أسقط الهاء لم يدر أنها صفة مؤنث أم مذكر ، ومثله الذبيحة ، والنسيكة ، وأكيلة السبع .
قوله تعالى : { وما أكل السبع } . يريد ما بقي مما أكل السبع ، وكان أهل الجاهلية يأكلونه .
قوله تعالى : { إلا ما ذكيتم } . يعني : إلا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء ، وأصل التذكية الإتمام ، يقال : ذكيت النار ، إذا أتممت اشتعالها ، والمراد هنا : إتمام فري الأوداج ، وإنهار الدم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما أنهر الدم ، وذكر اسم الله عليه ، فكل . غير السن ، والظفر . وأقل الذكاة في الحيوان المقدور عليه قطع المريء ، والحلقوم . وكماله أن يقطع الودجين معهما ، ويجوز بكل محدد يقطع ، من حديد ، أو قصب ، أو زجاج ، أو حجر . إلا السن ، والظفر . فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح بهما ، وإنما يحل ما ذكيته بعدما جرحه السبع ، وأكل شيئا منه إذا أدركته والحياة فيه مستقرة فذبحته ، فأما ما صار بجرح السبع إلى حالة المذبوح فهو في حكم الميتة ، فلا يكون حلالاً وإن ذبحته ، وكذلك المتردية ، والنطيحة ، إذا أدركتها حيةً قبل أن تصير إلى حالة المذبوح ، فذبحتها ، تكون حلالاً . ولو رمى إلى صيد في الهواء فأصابه ، فسقط على الأرض ومات ، كان حلالا لأن الوقوع على الأرض من ضرورته فإن سقط على جبل ، أو شجر ، ثم تردى منه فمات ، فلا يحل ، وهو من المتردية ، إلا أن يكون السهم أصاب مذبحه في الهواء ، فيحل كيفما وقع ، لأن الذبح قد حصل بإصابة السهم المذبح .
قوله تعالى : { وما ذبح على النصب } . قيل : النصب جمع واحده نصاب ، وقيل : هو واحد ، وجمعه أنصاب ، مثل : عنق وأعناق ، وهو الشيء المنصوب ، واختلفوا فيه فقال مجاهد وقتادة : كانت حول البيت ثلاثمائة وستون حجراً منصوبة ، كان أهل الجاهلية يعبدونها ويعظمونها ، ويذبحون لها ، وليست هي بأصنام ، إنما الأصنام هي المصورة المنقوشة ، وقال الآخرون : هي الأصنام المنصوبة ، ومعناه : وما ذبح على اسم النصب ، قال ابن زيد : ( وما ذبح على النصب ) ( وما أهل لغير الله به ) : هما واحد ، قال قطرب : على بمعنى اللام ، أي : وما ذبح لأجل النصب .
قوله تعالى : { وأن تستقسموا بالأزلام } . أي : ويحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، والاستقسام هو طلب القسم والحكم من الأزلام والأزلام هي : القداح التي لا ريش لها ولا نصل ، واحدها زلم ، زلم بفتح الزاي ، وضمها ، كانت أزلامهم سبعة قداح مستوية ، من شوحط ، يكون عند سادن الكعبة ، مكتوب على واحد نعم ، وعلى واحد لا ، وعلى واحد منكم ، وعلى واحد من غيركم ، وعلى واحد ملصق ، وعلى واحد العقل ، وواحد غفل ليس عليه شيء ، فكانوا إذا أرادوا أمراً من سفر ، أو نكاح ، أو ختان أو غيره ، أو تداوروا في نسب ، أو اختلفوا في تحمل عقل ، جاءوا إلى هبل ، وكان أعظم أصنام قريش بمكة ، وجاءوا بمائة درهم فأعطوها صاحب القداح ، حتى يجيل القداح ، ويقولون : يا إلهنا ، إنا أردنا كذا وكذا ، فإن خرج نعم ، فعلوا ، وإن خرج لا ، لم يفعلوا ذلك حولاً ، ثم عادوا إلى القداح ثانيةً ، فإذا أجالوا على نسب فإن خرج منكم ، كان وسطاً منهم ، وإذا خرج من غيركم ، كان حليفاً ، وإن خرج ملصق كان على منزلته لا نسب له ، ولا حلف ، وإذا اختلفوا في عقل فمن خرج عليه قدح العقل حمله ، وإن خرج الغفل أجالوا ثانياً حتى يخرج المكتوب ، فنهى الله عز وجل عن ذلك وحرمه . قوله تعالى : { ذلكم فسق } . قال سعيد بن جبير : الأزلام حصا بيض ، كانوا يضربون بها ، وقال مجاهد : هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها ، وقال الشعبي وغيره : الأزلام للعرب ، والكعاب للعجم . وقال سفيان بن وكيع : هي الشطرنج . وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العيافة ، والطيرة ، من الجبت " ، والمراد من الطرق : الضرب بالحصى .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا ابن فنجويه ، أنا فضل السندي ، أخبرنا الحسن بن داود الخشاب ، أنا سويد بن سعيد ، أنا أبو المختار ، عن عبد الملك بن عمير ، عن رجاء بن حيوة ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من تكهن ، أو استقسم ، أو تطير طيرة ترده عن سفره ، لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة ) .
قوله تعالى : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } . يعني : أن ترجعوا إلى دينهم كفارا ، وذلك أن الكفار كانوا يطمعون في عود المسلمين إلى دينهم ، فلما قوي الإسلام أيسوا ، ويئس وأيس بمعنى واحد .
قوله تعالى : { فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } . نزلت هذه الآية يوم الجمعة ، يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع ، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء ، فكادت عضد الناقة تندق من ثقلها فبركت .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن إسماعيل ، حدثني الحسن بن الصباح . سمع جعفر بن عون ، أنا أبو العميس ، أنا قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين ، آية في كتابكم تقرؤونها ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً . قال : أية آية ؟ قال : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة . أشار عمر إلى أن ذلك اليوم كان عيداً لنا . قال ابن عباس : كان في ذلك اليوم خمسة أعياد : جمعة ، وعرفة ، وعيد اليهود ، والنصارى ، والمجوس . ولم تجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده .
وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال : لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك يا عمر ؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص ، قال : صدقت " . وكانت هذه الآية نعي النبي صلى الله عليه وسلم ، وعاش بعدها إحدى وثمانين يوماً ، ومات يوم الإثنين بعدما زاغت الشمس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول ، سنة إحدى عشرة من الهجرة ، وقيل : توفي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، وكانت هجرته في الثاني عشر من شهر ربيع الأول . أما تفسير الآية قوله عز وجل : { اليوم أكملت لكم دينكم } يعني : يوم نزول هذه الآية أكملت لكم دينكم ، يعني الفرائض ، والسنن ، والحدود ، والأحكام . والحلال ، والحرام . فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ، ولا شيء من الفرائض والسنن ، والحدود ، والأحكام . هذا معنى قول ابن عباس رضي عنهما . ويروى عنه أن آية الربا نزلت بعدها . وقال سعيد بن جبير وقتادة : { أكملت لكم دينكم } فلم يحج معكم مشرك وقيل : أظهرت دينكم وأمنتكم من العدو ، وقوله عز وجل : { وأتممت عليكم نعمتي } يعني : وأنجزت وعدي في قولي { ولأتم نعمتي عليكم } فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة آمنين ، وعليها ظاهرين ، وحجوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين ، { ورضيت لكم الإسلام ديناً } ، سمعت عبد الواحد قال : سمعت أبا محمد بن حاتم قال : سمعت أبا بكر النيسابوري ، سمعت أبا بكر محمد بن الحسن بن المسيب المروزي ، سمعت أبا حاتم محمد بن إدريس الحنظلي ، سمعت عبد الملك بن مسلمة ، أنا مروان المصري سمعت إبراهيم بن أبي بكر بن المنكدر رضي الله عنه سمعت عمي محمد بن المنكدر سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال جبريل ، عليه السلام قال الله تعالى : " هذا دين ارتضيته لنفسي ، ولن يصلحه إلا السخاء ، وحسن الخلق ، فأكرموه بهما ما صحبتموه " .
قوله تعالى : { فمن اضطر في مخمصة } . أي : جهد في مجاعة ، والمخمصة خلو البطن من الغذاء ، يقال : رجل خميص البطن ، إذا كان طاوياً خاوياً .
قوله تعالى : { غير متجانف لإثم } . أي : مائل إلى إثم ، وهو أن يأكل فوق الشبع ، وقال قتادة : غير متعرض لمعصية في مقصده .
قوله تعالى : { فإن الله غفور رحيم } . وفيه إضمار . أي : فأكله فإن الله غفور رحيم . أخبرنا أبو عبد الله محمد بن حسن المزوري ، أنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان ، أنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان ، أنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز المكي ، أنا أبو عبيدة القاسم بن سلام ، أنا محمد بن كثير ، عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، عن أبي واقد الليثي ، قال رجل : يا رسول الله إنا نكون بالأرض فتصيبنا بها المخمصة فمتى تحل لنا الميتة ؟ فقال : ما لم تصطحبوا ، أو تغتبقوا ، أو تخنقوا بها بقلاً ، فشأنكم بها .
ثم يأخذ السياق في تفصيل ما استثناه في الآية الأولى من السورة من حل بهيمة الأنعام :
( حرمت عليكم الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، والمنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع - إلا ما ذكيتم - وما ذبح على النصب ، وأن تستقسموا بالأزلام . . ذلكم فسق . . اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون . اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينا . . فمن اضطر في مخمصة - غير متجانف لإثم - فإن الله غفور رحيم ) .
والميتة والدم ولحم الخنزير ، سبق بيان حكمها ، وتعليل هذا الحكم في حدود ما يصل إليه العلم البشري بحكمة التشريع الإلهي ، عند استعراض آية سورة البقرة الخاصة بهذه المحرمات [ ص 156 - ص157 من الجزء الثاني من الظلال ] وسواء وصل العلم البشري إلى حكمة هذا التحريم أم لم يصل ، فقد قرر العلم الإلهي أن هذه المطاعم ليست طيبة ؛ وهذا وحده يكفي . فالله لا يحرم إلا الخبائث . وإلا ما يؤذي الحياة البشرية في جانب من جوانبها . سواء علم الناس بهذا الأذى أو جهلوه . . وهل علم الناس كل ما يؤذي وكل ما يفيد ؟ !
وأما ما أهل لغير الله به ، فهو محرم لمناقضته ابتداء للإيمان . فالإيمان يوحد الله ، ويفرده - سبحانه - بالألوهية ويرتب على هذا التوحيد مقتضياته . وأول هذه المقتضيات أن يكون التوجه إلى الله وحده بكل نية وكل عمل ؛ وأن يهل باسمه - وحده - في كل عمل وكل حركة ؛ وأن تصدر باسمه - وحده - كل حركة وكل عمل . فما يهل لغير الله به ؛ وما يسمى عليه بغير اسم الله [ وكذلك ما لا يذكر اسم الله عليه ولا اسم أحد ] حرام ؛ لأنه ينقض الإيمان من أساسه ؛ ولا يصدر ابتداء عن إيمان . . فهو خبيث من هذه الناحية ؛ يلحق بالخبائث الحسية من الميتة والدم ولحم الخنزير .
وأما المنخنقة [ وهي التي تموت خنقا ] والموقوذة [ وهي التي تضرب بعصا أو خشبة أو حجر فتموت ] والمتردية [ وهي التي تتردى من سطح أو جبل أو تتردى في بئر فتموت ] والنطيحة [ وهي التي تنطحها بهيمة فتموت ] وما أكل السبع [ وهي الفريسة لأي من الوحش ] . . فهي كلها أنواع من الميتة إذا لم تدرك بالذبح وفيها الروح : [ إلا ما ذكيتم ] فحكمها هو حكم الميتة . . إنما فصل هنا لنفي الشبهة في أن يكون لها حكم مستقل . . على أن هناك تفصيلا في الأقوال الفقهية واختلافا في حكم " التذكية " ، ومتى تعتبر البهيمة مذكاة ؛ فبعض الأقوال يخرج من المذكاة ، البهيمة التي يكون ما حل بها من شأنه أن يقتلها سريعا - أو يقتلها حتما - فهذه حتى لو أدركت بالذبح لا تكون مذكاة . بينما بعض الأقوال يعتبرها مذكاة متى أدركت وفيها الروح ، أيا كان نوع الإصابة . . والتفصيل يطلب في كتب الفقة المختصة . .
واما ما ذبح على النصب - وهي أصنام كانت في الكعبة وكان المشركون يذبحون عندها وينضحونها بدماء الذبيحة في الجاهلية ، ومثلها غيرها في أي مكان - فهو محرم بسبب ذبحه على الأصنام - حتى لو ذكر اسم الله عليه ، لما فيه من معنى الشرك بالله .
ويبقى الاستقسام بالأزلام . والأزلام : قداح كانوا يستشيرونها في الإقدام على العمل أو تركه . وهي ثلاثة في قول ، وسبعة في قول . وكانت كذلك تستخدم في الميسر المعروف عند العرب ؛ فتقسم بواسطتها الجزور - أي الناقة التي يتقامرون عليها - إذ يكون لكل من المتقامرين قدح ، ثم تدار ، فإذا خرج قدح أحدهم كان له من الجزور بقدر ما خصص لهذا القدح . . فحرم الله الاستقسام بالأزلام - لأنه نوع من الميسر المحرم - وحرم اللحوم التي تقسم عن هذا الطريق . .
( فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ) .
فالمضطر من الجوع - وهو المخمصة - الذي يخشى على حياته التلف ، له أن يأكل من هذه المحرمات ؛ ما دام أنه لا يتعمد الإثم ، ولا يقصد مقارفة الحرام . وتختلف آراء الفقهاء في حد هذا الأكل : هل هو مجرد ما يحفظ الحياة . أو هو ما يحقق الكفاية والشبع . أو هو ما يدخر كذلك لأكلات أخرى إذا خيف انقطاع الطعام . . فلا ندخل نحن في هذه التفصيلات . . وحسبنا أن ندرك ما في هذا الدين من يسر ، وهو يعطى للضرورات أحكامها بلا عنت ولا حرج . مع تعليق الأمر كله بالنية المستكنة ؛ والتقوى الموكولة إلى الله . . . فمن أقدم مضطرا ، لا نية له في مقارفة الحرام ولا قصد ، فلا إثم عليه إذن ولا عقاب :
وننتهي من بيان المحرم من المطاعم لنقف وقفة خاصة أمام ما تخلل آية التحريم من قوله تعالى :
اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون . اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينًا . .
وهي آخر ما نزل من القرآن الكريم ، ليعلن كمال الرسالة ، وتمام النعمة ، فيحس عمر - رضي الله عنه - ببصيرته النافذة وبقلبه الواصل - أن أيام الرسول [ ص ] على الأرض معدودة . فقد أدى الأمانة ، وبلغ الرسالة ؛ ولم يعد إلا لقاء الله . فيبكي - رضوان الله عليه - وقد أحس قلبه دنو يوم الفراق .
هذه الكلمات الهائلة ترد ضمن آية موضوعها التحريم والتحليل لبعض الذبائح ؛ وفي سياق السورة التي تضم تلك الأغراض التي أسلفنا بيانها . . ما دلالة هذا ؟ إن بعض دلالته أن شريعة الله كل لا يتجزأ . كل متكامل . سواء فيه ما يختص بالتصور والاعتقاد ؛ وما يختص بالشعائر والعبادات ؛ وما يختص بالحلال والحرام ؛ ومايختص بالتنظيمات الاجتماعية والدولية . وأن هذا في مجموعة هو " الدين " الذي يقول الله عنه في هذه الآية : إنه أكمله . وهو " النعمة " التي يقول الله للذين آمنوا : إنه أتمها عليهم . وأنه لا فرق في هذا الدين بين ما يختص بالتصور والاعتقاد ؛ وما يختص بالشعائر والعبادات ؛ وما يختص بالحلال والحرام ؛ وما يختص بالتنظيمات الاجتماعية والدولية . . فكلها في مجموعها تكون المنهج الرباني الذي ارتضاه الله للذين آمنوا ؛ والخروج عن هذا المنهج في جزئية منه ، كالخروج عليه كله ، خروج على هذا " الدين " وخروج من هذا الدين بالتبعية . .
والأمر في هذا يرجع إلى ما سبق لنا تقريره ؛ من أن رفض شيء من هذا المنهج ، الذي رضيه الله للمؤمنين ، واستبدال غيره به من صنع البشر ؛ معناه الصريح هو رفض ألوهية الله - سبحانه - وإعطاء خصائص الألوهية لبعض البشر ؛ واعتداء على سلطان الله في الأرض ، وادعاء للألوهية بادعاء خصيصتها الكبرى . . الحاكمية . . وهذا معناه الصريح الخروج على هذا الدين ؛ والخروج من هذا الدين بالتبعية . .
( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ) . .
يئسوا أن يبطلوه ، أو ينقصوه ، أو يحرفوه . وقد كتب الله له الكمال ؛ وسجل له البقاء . . ولقد يغلبونعلى المسلمين في موقعة ، أو في فترة ، ولكنهم لا يغلبون على هذا الدين . فهو وحده الدين الذي بقي محفوظا لا يناله الدثور ، ولا يناله التحريف أيضا ، على كثرة ما أراد أعداؤه أن يحرفوه ؛ وعلى شدة ما كادوا له ، وعلى عمق جهالة أهله به في بعض العصور . . غير أن الله لا يخلي الأرض من عصبة مؤمنة ؛ تعرف هذا الدين ؛ وتناضل عنه ، ويبقى فيها كاملا مفهوما محفوظا ؛ حتى تسلمه الى من يليها . وصدق وعد الله في يأس الذين كفروا من هذا الدين !
فما كان للذين كفروا أن ينالوا من هذا الدين في ذاته أبدا . وما كان لهم أن ينالوا من أهله إلا أن ينحرف أهله عنه ؛ فلا يكونوا هم الترجمة الحية له ؛ ولا ينهضوا بتكاليفه ومقتضياته ؛ ولا يحققوا في حياتهم نصوصه وأهدافه . .
وهذا التوجيه من الله للجماعة المسلمة في المدينة ، لا يقتصر على ذلك الجيل ؛ إنما هو خطاب عام للذين آمنوا في كل زمان وفي كل مكان . . نقول : للذين آمنوا . . الذين يرتضون ما رضيه الله لهم من هذا الدين ، بمعناه الكامل الشامل ؛ الذين يتخذون هذا الدين كله منهجا للحياة كلها . . وهؤلاء - وحدهم - هم المؤمنون . .
( اليوم أكملت لكم دينكم . وأتممت عليكم نعمتي . ورضيت لكم الإسلام دينًا ) . .
اليوم . . الذي نزلت فيه هذه الآية في حجة الوداع . . أكمل الله هذا الدين . فما عادت فيه زيادة لمستزيد . وأتم نعمته الكبرى على المؤمنين بهذا المنهج الكامل الشامل . ورضي لهم " الإسلام " دينا ؛ فمن لا يرتضيه منهجا لحياته - إذن - فإنما يرفض ما ارتضاه الله للمؤمنين .
ويقف المؤمن أمام هذه الكلمات الهائلة ؛ فلا يكاد ينتهي من استعراض ما تحمله في ثناياها من حقائق كبيرة ، وتوجيهات عميقة ، ومقتضيات وتكاليف . .
إن المؤمن يقف أولا : أمام إكمال هذا الدين ؛ يستعرض موكب الإيمان ، وموكب الرسالات ، وموكب الرسل ، منذ فجر البشرية ، ومنذ أول رسول - آدم عليه السلام - إلى هذه الرسالة الأخيرة . رسالة النبي الأمي إلى البشر أجمعين . . فماذا يرى ؟ . . يرى هذا الموكب المتطاول المتواصل . موكب الهدى والنور . ويرى معالم الطريق ، على طول الطريق . ولكنه يجد كل رسول - قبل خاتم النبيين - إنما أرسل لقومه . ويرى كل رسالة - قبل الرسالة الأخيرة - إنما جاءت لمرحلة من الزمان . . رسالة خاصة ، لمجموعة خاصة ، في بيئة خاصة . . ومن ثم كانت كل تلك الرسالات محكومة بظروفها هذه ؛ متكيفة بهذه الظروف . . كلها تدعو إلى إله واحد - فهذا هو التوحيد - وكلها تدعو إلى عبودية واحدة لهذا الإله الواحد - فهذا هو الدين - وكلها تدعو إلى التلقي عن هذا الإله الواحد والطاعة لهذا الإله الواحد - فهذا هو الإسلام - ولكن لكل منها شريعة للحياة الواقعية تناسب حالة الجماعة وحالة البيئة وحالة الزمان والظروف . .
حتى إذا أراد الله أن يختم رسالاته إلى البشر ؛ أرسل إلى الناس كافة ، رسولا خاتم النبيين برسالة " للإنسان " لا لمجموعة من الأناسي في بيئة خاصة ، في زمان خاص ، في ظروف خاصة . . رسالة تخاطب " الإنسان " من وراء الظروف والبيئات والأزمنة ؛ لأنها تخاطب فطرة الإنسان التي لا تتبدل ولا تتحور ولا ينالها التغيير : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) . . وفصل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة " الإنسان " من جميع أطرافها ، وفي كل جوانب نشاطها ؛ وتضع لها المبادى الكلية والقواعد الأساسيةفيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان ؛ وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان . . وكذلك كانت هذه الشريعة بمبادئها الكلية وبأحكامها التفصيلية محتوية كل ما تحتاج إليه حياة " الإنسان " منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان ؛ من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات ، لكي تستمر ، وتنمو ، وتتطور ، وتتجدد ؛ حول هذا المحور وداخل هذا الإطار . . وقال الله - سبحانه - للذين آمنوا :
( اليوم أكملت لكم دينكم . وأتممت عليكم نعمتي . ورضيت لكم الإسلام دينًا ) . .
فأعلن لهم إكمال العقيدة ، وإكمال الشريعة معا . . فهذا هو الدين . . ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين - بمعناه هذا - نقصا يستدعي الإكمال . ولا قصورا يستدعي الإضافة . ولا محلية أو زمانية تستدعي التطوير أو التحوير . . وإلا فما هو بمؤمن ؛ وما هو بمقر بصدق الله ؛ وما هو بمرتض ما ارتضاه الله للمؤمنين !
إن شريعة ذلك الزمان الذي نزل فيه القرآن ، هي شريعة كل زمان ، لأنها - بشهادة الله - شريعة الدين الذي جاء " للإنسان " في كل زمان وفي كل مكان ؛ لا لجماعة من بني الإنسان ، في جيل من الأجيال ، في مكان من الأمكنة ، كما كانت تجيء الرسل والرسالات .
الأحكام التفصيلية جاءت لتبقى كما هي . والمبادى ء الكلية جاءت لتكون هي الإطار الذي تنمو في داخله الحياة البشرية إلى آخر الزمان ؛ دون أن تخرج عليه ، إلا أن تخرج من إطار الإيمان !
والله الذي خلق " الإنسان " ويعلم من خلق ؛ هو الذي رضي له هذا الدين ؛ المحتوى على هذه الشريعة . فلا يقول : إن شريعة الأمس ليست شريعة اليوم ، إلا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من الله بحاجات الإنسان ؛ وبأطوار الإنسان !
ويقف المؤمن ثانيا : أمام إتمام نعمة الله على المؤمنين ، بإكمال هذا الدين ؛ وهي النعمة التامة الضخمة الهائلة . النعمة التي تمثل مولد " الإنسان " في الحقيقة ، كما تمثل نشأته واكتماله . " فالإنسان " لا وجود له قبل أن يعرف إلهه كما يعرفه هذا الدين له . وقبل أن يعرف الوجود الذي يعيش فيه كما يعرفه له هذا الدين . وقبل أن يعرف نفسه ودوره في هذا الوجود وكرامته على ربه ، كما يعرف ذلك كله من دينه الذي رضيه له ربه . و " الإنسان " لا وجود له قبل أن يتحرر من عبادة العبيد بعبادة الله وحده ؛ وقبل أن ينال المساواة الحقيقية بأن تكون شريعته من صنع الله وبسلطانه لا من صنع أحد ولا بسلطانه .
إن معرفة " الإنسان " بهذه الحقائق الكبرى كما صورها هذا الدين هي بدء مولد " الإنسان " . . إنه بدون هذه المعرفة على هذا المستوى ؛ يمكن أن يكون " حيوانًا أو أن يكون " مشروع إنسان " في طريقه إلى التكوين ! ولكنه لا يكون " الإنسان " في أكمل صورة للإنسان ، إلا بمعرفة هذه الحقائق الكبيرة كما صورها القرآن . . والمسافة بعيدة بعيدة بين هذه الصورة ، وسائر الصور التي اصطنعها البشر في كل زمان !
وإن تحقيق هذه الصورة في الحياة الإنسانية ، لهو الذي يحقق " للإنسان " " إنسانيته " كاملة . . يحققها له وهو يخرجه بالتصور الاعتقادي ، في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، من دائرة الحس الحيواني الذي لا يدرك إلا المحسوسات ، إلى دائرة " التصور " الإنساني ، الذي يدرك المحسوسات وما وراء المحسوسات .
عالم الشهادة وعالم الغيب . . عالم المادة وعالم ما وراء المادة . . وينقذه من ضيق الحس الحيواني المحدود !
ويحققها له وهو يخرجه بتوحيد الله ، من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده ، والتساوي والتحرر والاستعلاء أمام كل من عداه . فإلى الله وحده يتجه بالعبادة ، ومن الله وحده يتلقى المنهج والشريعة والنظام ، وعلى الله وحده يتوكل ومنه وحده يخاف . . ويحققها له ، بالمنهج الرباني ، حين يرفع اهتماماته ويهذب نوازعه ، ويجمع طاقته للخير والبناء والارتقاء ، والاستعلاء على نوازع الحيوان ، ولذائذ البهيمة وانطلاق الأنعام !
ولا يدرك حقيقة نعمة الله في هذا الدين ، ولا يقدرها قدرها ، من لم يعرف حقيقة الجاهلية ومن لم يذق ويلاتها - والجاهلية في كل زمان وفي كل مكان هي منهج الحياة الذي لم يشرعه الله - فهذا الذي عرف الجاهلية وذاق ويلاتها . . ويلاتها في التصور والاعتقاد ، وويلاتها في واقع الحياة . . هو الذي يحس ويشعر ، ويرى ويعلم ، ويدرك ويتذوق حقيقة نعمة الله في هذا الدين . .
الذي يعرف ويعاني ويلات الضلال والعمى ، وويلات الحيرة والتمزق ، وويلات الضياع والخواء ، في معتقدات الجاهلية وتصوراتها في كل زمان وفي كل مكان . . هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الإيمان ؛
والذي يعرف ويعاني ويلات الطغيان والهوى ، وويلات التخبط والاضطراب ، وويلات التفريط والإفراط في كل أنظمة الحياة الجاهلية ، هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الحياة في ظل الإيمان بمنهج الإسلام .
ولقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة ، يعرفون ويدركون ويتذوقون هذه الكلمات . لأن مدلولاتها كانت متمثلة في حياتهم ، في ذات الجيل الذي خوطب بهذا القرآن . .
كانوا قد ذاقوا الجاهلية . . ذاقوا تصوراتها الاعتقادية . وذاقوا أوضاعها الاجتماعية . وذاقوا أخلاقها الفردية والجماعية . وبلوا من هذا كله ما يدركون معه حقيقة نعمة الله عليهم بهذا الدين ؛ وحقيقة فضل الله عليهم ومنته بالإسلام .
كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية ؛ وسار بهم في الطريق الصاعد ، إلى القمة السامقة - كما فصلنا ذلك في مستهل سورة النساء - فإذا هم على القمة ينظرون من عل إلى سائر أمم الأرض من حولهم ؛ نظرتهم إلى ماضيهم في جاهليتهم كذلك .
كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التصورات الاعتقادية حول ربوبية الأصنام ، والملائكة ، والجن ، والكواكب ، والأسلاف ؛ وسائر هذه الأساطير الساذجة والخرافات السخيفة ؛ لينقلهم إلى أفق التوحيد . إلى أفق الإيمان بإله واحد ، قادر قاهر ، رحيم ودود ، سميع بصير ، عليم خبير . عادل كامل . قريب مجيب . لا واسطة بينه وبين أحد ؛ والكل له عباد ، والكل له عبيد . . ومن ثم حررهم من سلطان الكهانة ، ومن سلطان الرياسة ، يوم حررهم من سلطان الوهم والخرافة . .
وكان الإسلام قد التقطهم من سقح الجاهلية في الأوضاع الاجتماعية . من الفوارق الطبقية ؛ ومن العادات الزرية ؛ ومن الاستبداد الذي كان يزاوله كل من تهيأ له قدر من السلطان [ لا كما هو سائد خطأ من أن الحياة العربية كانت تمثل الديمقراطية ! ] .
" فقد كانت القدرة على الظلم قرينة بمعنى العزة والجاه في عرف السيد والمسود من أمراء الجزيرة من أقصاها في الجنوب إلى أقصاها في الشمال . وما كان الشاعر النجاشي إلا قادحا مبالغا في القدح حين استضعف مهجوه ، لأن :
قبيلته لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
" وما كان حجر بن الحارث إلا ملكا عربيا حين سام بني أسد أن يستعبدهم بالعصا ، وتوسل إليه شاعرهم عبيد بن الأبرص حيث يقول :
أنت المملك فيهم وهم العبيد إلى القيامه *** ذلوا لسوطك مثلما ذل الأشيقر ذو الخزامه
" وكان عمر بن هند ملكا عربيا حين عود الناس أن يخاطبهم من وراء ستار ؛ وحين استكثر على سادة القبائل أن تأنف أمهاتهم من خدمته في داره " .
" وكان النعمان بن المنذر ملكا عربيا حين بلغ به العسف أن يتخذ لنفسه يوما للرضى يغدق فيه النعم على كل قادم إليه خبط عشواء ؛ ويوما للغضب يقتل فيه كل طالع عليه من الصباح إلى المساء " .
" وقد قيل عن عزة كليب وائل : إنه سمي بذلك لأنه كان يرمي الكليب حيث يعجبه الصيد ، فلا يجسر أحد على الدنو من مكان يسمع فيه نباحه . وقيل : " لا حر بوادي عوف " لأنه من عزته كان لا يأوي بواديه من يملك حرية في جواره . فكلهم أحرار في حكم العبيد . . " .
وكان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التقاليد والعادات والأخلاق والصلات الاجتماعية . . كان قد التقطهم من سفح البنت الموءودة ، والمرأة المنكودة ، والخمر والقمار والعلاقات الجنسية الفوضوية ، والتبرج والاختلاط مع احتقار المرأة ومهانتها ، والثارات والغارات والنهب والسلب ، مع تفرق الكلمة وضعف الحيلة أمام أي هجوم خارجي جدي ، كالذي حدث في عام الفيل من هجوم الأحباش على الكعبة ، وتخاذل وخذلان القبائل كلها ، هذه القبائل التي كان بأسها بينها شديدا !
وكان الإسلام قد أنشأ منهم أمة ؛ تطل من القمة السامقة على البشرية كلها في السفح ، في كل جانب من جوانب الحياة . في جيل واحد . عرف السفح وعرف القمة . عرف الجاهلية وعرف الإسلام . ومن ثم كانوا يتذوقون ويدركون معنى قول الله لهم :
( اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينًا . . )
ويقف المؤمن ثالثا : أمام ارتضاء الله الإسلام دينا للذين آمنوا . . يقف أمام رعاية الله - سبحانه - وعنايته بهذه الأمة ، حتى ليختار لها دينها ويرتضيه . . وهو تعبير يشي بحب الله لهذه الأمة ورضاه عنها ، حتى ليختار لها منهج حياتها .
وإن هذه الكلمات الهائلة لتلقي على عاتق هذه الأمة عبئا ثقيلا ، يكافى ء هذه الرعاية الجليلة . . أستغفر الله . . فما يكافى ء هذه الرعاية الجليلة من الملك الجليل شيء تملك هذه الأمة بكل أجيالها أن تقدمه . . وإنما هو جهد الطاقة في شكر النعمة ، ومعرفة المنعم . . وإنما هو إدراك الواجب ثم القيام بما يستطاع منه ، وطلب المغفرة والتجاوز عن التقصير والقصور فيه .
إن ارتضاء الله الإسلام دينا لهذه الأمة ، ليقتضي منها ابتداء أن تدرك قيمة هذا الاختيار . ثم تحرص على الاستقامة على هذا الدين جهد ما في الطاقة من وسع واقتدار . . وإلا فما أنكد وما أحمق من يهمل - بله أن يرفض - ما رضيه الله له ، ليختار لنفسه غير ما اختاره الله ! . . وإنها - إذن - لجريمة نكدة ؛ لا تذهب بغير جزاء ، ولا يترك صاحبها يمضي ناجيا أبدا وقد رفض ما ارتضاه له الله . . ولقد يترك الله الذين لم يتخذوا الإسلام دينا لهم ، يرتكبون ما يرتكبون ويمهلهم إلى حين . . فأما الذين عرفوا هذا الدين ثم تركوه أو رفضوه . . واتخذوا لأنفسهم مناهج في الحياة غير المنهج الذي ارتضاه لهم الله . . فلن يتركهم الله أبدا ولن يمهلهم أبدا ، حتى يذوقوا وبال أمرهم وهم مستحقون !
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في هذه الوقفات أمام تلك الكلمات الهائلة . فالأمر يطول . فنقنع بهذه اللمحات ، في هذه الظلال ، ويمضي مع سياق السورة إلى مقطع جديد :
{ حرمت عليكم الميتة } بيان ما يتلى عليكم ، والميتة ما فارقه الروح من غير تذكية . { والدم } أي الدم المسفوح لقوله تعالى : { أو دما مسفوحا } وكان أهل الجاهلية يصبونه في الأمعاء ويشوونها . { ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به } أي رفع الصوت لغير الله به كقولهم : باسم اللات والعزى عند ذبحه . { والمنخنقة } أي التي ماتت بالخنق . { والموقوذة } المضروبة بنحو خشب ، أو حجر حتى تموت من وقذته إذا ضربته . { والمتردية } التي تردت من علو أو في بئر فماتت . { والنطيحة } التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح والتاء فيها للنقل . { وما أكل السبع } وما أكل منه السبع فمات ، وهو يدل على أن جوارح الصيد إذا أكلت مما اصطادته لم تحل . { إلا ما ذكيتم } إلا ما أدركتم ذكاته وفيه حياة مستقرة من ذلك . وقيل الاستثناء مخصوص بما أكل السبع . والذكاة في الشرع لقطع الحلقوم والمريء بمحدد . { وما ذبح على النصب } النصب واحد الأنصاب وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة . وقيل هي الأصنام وعلى بمعنى اللام أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأصنام . وقيل هو جمع والواحد نصاب . { وأن تستقسموا بالأزلام } أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، وذلك أنهم إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح . مكتوب على أحدها ، أمرني ربي . وعلى الآخر : نهاني ربي . والثالث غفل ، فإن خرج الأمر مضوا على ذلك وإن خرج الناهي تجنبوا عنه وإن خرج الغفل أجلوها ثانيا ، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم لهم بالأزلام . وقيل : هو استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة وواحد الأزلام زلم كجمل وزلم كصرد . { ذلكم فسق } إشارة إلى الاستقسام ، وكونه فسقا لأنه دخول في علم الغيب وضلال باعتقاد أن ذلك طريق إليه ، وافتراء على الله سبحانه وتعالى إن أريد بربي الله ، وجهالة وشرك إن أريد به الصنم أو الميسر المحرم أو إلى تناول ما حرم عليهم . { اليوم } لم يرد به يوما بعينه وإنما أراد الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الآتية . وقيل أراد يوم نزولها وقد نزلت بعد عصر يوم الجمعة في عرفة حجة الوداع . { يئس الذين كفروا من دينكم } أي من إبطاله ورجوعكم عنه بتحيل هذه الخبائث وغيرها أو من أن يغلبوكم عليه . { فلا تخشوهم } أن يظهروا عليكم . { واخشون } وأخلصوا الخشية لي . { اليوم أكملت لكم دينكم } بالنصر والإظهار على الأديان كلها ، أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد . { وأتممت عليكم نعمتي } بالهداية والتوفيق أو بإكمال الدين أو بفتح مكة وهدم منار الجاهلية . { ورضيت لكم الإسلام دينا } اخترته لكم دينا من بين الأديان وهو الدين عند الله لا غير . { فمن اضطر } متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض لما يوجب التجنب عنها ، وهو أن تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضي والمعنى : فمن اضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات . { في مخمصة } مجاعة { غير متجانف لإثم } غير مائل له ومنحرف إليه بأن يأكلها تلذذا أو مجاوزا حد الرخصة كقوله : { غير باغ ولا عاد } . { فإن الله غفور رحيم } لا يؤاخذه بأكله .