فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِذۡ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ} (11)

{ إذ يغشيكم } الفاعل هو الله وفيه ثلاث قراآت سبعية يغشاكم كيلقاكم من غشيه : إذا أتاه وأصابه ، ويغشيكم من أغشاه أي أنزله بكم وأوقعه عليكم ، ويغشيكم من غشاه تغشية غطاء ، وقيل الفاعل { النعاس أمنة منه } وهو النوم الخفيف والأكثر على الأول وهذه الآية تتضمن ذكر نعمة أنعم الله بها عليهم ، وهي أنهم مع خوفهم من لقاء العدو والمهابة لجانبه ، سكن الله قلوبهم وأمنها حتى ناموا آمنين غير خائفين وكان هذا النوم في الليلة التي كان القتال في غدها .

قيل وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان .

أحدهما : أنه قواهم بالاستراحة على القتال من الغد .

والثاني : أنه أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم ، وقيل أن النوم غشيهم في حال التقاء الصفين ، وقد مضى في يوم أحد نحو من هذا في سورة آل عمران .

عن علي قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي تحت شجرة حتى أصبح ، قال مجاهد : أمنة منه أي أمنا من الله لكم من عدوكم أن يغلبكم .

وقال قتادة : رحمة منه أمنة من العدو ، وعنه قال : النعاس في الرأس والنوم في القلب ، وعنه قال : كان النعاس أمنة من الله وكان النعاس نعاسين يوم بدر ويوم أحد ، وقال ابن مسعود : النعاس في القتال أمنة من الله ، وفي الصلاة من الشيطان ، وقيل إن ذلك النعاس كان في حكم المعجزة لأنه أمر خارق للعادة .

{ وينزل عليكم من السماء ماء } هذا المطر كان بعد النعاس وقيل قبله ، وحكى الزجاج أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه ، وبقي المؤمنون لا ماء لهم فأنزل الله المطر ليلة بدر .

والذي في سيرة ابن إسحاق وغيره أن المؤمنين هم الذين سبقوا إلى ماء بدر وأنه منع قريشا من السبق إلى الماء مطر عظيم ، ولم يصب المسلمين منه إلا ما شد لهم دهس الوادي وأعانهم على المسير ، وقال مجاهد : المطر أنزله الله عليهم قبل النعاس فأطفأ بالمطر الغبار والتبدت به الأرض وطابت به أنفسهم ، وثبتت به أقدامهم .

وعن عروة بن الزبير قال : بعث الله السماء وكان الوادي دهسا وأصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ما لبد الأرض ولم يمنعهم المسير ، وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه .

{ ليطهركم به } أي ليرفع عنكم الأحداث والجنابة ، عن ابن عباس : أن المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء فظمأ المسلمون وصلوا مجنبين محدثين ، وقد قدمنا أن المشهور في كتب السير المعتمدة أن المشركين لم يغلبوا المؤمنين على الماء بل المؤمنون هم الذين غلبوا عليه من الابتداء ، وهذا المروي عن ابن عباس في إسناده العوفي وهو ضعيف جدا .

{ ويذهب عنكم رجز الشيطان } أي وسوسته لكم بما كان قد سبق إلى قلوبكم من الخواطر التي منها الخوف والفشل حتى كانت حالكم حال من يساق إلى الموت ، والرجز في الأصل العذاب الشديد ، وأريد به هنا نفس وسوسة الشيطان مجازا لمشقتها على أهل الإيمان كما قيل كل ما اشتدت مشقته على النفوس فهو رجز .

{ وليربط على قلوبكم } بالنصر واليقين فيجعلها صابرة قوية ثابتة في مواطن الحرب ، والربط في اللغة الشد ، وكل من صبر على أمر فقد ربط نفسه عليه ، قيل لفظة على صلة كذا في الوسيط وقيل للاستعلاء أي أن القلوب امتلأت من ذلك الربط حتى كأنه علا عليها وارتفع فوقها ذكره الواحدي .

{ ويثبت به } أي بالماء الذي أنزله الله عند الحاجة إليه ، وقيل الضمير راجع إلى الربط المدلول عليه بالفعل { الأقدام } أي أقدامكم في مواطن القتال ومعارك الجدال ، وقال قتادة : كان الوادي دهاسا فلما مطروا اشتدت الرملة وسهل المشي عليه لأن العادة أن المشي في الرمل عسر فإذا نزل عليه الماء وجمد سهل المشي ولم يبق فيه غبار يشوش على الماشي فيه .