فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{إِذۡ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ} (11)

قوله : { إِذْ يُغَشاكُم } الظرف منصوب بفعل مقدّر كالذي قبله ، أو بدل ثان من إذ يعدكم ، أو منصوب بالنصر المذكور قبله . وقيل : غير ذلك مما لا وجه له . و { إِذْ يُغَشّيكُمُ } هي : قراءة نافع وأهل المدينة على أن الفاعل هو الله سبحانه . وهذه القراءة هي المطابقة لما قبلها . أعني قوله : { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } ولما بعدها أعني { وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم } فيتشاكل الكلام ويتناسب . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يغشاكم » على أن الفاعل للنعاس . وقرأ الباقون { يُغَشّيكُمُ } بفتح الغين وتشديد الشين ، وهي كقراءة نافع وأهل المدينة في إسناد الفعل إلى الله ، ونصب النعاس . قال مكي : والاختيار ضم الياء والتشديد ، ونصب النعاس لأن بعده { أَمَنَةً منْهُ } . والهاء في منه لله ، فهو الذي يغشيهم النعاس ، ولأن الأكثر عليه ، وعلى القراءة الأولى والثالثة يكون انتصاب { أمنة } على أنها مفعول له . ولا يحتاج في ذلك إلى تأويل وتكلف ، لأن فاعل الفعل المعلل والعلة واحد بخلاف انتصابها على العلة ، باعتبار القراءة الثانية ، فإنه يحتاج إلى تكلف . وأما على جعل الأمنة مصدراً فلا إشكال ، يقال أمن أمنة ، وأمناً وأماناً . وهذه الآية تتضمن ذكر نعمة أنعم الله بها عليهم ، وهي أنهم مع خوفهم من لقاء العدوّ والمهابة لجانبه ، سكن الله قلوبهم وأمَّنها حتى ناموا آمنين غير خائفين ، وكان هذا النوم في الليلة التي كان القتال في غدها ، قيل : وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان : أحدهما أنه قَّواهم بالاستراحة على القتال من الغد . الثاني : أنه أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم . وقيل : إن النوم غشيهم في حال التقاء الصفين ، وقد مضى في يوم أحد نحو من هذا في سورة آل عمران .

قوله : { وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ } هذا المطر كان بعد النعاس . وقيل : قبل النعاس . وحكى الزجاج أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر ، فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم ، فأنزل الله المطر ليلة بدر . والذي في سيرة ابن إسحاق وغيره أن المؤمنين هم الذين سبقوا إلى ماء بدر ، وأنه منع قريشاً من السبق إلى الماء مطر عظيم ، ولم يصب المسلمين منه إلا ما شدّ لهم دهس الوادي ، وأعانهم على المسير .

ومعنى { لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ } ؛ ليرفع عنكم الأحداث { وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان } أي : وسوسته لكم ، بما كان قد سبق إلى قلوبهم من الخواطر التي هي منه من الخوف والفشل حتى كانت حالهم حال من يساق إلى الموت { وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ } فيجعلها صابرة قوية ثابتة في مواطن الحرب . والضمير في { بِهِ } من قوله : { وَيُثَبّتَ بِهِ الأقدام } راجع إلى الماء الذي أنزله الله ، أي يثبت بهذا الماء الذي أنزله عليكم عند الحاجة إليه أقدامكم في مواطن القتال . وقيل : الضمير راجع إلى الربط المدلول عليه بالفعل .

/خ14