11-اذكروا - أيها المؤمنون - وقت أن خفتم من قلة الماء ، ومن الأعداء ، فوهبكم الله الأمن ، وأصابكم النعاس فنمتم آمنين ، وأنزل الماء من السماء لتتطهروا به ، ولتذهبوا وساوس الشيطان عنكم ، وثبت قلوبكم واثقة بعون الرحمن ولتتماسك به الأرض فتثبت الأقدام{[73]} .
قوله تعالى : { إذ يغشيكم النعاس } ، قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : ( يغشاكم ) بفتح الياء ، ( النعاس ) رفع على أن الفعل له ، لقوله تعالى في سورة آل عمران { أمنةً نعاساً يغشى طائفةً منكم } ، وقرأ أهل المدينة : ( يغشيكم ) بضم الياء وكسر الشين مخففاً ، ( النعاس ) نصب ، لقوله تعالى : { كأنما أغشيت وجوههم } وقرأ آخرون بضم الياء ، وكسر الشين ، مشدد ( النعاس ) نصب ، على أن الفعل لله عز وجل ، لقوله تعالى : { فغشاها ما غشى } [ النجم : 54 ] . والنعاس : النوم الخفيف .
قوله تعالى : { أمنةً } أمناً .
قوله تعالى : { منه } ، مصدر أمنت أمناً وأمنةً وأماناً ، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : النعاس في القتال أمنة من الله ، وفي الصلاة من الشيطان .
قوله تعالى : { وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به } ، وذلك أن المسلمين نزلوا يوم بدر على كثيب أعفر ، تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب ، وسبقهم المشركون إلى ماء بدر ، وأصبح المسلمون بعضهم محدثين وبعضهم مجنبين ، وأصابهم الظمأ ، ووسوس إليهم الشيطان ، وقال : تزعمون أنكم على الحق ، وفيكم نبي الله ، وأنكم أولياء الله ، وقد غلبكم المشركون على الماء ، وأنتم تصلون محدثين ومجنبين ، فكيف ترجون أن تظهروا عليهم ؟ فأرسل الله عز وجل عليهم مطراً سال منه الوادي فشرب المؤمنون واغتسلوا ، وتوضؤوا ، وسقوا الركاب ، وملأوا الأسقية ، وأطفأ الغبار ، ولبد الأرض حتى ثبتت عليه الأقدام ، وزالت عنهم وسوسة الشيطان ، وطابت أنفسهم ، فذلك قوله تعالى : { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } من الأحداث والجنابة . قوله تعالى : { ويذهب عنكم رجز الشيطان } وسوسته .
قوله تعالى : { وليربط على قلوبكم } باليقين والصبر .
قوله تعالى : { ويثبت به الأقدام } حتى لا تسوخ في الرمل بتلبيد الأرض ، وقيل : يثبت به الأقدام بالصبر وقوة القلب .
( إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ، وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ، ويذهب عنكم رجز الشيطان ، وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ) . .
أما قصة النعاس الذي غشي المسلمين قبل المعركة فهي قصة حالة نفسية عجيبة ، لا تكون إلا بأمر الله وقدره وتدبيره . . لقد فزع المسلمون وهم يرون أنفسهم قلة في مواجهة خطر لم يحسبوا حسابه ولم يتخذوا له عدته . . فإذا النعاس يغشاهم ، ثم يصحون منه والسكينة تغمر نفوسهم ؛ والطمأنينة تفيض على قلوبهم [ وهكذا كان يوم أحد . . تكرر الفزع ، وتكرر النعاس ، وتكررت الطمأنينة ] . . ولقد كنت أمر على هذه الآيات ، وأقرأ أخبار هذا النعاس ، فأدركه كحادث وقع ، يعلم الله سره ، ويحكي لنا خبره . . ثم إذا بي أقع في شدة ، وتمر عليّ لحظات من الضيق المكتوم ، والتوجس القلق ، في ساعة غروب . . ثم تدركني سنة من النوم لا تتعدى بضع دقائق . . وأصحوا إنساناً جديداً غير الذي كان . . ساكن النفس . مطمئن القلب . مستغرقاً في الطمأنينة الواثقة العميقة . . كيف تم هذا ? كيف وقع هذا التحول المفاجىء ? لست أدري ! ولكني بعدها أدرك قصة بدر وأحد . أدركها في هذه المرة بكياني كله لا بعقلي . وأستشعرها حية في حسي لا مجرد تصور . وأرى فيها يد الله وهي تعمل عملها الخفي المباشر . . ويطمئن قلبي . .
لقد كانت هذه الغشية ، وهذه الطمأنينة ، مدداً من أمداد الله للعصبة المسلمة يوم بدر :
( إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ) . .
ولفظ ( يغشيكم ) ولفظ ( النعاس ) ولفظ ( أمنة ) . . كلها تشترك في إلقاء ظل لطيف شفيف ؛ وترسم الظل العام للمشهد ، وتصور حال المؤمنين يومذاك ، وتجلي قيمة هذه اللحظة النفسية الفاصلة بين حال للمسلمين وحال .
( وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ، ويذهب عنكم رجز الشيطان ، وليربط على قلوبكم ، ويثبت به الأقدام ) . .
فهي قصة مدد آخر من أمداد الله للعصبة المسلمة ، قبيل المعركة .
قال علي بن طلحة ، عن ابن عباس قال : نزل النبي [ ص ] حين سار إلى بدر والمشركون بينهم وبين الماء رملة وعصة ، وأصاب المسلمين ضعف شديد ، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوس بينهم : تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسوله ، وقد غلبكم المشركون على الماء ، وأنتم تصلون مجنبين ? فأمطر الله عليهم مطراً شديداً ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان ، وثبت الرمل حين أصابه المطر ، ومشى الناس عليه والدواب ، فساروا إلى القوم ، وأمد الله نبيه [ ص ] بألف من الملائكة ، فكان جبريل في خمسمائة مجنبة ، وميكائيل في خمسمائة مجنبة " . .
ولقد كان ذلك قبل أن ينفذ رسول الله [ ص ] ما أشار به الحباب بن المنذر من النزول على ماء بدر ، وتغوير ما وراءها من القلب .
" والمعروف أن رسول الله [ ص ] لما صار إلى بدر نزل على أدنى ماء هناك أي أول ماء وجده - فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال : يا رسول الله هذا المنزل الذي نزلته ، منزل أنزلك الله إياه فليس لنا أن نجاوزه ، أو منزل نزلته للحرب والمكيدة ? فقال : " بل منزل نزلته للحرب والمكيدة " . فقال : يا رسول الله ، ليس بمنزل ، ولكن سربنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب ونسقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء . فسار رسول الله [ ص ] ففعل ذلك " .
ففي هذه الليلة - وقبل إنفاذ مشورة الحباب بن المنذر - كانت هذه الحالة التي يذكر الله بها العصبة التي شهدت بدراً . . والمدد على هذا النحو مدد مزدوج : مادي وروحي . فالماء في الصحراء مادة الحياة ، فضلاً على أن يكون أداة النصر . والجيش الذي يفقد الماء في الصحراء يفقد أعصابه قبل أن يواجه المعركة . ثم هذه الحالة النفسية التي صاحبت الموقف ووسوس بها الشيطان ! حالة التحرج من أداء الصلاة على غير طهر لعدم وجود الماء [ ولم يكن قد رخص لهم بعد في التيمم ، فقد جاء هذا متأخراً في غزوة بني المصطلق في السنة الخامسة ] . وهنا تثور الهواجس والوساوس ، ويدخل الشيطان من باب الإيمان ليزيد حرج النفوس ووجل القلوب ! والنفوس التي تدخل المعركة في مثل هذا الحرج وفي مثل هذا القلق تدخلها مزعزعة مهزومة من داخلها . . وهنا يجيء المدد وتجيء النجدة . .
( وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ، ويذهب عنكم رجز الشيطان ، وليربط على قلوبكم ، ويثبت به الأقدام ) . .
ويتم المدد الروحي بالمدد المادي ؛ وتسكن القلوب بوجود الماء ، وتطمئن الأرواح بالطهارة ؛ وتثبت الأقدام بثبات الأرض وتماسك الرمال .
{ إذ يغشّيكم النعاس } بدل ثان من { إذ يعدكم } لإظهار نعمة ثالثة أو متعلق بالنصر أو بما في عند الله معنى الفعل ، أو بجعل أو بإضمار اذكر . وقرأ نافع بالتخفيف من أغشيته الشيء إذا غشيته إياه والفاعل على القراءتين هو الله تعالى وقرأ ابن كثير وأبو عمر " يغشاكم الناس " بالرفع . { أمنة منه } أمنا من الله ، وهو مفعول له باعتبار المعنى فإن قوله { يغشيكم النعاس } متضمن معنى تنعسون ، و " يغشاكم " بمعناه ، وال { أمنة } فعل لفاعله ويجوز أن يراد بها الإيمان فيكون فعل المغشي ، وأن تجعل على القراءة الأخيرة فعل النعاس على المجاز لأنها لأصحابه ، أو لأنه كان من حقه أن لا يغشاكم لشدة الخوف فلما غشيهم فكأنه حصلت له أمنة من الله لولاها لم يغشهم كقوله :
يهاب النوم أن يغشى عيونا *** تهابك فهو نفّار شرود
وقرئ { أمنة } كرحمة وهي لغة . { وينزّل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } من الحدث والجنابة . { ويذهب عنكم رجز الشيطان } يعني الجنابة لأنها من تخييله ، أو وسوسته وتخويفه إياهم من العطش . روي أنهم نزلوا في كثيب أغفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء وناموا فاحتلم أكثرهم وقد غلب المشركون على الماء ، فوسوس إليهم الشيطان وقال : كيف تنصرون ، وقد غلبتم على الماء وأنتم تصلون محدثين مجنبين وتزعمون أنكم أولياء الله ، وفيكم رسوله فأشفقوا فأنزل الله المطر ، فمطروا ليلا حتى جرى الوادي واتخذوا الحياض على عدوته وسقوا الركاب واغتسلوا وتوضئوا ، وتلبد الرمل الذي بينهم وبين العدو حتى ثبتت عليه الأقدام وزالت الوسوسة . { وليربط على قلوبكم } بالوثوق على لطف الله بهم . { ويثبّت به الأقدام } أي بالمطر حتى لا تسوخ في الرمل ، أو بالربط على القلوب حتى تثبت في المعركة .