روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{إِذۡ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ} (11)

{ إِذْ يُغَشّيكُمُ النعاس } أي يجعله غاشياً عليكم ومحيطاً بكم . والنعاس أول النوم قبل أن يثقل .

وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن النعاس في الرأس والنوم في القلب ولعل مراده الثقل والخفة وإلا فلا معنى له ، والفعل نعس كمنع والوصف ناعس ونعسان قليل . و { إِذْ يُغَشّيكُمُ } بدل ثان من { إِذْ * يَعِدُكُمُ } [ الأنفال : 7 ] على القول بجواز تعدد البدل ، وفيه إظهار نعمة أخرى فإن الخوف أطار كراهم من أوكاره فلما طامن الله تعالى قلوبهم رفرف بجناحه عليها فنعسوا ، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو هو منصوب باذكروا .

وجوز تعلقه بالنصر ، وضعف بأن فيه إعمال المصدر المعرف بأل وفيه خلاف الكوفيين ، والفصل بين المصدر ومعموله ، وعمل ما قبل إلا فيما بعدها من غير أن يكون ذلك المعمول مستثنى أو مستثنى منه أو صفة له ، والجمهور لا يجوزون ذلك خلافاً للكسائي والأخفش ، وتعلقه بما في عند الله من معنى الفعل وقل عليه : إذ يلزم تقييد استقرار النصر من الله تعالى بهذا الوقت ولا تقييد له به ، وأجاب الحلبي بأن المراد به نصر خاص فلا محذور في تقييده وبالجعل ، وفيه الفصل وعمل ما قبل إلا فيما ليس أحد الثلاثة وبما دل عليه { عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 10 ] وفيه لزوم التقييد ولا تقييد ، وأجيب بما أجيب ، والأنصاف بعد الاحتمالات الأربع . وقرأ نافع { يُغَشّيكُمُ } بالتخفيف من الإغشاء بمعنى التغشية والفاعل في القراءتين هو الله تعالى .

وقرأ ابن كثير . وأبو عمرو { *يغشاكم } على إسناد الفعل إلى النعاس . وقوله سبحانه وتعالى : { النعاس أَمَنَةً مّنْهُ } نصب على أنه مفعول له وهو مصدر بمعنى الأمن كالمنعة وإن كان قد يكون جمعاً وصفة بمعنى آمنين كما ذكره الراغب ، واستشكل بأن شرط النصب الذي هو اتحاد فاعله وفاعل الفعل العامل فيه مفقود إذ فاعله هم الصحابة الآمنون رضي الله تعالى عنهم وفاعل الآخر هو الله على القراءتين الأوليين والنعاس على الأخرى .

وأجيب بأنه مفعول له باعتبار المعنى الكنائي فإن يغشاكم النعاس يلزمه تنعسون ويغشيكم بمعناه فيتحد الفاعلان إذ فاعل كل حينئذٍ الصحابة ، وقال بعض المدققين : إنه على القراءتين الأوليين يجوز أن يكون منصوباً على العلية لفعل مترتب على الفعل المذكور أي يغشيكم النعاس فتنعسون أمناً أو على أنه مصدر لفعل آخر كذلك أي فتأمنون أمناً ، وعلى القراءة الأخيرة منصوب على العلية بيغشاكم باعتبار المعنى فإنه في حكم تنعسون أو على أنه مصدر لفعل مترتب عليه كما علمت ، وما تقدم أقل انتشاراً .

وجوز أن يراد بالأمنة الإيمان بمعناه اللغوي وهو جعل الغير آمناً فيكون مصدر آمنه ، وهو على بعده إنما يتمشى في القراءتين الأوليين لأن فاعل التغشية والأمان هو الله تعالى ، وأما على القراءة الأخرى فلا ويحتاج إلى ما مر ، ومن الناس من جوز فيها أن يجعل الأمن فعل النعاس على الإسناد المجازي لكونه من ملابسات أصحاب الأمن ، والإسناد في ذلك مقدر وليس المراد به النسبة التي بين الفعل والمفعول له أي يغشاكم النعاس لأمنه ، أو على تشبيه حاله بحال إنسان شأنه الأمن والخوف وأنه حصل له من الله تعالى الأمان من الكفار في مثل ذلك الوقت المخوف فلذلك غشاكم وأنامكم فيكون الكلام تمثيلاً وتخييلاً للمقصود بإبراز المعقول في صورة المحسوس .

والقطب جعل في الكلام استعارة بالكناية حيث ذكر أنه شبه النعاس بشخص من شأنه أن يأتيهم لكنه لا يأتيهم في وقت الخوف وإذا من أتاهم ، ثم ذكر النعاس وأراد ذلك الشخص ، والقرينة ذكر الأمنة لأنها من لوازم المشبه به ، وقد وصف الزمخشري النوم بنحو ذلك في قوله :

يهاب النوم أن يغشى عيونا *** تهابك فهو نفار شرود

وما يقال : إن مثل هذا إنما يليق بالشعر لا بالقرآن الكريم فغير مسلم ، وذكر ابن المنير في توجيه اتحاد الفاعل على القراءتين أن لقائل أن يقول : فاعل تغشية النعاس إياهم هو الله تعالى وهو فاعل الأمنة أيضاً لأنه خالقها فحينئذٍ يتحد فاعل الفعل والعلة فيرتفع السؤال ويزول الإشكال على قواعد أهل السنة التي تقتض نسبة أفعال الخلق إلى الله تعالى على أنه خالقها ومبدعها وتعقبه بأن للمورد أن يقول : المعتبر الفاعل اللغوي وهو المتصف بالفعل وهو هنا ليس إلا العبد إذ لا يقال لله سبحانه وتعالى آمن وإن كان هو الخالق وحينئذٍ يحتاج إلى الجواب بما سلف والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لأمنة ، أي أمنة كائنة منه تعالى لكم ، ولعل مغايرة ما هنا لما في سورة آل عمران لاختلاف المقام فقد قالوا : إن ذلك المقام اقتضى الاهتمام بشأن الأمن ولذلك قدمه سبحانه وتعالى وبسط الكلام فيه كما لا يخفى على من تأمل في السياق والسباق بخلافه هنا لأنه في مقام تعداد النعم فلذا جىء بالقصة مختصرة للرمز وقرىء { ءامِنَةً } بالسكون وهو لغة فيه .

{ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاء } عطف على { يُغَشّيكُمُ } وكان هذا قبل النعاس كما روي عن مجاهد وتقديم الجار والمجرور على المفعول به للاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر كما مر غير مرة ، وتقديم عليكم لما أن بيان كون التنزيل عليهم أهم من بيان كونه من السماء : وقرأ ابن كثير . وسهل . ويعقوب . وأبو عمر { وَيُنَزّلُ } بالتخفيف من الإنزال وقرأ الشعبي ما { لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ } أي من الحدث الأصغر والأكبر ووجهها كما قال ابن جني أن { مَا } موصولة واللام متعلقة بمحذوف وقع صلة لها أي وينزل عليكم الذي ثبت لتطهيركم ، ونظير هذه اللام اللام في قولك : أعطيت الثوب الذي لدفع البرد وهي في قراءة الجماعة نظير اللام في قولك : زرتك لتكرمني ومرجع القراءتين واحد والمشهورة أفصح بالمراد وانظر لم لا يجوز أن تخرج هذه القراءة على ما سمع من قولهم اسقني ما بالقصر ، وقد حكي ذلك في «القاموس » وأرى أن العدول عن ذلك إن جاز كالتيمم مع وجود الماء .

{ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان } أي وسوسته وتخويفه إياكم من العطش . أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ من طريق ابن جريج عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء فظمىء المسلمون وصلوا مجنبين محدثين وكانت بينهم رمال فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن وقال : أتزعمون أن فيكم نبياً وأنكم أولياء الله تعالى وتصلون مجنبين محدثين ؟ فأنزل الله تعالى من السماء ماء فسال عليهم الوادي فشربوا وتطهروا وثبتت أقدامهم وذهبت وسوسة الشيطان ، وفسر بعضهم الرجز هنا بالجنابة مع اعتبار كون التطهير منها واعترض بلزوم التكرار ودفع بأن الجملة الثانية تعليل للأولى والمعنى طهركم من الجنابة لأنها كانت من رجز الشيطان وتخييله . وقرىء { رِجْسٌ } وهو بمعنى الرجز { وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ } أي يقويها بالثقة بلطف الله تعالى فيما بعد بمشاهدة طلائعه ، وأصل الربط الشد ويقال لمن صبر على الشيء : ربط نفسه عليه .

قال الواحدي : ويشبه أن تكون { على } صلة أي وليربط قلوبكم . وقيل الأصل ذلك إلا أنه أتى بعلى قصداً للاستعلاء . وفيه إيماء إلى أن قلوبهم قد امتلأت من ذلك حتى كأنه علا عليها ، وفي ذلك إن إفادة التمكن ما لا يخفى { وَيُثَبّتَ بِهِ الاقدام } ولا تسوخ في الرمل فالضمير للماء كالأول .

/ وجوز أن يكون للربط ، والمراد بتثبيت الأقدام كما قال أبو عبيدة جعلهم صابرين غير فارين ولا متزلزلين .

( هذا ومن باب الإشارة ) :{ إِذْ يُغَشّيكُمُ النعاس } وهو هدو القوى البدنية والصفات النفسانية بنزول السكينة { أَمَنَةً مّنْهُ } أي أمنا من عنده سبحانه وتعالى { وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء } أي سماء الروح { مَاء } وهو ماء علم اليقين { لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ } عن حدث هواجش الوهم وجنابة حديث النفس { وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان } وسوسته وتخويفه { وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ } أي يقويها بقوة اليقين ويسكن جأشكم { وَيُثَبّتَ بِهِ الاقدام } [ الأنفال : 11 ] إذ الشجاعة وثبات الأقدام في المخاوف من ثمرات قوة اليقين