السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِذۡ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ} (11)

{ إذ } أي : واذكر إذ { يغشاكم النعاس } وهو النوم الخفيف { أمنة } أي : أمناً مما حصل لكم من الخوف من عدوّكم { منه } أي : من الله تعالى ؛ لأنهم لما خافوا على أنفسهم لكثرة عددهم وعددهم وقلة المسلمين وقلة عددهم ، وعطشوا عطشاً شديداً ألقى الله عليهم النوم حتى حصلت لهم الراحة وزال عنهم الكلال والعطش ، وتمكنوا من قتال عدوّهم كان ذلك النوم نعمة في حقهم ؛ لأنه كان خفيفاً بحيث لو قصدهم العدوّ لعرفوا وصوله إليهم وقدروا على دفعه عنهم .

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : النعاس في القتال أمنة من الله تعالى ، وفي الصلاة وسوسة من الشيطان ، وقرأ نافع بضم الياء وكسر الشين مخففة وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والشين مع التخفيف فيهما ، والباقون بضم الياء وكسر الشين مشدّدة ، ورفع السين من النعاس ابن كثير وأبو عمرو ونصبها الباقون على أن الله تعالى هو الفاعل { وينزل عليكم من السماء ماء } أي : مطراً { ليطهركم به } أي : من الأحداث والجنابات ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي ، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي ، وذلك أنّ المسلمين نزلوا يوم بدر على كثيب رمل أعفر تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب ، فناموا فاحتلم أكثرهم ، وكان المشركون قد سبقوهم على ماء بدر ، فنزلوا عليه وأصبح المسلمون على غير ماء وبعضهم محدث وبعضهم جنب وأصابهم العطش ، فوسوس إليهم الشيطان ، أو قال لهم المنافقون : تزعمون أنكم على الحق وفيكم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأنتم أولياء الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون محدثين ، فكيف ترجون أن تظهروا على عدوّكم وما ينتظرون بكم إلا أن يجهدكم العطش فإذا قطع العطش أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا وساقوا بقيتكم إلى مكة ؟ فحزنوا حزناً شديداً وأشفقوا ، فأنزل الله تعالى مطراً أسال منه الوادي ، فشرب منه المؤمنون واغتسلوا وتوضؤوا وسقوا الدواب وملؤوا الأسقية وطفئ الغبار وعظمت النعمة من الله عليهم بذلك ، وكان دليلاً على حصول النصر والظفر وزالت عنهم وسوسة الشيطان كما قال تعالى : { ويذهب عنكم رجز الشيطان } أي : وسوسة الشيطان التي ألقاها في قلوبكم ، وقيل : الجنابة ؛ لأنها من تخييله .

فإن قيل : يلزم على هذا التكرار فإنّ هذا تقدّم في قوله تعالى : { ليطهركم به } وأجيب عنه : بأنّ المراد من قوله تعالى : { ليطهركم به } حصول الطهارة الشرعية ومن قوله تعالى { ويذهب عنكم رجز الشيطان } أن الرجز هو عين المنيّ ، فإنه شيء مستخبث ، وطابت أنفسهم كما قال تعالى : { وليربط } أي : يحبس { على قلوبكم } باليقين والصبر ولبدت الأرض حتى ثبتت عليها الأقدام كما قال تعالى : { ويثبت به الأقدام } أي : أن تسوخ في الرمل ، والضمير في «به » للماء ويجوز كما قال الزمخشريّ أن يكون للربط ؛ لأنّ القلب إذا تمكن فيه الصبر والجراءة ثبتت الأقدام في مواطن القتال .