63- احرصوا علي احترام دعوة الرسول لكم إلي الاجتماع للأمور الهامة ، واستجيبوا لها ، ولا تجعلوها كدعوة بعضكم لبعض في جواز التهاون فيها ، والانصراف عنها ، ولا تنصرفوا إلا بعد الاستئذان والموافقة ، وفي أضيق الحدود وأشد الضرورات . فالله سبحانه يعلم من ينصرفون بدون إذن مختفين بين الجموع حتى لا يراهم الرسول ، فليحذر المخالفون عن أمر الله أن يعاقبهم سبحانه علي عصيانهم بمحنة شديدة في الدنيا كالقحط والزلزال ، أو بعذاب شديد الإيلام قد أعد لهم في الآخرة وهو النار .
قوله تعالى : { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً } قال ابن عباس رضي الله عنهما : يقول احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه ، فإن دعاءه موجب لنزول البلاء بكم ليس كدعاء غيره . وقال مجاهد وقتادة : لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضاً : يا محمد ، يا عبد الله ، ولكن فخموه وشرفوه ، فقولوا : يا نبي الله ، يا رسول الله ، في لين وتواضع . { قد يعلم الله الذين يتسللون } أي : يخرجون { منكم لواذاً } أي : يستر بعضهم بعضاً ويروغ في خفية ، فيذهب ، واللواذ : مصدر لاوذ يلاوذ ملاوذة ، ولواذاً . قيل : كان هذا في حفر الخندق ، فكان المنافقون ينصرفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مختفين . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( لواذاً ) أي : يلوذ بعضهم ببعض ، وذلك أن المنافقين كان يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة واستماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد في استتار . ومعنى قوله : قد يعلم الله التهديد بالمجازاة { فيحذر الذين يخالفون عن أمره } أي : أمره ، " وعن " صلة . وقيل : معناه يعرضون عن أمره وينصرفون عنه بغير إذنه . { أن تصيبهم فتنة } أي : لئلا تصيبهم فتنة ، قال مجاهد : بلاء في الدنيا ، { أو يصيبهم عذاب أليم } وجيع في الآخرة . وقيل : ( عذاب أليم ) عاجل في الدنيا .
ويلتفت إلى ضرورة توقير الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عند الاستئذان ، وفي كل الأحوال . فلا يدعى باسمه : يا محمد . أو كنيته : يا أبا القاسم . كما يدعو المسلمون بعضهم بعضا . إنما يدعى بتشريف الله له وتكريمه : يا نبي الله . يا رسول الله :
( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) . .
فلا بد من امتلاء القلوب بالتوقير لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حتى تستشعر توقير كل كلمة منه وكل توجيه . وهي لفتة ضرورية . فلا بد للمربي من وقار ، ولا بد للقائد من هيبة . وفرق بين أن يكون هو متواضعا هينا لينا ؛ وأن ينسوا هم أنه مربيهم فيدعوه دعاء بعضهم لبعض . . يجب أن تبقى للمربي منزلة في نفوس من يربيهم يرتفع بها عليهم في قرارة شعورهم ، ويستحيون هم أن يتجاوزوا معها حدود التبجيل والتوقير .
ثم يحذر المنافقين الذين يتسللون ويذهبون بدون إذن ، يلوذ بعضهم ببعض ، ويتدارى بعضهم ببعض . . فعين الله عليهم ، وإن كانت عين الرسول لا تراهم : ( قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ) . . وهو تعبير يصور حركة التخلي والتسلل بحذر من المجلس ؛ ويتمثل فيها الجبن عن المواجهة ، وحقارة الحركة والشعور المصاحب لها في النفوس .
( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) . .
وإنه لتحذير مرهوب ، وتهديد رعيب . . فليحذر الذين يخالفون عن أمره ، ويتبعون نهجا غير نهجه ، ويتسللون من الصف ابتغاء منفعة أو اتقاء مضرة . ليحذروا أن تصيبهم فتنة تضطرب فيها المقاييس ، وتختل فيها الموازين ، وينتكث فيها النظام ، فيختلط الحق بالباطل ، والطيب بالخبيث ، وتفسد أمور الجماعة وحياتها ؛ فلا يأمن على نفسه أحد ، ولا يقف عند حده أحد ، ولا يتميز فيها خير من شر . . وهي فترة شقاء للجميع :
( أو يصيبهم عذاب أليم )في الدنيا أو في الآخرة . جزاء المخالفة عن أمر الله ، ونهجه الذي ارتضاه للحياة . ويختم هذا التحذير ، ويختم معه السورة كلها بإشعار القلوب المؤمنة والمنحرفة بأن الله مطلع عليها ، رقيب على عملها ، عالم بما تنطوي عليه وتخفيه .
قال الضحاك ، عن ابن عباس : كانوا يقولون : يا محمد ، يا أبا القاسم ، فنهاهم الله عز وجل ، عن ذلك ، إعظامًا لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه{[21377]} قال : فقالوا : يا رسول الله ، يا نبي الله . وهكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جُبَير .
وقال قتادة : أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأن يُبَجَّل وأن يعظَّم وأن يسود .
وقال مقاتل [ بن حَيَّان ]{[21378]} في قوله : { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } يقول : لا تُسَمّوه إذا دَعَوتموه : يا محمد ، ولا تقولوا : يا بن عبد الله ، ولكن شَرّفوه فقولوا : يا نبي الله ، يا رسول الله{[21379]} .
وقال مالك ، عن زيد بن أسلم في قوله : { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } قال : أمرهم الله أن يشرِّفوه .
هذا قول . وهو الظاهر من السياق ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا } [ البقرة : 104 ] ، وقال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } إلى قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } [ الحجرات : 2 - 5 ]
فهذا كله من باب الأدب [ في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم والكلام معه وعنده كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته ]{[21380]} والقول الثاني في ذلك أن المعنى في : { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } أي : لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره ، فإن دعاءه مستجاب ، فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا . حكاه ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، والحسن البصري ، وعطية العَوفي ، والله{[21381]} أعلم .
وقوله : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا } قال مقاتل بن حَيَّان : هم المنافقون ، كان يثقل عليهم الحديث في يوم الجمعة - ويعني بالحديث الخطبة - فيلوذون ببعض الصحابة - أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - حتى يخرجوا من المسجد ، وكان لا يصلح للرجل أن يخرج من المسجد إلا بإذن من النبيّ صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة ، بعدما يأخذ في الخطبة ، وكان إذا أراد أحدهم الخروجَ أشارَ بإصبعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيأذن له من غير أن يتكلم الرجل ؛ لأن الرجل منهم كان إذا تكلم والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب ، بطلتْ جُمعته .
قال السُّدِّي كانوا إذا كانوا معه في جماعة ، لاذ بعضهم ببعض ، حتى يتغيبوا عنه ، فلا يراهم .
وقال قتادة في قوله : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا } ، يعني : لواذا [ عن نبي الله وعن كتابه .
وقال سفيان : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا } قال : من الصف . وقال مجاهد في الآية : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا } ] {[21382]} قال : خلافًا .
وقوله : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } أي : عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سبيله هو{[21383]}
ومنهاجه وطريقته [ وسنته ]{[21384]} وشريعته ، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله ، فما وافق ذلك قُبِل ، وما خالفه فهو مَرْدُود على قائله وفاعله ، كائنا ما كان ، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من عمل عَمَلا ليس عليه أمرنا فهو رَدّ " {[21385]} .
أي : فليحذر وليخْشَ من خالف شريعة الرسول باطنًا أو ظاهرًا { أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } أي : في قلوبهم ، من كفر أو نفاق أو بدعة ، { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : في الدنيا ، بقتل ، أو حَد ، أو حبس ، أو نحو ذلك .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن همام بن مُنَبِّه قال : هذا ما حدَّثنا أبو هُرَيرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارًا ، فلما أضاءت ما حولها{[21386]} . جعل الفراش وهذه الدواب اللاتي [ يقعن في النار ]{[21387]} يقعن فيها ، وجعل يحجزهن ويغلبنه ويتقحَّمن فيها " . قال : " فذلك مثلي ومثلكم ، أنا آخذ بحجزِكم عن النار هلم عن النار ، فتغلبوني وتقتحمون فيها " . أخرجاه من حديث عبد الرزاق{[21388]}
{ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا في جواز الإعراض والمساهلة في الإجابة والرجوع بغير إذن ، فإن المبادرة إلى إجابته عليه الصلاة والسلام واجبة والمراجعة بغير إذنه محرمة . وقيل لا تجعلوا نداءه وتسميته كنداء بعضكم بعضا باسمه ورفع الصوت به والنداء من وراء الحجرات ، ولكن بلقبه المعظم مثل يا نبي الله ، ويا رسول الله مع التوقير والتواضع وخفض الصوت ، أو لا تجعلوا دعاءه عليكم كدعاء بعضكم على بعض فلا تبالوا بسخطه فإن دعاءه موجب ، أو لا تجعلوا دعاءه ربه كدعاء صغيركم كبيركم يجيبه مرة ويرده أخرى فإن دعاءه مستجاب . { قد يعلم اله الذين يتسللون منكم } ينسلون قليلا قليلا من الجماعة ونظير تسلل تدرج وتدخل . { لواذا } ملاوذة بأن يستتر بعضكم ببعض حتى يخرج ، أو يلوذ بمن يؤذن له فينطلق معه كأنه تابعه وانتصابه على الحال وقرئ بالفتح . { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } يخالفون أمره بترك مقتضاه ويذهبون سمتا خلاف سمته ، و { عن } لتضمنه معنى الإعراض أو يصدون عن أمره دون المؤمنين من خالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه ، وحذف المفعول لأن المقصود بيان المخالف والمخالف عنه والضمير لله تعالى ، فإن الأمر له والضمير لله تعالى فإن الأمر له في الحقيقة أو للرسول فإنه المقصود بالذكر . { أن تصيبهم فتنة } محنة في الدنيا . { أو يصيبهم عذاب أليم } في الآخرة واستدل به على أن لأمر للوجوب فإنه يدل على أن ترك مقتضى الأمر مقتض لأحد العذابين ، فإن الأمر بالحذر عنه يدل على خشية المشروط بقيام المقتضي له وذلك يستلزم الوجوب .