الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِذۡ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ} (11)

قوله تعالى : { إذ يَغْشاكم } : في " إذ " وجوه أحدها : أنه بدل من " إذ " في قوله : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ } [ الأنفال : 7 ] . قال الزمخشري : " إذ يغشاكم بدلٌ ثانٍ من " إذ يَعِدكم " . قوله : " ثان " لأنه أبدل منه " إذ " في قوله " إذ تَسْتغيثون " ووافقه على هذا ابن عطية وأبو البقاء . الثاني : أنه منصوبٌ بالنصر . الثالث : ب { مِنْ عِندِ اللَّهِ } [ الأنفال : 10 ] من معنى الفعل . الرابع : ب { مَا جَعَلَهُ اللَّهُ } [ الأنفال : 10 ] . الخامس : بإضمار " اذكر " . ذكر ذلك الزمخشري . وقد سبقه إلى الرابع الحوفيُّ .

وقد ضَعَّفَ الشيخُ الوجهَ الثاني بثلاثة أوجه أحدها : أنَّ فيه إعمالَ المصدرِ المقرون بأل قال : " وفيه خلاف ذهب الكوفيون إلى أنه لا يَعْمل . الثاني من الأوجه المضعِّفة أنه فيه فصلٌ بين المصدر ومعموله بالخبر وهو قوله : " إلا من عند الله " ، ولو قلت : " ضَرْبُ زيدٍ شديدٌ عمراً " لم يَجُزْ . الثالث : أنه عَمل ما قبل " إلا " فيما بعدها وليس أحدَ الثلاثةِ الجائزِ ذلك فيها ، لأنه لا يعمل ما قبلها فيما بعدها إلا أن يكونَ مستثنى أو مستثنى منه أو صفةً له . وقد جوَّز الكسائي والأخفش إعمالَ ما قبل " إلا " فيما بعدها مطلقاً ، وليس في هذه الأوجه أحسنُ من أنه أخبر عن الموصول قبل تمامِ صلته .

وضَعَّفَ الثالثَ بأنه يلزم منه أن يكون استقرارُ النصر مقيَّداً/ بهذا الظرفِ ، والنصرُ من عند الله لا يتقيَّد بوقت دون وقت . وهذا لا يَضْعُفُ به لأنَّ المرادَ بهذا النصرِ نصرٌ خاص ، وهذا النصرُ الخاصُّ كان مقيداً بذلك الظرف . وضعَّف الرابعَ بطولِ الفصل ويكون معمولاً لما قبل " إلا " .

السادس : أنه منصوبٌ بقوله : " ولتطمئنَّ به " قاله الطبري . السابع : أنه منصوبٌ بما دلَّ عليه " عزيز حكيم " قاله أبو البقاء . ونحا إليه ابن عطية قبله .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " يَغْشاكم النعاسُ " . نافع : " يُغْشِيكم " بضم الياء وكسر الشينِ خفيفةً . " النعاسَ " نصباً . والباقون " يُغَشِّيكم " كالذي قبله ، إلا أنه بتشديد الشين فالقراءة الأولى مِنْ غَشِي يَغْشَى ، و " النعاس " فاعل . وفي الثانية مِنْ " أغشى " ، وفاعلُه ضميرُ الباري تعالى ، وكذا في الثالثة مِنْ " غَشَّى " بالتشديد . و " النعاس " فيهما مفعول به ، وأغشى وغشَّى لغتان .

قوله : " أَمَنَةً " في نصبِها ثلاثةُ [ أوجه ] أحدُها : أنه مصدرٌ لفعلٍ مقدر أي : فَأَمِنْتُم أَمَنةً . الثاني : أنها منصوبة على أنها واقعةٌ موقعَ الحال : إمَّا من الفاعل ، فإن كان الفاعلُ " النعاس " فنسبةُ الأمنة إليه مجازٌ ، وإن كان الباريَ تعالى كما هو في القراءتين الأخيرتين فالنسبة حقيقةٌ ، وإمَّا من المفعولِ على المبالغة أي : جَعْلهم نفسَ الأمنة ، أو على حَذْفِ مضاف أي : ذوي أمنة .

الثالث : أنه مفعولٌ من أجله وذلك : إمَّا أن يكونَ على القراءتين الأخيرتين أو على الأولى ، فعلى القراءتين الأخيرتين أمرُها واضحٌ ، وذلك أن التغشيةَ أو الإِغشاءَ من الله تعالى ، والأمنةُ منه أيضاً ، فقد اتحد الفاعلُ فصحَّ النصب على المفعول له . وأمَّا على القراءة الأولى ففاعل " يغشى " النعاسُ ، وفاعل " الأمنة " الباري تعالى . ومع اختلافِ الفاعلِ يمتنع النصبُ على المفعول له على المشهور وفيه خلافٌ ، اللهم إلا أن يُتَجَوَّز بتجوز .

وقد أوضح ذلك الزمخشري فقال : " وأَمَنَةً " مفعولٌ له . فإن قلت : أما وجب أن يكون فاعلُ الفعلِ المُعَلَّلِ والعلةِ واحداً ؟ قلت : بلى ولكن لمَّا كان معنى " يَغْشاكم النعاسُ " تَنْعَسون انتصب " أَمَنةً " على معنى : أنَّ النعاسَ والأَمَنَة لهم ، والمعنى إذ تَنْعَسُون أمناً " . ثم قال : " فإن قلت : هل يجوزُ أن ينتصبَ على أن الأمنةَ للنعاس الذي هو يغشاكم أي : يَغْشاكم النعاسُ لأمنة ، على أنَّ إسنادَ الأَمْن إلى النعاس إسنادٌ مجازي وهو لأصحابِ النُّعاس على الحقيقة ، أو على أنه أتاكم في وقت كان مِنْ حق النعاس في ذلك الوقت المَخُوف أن لا يُقَدَّمَ على غشيانكم ، وإنما غَشَّاكم أمنةً حاصلةً له من الله لولاها لم يَغْشكم على طريقة التمثيل والتخييل " . قلت : لا تبعد فصاحة القرآن عن مثله ، وله فيه نظائرُ ، وقد ألمَّ به من قال :

يَهاب النَّوْمُ أن يَغْشى عيوناً *** تهابُكَ فهْوَ نَفَّارٌ شَرودُ

وقوله : { مِنْه } في محلِّ نصبٍ صفةً ل " أَمَنَة " ، والضمير في " منه " يجوزُ أن يعودَ على الباري تعالى ، وأَنْ يعودَ على النعاس بالمجاز المذكور آنفاً .

وقرأ ابن محيصن والنخعي ويحيى بن يعمر " أَمْنَةً " بسكون الميم . ونظير أَمِنَ أَمَنَةً بالتحريك حَيِي حياة ، ونظيرُ أَمِن أَمْنة بالسكون رَحِم رَحْمَةً .

قوله : { مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ } العامَّةُ على " ماءً " بالمد . و " ليطهركم " متعلِّقٌ ب " يُنَزِّل " . وقرأ الشعبي " ما ليطهركم " بألفٍ مقصورة ، وفيها تخريجان أظهرهما وهو الذي ذكره ابن جني وغيره أنَّ " ما " بمعنى الذي ، و " ليطهِّرَكم " صلتُها ، وقال بعضهم : تقديره : الذي هو ليطهركم ، فقدَّر الجارَّ خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، والجملةُ صلة ل " ما " . وقد ردَّ الشيخ هذين التخريجين بأن لامَ " كي " لا تقعُ صلةً . والثاني : أن " ما " هو ماء بالمد ، ولكن العرب قد حَذَفَتْ همزتَه فقالوا : " شربت ماً " بميم منونة ، حكاه ابن مقسم ، وهذا لا نظيرَ له إذ لا يجوز أن يُنْتَهَك اسمٌ مُعْرَبٌ بالحذف حتى يبقى على حرفٍ واحد .

إذا عُرِف هذا فيجوزُ أن يكونَ قَصَرَها ، وإنما لم ينوِّنْه إجراءً للوصل مُجْرى الوقف . ثم هذه الألفُ يحتمل أن تكون عين الكلمة وأن الهمزةَ محذوفةٌ/ وهذه الألفُ بدلٌ مِنَ الواو التي في " مَوَهَ " في الأصل ، ويجوز أن تكونَ المبدلةَ من التنوين وأجرى الوصلَ مُجْرى الوقف . والأولُ أَوْلَى لأنهم يُراعون في الوقف أن لا يتركوا الموقوف عليه على حرفٍ واحد نحو " مُرٍ " اسم فاعل مِنْ أرى يُري .

قوله : " ويُذْهِبَ " نسقٌ على " ليطهِّركم " . وقرأ عيسى بن عمر " ويُذْهِبْ " بسكون الباء ، وهو تخفيف سمَّاه الشيخ جزماً . والعامة على " رِجز " بكسرِ الراء والزاي . وقرأ ابن محيصن بضم الراء ، وابنُ أبي عبلة بالسين . وقد تقدَّم الكلامُ على كل واحد منها . ومعنى " رجز الشيطان " هنا ما ينشأُ عن وسوسته .