152- وإن نصر الله محقق واقع ، ولقد صدقكم الله الوعد بالنصر حين قتلتم كثيرين منهم أول الأمر بإرادته ، حتى إذا ضعف رأيكم في القتال ، واختلفتم في فهم أمر النبي إياكم بالمقام في مراكزكم ، فرأي بعضكم ترك موقعه حيث ظهر النصر ، ورأي البعض البقاء حتى النهاية ، وعصى فريق منكم أمر الرسول فمضى لطلب الغنيمة من بعد ما أراكم ما تحبون من النصر ، وصرتم فريقين منكم من يريد متاع الدنيا ، ومنكم من يريد ثواب الآخرة ، لما كان ذلك ، منعكم نصره ثم ردكم بالهزيمة عن أعدائكم ، ليمتحنكم فيظهر المخلص من غيره . ولقد تجاوز عنكم لما ندمتم . والله ذو الفضل عليكم بالعفو وقبول التوبة .
قوله تعالى : { ولقد صدقكم الله وعده } . قال محمد بن كعب القرظي : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة من أحد ، قد أصابهم ما أصابهم ، قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر ؟ فأنزل الله تعالى ( ولقد صدقكم الله وعده ) . بالنصر والظفر ، وذلك أن الظفر كان للمسلمين في الابتداء .
قوله تعالى : { إذ تحسونهم بإذنه } . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أحداً خلف ظهره واستقبل المدينة وجعل عينين ، وهو جبل عن يساره ، وأقام عليه الرماة ، وأمر عليهم عبد الله بن جبير ، وقال لهم " احموا ظهورنا ، فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا ، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا " . وأقبل المشركون ، فأخذوا في القتال فجعل الرماة يرشقون خيل المشركين بالنبل ، والمسلمون يضربونهم بالسيوف ، حتى ولوا هاربين فذلك قوله تعالى ( إذ تحسونهم بإذنه ) أي تقتلونهم قتلاً ذريعاً بقضاء الله . قال أبو عبيدة : الحس : الاستئصال بالقتل .
قوله تعالى : { حتى إذا فشلتم } . أي إن جبنتم ، وقيل : معناه فلما فشلتم .
قوله تعالى : { وتنازعتم في الأمر وعصيتم } . فالواو زائدة في وتنازعتم ، يعني إذا فشلتم تنازعتم ، وقيل : فيه تقديم وتأخير ، تقديره حتى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم ، ومعنى التنازع الاختلاف ، وكان اختلافهم أن الرماة اختلفوا حين انهزم المشركون ، فقال بعضهم : انهزم القوم فما مقامنا ؟ وأقبلوا على الغنيمة ، وقال بعضهم : لا تجاوزوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وثبت عبد الله بن جبير في نفر يسير دون العشرة . فلما رأى خالد بن الوليد ، وعكرمة بن أبي جهل ذلك ، حملوا على الرماة فقتلوا عبد الله بن جبير وأصحابه ، وأقبلوا على المسلمين ، وحالت الريح فصارت دبوراً بعد ما كانت صباً ، وانقضت صفوف المسلمين ، واختلطوا فجعلوا يقتلون على غير شعار يضرب بعضهم بعضاً ما يشعرون من الدهش ، ونادى إبليس : أن محمداً قد قتل ، فكان ذلك سبب الهزيمة للمسلمين . قوله تعالى ( وعصيتم ) يعني الرسول صلى الله عليه وسلم وخالفتم أمره .
قوله تعالى : { من بعد ما أراكم } . الله .
قوله تعالى : { ما تحبون } . يا معشر المسلمين من الظفر والغنيمة .
قوله تعالى : { منكم من يريد الدنيا } . يعني الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب .
قوله تعالى : { ومنكم من يريد الآخرة } . يعني : الذين ثبتوا مع عبد الله بن جبير حتى قتلوا ، قال عبد الله بن مسعود : ما شعرت أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان يوم أحد ، ونزلت هذه الآية .
قوله تعالى : { ثم صرفكم عنهم } . أي ردكم عنهم بالهزيمة .
قوله تعالى : { ليبتليكم } . ليمتحنكم ، وقيل : لينزل البلاء عليكم .
قوله تعالى : { ولقد عفا عنكم } . فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة منكم لأمر نبيكم .
وهنا يردهم السياق إلى مصداق وعد الله هذا في غزوة أحد ذاتها . فقد كان لهم النصر الساحق في أوائلها . ولقد استحر القتل في المشركين حتى ولوا الأدبار ، وتركوا وراءهم الغنائم ، وسقط لواؤهم فلم تمتد يد لرفعه حتى رفعته لهم امرأة ! . . ولم ينقلب النصر هزيمة للمسلمين إلا حين ضعفت نفوس الرماة أمام إغراء الغنائم ؛ وتنازعوا فيما بينهم ، وخالفوا عن أمر رسول الله [ ص ] نبيهم وقائدهم . . وهنا يردهم السياق إلى صميم المعركة ومشاهدها ومواقفها وأحداثها وملابساتها ، في حيوية عجيبة :
( ولقد صدقكم الله وعده ، إذ تحسونهم بإذنه ، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر ، وعصيتم - من بعد ما أراكم ما تحبون : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة . ثم صرفكم عنهم ليبتليكم . ولقد عفا عنكم ، والله ذو فضل على المؤمنين . إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ، والرسول يدعوكم في أخراكم ، فأثابكم غما بغم ، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم . والله خبير بما تعملون . ثم أنزل عليكم من بعد الغم امنة نعاسا يغشى طائفة منكم ، وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ، يقولون : هل لنا من الأمر من شيء ؟ قل : إن الأمر كله لله . يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك . يقولون : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . قل : لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . وليبتلي الله ما في صدوركم . وليمحص ما في قلوبكم ، والله عليم بذات الصدور . إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا . ولقد عفا الله عنهم . إن الله غفور حليم ) . .
إن التعبير القرآني هنا ليرسم مشهدا كاملا لمسرح المعركة ، ولتداول النصر والهزيمة . مشهدا لا يترك حركة في الميدان ، ولا خاطرة في النفوس ، ولا سمة في الوجوه ، ولا خالجة في الضمائر ، إلا ويثبتها . . وكأن العبارات شريط مصور يمر بالبصر ، ويحمل في كل حركة صورا جديدة نابضة . وبخاصة حين يصور حركة الإصعاد في الجبل ، والهروب في دهش وذعر ، ودعاء الرسول [ ص ] للفارين المرتدين عن المعركة ، المصعدين للهرب . يصحب ذلك كله حركة النفوس ، وما يدور فيها من خوالج وخواطر وانفعالات ومطامع . . ومع هذا الحشد من الصور الحية المتحركة النابضة ، تلك التوجيهات والتقريرات التي يتميز بها أسلوب القرآن ، ومنهج القرآن التربوي العجيب :
( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ) . .
وكان ذلك في مطالع المعركة ، حيث بدأ المسلمون يحسون المشركين ، أي يخمدون حسهم ، أو يستأصلون شأفتهم . قبل أن يلهيهم الطمع في الغنيمة . وكان رسول الله [ ص ] قد قال لهم : " لكم النصر ما صبرتم " فصدقهم الله وعده على لسان نبيه .
( حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) . .
وهو تقرير لحال الرماة . وقد ضعف فريق منهم أمام إغراء الغنيمة ؛ ووقع النزاع بينهم وبين من يرون الطاعة المطلقة لأمر رسول الله [ ص ] وانتهى الأمر إلى العصيان . بعد ما رأوا بأعينهم طلائع النصر الذي يحبونه . فكانوا فريقين : فريقا يريد غنيمة الدنيا ، وفريقا يريد ثواب الآخرة . وتوزعت القلوب فلم يعد الصف وحدة ، ولم يعد الهدف واحدا . وشابت المطامع جلاء الإخلاص والتجرد الذي لا بد منه في معركة العقيدة . فمعركة العقيدة ليست ككل معركة . إنها معركة في الميدان ومعركة في الضمير . ولا انتصار في معركة الميدان دون الانتصار في معركة الضمير . إنها معركة لله ، فلا ينصر الله فيها إلا من خلصت نفوسهم له .
وما داموا يرفعون راية الله وينتسبون إليها ، فإن الله لا يمنحهم النصر إلا إذا محصهم ومحضهم للراية التي رفعوها ؛ كي لا يكون هناك غش ولا دخل ولا تمويه بالراية . ولقد يغلب المبطلون الذين يرفعون راية الباطل صريحة في بعض المعارك - لحكمة يعلمها الله - أما الذين يرفعون راية العقيدة ولا يخلصون لها إخلاص التجرد ، فلا يمنحهم الله النصر أبدا ، حتى يبتليهم فيتمحصوا ويتمحضوا . . وهذا ما يريد القرآن أن يجلوه للجماعة المسلمة بهذه الإشارة إلى موقفهم في المعركة ، وهذا ما أراد الله - سبحانه - أن يعلمه للجماعة المسلمة ، وهي تتلقى الهزيمة المريرة والقرح الأليم ثمرة لهذا الموقف المضطرب المتأرجح !
( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) . .
والقرآن يسلط الأضواء على خفايا القلوب ، التي ما كان المسلمون أنفسهم يعرفون وجودها في قلوبهم . . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله [ ص ] يريد الدنيا ، حتى نزل فينا يوم أحد : ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) . . وبذلك يضع قلوبهم أمامهم مكشوفة بما فيها ؛ ويعرفهم من أين جاءتهم الهزيمة ليتقوها !
وفي الوقت ذاته يكشف لهم عن طرف من حكمة الله وتدبيره ، وراء هذه الآلام التي تعرضوا لها ؛ ووراء هذه الأحداث التي وقعت بأسبابها الظاهرة :
( ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ) . .
لقد كان هناك قدر الله وراء أفعال البشر . فلما أن ضعفوا وتنازعوا وعصوا صرف الله قوتهم وبأسهم وانتباههم عن المشركين ، وصرف الرماة عن ثغرة الجبل ، وصرف المقاتلين عن الميدان ، فلاذوا بالفرار . . وقع كل هذا مرتبا على ما صدر منهم ؛ ولكن مدبرا من الله ليبتليهم . . ليبتليهم بالشدة والخوف والهزيمة والقتل والقرح ؛ وما يتكشف عنه هذا كله من كشف مكنونات القلوب ، ومن تمحيص النفوس ، وتمييز الصفوف - كما سيجيء .
وهكذا تقع الأحداث مرتبة على أسبابها ، وهي في الوقت ذاته مدبرة بحسابها . بلا تعارض بين هذا وذاك . فلكل حادث سبب ، ووراء كل سبب تدبير . . من اللطيف الخبير . .
عفا عما وقع منكم من ضعف ومن نزاع ومن عصيان ؛ وعفا كذلك عما وقع منكم من فرار وانقلاب وارتداد . . عفا عنكم فضلا منه ومنة ، وتجاوزا عن ضعفكم البشري الذي لم تصاحبه نية سيئة ولا إصرار على الخطيئة . . عفا عنكم لأنكم تخطئون وتضعفون في دائرة الإيمان بالله ، والاستسلام له ، وتسليم قيادكم لمشيئته :
( والله ذو فضل على المؤمنين ) . .
ومن فضله عليهم أن يعفو عنهم ، ما داموا سائرين على منهجه ، مقرين بعبوديتهم له ؛ لا يدعون من خصائص الألوهية شيئا لأنفسهم ، ولا يتلقون نهجهم ولا شريعتهم ولا قيمهم ، ولا موازينهم إلا منه . . فإذا وقعت منهم الخطيئة وقعت عن ضعف وعجز أو عن طيش ودفعة . . فيتلقاهم عفو الله بعد الابتلاء والتمحيص والخلاص . .
وقوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } قال ابن عباس : وعدهم الله النصر .
وقد يستدل بهذه الآية على أحد القولين المتقدمين في قوله : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنزلِينَ . بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } أن ذلك كان يوم أحد لأن عدوهم كان ثلاثة آلاف مقاتل ، فلما واجهوهم كان الظفر والنصر أول النهار للإسلام ، فلما حصل ما حصل من عصيان الرُّماة وفشل بعض المقاتلة ، تأخر الوعد الذي كان مشروطا بالثبات والطاعة ؛ ولهذا قال : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ } أي : أول النهار { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } أي : تقتلونهم{[5823]} { بِإِذْنِهِ } أي : بتسليطه إياكم عليهم { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ } وقال{[5824]} ابن جريج : قال ابن عباس : الفشل الجبن ، { وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ } كما وقع للرماة { مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ } وهو الظفر منهم{[5825]} { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا } وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } ثم أدالهم عليكم ليختبركم ويمتحنكم { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } أي : غفر لكم ذلك الصَّنِيع ، وذلك - والله أعلم - لكثرة عَدد العدو وعُدَدهم ، وقلة عَدد المسلمين وعُدَدهم .
قال ابن جريج : قوله : { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } قال : لم يستأصلكم . وكذا قال محمد بن إسحاق ، رواهما ابن جرير { وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود أخبرنا عبد الرحمن ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن عُبَيد الله{[5826]} عن ابن عباس أنه قال : ما نَصَرَ الله في مَوْطِن كما نصره يوم أحد . قال : فأنكرنا ذلك ، فقال ابن عباس : بيني وبين من أنكر ذلك كتابُ الله ، إن الله يقول في يوم أحد : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } يقول ابن عباس : والحَسُّ : القتل{[5827]} { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ } الآية{[5828]} وإنما عنى بهذا الرماة ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ، ثم قال : " احْمُوا ظُهُورَنَا ، فَإنْ رَأيْتُمُونَا نقتل فَلا تَنْصُرُونَا وَإنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا فَلا تُشْرِكُونَا . فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم وأباحُوا عسكر المشركين أكبّت الرُّماة جميعا [ ودخلوا ]{[5829]} في العسكر ينهبون ، ولقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَهُم هكذا - وشبك بين يديه - وانتشبوا ، فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها ، دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فضرب{[5830]} بعضهم بعضا والتبسوا ، وقُتل من المسلمين ناس كثير ، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار ، حتى قُتِل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعةٌ ، وجال المسلمون جَوْلَةً نحو الجبل ولم يبلغوا - حيث يقول الناس - الغار ، إنما كان{[5831]} تحت المِهْراس ، وصاح الشيطان : قُتل محمد ، فلم يُشَك فيه أنه حق ، فما زلنا كذلك ما نَشُك أنه حق ، حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين ، نعرفه بتلفته{[5832]} إذا مشى - قال : ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا - قال : فَرَقِيَ نحونا وهو يقول : " اشتد{[5833]} غَضَبَ اللهِ عَلَى قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ رَسُولِ اللهِ " . ويقول مرة أخرى : " اللَّهم إنه ليس لَهم أنْ يَعْلُونَا " . حتى انتهى إلينا ، فمكث ساعة ، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل : اعْلُ هبل ، مرتين - يعني آلهته - أين ابن أبي كَبْشة ؟ أين ابن أبي قحَافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر : يا رسول الله ، ألا أجيبه ؟ قال : " بلى " قال : فلما قال : اعل هبل . قال عمر : الله أعلى وأجل . فقال أبو سفيان : قد أنعمت عينها فعَادِ عنها{[5834]} أو : فَعَالِ ! فقال : أين ابن أبي كبشة ؟ أين ابن أبي قُحَافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر : هذا رسول الله ، وهذا أبو بكر ، وها أنا ذا عمر . قال : فقال أبو سفيان : يوم بيوم بدر ، الأيام دُوَل ، وإن الحرب سِجَال . قال : فقال عمر : لا سواء ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار . قال{[5835]} إنكم تزعمون{[5836]} ذلك ، لقد خِبْنا إذا وخَسِرْنا ثم قال أبو سفيان : إنكم ستجدون في قتلاكم مثلة{[5837]} ولم يكن ذلك على رأي سراتنا . قال : ثم أدركَتْه حَمِيَّة الجاهلية فقال : أما إنه إن كان ذلك لم نَكْرهْه .
هذا حديث غريب ، وسياق عجيب ، وهو من مرسلات ابن عباس ، فإنه لم يشهد أحُدًا ولا أبوه .
وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي النَّضْر الفقيه ، عن عثمان بن سعيد ، عن سليمان بن داود بن علي بن عبد الله بن عباس ، به . وهكذا رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في دلائل النبوة ، من حديث سليمان بن داود الهاشمي ، به{[5838]} ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها ، فقال{[5839]} الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، حدثنا عطاء بن السائب عن الشعبي ، عن ابن مسعود قال : إن النساء كن يوم أحد ، خلْف المسلمين ، يُجْهزْن {[5840]} على جَرْحى المشركين ، فلو حَلَفت يومئذ رجوت أن أبَر : أنه ليس أحد منا يريد الدنيا ، حتى أنزل الله عز وجل : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } فلما خالف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعَصَوا ما أمروا به ، أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسعة : سبعة من الأنصار ، ورجلين من قريش ، وهو عاشرهم ، فلما رهقُوه [ قال : " رَحِمَ اللهُ رجلا رَدَّهُمْ عَنَّا " . قال : فقام رجل من الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل ، فلما رَهقُوه ]{[5841]} أيضا قال : " رَحِمَ اللهُ رَجُلا رَدَّهُمْ عَنَّا " . فلم يزل يقول ذا حتى قُتِل السبعة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه : " مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا " .
فجاء أبو سفيان فقال : اعْلُ هُبَلُ . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قُولُوا : اللهُ أعْلَى وأجَلُّ " . فقالوا : الله أعلى وأجل . فقال أبو سفيان : لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قُولُوا : " اللهُ مَوْلانَا ، وَالْكَافِرُونَ لا مَوْلَى لَهُم " . ثم قال أبو سفيان : يومٌ بيوْم بَدْر ، يومٌ علينا ويوم لنا{[5842]} ويوم نُسَاءُ ويوم نُسَر . حَنْظَلَةَ بِحَنْظَلَةَ ، وفلان بفلان ، وفلان بفلان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا سَوَاء . أمَّا قَتْلانَا فَأْحَيْاءٌ يُرْزَقُونَ ، وَقْتَلاكُمْ فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ " . قال أبو سفيان : قد كان{[5843]} في القوم مَثُلَةٌ ، وإنْ كانَتْ لَعَنْ{[5844]} غير مَلأ منَّا ، ما أمرتُ ولا نَهَيْتُ ، ولا أحْبَبْتُ ولا كَرِهتُ ، ولا ساءني ولا سرَّني . قال : فنظروا فإذا حمزةُ قد بُقِرَ بَطْنُه ، وأخذتْ هنْد كَبده فلاكَتْها فلم تستطع أن تأكلها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكَلَتْ شَيْئًا ؟ " قالوا : لا . قال : " مَا كَانَ اللهُ ليُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ حَمْزَةَ فِي النَّارِ " .
قال : فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة فَصَلَّى عليه ، وَجِيء برجل من الأنصار فَوُضِع إلى جنبه فصلَّى عليه ، فَرُفِعَ الأنصاري وتُرِكَ حمزة ، ثم جيء بآخر فوضعَه إلى جنب حمزة فصلى [ عليه ]{[5845]} ثم رُفِعَ وتُرِكَ حمزة ، حتى صلَّى عليه يومئذ سبعين صلاة .
تفرد به أحمد أيضًا{[5846]} .
وقال البخاري : حدثنا عُبَيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق : عن البراء قال : لقينا المشركين يومئذ ، وأجْلَس النبي صلى الله عليه وسلم جَيْشا من الرُّماة ، وأمَّر عليهم عبد الله - يعني ابن جُبَيْر - وقال : " لا تَبْرَحُوا إنْ{[5847]} رأيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلا تَبْرَحُوا ، وإنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلا تُعِينُونَا " . فلما لقيناهم هربُوا ، حتى رأينا النساء يَشْتَددْنَ{[5848]} في الجبل ، رَفَعْنَ عن سُوقهن ، وقد بدت خَلاخلهن ، فأخذوا يقولون : الغنيمةَ الغَنيمة . فقال عبد الله : عَهدَ إليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ألا تَبْرَحُوا . فأبَوْا ، فلما أبَوْا صَرَفَ وجوههم ، فأُصِيب سبعون قتيلا فأشرف أبو سفيان فقال : أفي القوم محمد ؟ فقال : " لا تجيبوه " . فقال : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ فقال : " لا تُجِيبُوهُ " . فقال : أفي القوم ابن الخطاب ؟ فقال : إن هؤلاء قد قُتِلوا ، فلو كانوا أحياء لأجابوا . فلم يملك عُمَرُ نفسه فقال : كَذَبْتَ يَا عَدَوَّ اللهِ ، قد أبقى الله لك ما يُحزِنكَ{[5849]} فقال أبو سفيان : اعْل هُبَل . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أجِيبُوهُ " . قالوا : ما نقول ؟ قال : " قُولُوا : الله أعْلَى وأجَلُّ " . فقال أبو سفيان : لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أجِيبُوهُ " . قالوا : ما نقول ؟ قال : " قُولُوا : اللهُ مَوْلانَا ، وَلا مَوْلَى لَكُمْ " . قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر ، والحرب سِجَال ، وتجدون مَثُلَةً لم آمر بها ولم تسؤني .
تفرد به البخاري من هذا الوجه ، ثم رواه عن عَمْرو بن خالد ، عن زُهَير بن معاوية عن أبي إسحاق ، عن البراء ، بنحوه{[5850]} وسيأتي بأبْسط من هذا .
وقال البخاري أيضا : حدثنا عُبَيد الله بن سعيد ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عُرْوة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : لَمَّا كان يوم أُحد هُزِم المشركون ، فصَرخَ إبليس : أيْ عباد الله ، أخْرَاكم . فَرَجعت أولادهم{[5851]} فاجْتَلَدَتْ هي وأخراهم ، فَبَصُرَ حُذَيفة فإذا هو بأبيه اليمان ، فقال : أيْ عباد الله ، أبي أبي . قال : قالت : فوالله ما احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوه ، فقال حذيفة : يغفر الله لكم . قال عروة : فوالله ما زَالَتْ في حذيفة بقية خير حتى لقي الله عز وجل{[5852]} .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني يحيى بن عَبَّاد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن جَده أن الزبير بن العوام قال : والله لقد رأيتني أنظر إلى خَدَم [ هند ]{[5853]} وصواحباتها مُشَمِّرات هوارب ما دون أخْذهن كثير ولا قليل{[5854]} ومالت الرُّماة إلى العسكر حين كَشَفْنا القوم عنه ، يريدون النهب وَخَلَّوا ظهورنَا للخيل فأتتنا من أدبارنا ، وصرخ{[5855]} صارخ : ألا إنَّ محمدًا قد قُتل . فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصَبْنا أصحاب اللواء ، حتى ما يدنو منه أحد من القوم .
قال محمد بن إسحاق : فلم يزل لواء المشركين صريعا ، حتى أخذته عَمْرَة بنت علقمة الحارثية ، فدفعته لقريش فلاثوا{[5856]} به{[5857]} {[5858]} وقال السُّدِّي عن عبد خير قال : قال{[5859]} عبد الله بن مسعود{[5860]} قال : ما كنتُ أرى أن أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزلت{[5861]} فينا ما نزل يوم أحد { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ } .
وقد رُوي من غير وَجْه عن ابن مسعود ، وكذا رُوي عن عبد الرحمن بن عَوْف وأبي طلحة ، رواهن ابن مَرْدُويَه في تفسيره .
وقوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } قال ابن إسحاق : حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع ، أحدُ بني عديّ بن النجار قال : انتهى أنسُ بنُ النَّضر ، عَمّ أنس بن مالك ، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عُبَيد الله ، في رجال من المهاجرين والأنصار ، قد ألْقَوْا بأيديهم فقال : ما يخليكم{[5862]} ؟ فقالوا : قُتِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم . قال : فما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه . ثم استقبل القومَ فقاتل حتى قُتِل .
وقال البخاري : حدثنا حسان بن حسان ، حدثنا محمد بن طلحة ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس بن مالك : أن عمه - يعني أنس بن النضر - غاب عن بدر فقال : غِبْتُ عن أول قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لَئِنْ أشْهدني الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيَرَيَنّ الله ما أُجدّ فلقي يومَ أحد ، فهُزم الناسُ ، فقال : اللهُمّ إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين - وأبرَأ إليك مما جاء به المشركون ، فتقدم بسيفه فَلقي سعدَ بن مُعَاذ فقال : أينَ يا سعد ؟ إني أجدُ ريح الجنة دون أحد . فمضى فَقُتِل ، فما عُرف حتى عَرَفته أخته ببنانه{[5863]} بشامة{[5864]} وبه بضع وثمانون من طَعْنة وضَرْبة ورَمْية بسَهْم .
هذا لفظ البخاري وأخرجه مسلم من حديث ثابت عن أنس ، بنحوه{[5865]} .
وقال البخاري [ أيضا ]{[5866]} حدثنا عبدان ، أخبرنا أبو حَمْزَةَ عن عثمان بن مَوْهَب قال : جاء رجل حج البيت ، فرأى قوما جلوسا ، فقال : من هؤلاء القُعُودُ ؟ قالوا : هؤلاء قريش . قال : من الشيخ ؟ قالوا : ابن عُمَر . فأتاه فقال : إني سائلك عن شيء فحدثني . قال : أنْشُدُك بحرمة هذا البيت أتعلم أنَّ عثمان بن عفان فر يوم أحد ؟ قال : نعم . قال : فَتَعْلَمُه تَغَيَّب عن بدر فلم يشهدها ؟ قال : نعم . قال : فتعْلم أنه تخلف عن بيعة الرّضْوان فلم يشهَدْها ؟ قال : نعم . قال : فكبر ، فقال{[5867]} ابن عمر : تَعَالَ لأخبرَك ولأبيَّن لك عما سألتني عنه . أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه ، وأما تَغَيُّبه عن بدر فإنه كان تحتَه بنتُ النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت مريضة ، فقال له رسول الله{[5868]} صلى الله عليه وسلم : " إنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَه " . وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعزّ ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه ، فبعث عثمانَ ، فكانت{[5869]} بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى : " هِذِهِ يَدُ عُثْمَان " . فضرب بها على يده ، فقال : " هِذِهِ يَدُ عُثْمَان اذْهَبْ بِهَا الآنَ مَعَكَ " .
ثم رواه البخاري من وجه آخر عن أبي عَوانة عن عثمان بن عبد الله بن موهب{[5870]} .
{ ولقد صدقكم الله وعده } أي وعده إياكم بالنصر بشرط التقوى والصبر ، وكان كذلك حتى خالف الرماة فإن المشركين لما أقبلوا جعل الرماة يرشقونهم بالنبل والباقون يضربونهم بالسيف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم . { إذ تحسونهم بإذنه } تقتلونهم ، من حسه إذا أبطل حسه . { حتى إذا فشلتم } جبنتم وضعف رأيكم ، أو ملتم إلى الغنيمة فإن الحرص من ضعف العقل . { وتنازعتم في الأمر } يعني اختلاف الرماة حين انهزم المشركون فقال بعضهم فما موقفنا ها هنا ، وقال آخرون لا نخالف أمر الرسول فثبت مكانه أميرهم في نفر دون العشرة ونفر الباقون للنهب وهو المعني بقوله : { وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون } من الظفر والغنيمة وانهزام العدو ، وجواب إذا محذوف وهو امتحنكم ، { منكم من يريد الدنيا } وهم التاركون المركز للغنيمة . { ومنكم من يريد الآخرة } وهم الثابتون محافظة على أمر الرسول عليه السلام . { ثم صرفكم عنهم } ثم كفكم عنهم حتى حالت الحال فغلبوكم . { ليبتليكم } على المصائب ويمتحن ثباتكم على الإيمان عندها . { ولقد عفا عنكم } تفضلا ولما علم من ندمكم على المخالفة . { والله ذو فضل على المؤمنين } يتفضل عليهم بالعفو ، أو في الأحوال كلها سواء أديل لهم أو عليهم إذ الابتلاء أيضا رحمة .