المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (19)

19- يا أهل الكتاب قد جاءتكم رسالة رسولنا الذي يظهر لكم الحق ، بعد إذ توقفت الرسالات فترة من الزمن ، حتى لا تعتذروا عن كفركم بأن الله لم يبعث إليكم مبشِّراً ولا منذراً ، ها هو ذا قد أتاكم بشيرٌ ونذيرٌ ، والله هو القادر على كل أمر - ومنه : إنزال الرسالات - ومحاسبكم على ما كان منكم .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (19)

قوله تعالى : { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا } ، محمد صلى الله عليه وسلم .

قوله تعالى : { يبين لكم } أعلام الهدى ، وشرائع الدين .

قوله تعالى : { على فترة من الرسل } أي انقطاع من الرسل . واختلفوا في مدة الفترة بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم ، قال أبو عثمان النهدي : ستمائة سنة ، وقال قتادة : خمسمائة وستون سنة ، وقال معمر والكلبي : خمسمائة وأربعون سنة ، وسميت فترة ، لأن الرسل كانت تترى بعد موسى عليه السلام ، من غير انقطاع إلى زمن عيسى عليه السلام ، ولم يكن بعد عيسى عليه السلام سوى رسولنا صلى الله عليه وسلم .

قوله تعالى : { أن تقولوا } ، كيلا تقولوا .

قوله تعالى : { ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (19)

وينهي هذا البيان ، بتكرار النداء الموجه إلى أهل الكتاب ، يقطع به حجتهم ومعذرتهم ويقفهم أمام المصير وجها لوجه . بلا غبش ولا عذر ، ولا غموض :

( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل . . أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير . . فقد جاءكم بشير ونذير . والله على كل شيء قدير ) . .

وبهذه المواجهة الحاسمة ، لا تعود لأهل الكتاب جميعا حجة من الحجج . . لا تعود لهم حجة في أن هذا الرسول الأمي لم يرسل إليهم . فالله - سبحانه - يقول :

يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا . .

ولا تعود لهم حجة في أنهم لم ينبهوا ولم يبشروا ولم ينذروا في مدى طويل ؛ يقع فيه النسيان ويقع فيه الانحراف . . فقد جاءهم - الآن - بشير ونذير . .

ثم يذكرهم أن الله لا يعجزة شيء . . لا يعجزه أن يرسل رسولا من الأميين . ولا يعجزه كذلك أن يأخذ أهل الكتاب بما يكسبون :

( والله على كل شيء قدير ) . .

وتنتهي هذه الجولة مع أهل الكتاب ؛ فتكشف انحرافاتهم عن دين الله الصحيح الذي جاءتهم به رسلهم من قبل . وتقرر حقيقة الاعتقاد الذي يرضاه الله من المؤمنين . وتبطل حجتهم في موقفهم من النبي الأمي ؛ وتأخذ عليهم الطريق في الاعتذار يوم الدين . .

وبهذا كله تدعوهم إلى الهدى من ناحية ؛ وتضعف تأثير كيدهم في الصف المسلم من ناحية أخرى . وتنير الطريق للجماعة المسلمة ولطلاب الهدى جميعا . . إلى الصراط المستقيم . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (19)

يقول تعالى مخاطبا أهل الكتاب من اليهود والنصارى : إنه قد أرسل إليهم رسوله محمدا{[9459]} خاتم النبيين ، الذي لا نبي بعده ولا رسول بل هو المعقب لجميعهم ؛ ولهذا قال : { عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ } أي : بعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى ابن مريم .

وقد اختلفوا في مقدار هذه الفترة ، كم هي ؟ فقال أبو عثمان النَّهْديّ وقتادة - في رواية عنه - : كانت ستمائة سنة . ورواه البخاري عن سلمان الفارسي . وعن قتادة : خمسمائة وستون سنة ، وقال مَعْمَر ، عن بعض أصحابه : خمسمائة وأربعون سنة . وقال : الضحاك : أربعمائة{[9460]} وبضع وثلاثون سنة .

وذكر ابن عساكر في ترجمة عيسى ، عليه السلام{[9461]} عن الشعبي أنه قال : ومنْ رفع المسيح إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم تسعمائة وثلاث{[9462]} وثلاثون سنة .

والمشهور هو الأول ، وهو أنه ستمائة سنة . ومنهم من يقول : ستمائة وعشرون سنة . ولا منافاة بينهما ، فإن القائل الأول أراد ستمائة سنة شمسية ، والآخر أراد قمرية ، وبين كل مائة سنة شمسية وبين القمرية نحو من ثلاث{[9463]} سنين ؛ ولهذا قال تعالى في قصة أصحاب الكهف : { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا } [ الكهف : 25 ] أي : قمرية ، لتكميل الثلاثمائة الشمسية التي كانت معلومة لأهل{[9464]} الكتاب . وكانت الفترة بين عيسى ابن مريم ، آخر أنبياء بني إسرائيل ، وبين محمد [ صلى الله عليه وسلم ]{[9465]} خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق ، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن{[9466]} أولى الناس بابن مريم ؛ لأنه لا نبي بيني وبينه{[9467]} {[9468]} هذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى [ عليه السلام ]{[9469]} نبي ، يقال له : خالد بن سنان ، كما حكاه القضاعي وغيره .

والمقصود أن الله [ تعالى ]{[9470]} بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل ، وطُمُوس من السبل ، وتَغَير الأديان ، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان ، فكانت النعمة به أتم النعم ، والحاجة إليه أمر عَمَم ، فإن الفساد كان قد عم{[9471]} جميع البلاد ، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد ، إلا قليلا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين ، من بعض أحبار اليهود وعباد النصارى والصابئين ، كما قال الإمام أحمد :

حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا هشام حدثنا قتادة ، عن مُطَّرَّف ، عن عياض بن حِمَار المُجَاشِعِيِّ ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته : " وإن ربي أمرني أن أعلِّمكم ما جهلتم مما عَلَّمني في يومي هذا : كل مال نَحَلْته عبادي حلال ، وإني خلقت عبادي حُنَفَاء كلَّهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فأضَلَّتْهُم{[9472]} عن دينهم ، وحَرَّمَتْ عليهم ما أحللت لهم ، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ، ثم إن الله ، عز وجل ، نظر إلى أهل الأرض فَمَقَتَهُمْ ، عجَمَهم وعَرَبَهُم ، إلا بقايا من أهل الكتاب{[9473]} وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء ، تقرؤه نائما ويَقْظان ، ثم إن الله أمرني أن أُحَرِّقَ قريشا ، فقلت : يا رب ، إذن يَثْلَغُوا رأسي فيدعوه خُبْزة ، فقال : استخرجهم كما استخرجوك ، واغزهم نُغْزِك ، وأنفق عليهم فَسَنُنفق عليك ، وابعث جندا نبعث خمسة أمثاله{[9474]} وقاتل بمن أطاعك من عصاك ، وأهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مُقْسِطٌ مُتصدِّق موفق{[9475]} ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم ، ورجل عَفِيف فقير{[9476]} متصدق ، وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زَبْرَ{[9477]} له ، الذين هم فيكم تَبْعًا أو تُبعاء - شك يحيى - لا يبتغون أهلا ولا مالا والخائن الذي لا يَخْفَى له طَمَعٌ وإن دَقَّ إلا خانه ، ورجل لا يُصْبِح ولا يُمْسِي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك " ، وذكر البخيل{[9478]} أو الكذب ، " والشِّنْظير : الفاحش " . {[9479]}

ثم رواه الإمام أحمد ، ومسلم ، والنسائي من غير وجه ، عن قتادة ، عن مطرف بن عبد الله بن الشّخير . وفي رواية سعيد{[9480]} عن قتادة التصريح بسماع قتادة هذا الحديث من مطرف . وقد ذكر الإمام أحمد في مسنده : أن قتادة لم يسمعه من مطرف ، وإنما سمعه من أربعة ، عنه . ثم رواه هو ، عن روح ، عن عوف ، عن حكيم الأثرم ، عن الحسن قال : حدثني مطرف ، عن عياض بن حمَار ، فذكره . و [ كذا ]{[9481]} رواه النسائي من حديث غُنْدَر ، عن عوف الأعرابي به . {[9482]}

والمقصود من إيراد هذا الحديث قوله : " وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ، عربهم وعجمهم إلا بقايا من بني إسرائيل " . وفي لفظ مسلم : " من أهل الكتاب " . وكان{[9483]} الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم ، حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم ، فهدى الخلائق ، وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور ، وتركهم على المحَجَّة البيضاء ، والشريعة الغرَّاء ؛ ولهذا قال تعالى : { أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ } أي : لئلا تحتجوا وتقولوا{[9484]} - : يا أيها الذين بدلوا دينهم وغيروه - ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر ، فقد جاءكم بشير ونذير ، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

قال ابن جرير : معناه : إني قادر على عقاب من عصاني ، وثواب من أطاعني .


[9459]:في ر: "محمد".
[9460]:في أ: "أربعمائة سنة".
[9461]:تاريخ دمشق لابن عساكر (14/30 القسم المخطوط) ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور (20/86).
[9462]:في أ: "ثلاثة".
[9463]:في أ: "ثلاثة".
[9464]:في ر، أ: "عند أهل".
[9465]:زيادة من أ.
[9466]:في ر، أ: "أنا".
[9467]:في ر: "لم يكن بيني وبينه نبي".
[9468]:صحيح البخاري برقم (3442).
[9469]:زيادة من أ.
[9470]:زيادة من أ.
[9471]:في ر: "عمم".
[9472]:في أ: "فاحتالتهم".
[9473]:في ر، أ: "إلا بقايا من بني إسرائيل أهل الكتاب".
[9474]:في أ: "أمثالهم".
[9475]:في أ: "موقن".
[9476]:في أ: "فقير ذو عيال".
[9477]:في أ: "رض".
[9478]:في ر، أ: "البخل".
[9479]:المسند (4/162).
[9480]:في ر، أ: "شعبة".
[9481]:زيادة من ر، أ.
[9482]:المسند (4/162) وصحيح مسلم برقم (2865) وسنن النسائي الكبرى برقم (8071).
[9483]:في ر، أ: "فكان"
[9484]:في ر، أ: "يحتجوا ويقولوا".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (19)

وقوله تعالى : { يا أهل الكتاب } خطاب لليهود والنصارى ، والرسول في قوله : { رسولنا } محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { على فترة من الرسل } ، أي على انقطاع من مجيئهم مدة ما ، والفترة سكون بعد حركة في جرم ، ويستعار ذلك في المعاني ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «لكل عمل شرة ، ولكل شرة فترة »{[4499]} ، وقال الشاعر :

وإني لتعروني لذكراك فترة . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4500]}

معناه سكون بعد اضطراب ، واختلف الناس في قدرة الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما ، فقال قتادة خمسمائة عام وستون عاماً . وقال الضحاك أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة وفي الصحيح أن الفترة بينهما ستمائة سنة{[4501]} . وهذه الآية نزلت بسبب قول اليهود : ما أنزل الله على بشر بعد موسى من شيء ، قاله ابن عباس ، وقوله تعالى : { أن تقولوا } مفعول من أجله ، المعنى حذار أن تقولوا محتجين يوم القيامة : { ما جاءنا من بشير ولا نذير } فقد جاءكم وقامت الحجة عليكم ، { والله على كل شيء قدير } فهو الهادي والمضل والمنعم والمعذب لا رب غيره .


[4499]:- أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، ولفظه: (إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كان فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك)- =عن ابن عمرو- وقال في الجامع الصغير- حديث صحيح. والشرة بالكسرة: النشاط والحدة.
[4500]:-البيت لكثير عزة، والرواية المشهورة: وإني لتعروني لذكراك هزّة كما انتفض العصفور بلله القطر
[4501]:- أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة في قوله: {قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل} (قال: (هو محمد جاء بالحق الذي فتر به بين الحق والباطل، فيه بيان وموعظة، ونور وهدى، وعصمة لمن أخذ به، قال: وكانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وذكر لنا أنه (كذا) كانت ستمائة سنة، أو ما شاء الله من ذلك) (الدر المنثور)، وذكر ابن كثير في تفسيره أن البخاري رواه عن سلمان الفارسي.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (19)

كَرّر الله موعظتهم ودعوتَهم بعد أن بيّن لهم فسادَ عقائدهم وغرورَ أنفسهم بياناً لا يدع للمنصف متمسَّكاً بتلك الضلالات ، كما وعظهم ودعَاهُم آنفاً بمثل هذا عقّب بيان نقضهم المواثيق . فموقع هذه الآية تكرير لموقع قوله : { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيراً ممّا كنتم تخفون من الكتاب } [ المائدة : 15 ] الآيات ، إلاّ أنّه ذكر الرسولَ صلى الله عليه وسلم هنا بوصف مجيئه على فترة من الرسل ليذكِّرهم بأنّ كتبهم مصرّحة بمجيء رسول عقب رسلهم ، وليريهم أنّ مجيئه لم يكن بِدعاً من الرسل إذ كانوا يَجيئون على فِتَر بينهم . وذُكِر الرسول هنالك بوصف تبيينه ما يخفونه من الكتاب لأنّ ما ذُكر قبلَ الموعظة هنا قد دلّ على مساواة الرسل في البشرية ومساواة الأمم في الحاجة إلى الرسالة ، وما ذكر قبلَ الموعظة هنالك إنّما كان إنباء بأسرار كتبهم وما يخفون عِلمه عن النّاس لما فيه من مساويهم وسوء سمعتهم . وحذف مفعول { يبيّن } لظهور أنّ المراد بيان الشريعة . فالكلام خطاب لأهل الكتاب يتنزّل منزلة تأكيد لِجملة { يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيراً ممّا كنتم تخفون } [ المائدة : 15 ] ، فلذلك فصلت .

وقوله : { على فَترة من الرسل } حال من ضمير { يبيّن لكم } ، فهو ظرف مستقرّ ، ويجوز أن يكون ظرفاً لغواً متعلّقاً ب { جاءكم } . ويجوز تعلّقه بفعل { يبيّن } لأنّ البيان انقطع في مدّة الفترة .

و ( على ) للاستعلاء المجازي بمعنى ( بَعْد ) لأنّ المستعليَ يستقرّ بعد استقرار ما يستعلي هو فوقه ، فشبّه استقراره بعده باستعلائه عليه ، فاستعير له الحرف الدال على الاستعلاء .

والفترة : انقطاع عمل مّا . وحرف ( مِن ) في قوله : { مِن الرسل } للابتداء ، أي فترة من الزمن ابتداؤها مدّة وجود الرسل ، أي أيام إرسال الرسل .

والمجيء مستعار لأمر الرسول بتبليغ الدّين ، فكما سمّي الرسول رسولاً سمّى تبليغه مجيئاً تشبيهاً بمجيء المُرسَل من أحَدٍ إلى آخر .

والمراد بالرسل رُسل أهل الكتاب المتعاقبين من عهد موسى إلى المسيح ، أو أريد المسيح خاصّة . والفترة بين البعثة وبين رفع المسيح ، كانت نحو خمسمائة وثمانين سنة . وأمّا غيرُ أهل الكتاب فقد جاءتهم رسل مثل خالد بن سنان وحنظلة بن صفوان .

و { أن تقولوا } تعليل لقوله : { قد جاءكم } لبيان بعض الحِكَم من بعثة الرسول ، وهي قطع معذرة أهل الكتاب عند مؤاخذتهم في الآخرة ، أو تقريعهم في الدّنيا على ما غيّروا من شرائعهم ، لئلاّ يكون من معاذيرهم أنّهم اعتادوا تعاقب الرسل لإرشادهم وتجديد الدّيانة ، فلعلّهم أن يعتذروا بأنّهم لمّا مضت عليهم فترة بدون إرسال رسول لم يتّجه عليهم ملام فيما أهملوا من شرعهم وأنّهم لو جاءهم رسول لاهتدَوا . فالمعنى أن تقولوا : ما جاءنا رسول في الفترة بعد موسى أو بعد عيسى . وليس المراد أن يقولوا : ما جاءنا رسول إلينا أصلاً ، فإنّهم لا يدّعون ذلك ، وكيف وقد جاءهم موسى وعيسى .

فكان قوله : { أنّ تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير } تعليلاً لمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم ، ومتعلّقاً بفعل { ما جَاءنا } . ووجب تقدير لام التّعليل قبل ( أنْ ) وهو تقدير يقتضيه المعنى . ومثل هذا التقدير كثير في حذف حرف الجرّ قبل ( أنْ ) حذفاً مطّرداً ، والمقام يعيّن الحرف المحذوف ؛ فالمحذوف هنا حرف اللام .

ويُشكل معنى الآية بأنّ علّة إرسال الرسول إليهم هي انتفاءُ أن يقولوا { ما جاءنا من بشير ولا نذير } لا إثباتُه كما هو واضح ، فلماذا لم يُقَل : أن لا تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذر ، وقد جاء في القرآن نظائر لهذه الآية ، وفي شعر العرب كقول عمرو بن كلثوم :

فعجّلنا القِرى أنْ تَشْتُمُونا

أراد أن لا تشتمونا . فاختلف النحْويون في تقدير ما به يتقوّم المعنى في الآيات وغيرها : فذهب البصريون إلى تقدير اسم يناسب أن يكون مفعولاً لأجله لفعل { جاءكم } ، وقدّروه : ( كراهية أن تقولوا ) ، وعليه درج صاحب « الكشّاف » ومتابعوه من جمهور المفسّرين ؛ وذهب الكوفيون إلى تقدير حرف نفي محذوف بعد ( أنْ ) ، والتقدير : أنْ لا تقولوا ، ودرج عليه بعض المفسّرين مثل البَغوي ؛ فيكون من إيجاز الحذف اعتماداً على قرينة السياق والمقام . وزعم ابن هشام في « مغني اللبيب » أنّه تعسّف ، وذكر أنّ بعض النحويين زعم أنّ من معاني ( أنْ ) أن تكون بمعنى ( لَئِلاّ ) .

وعندي : أنّ الذي ألجأ النحويين والمفسّرين لهذا التأويل هو البناء على أنّ ( أنْ ) تُخلِّصُ المضارع للاستقبال فتقتضي أنّ قول أهل الكتاب : ما جاءنا بشير ولا نذير غير حاصل في حال نزول الآية ، وأنه مقدّر حصوله في المستقبل . ويظهر أنّ إفادة ( أنْ ) تخليص المضارع للمستقبل إفادة أكْثريَّة وليست بمطّردة ، وقد ذهب إلى ذلك أبو حيّان وذكر أنّ أبا بكر الباقلاني ذهب إليه ، بل قد تفيد ( أن ) مجرد المصدرية كقوله تعالى : { وأن تصوموا خير لكم } [ البقرة : 183 ] ، وقول امرىء القيس :

فإمَّا تَرَيْني لا أغمّض ساعة *** مِن الليل إلاّ أن أكبّ وأنْعَسَا

فإنّه لا يريد أنّه ينعس في المستقبل . وأنّ صَرْفَها عن إفادة الاستقبال يعتمد على القرائن ، فيكون المعنى هنا أنّ أهل الكتاب قد قالوا هذا العذر لمن يلومهم مثل الّذين اتّبعوا الحنيفية ، كأمية بن أبي الصلت وزيدِ بن عمرو بن نُفيل ، أو قاله اليهود لنصارى العرب .

وقوله : { فقد جاءكم بشير ونذير } الفاء فيه للفصيحة ، وقد ظهر حسن موقعها بما قرّرتُ به معنى التعليل ، أي لأن قلتم ذلك فقد بطل قولكم إذ قد جاءكم بشير ونذير . ونظير هذا قول عباس بن الأحنف :

قالوا خراسانُ أقصى ما يُراد بنا *** ثم القُفُول فقد جئْنا خُراسانا