256- لا إجبار لأحد على الدخول في الدين ، وقد وضح بالآيات الباهرة طريق الحق ، وطريق الضلال ، فمن اهتدى إلى الإيمان وكفر بكل ما يطغى على العقل ، ويصرفه عن الحق ، فقد استمسك بأوثق سبب يمنعه من التردي في الضلال ، كمن تمسك بعروة متينة محكمة الرباط تمنعه من التردي في هوة ، والله سميع لما تقولون ، عليم بما تفعلون ومجازيكم على أفعالكم{[24]} .
قوله تعالى : { لا إكراه في الدين } . قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة ، والمقلاة من النساء لا يعيش لها ولد ، وكانت تنذر : لئن عاش لها ولد لتهودنه ، فإذا عاش ولدها جعلته في اليهود ، فجاء الإسلام وفيهم منهم ، فلما أجلبت بنو النضير كان فيهم عدد من أولاد الأنصار ، فأرادت الأنصار استردادهم وقالوا : هم أبناؤنا وإخواننا فنزلت هذه الآية : ( لا إكراه في الدين ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خير أصحابكم ، فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فأجلوهم معهم . وقال مجاهد : كان ناس مسترضعين في اليهود من الأوس ، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني النضير قال : الذين كانوا مسترضعين فيهم : لنذهبن معهم ولندينن بدينهم ، فمنهم أهلوهم ، فنزلت ( لا إكراه في الدين ) . وقال مسروق : كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان فتنصرا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الطعام فلزمهما أبوهما وقال : لا أدعكما حتى تسلما ، فتخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر ؟ فأنزل الله تعالى : ( لا إكراه في الدين ) . فخلى سبيلهما . وقال قتادة وعطاء : نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية ، وذلك أن العرب كانت أمة أمية لم يكن لهم كتاب فلم يقبل منهم إلا الإسلام ، فلما أسلموا طوعاً أو كرهاً أنزل الله تعالى : ( لا إكراه في الدين ) فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا أو يقروا بالجزية فمن أعطى منهم الجزية لم يكره على الإسلام ، وقيل : كان هذا في الابتداء قبل أن يؤمر بالقتال فصارت منسوخة بآية السيف ، وهو قول ابن مسعود رضي الله عنهما .
قوله تعالى : { قد تبين الرشد من الغي } . أي الإيمان من الكفر والحق من الباطل .
قوله تعالى : { فمن يكفر بالطاغوت } . يعني الشيطان ، وقيل : كل ما عبد من دون الله تعالى فهو طاغوت ، وقيل : كل ما يطغي الإنسان ، فاعول من الطغيان ، زيدت التاء فيه بدلاً من لام الفعل ، كقولهم : حانوت وتابوت ، فالتاء فيها مبدلة من هاء التأنيث .
قوله تعالى : { ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } . أي تمسك واعتصم بالعقد الوثيق المحكم في الدين ، والوثقى تأنيث الأوثق وقيل : العروة الوثقى السبب الذي يوصل إلى رضا الله تعالى .
قوله تعالى : { لا انفصام لها } . لا انقطاع لها .
وعندما يصل السياق بهذه الآية إلى إيضاح قواعد التصور الإيماني في أدق جوانبها ، وبيان صفة الله وعلاقة الخلق به هذا البيان المنير . . ينتقل إلى إيضاح طريق المؤمنين وهم يحملون هذا التصور ؛ ويقومون بهذه الدعوة ؛ وينهضون بواجب القيادة للبشرية الضالة الضائعة :
( لا إكراه في الدين . قد تبين الرشد من الغي . فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها . والله سميع عليم . الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ؛ والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات . أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . .
إن قضية العقيدة - كما جاء بها هذا الدين - قضية اقتناع بعد البيان والإدراك ؛ وليست قضية إكراه وغصب وإجبار . ولقد جاء هذا الدين يخاطب الإدراك البشري بكل قواه وطاقاته . يخاطب العقل المفكر ، والبداهة الناطقة ، ويخاطب الوجدان المنفعل ، كما يخاطب الفطرة المستكنة . يخاطب الكيان البشري كله ، والإدراك البشري بكل جوانبه ؛ في غير قهر حتى بالخارقة المادية التي قد تلجيء مشاهدها الجاء إلى الإذعان ، ولكن وعيه لا يتدبرها وإدراكه لا يتعقلها لأنها فوق الوعي والإدراك .
وإذا كان هذا الدين لا يواجه الحس البشري بالخارقة المادية القاهرة ، فهو من باب أولى لا يواجهه بالقوة والإكراه ليعتنق هذا الدين تحت تأثير التهديد أو مزاولة الضغط القاهر والإكراه بلا بيان ولا إقناع ولا اقتناع .
وكانت المسيحية - آخر الديانات قبل الإسلام - قد فرضت فرضا بالحديد والنار ووسائل التعذيب والقمع التي زاولتها الدولة الرومانية بمجرد دخول الإمبراطور قسطنطين في المسيحية . بنفس الوحشية والقسوة التي زاولتها الدولة الرومانية من قبل ضد المسيحيين القلائل من رعاياها الذين اعتنقوا المسيحية اقتناعا وحبا ! ولم تقتصر وسائل القمع والقهر على الذين لم يدخلوا في المسيحية ؛ بل إنها ظلت تتناول في ضراوة المسيحيين أنفسهم الذين لم يدخلوا في مذهب الدولة ؛ وخالفوها في بعض الاعتقاد بطبيعة المسيح !
فلما جاء الإسلام عقب ذلك جاء يعلن - في أول ما يعلن - هذا المبدأ العظيم الكبير :
( لا إكراه في الدين . قد تبين الرشد من الغي ) . .
وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان ؛ واحترام إرادته وفكره ومشاعره ؛ وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه . . وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني . . التحرر الذي تنكره على الإنسان في القرن العشرين مذاهب معتسفة ونظم مذلة ؛ لا تسمح لهذا الكائن الذي كرمه الله - باختياره لعقيدته - أن ينطوي ضميره على تصور للحياة ونظمها غير ما تمليه عليه الدولة بشتى أجهزتها التوجيهية ، وما تمليه عليه بعد ذلك بقوانينها وأوضاعها ؛ فإما أن يعتنق مذهب الدولة هذا - وهو يحرمه من الإيمان باله للكون يصرف هذا الكون - وإما أن يتعرض للموت بشتى الوسائل والأسباب !
إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق " الإنسان " التي يثبت له بها وصف " إنسان " . فالذي يسلب إنسانا حرية الاعتقاد ، إنما يسلبه إنسانيته ابتداء . . ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة للعقيدة ، والأمن من الأذى والفتنة . . وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة .
والإسلام - وهو أرقى تصور للوجود وللحياة ، وأقوم منهج للمجتمع الإنساني بلا مراء - هو الذي ينادي بأن لا إكراه في الدين ؛ وهو الذي يبين لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين . . فكيف بالمذاهب والنظم الأرضية القاصرة المعتسفة وهي تفرض فرضا بسلطان الدولة ؛ ولا يسمح لمن يخالفها بالحياة ؟ !
والتعبير هنا يرد في صورة النفي المطلق : ( لا إكراه في الدين ) . . نفي الجنس كما يقول النحويون . . أي نفي جنس الإكراه . نفي كونه ابتداء . فهو يستبعده من عالم الوجود والوقوع . وليس مجرد نهي عن مزاولته . والنهي في صورة النفي - والنفي للجنس - أعمق إيقاعا وآكد دلالة .
ولا يزيد السياق على أن يلمس الضمير البشري لمسة توقظه ، وتشوقه إلى الهدى ، وتهديه إلى الطريق ، وتبين حقيقة الإيمان التي اعلن أنها أصبحت واضحة وهو يقول :
فالإيمان هو الرشد الذي ينبغي للإنسان أن يتوخاه ويحرص عليه . والكفر هو الغي الذي ينبغي للإنسان أن ينفر منه ويتقي أن يوصم به .
والأمر كذلك فعلا . فما يتدبر الإنسان نعمة الإيمان ، وما تمنحه للإدراك البشري من تصور ناصع واضح ، ، وما تمنحه للقلب البشري من طمأنينة وسلام ، وما تثيره في النفس البشرية من اهتمامات رفيعة ومشاعر نظيفة ، وما تحققه في المجتمع الإنساني من نظام سليم قويم دافع إلى تنمية الحياة وترقية الحياة . . ما يتدبر الإنسان نعمة الإيمان على هذا النحو حتى يجد فيها الرشد الذي لا يرفضه إلا سفيه ، يترك الرشد إلى الغي ، ويدع الهدى إلى الضلال ، ويؤثر التخبط والقلق والهبوط والضآلة على الطمأنينة والسلام والرفعة والاستعلاء !
ثم يزيد حقيقة الإيمان إيضاحا وتحديدا وبيانا :
( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ) . .
إن الكفر ينبغي أن يوجه إلى ما يستحق الكفر ، وهو( الطاغوت ) . وإن الإيمان يجب أن يتجه إلى من يجدر الإيمان به وهو( الله ) .
والطاغوت صيغة من الطغيان ، تفيد كل ما يطغى على الوعي ، ويجور على الحق ، ويتجاوز الحدود التي رسمها الله للعباد ، ولا يكون له ضابط من العقيدة في الله ، ومن الشريعة التي يسنها الله ، ومنه كل منهج غير مستمد من الله ، وكل تصور أو وضع أو أدب أو تقليد لا يستمد من الله . فمن يكفر بهذا كله في كل صورة من صوره ويؤمن بالله وحده ويستمد من الله وحده فقد نجا . . وتتمثل نجاته في استمساكه بالعروة الوثقى لا انفصام لها .
وهنا نجدنا أمام صورة حسية لحقيقة شعورية ، ولحقيقة معنوية . . إن الإيمان بالله عروة وثيقة لا تنفصم أبدا . . إنها متينة لا تنقطع . . ولا يضل الممسك بها طريق النجاة . . إنها موصولة بمالك الهلاك والنجاة . . والإيمان في حقيقته اهتداء إلى الحقيقة الأولى التي تقوم بها سائر الحقائق في هذا الوجود . . حقيقة الله . . واهتداء إلى حقيقة الناموس الذي سنه الله لهذا الوجود ، وقام به هذا الوجود . والذي يمسك بعروته يمضي على هدى إلى ربه ؛ فلا يرتطم ولا يتخلف ولا تتفرق به السبل ولا يذهب به الشرود والضلال .
يسمع منطق الألسنة ، ويعلم مكنون القلوب . فالمؤمن الموصول به لا يبخس ولا يظلم ولا يخيب .
وقبل أن ننتقل من هذا الدرس يحسن أن نقول كلمة عن قاعدة : ( لا إكراه في الدين ) إلى جوار فرضية الجهاد في الإسلام ، والمواقع التي خاضها الإسلام . وقوله تعالى في آية سابقة : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) . .
إن بعض المغرضين من أعداء الإسلام يرمونه بالتناقض ؛ فيزعمون أنه فرض بالسيف ، في الوقت الذي قرر فيه : أن لا إكراه في الدين . . أما بعضهم الآخر فيتظاهر بأنه يدفع عن الإسلام هذه التهمة ؛ وهو يحاول في خبث أن يخمد في حس المسلم روح الجهاد ؛ ويهون من شأن هذه الأداة في تاريخ الإسلام وفي قيامه وانتشاره . ويوحي إلى المسلمين - بطريق ملتوية ناعمة ماكرة - أن لا ضرورة اليوم أو غدا للاستعانة بهذه الأداة ! وذلك كله في صورة من يدفع التهمة الجارحة عن الإسلام ! . .
وهؤلاء وهؤلاء كلاهما من المستشرقين الذين يعملون في حقل واحد في حرب الإسلام ، وتحريف منهجه ، وقتل إيحاءاته الموحية في حس المسلمين ، كي يأمنوا انبعاث هذا الروح ، الذي لم يقفوا له مرة في ميدان ! والذي آمنوا واطمأنوا منذ أن خدروه وكبلوه بشتى الوسائل ، وكالوا له الضربات الساحقة الوحشية في كل مكان ! وألقوا في خلد المسلمين أن الحرب بين الاستعمار وبين وطنهم ليست حرب عقيدة أبدا تقتضي الجهاد ! إنما هي فقط حرب أسواق وخامات ومراكز وقواعد . . ومن ثم فلا داعي للجهاد !
لقد انتضى الإسلام السيف ، وناضل وجاهد في تاريخه الطويل . لا ليكره أحدا على الإسلام ولكن ليكفل عدة أهداف كلها تقتضي الجهاد .
جاهد الإسلام أولا ليدفع عن المؤمنين الأذى والفتنة التي كانوا يسامونها ؛ وليكفل لهم الأمن على أنفسهم وأموالهم وعقيدتهم . وقرر ذلك المبدأ العظيم الذي سلف تقريره في هذه السورة - في الجزء الثاني - ( والفتنة أشد من القتل ) . . فاعتبر الاعتداء على العقيدة والإيذاء بسببها ، وفتنة أهلها عنها أشد من الاعتداء على الحياة ذاتها . فالعقيدة أعظم قيمة من الحياة وفق هذا المبدأ العظيم . وإذا كان المؤمن مأذونا في القتال ليدفع عن حياته وعن ماله ، فهو من باب أولى مأذون في القتال ليدفع عن عقيدته ودينه . . وقد كان المسلمون يسامون الفتنة عن عقيدتهم ويؤذون ، ولم يكن لهم بد أن يدفعوا هذه الفتنة عن أعز ما يملكون . يسامون الفتنة عن عقيدتهم ، ويؤذون فيها في مواطن من الأرض شتى . وقد شهدت الأندلس من بشاعة التعذيب الوحشي والتقتيل الجماعي لفتنة المسلمين عن دينهم ، وفتنة أصحاب المذاهب المسيحية الأخرى ليرتدوا إلى الكثلكة ، ما ترك أسبانيا اليوم ولا ظل فيها للإسلام ! ولا للمذاهب المسيحية الأخرى ذاتها ! كما شهد بيت المقدس وما حوله بشاعة الهجمات الصليبية التي لم تكن موجهة إلا للعقيدة والإجهاز عليها ؛ والتي خاضها المسلمون في هذه المنطقة تحت لواء العقيدة وحدها فانتصروا فيها ؛ وحموا هذه البقعة من مصير الأندلس الأليم . . وما يزال المسلمون يسامون الفتنة في أرجاء المناطق الشيوعية والوثنية والصهيونية والمسيحية في أنحاء من الأرض شتى . . وما يزال الجهاد مفروضا عليهم لرد الفتنة إن كانوا حقا مسلمين !
وجاهد الإسلام ثانيا لتقرير حرية الدعوة - بعد تقرير حرية العقيدة - فقد جاء الإسلام بأكمل تصور للوجود والحياة ، وبأرقى نظام لتطوير الحياة . جاء بهذا الخير ليهديه إلى البشرية كلها ؛ ويبلغه إلى أسماعها وإلى قلوبها . فمن شاء بعد البيان والبلاغ فليؤمن ومن شاء فليكفر . ولا إكراه في الدين . ولكن ينبغي قبل ذلك أن تزول العقبات من طريق إبلاغ هذا الخير للناس كافة ؛ كما جاء من عند الله للناس كافة . وأن تزول الحواجز التي تمنع الناس أن يسمعوا وأن يقتنعوا وأن ينضموا إلى موكب الهدى إذا أرادوا . ومن هذه الحواجز أن تكون هناك نظم طاغية في الأرض تصد الناس عن الاستماع إلى الهدى وتفتن المهتدين أيضا . فجاهد الإسلام ليحطم هذه النظم الطاغية ؛ وليقيم مكانها نظاما عادلا يكفل حرية الدعوة إلى الحق في كل مكان وحرية الدعاة . . وما يزال هذا الهدف قائما ، وما يزال الجهاد مفروضا على المسلمين ليبلغوه إن كانوا مسلمين !
وجاهد الإسلام ثالثا ليقيم في الأرض نظامه الخاص ويقرره ويحميه . . وهو وحده النظام الذي يحقق حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان ؛ حينما يقرر أن هناك عبودية واحدة لله الكبير المتعال ؛ ويلغي من الأرض عبودية البشر للبشر في جميع أشكالها وصورها . فليس هنالك فرد ولا طبقة ولا أمة تشرع الأحكام للناس ، وتستذلهم عن طريق التشريع . إنما هنالك رب واحد للناس جميعا هو الذي يشرع لهم على السواء ، وإليه وحده يتجهون بالطاعة والخضوع ، كما يتجهون إليه وحده بالإيمان والعبادة سواء . فلا طاعة في هذا النظام لبشر إلا أن يكون منفذا لشريعة الله ، موكلا عن الجماعة للقيام بهذا التنفيذ . حيث لا يملك أن يشرع هو ابتداء ، لأن التشريع من شأن الألوهية وحدها ، وهو مظهر الألوهية في حياة البشر ، فلا يجوز أن يزاوله إنسان فيدعي لنفسه مقام الألوهية وهو واحد من العبيد !
هذه هي قاعدة النظام الرباني الذي جاء به الإسلام . وعلى هذه القاعدة يقوم نظام أخلاقي نظيف تكفل فيه الحرية لكل إنسان ، حتى لمن لا يعتنق عقيدة الإسلام ، وتصان فيه حرمات كل أحد حتى الذين لا يعتنقون الإسلام ، وتحفظ فيه حقوق كل مواطن في الوطن الإسلامي أيا كانت عقيدته . ولا يكره فيه أحد على اعتناق عقيدة الإسلام ، ولا إكراه فيه على الدين إنما هو البلاغ .
جاهد الإسلام ليقيم هذا النظام الرفيع في الأرض ويقرره ويحميه . وكان من حقه أن يجاهد ليحطم النظم الباغية التي تقوم على عبودية البشر للبشر ، والتي يدعي فيها العبيد مقام الألوهية ويزاولون فيها وظيفة الألوهية - بغير حق - ولم يكن بد أن تقاومه تلك النظم الباغية في الأرض كلها وتناصبه العداء . ولم يكن بد كذلك أن يسحقها الإسلام سحقا ليعلن نظامه الرفيع في الأرض . . ثم يدع الناس في ظله أحرارا في عقائدهم الخاصة . لا يلزمهم إلا بالطاعة لشرائعه الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والدولية . أما عقيدة القلب فهم فيها أحرار . وأما أحوالهم الشخصية فهم فيها أحرار ، يزاولونها وفق عقائدهم ؛ والإسلام يقوم عليهم يحميهم ويحمي حريتهم في العقيدة ويكفل لهم حقوقهم ، ويصون لهم حرماتهم ، في حدود ذلك النظام .
وما يزال هذا الجهاد لإقامة هذا النظام الرفيع مفروضا على المسلمين : ( حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) . . فلا تكون هناك ألوهة للعبيد في الأرض ، ولا دينونة لغير الله . .
لم يحمل الإسلام السيف إذن ليكره الناس على اعتناقه عقيدة ؛ ولم ينتشر السيف على هذا المعنى كما يريد بعض أعدائه أن يتهموه ! إنما جاهد ليقيم نظاما آمنا يأمن في ظله أصحاب العقائد جميعا ، ويعيشون في إطاره خاضعين له وإن لم يعتنقوا عقيدته .
وكانت قوة الإسلام ضرورية لوجوده وانتشاره واطمئنان أهله على عقيدتهم ، واطمئنان من يريدون اعتناقه على أنفسهم . وإقامة هذا النظام الصالح وحمايته . ولم يكن الجهاد أداة قليلة الأهمية ، ولا معدومة الضرورة في حاضره ومستقبله كما يريد أخبث أعدائه أن يوحوا للمسلمين ! . .
لا بد للإسلام من نظام ولا بد للإسلام من قوة ، ولا بد للإسلام من جهاد . فهذه طبيعته التي لا يقوم بدونها إسلام يعيش ويقود .
( لا إكراه في الدين ) . . نعم ولكن : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم . وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) . .
وهذا هو قوام الأمر في نظر الإسلام . . . وهكذا ينبغي أن يعرف المسلمون حقيقة دينهم ، وحقيقة تاريخهم ؛ فلا يقفوا بدينهم موقف المتهم الذي يحاول الدفاع ؛ إنما يقفون به دائما موقف المطمئن الواثق المستعلي على تصورات الأرض جميعا ، وعلى نظم الأرض جميعا ، وعلى مذاهب الأرض جميعا . . ولا ينخدعوا بمن يتظاهر بالدفاع عن دينهم بتجريده في حسهم من حقه في الجهاد لتأمين أهله ؛ والجهاد لكسر شوكة الباطل المعتدي ؛ والجهاد لتمتيع البشرية كلها بالخير الذي جاء به ؛ والذي لا يجني أحد على البشرية جناية من يحرمها منه ، ويحول بينها وبينه . فهذا هو أعدى أعداء البشرية ، الذي ينبغي أن تطارده البشرية لو رشدت وعقلت . وإلى أن ترشد البشرية وتعقل ، يجب أن يطارده المؤمنون ، الذين اختارهم الله وحباهم بنعمة الإيمان ، فذلك واجبهم لأنفسهم وللبشرية كلها ، وهم مطالبون بهذا الواجب أمام الله . .
يقول تعالى : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين } أي : لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه ، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة ، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورًا . وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار ، وإن كان حكمها عامًّا .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كانت المرأة تكون مِقْلاتًا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده ، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا : لا ندع أبناءنا فأنزل الله عز وجل : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ }
وقد رواه أبو داود والنسائي جميعا عن بُنْدَار به{[4360]} ومن وجوه أخر عن شعبة به نحوه . وقد رواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به{[4361]} ، وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم : أنها نزلت في ذلك .
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد الجرشي عن{[4362]} زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد [ بن جبير ]{[4363]} عن ابن عباس قوله : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } قال : نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له : الحصيني كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو رجلا مسلمًا فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ؟ فأنزل الله فيه ذلك .
رواه ابن جرير وروى السدي نحو ذلك وزاد : وكانا قد تنصرا على يدي تجار قدموا من الشام يحملون زيتًا فلما عزما على الذهاب معهم أراد أبوهما أن يستكرههما ، وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث في آثارهما ، فنزلت هذه الآية .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عوف أخبرنا شريك عن أبي هلال عن أُسَق قال : كنت في دينهم مملوكًا نصرانيًا لعمر بن الخطاب فكان يعرض علي الإسلام فآبى فيقول : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ويقول : يا أُسَق لو أسلمت لاستعنا بك على بعض أمور المسلمين .
وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية . وقال آخرون : بل هي منسوخة بآية القتال وأنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف دين الإسلام فإن أبى أحد منهم الدخول فيه ولم ينقد له أو يبذل الجزية ، قوتل حتى يقتل . وهذا معنى الإكراه قال الله تعالى : { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُون } [ الفتح : 16 ] وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [ التحريم : 9 ] وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [ التوبة : 123 ] وفي الصحيح : " عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل " {[4364]} يعني : الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثائق والأغلال والقيود والأكبال ثم بعد ذلك يسلمون وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل الجنة .
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا يحيى عن حميد عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل : " أسلم " قال : إني أجدني كارها . قال : " وإن كنت كارها " {[4365]} فإنه ثلاثي صحيح ، ولكن ليس من هذا القبيل فإنه لم يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام بل دعاه إليه فأخبر أن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة فقال له : " أسلم وإن كنت كارهًا فإن الله سيرزقك حسن النية والإخلاص " .
وقوله : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : من خلع الأنداد والأوثان{[4366]} وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله ، ووحد الله فعبده وحده وشهد أن لا إله إلا هو { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } أي : فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم .
قال أبو القاسم البغوي : حدثنا أبو روح البلدي حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم ، عن أبي إسحاق عن حسان - هو ابن فائد العبسي - قال : قال عمر رضي الله عنه : إن الجِبت : السحر والطاغوت : الشيطان ، وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في الرجال يقاتل الشجاع عمن لا يعرف ويفر الجبان من{[4367]} أمه ، وإن كرم الرجل دينه ، وحسبه خلقه ، وإن كان فارسيًّا أو نبطيا . وهكذا رواه ابن جرير{[4368]} وابن أبي حاتم من حديث الثوري عن أبي إسحاق عن حسان بن فائد العبسي عن عمر فذكره .
ومعنى قوله في الطاغوت : إنه الشيطان قوي جدًّا فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية ، من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها .
وقوله : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا } أي : فقد استمسك من الدين بأقوى سبب ، وشبه ذلك بالعروة الوثقى التي لا تنفصم فهي في نفسها محكمة مبرمة قوية وربطها قوي شديد ولهذا قال : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
قال مجاهد : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } يعني : الإيمان . وقال السدي : هو الإسلام وقال سعيد بن جبير والضحاك : يعني لا إله إلا الله . وعن أنس{[4369]} بن مالك : { بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } : القرآن . وعن سالم بن أبي الجعد قال : هو الحب في الله والبغض في الله .
وكل هذه الأقوال صحيحة ولا تنافي بينها .
وقال معاذ بن جبل في قوله : { لا انْفِصَامَ لَهَا } أي : لا انقطاع لها دون دخول الجنة .
وقال مجاهد وسعيد بن جبير : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا } ثم قرأ : { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد : 11 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن يوسف حدثنا ابن عون عن محمد عن قيس بن عباد قال : كنت في المسجد فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع ، فدخل فصلى ركعتين أوجز فيهما فقال القوم : هذا رجل من أهل الجنة . فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله فدخلت معه فحدثته فلما استأنس{[4370]} قلت له : إن القوم لما دخلت قبل المسجد قالوا كذا وكذا . قال : سبحان الله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم وسأحدثك لم : إني رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه : رأيت كأني في روضة خضراء - قال ابن عون : فذكر من خضرتها وسعتها - وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء في أعلاه عروة ، فقيل لي : اصعد عليه فقلت : لا أستطيع . فجاءني مِنْصَف - قال ابن عون : هو الوصيف{[4371]} - فرفع ثيابي من خلفي ، فقال : اصعد . فصعدت حتى أخذت بالعروة فقال : استمسك بالعروة . فاستيقظت وإنها لفي يدي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه . فقال : " أما الروضة فروضة الإسلام وأما العمود فعمود الإسلام وأما العروة فهي العروة الوثقى ، أنت على الإسلام حتى تموت " {[4372]} .
قال : وهو عبد الله بن سلام أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الله بن عون{[4373]} وأخرجه البخاري من وجه آخر ، عن محمد بن سيرين به{[4374]} .
طريق أخرى وسياق آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى وعفان قالا حدثنا حماد بن سلمة ، عن عاصم بن بهدلة عن المسيب بن رافع عن خرشة بن الحُرِّ قال : قدمت المدينة فجلست إلى مشيخة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم . فجاء شيخ يتوكأ على عصًا له فقال القوم : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا . فقام خلف سارية فصلى ركعتين فقمت إليه ، فقلت له : قال بعض القوم : كذا وكذا . فقال : الجنة لله يُدخلها{[4375]} من يشاء وإني رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا ، رأيت كأن رجلا أتاني فقال : انطلق . فذهبت معه فسلك بي منهجًا عظيمًا فعرضت لي طريق عن يساري ، فأردت أن أسلكها . فقال : إنك لست من أهلها . ثم عرضت لي طريق عن يميني فسلكتها حتى انتهت إلى جبل زلق فأخذ بيدي فزجل{[4376]} فإذا أنا على ذروته ، فلم أتقار ولم أتماسك فإذا عمود حديد في ذروته حلقة من ذهب فأخذ بيدي فزجل{[4377]} حتى أخذت بالعروة فقال : استمسك . فقلت : نعم . فضرب العمود برجله فاستمسكت بالعروة ، فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " رأيت خيرًا أما المنهج العظيم فالمحشر{[4378]} ، وأما الطريق التي عرضت عن يسارك فطريق أهل النار ، ولست من أهلها ، وأما الطريق التي عرضت عن يمينك فطريق أهل الجنة ، وأما الجبل الزلق فمنزل الشهداء ، وأما العروة التي استمسكت بها فعروة الإسلام فاستمسك بها حتى تموت " . قال : فإنما أرجو أن أكون من أهل الجنة . قال : وإذا هو عبد الله بن سلام{[4379]} .
وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن سليمان عن عفان ، وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن الحسن بن موسى الأشيب كلاهما عن حماد بن سلمة به نحوه{[4380]} . وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن سليمان بن مُسْهِر عن خرشة بن الحُرّ الفزاري به{[4381]} .
{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : نزلت هذه الآية في قوم من الأنصار ، أو في رجل منهم كان لهم أولاد قد هوّدوهم أو نصروهم¹ فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه ، فنهاهم الله عن ذلك ، حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كانت المرأة تكون مِقْلاتا ، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده¹ فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار ، فقالوا : لا ندع أبناءنا ! فأنزل الله تعالى ذكره : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ } .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا سعيد ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : كانت المرأة تكون مِقْلى ولا يعيش لها ولد قال شعبة : وإنما هو مقلات ، فتجعل عليها إن بقي لها ولد لتهوّدنه . قال : فلما أجليت بنو النضير كان فيهم منهم ، فقالت الأنصار : كيف نصنع بأبنائنا ؟ فنزلت هذه الآية : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ } قال : من شاء أن يقيم أقام ، ومن شاء أن يذهب ذهب .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا داود ، وحدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن عامر ، قال : كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاتا لا يعيش لها ولد ، فتنذر إن عاش ولدها أن تجعله مع أهل الكتاب على دينهم . فجاء الإسلام وطوائف من أبناء الأنصار على دينهم ، فقالوا : إنما جعلناهم على دينهم ، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا ، وإذ جاء الله بالإسلام فلنكرهنهم ! فنزلت : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ } فكان فصل ما بين من اختار اليهودية والإسلام ، فمن لحق بهم اختار اليهودية ، ومن أقام اختار الإسلام . ولفظ الحديث لحميد .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، قال : سمعت داود ، عن عامر ، بنحو معناه ، إلا أنه قال : فكان فصل ما بينهم إجلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ، فلحق بهم من كان يهوديا ولم يسلم منهم ، وبقي من أسلم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر بنحوه ، إلا أنه قال : إجلاء النضير إلى خيبر ، فمن اختار الإسلام أقام ، ومن كره لحق بخيبر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن أبي إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد الحرشي مولى زيد بن ثابت عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ } قال : نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين¹ كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو رجلاً مسلما ، فقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ؟ فأنزل الله فيه ذلك .
حدثني المثنى قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، قال : سألت سعيد بن جبير عن قوله : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ } قال : نزلت هذه في الأنصار . قال : قلت خاصة ؟ قال : خاصة . قال : كانت المرأة في الجاهلية تنذر إن ولدت ولدا أن تجعله في اليهود تلتمس بذلك طول بقائه . قال : فجاء الإسلام وفيهم منهم¹ فلما أجليت النضير ، قالوا : يا رسول الله ، أبناؤنا وإخواننا فيهم ، قال : فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى ذكره : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ } قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قَدْ خُيّرَ أصْحَابُكُمْ ، فإن اخْتارُوكُمْ فَهُمْ مِنْكُمْ ، وَإنِ اخْتارُوهُمْ فَهُمْ مِنْهُمْ » قال : فأجلوهم معهم .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ } إلى : { لاَ انْفِصَامَ لَهَا } قال : نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو الحصين : كان له ابنان ، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت¹ فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا أتاهم ابنا أبي الحصين ، فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا ، فرجعا إلى الشام معهم . فأتى أبوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن ابنيّ تنصرا وخرجا ، فأطلبهما ؟ فقال : «لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ » ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب . وقال : «أبْعَدَهُما الله ! هما أوّل من كَفَرَ » . فوجد أبو الحصين في نفسه على النبيّ صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما ، فنزلت : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُوا فِي أنْفُسِهِمْ حَرَجا مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيما } ثم إنه نسخ : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ } فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ } قال : كانت في اليهود يهود أرضعوا رجالاً من الأوس ، فلما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بإجلائهم ، قال أبناؤهم من الأوس : لنذهبنّ معهم ، ولنديننّ بدينهم ! فمنعهم أهلوهم ، وأكرهوهم على الإسلام ، ففيهم نزلت هذه الآية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد جميعا ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ } قال : كان ناس من الأنصار مسترضعين في بني قريظة ، فأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام ، فنزلت : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني الحجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد : كانت النضير يهودا فأرضعوا . ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم . قال ابن جريج : وأخبرني عبد الكريم ، عن مجاهد أنهم كانوا قد دان بدينهم أبناءُ الأوس ، دانوا بدين النضير .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي : أن المرأة من الأنصار كانت تنذر إن عاش ولدها لتجعلّنه في أهل الكتاب فلما جاء الإسلام قالت الأنصار : يا رسول الله ألا نُكره أولادنا الذين هم في يهود على الإسلام ، فإنا إنما جعلناهم فيها ونحن نرى أن اليهودية أفضل الأديان ؟ فلما إذ جاء الله بالإسلام ، أفلا نكرههم على الإسلام ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ } .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن داود ، عن الشعبي مثله ، وزاد : قال : كان فصل ما بين من اختار اليهود منهم وبين من اختار الإسلام ، إجلاء بني النضير¹ فمن خرج مع بني النضير كان منهم ، ومن تركهم اختار الإسلام .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ } إلى قوله : { العُرْوَةِ الوُثْقَى } قال : هذا منسوخ .
حدثني سعيد بن الربيع الرازي ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، ووائل ، عن الحسن : أن أناسا من الأنصار كانوا مسترضَعين في بني النضير ، فلما أجلوا ، أراد أهلوهم أن يلحقوهم بدينهم ، فنزلت : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ } .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا يُكره أهلُ الكتاب على الدين إذا بذلوا الجزية ، ولكنهم يُقرّون على دينهم . وقالوا : الآية في خاصّ من الكفار ، ولم ينسخ منها شيء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ } قال : أكره عليه هذا الحيّ من العرب ، لأنهم كانوا أمة أمية ، ليس لهم كتاب يعرفونه ، فلم يقبل منهم غير الإسلام ، ولا يكره عليه أهل الكتاب إذا أقرّوا بالجزية أو بالخراج ، ولم يفتنوا عن دينهم ، فيخلّى عنهم .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا سليمان ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : حدثنا قتادة في قوله : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ } قال : هو هذا الحيّ من العرب أكرهوا على الدين ، لم يقبل منهم إلا القتل أو الإسلام ، وأهل الكتاب قبلت منهم الجزية ولم يقتلوا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو بن قيس ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ } قال : أُمِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان ، فلم يقبل منهم إلا «لا إلَه إلاّ الله » ، أو السيف . ثم أُمِرَ فيمن سواهم بأن يقبل منهم الجزية فقال : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ } قال : كانت العرب ليس لها دين ، فأكرهوا على الدين بالسيف ، قال : ولا يكره اليهود ولا النصارى والمجوس إذا أعطوا الجزية .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، قال : سمعت مجاهدا يقول لغلام له نصراني : يا جرير أسلم ! ثم قال : هكذا كان يقال لهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ } قال : وذلك لما دخل الناس في الإسلام ، وأعطى أهل الكتاب الجزية .
وقال آخرون : هذه الآية منسوخة ، وإنما نزلت قبل أن يفرض القتال . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري قال : سألت زيد بن أسلم عن قول الله تعالى ذكره : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ } قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يُكره أحدا في الدين ، فأبى المشركون إلا أن يقاتلوهم ، فاستأذن الله في قتالهم ، فأذن له .
وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : نزلت هذه الآية في خاص من الناس ، وقال : عنى بقوله تعالى ذكره : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ } أهل الكتابين والمجوس ، وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق ، وأخذ الجزية منه . وأنكروا أن يكون شيء منها منسوخا .
وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب لما قد دللنا عليه في كتابنا كتاب «اللطيف من البيان عن أصول الأحكام » من أن الناسخ غير كائن ناسخا إلا ما نفى حكم المنسوخ ، فلم يجز اجتماعهما . فأما ما كان ظاهره العموم من الأمر والنهي وباطنه الخصوص ، فهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان غير مستحيل أن يقال : لا إكراه لأحد ممن أخذت منه الجزية في الدين ، ولم يكن في الآية دليل على أن تأويلها بخلاف ذلك ، وكان المسلمون جميعا قد نقلوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه أكره على الإسلام قوما ، فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام ، وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه ، وذلك كعبدة الأوثان من مشركي العرب ، وكالمرتدّ عن دينه دين الحقّ إلى الكفر ومن أشبههم ، وأنه ترك إكراه آخرين على الإسلام بقبوله الجزية منه ، وإقراره على دينه الباطل ، وذلك كأهل الكتابين ، ومن أشبههم¹ كان بينا بذلك أن معنى قوله : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ } إنما هو لا إكراه في الدين لأحد ممن حل قبول الجزية منه بأدائه الجزية ، ورضاه بحكم الإسلام . ولا معنى لقول من زعم أن الآية منسوخة الحكم بالإذن بالمحاربة .
فإن قال قائل : فما أنت قائل فيما روي عن ابن عباس وعمن رُوي عنه : من أنها نزلت في قوم من الأنصار أرادوا أن يكرهوا أولادهم على الإسلام ؟ قلنا : ذلك غير مدفوعة صحته ، ولكن الآية قد تنزل في خاصّ من الأمر ، ثم يكون حكمها عاما في كل ما جانس المعنى الذي أنزلت فيه . فالذين أنزلت فيهم هذه الآية على ما ذكر ابن عباس وغيره ، إنما كانوا قوما دانوا بدين أهل التوراة قبل ثبوت عقد الإسلام لهم ، فنهى الله تعالى ذكره عن إكراههم على الإسلام ، وأنزل بالنهي عن ذلك آية يعمّ حكمها كل من كان في مثل معناهم ممن كان على دين من الأديان التي يجوز أخذ الجزية من أهلها ، وإقرارهم عليها على النحو الذي قلنا في ذلك .
ومعنى قوله : { لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ } لا يكره أحد في دين الإسلام عليه ، وإنما أدخلت الألف واللام في الدين تعريفا للدين الذي عنى الله بقوله : لا إكراه فيه ، وأنه هو الإسلام . وقد يحتمل أن يكون أدخلتا عقيبا من الهاء المنوية في الدين ، فيكون معنى الكلام حينئذ : وهو العليّ العظيم لا إكراه في دينه ، قد تبين الرشد من الغيّ . وكأنّ هذا القول أشبه بتأويل الآية عندي .
وأما قوله : { قَدْ تَبَيّنَ الرّشْدُ } فإنه مصدر من قول القائل : رَشِدتُ فأنا أرْشَدُ رَشَدا ورُشْدا وَرَشادا ، وذلك إذا أصاب الحقّ والصواب . وأما الغيّ ، فإنه مصدر من قول القائل : قد غَوَى فلان فهو يَغْوَى غَيّا وغَوَايَةً . وبعض العرب يقول : غَوَى فلان يَغْوَى . والذي عليه قراءة القراء : { ما ضَلّ صَاحِبُكُمْ وَما غَوَى } بالفتح ، وهي أفصح اللغتين ، وذلك إذا عدا الحقّ وتجاوزه فضلّ .
فتأويل الكلام إذا : ( قد وضح الحقّ من الباطل ، واستبان لطالب الحق والرشاد وجه مطلبه ، فتميز من الضلالة والغواية ، فلا تكرهوا من أهل الكتابين ، ومن أبحت لكم أخذ الجزية منه ، على دينكم ، دين الحق¹ فإن من حاد عن الرشاد بعد استبانته له ، فإلى ربه أمره ، وهو وليّ عقوبته في معاده .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ يَكْفُرُ بالطّاغُوتِ وَيُؤمِنُ بِاللّهِ } .
اختلف أهل التأويل في معنى الطاغوت ، فقال بعضهم : هو الشيطان . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن حسان بن فائد العبسي قال : قال عمر بن الخطاب : الطاغوت : الشيطان .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثني ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن حسان بن فائد ، عن عمر ، مثله .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عمن حدثه ، عن مجاهد ، قال : الطاغوت : الشيطان .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا زكريا ، عن الشعبي ، قال : الطاغوت : الشيطان .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطّاغُوتِ } قال : الشيطان .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، الطاغوت : الشيطان .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطّاغُوتِ } بالشيطان .
وقال آخرون : الطاغوت : هو الساحر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا داود ، عن أبي العالية ، أنه قال : الطاغوت : الساحر . وقد خولف عبد الأعلى في هذه الرواية ، وأنا أذكر الخلاف بعد .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا عوف ، عن محمد ، قال : الطاغوت : الساحر . وقال آخرون : بل الطاغوت : هو الكاهن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا سعيد ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : الطاغوت : الكاهن .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن رفيع ، قال : الطاغوت : الكاهن .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطّاغُوتِ } قال : كهان تنزل عليها شياطين يلقون على ألسنتهم وقلوبهم . أخبرني أبو الزبير عن جابر بن عبد الله ، أنه سمعه يقول : وسئل عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها ، فقال : كان في جهينة واحد ، وفي أسلم واحد ، وفي كل حيّ واحد ، وهي كهان ينزل عليها الشيطان .
والصواب من القول عندي في الطاغوت : أنه كل ذي طغيان على الله فعبد من دونه ، إما بقهر منه لمن عبده ، وإما بطاعة ممن عبده له ، إنسانا كان ذلك المعبود ، أو شيطانا ، أو وثنا ، أو صنما ، أو كائنا ما كان من شيء . وأرى أن أصل الطاغوت : الطّغَوُوت ، من قول القائل : طغا فلان يطغو : إذا عدا قدره فتجاوز حدّه ، كالجبروت من التجبر ، والخلبوت من الخَلْب ، ونحو ذلك من الأسماء التي تأتي على تقدير فعلوت بزيادة الواو والتاء . ثم نقلت لامه أعني لام الطغووت ، فجعلت له عينا ، وحوّلت عينه فجعلت مكان لامه ، كما قيل جذب وجبد وجابذ وجاذب وصاعقة وصاقعة ، وما أشبه ذلك من الأسماء التي على هذا المثال .
فتأويل الكلام إذا : فمن يجحد ربوبية كل معبود من دون الله فيكفر به¹ { ويُؤْمِنْ بِاللّهِ } يقول : ويصدق بالله أنه إلهه وربه ومعبوده ، { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بالعُرْوَةِ الوُثْقَى } يقول : فقد تمسك بأوثق ما يتمسك به من طلب الخلاص لنفسه من عذاب الله وعقابه . كما :
حدثني أحمد بن سعيد بن يعقوب الكندي ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، عن حميد بن عقبة ، عن أبي الدرداء : أنه عاد مريضا من جيرته فوجده في السّوْق وهو يغرغر لا يفقهون ما يريد ، فسألهم : يريد أن ينطق ؟ قالوا : نعم يريد أن يقول : آمنت بالله وكفرت بالطاغوت . قال أبو الدرداء : وما علمكم بذلك ؟ قالوا : لم يزل يرددها حتى انكسر لسانه ، فنحن نعلم أنه إنما يريد أن ينطق بها . فقال أبو الدرداء : أفلح صاحبكم ، إن الله يقول : { فَمَنْ يَكْفُرُ بالطّاغُوتِ وَيُؤمِنُ بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بالعُرْوَةِ الوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
القول في تأويل قوله ( فقد استمسك بالعروة الوثقى ) والعروة في هذا المكان مثل للايمان الذي اعتصم به المؤمن فشبهه في تعلقه به وتمسكه به بالمتمسك بعروة الشيء الذي له عروة يتمسك بها إذا كان كل ذي عروة فإنما يتعلق من أراده بعروته وجعل تعالى ذكره الإيمان الذي تمسك به الكافر بالطاغوت المؤمن بالله ، من أوثق عرى الأشياء بقوله { الوُثْقَى } والوثقى فعل من الوثاقة يقال في الذكر هو الأوثق وفي الانثى هي الوثقى كما يقال فلان الأفضل وفلانة الفضلى .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن عمرو قال ثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله { بالعُرْوَةِ الوُثْقَى } قال الايمان .
حدثني المثنى قال حدثنا أبو حذيفة قال حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .
حدثني موسى قال حدثنا عمرو قال ثنا أسباط عن السدى قال العروة الوثقى هو الإسلام .
حدثناأحمد بن إسحاق قال ثنا أبو أحمد قال ثنا سفيان عن أبي السوداء عن جعفر يعني ابن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير قوله { فقد استمسك بالعروة الوثقى } قال : لا إله إلا الله ثنا ابن بشار ، قال ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي السوداء النهدي ، عن سعيد بن جبير مثله .
حدثني المثنى ، قال ثنا إسحاق قال : ثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك { فقد استمسك بالعروة الوثقى } مثله .
القول في تأويل قوله ( لا انفصام لها ) يعني تعالى ذكره بقوله { لا انفصام لها } لا انكسار لها ، والهاء والألف في قوله لها عائدة على العروة .
ومعنى الكلام فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله ، فقد اعتصم من طاعة الله بما لا يخشى مع اعتصامه خذلانه إياه ، وإسلامه عند حاجته إليه في أهوال الآخرة كالتمسك بالوثيق من عرى الأشياء التي لا يخشى انكسار عراها ، وأصل الفصم : الكسر ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة :
ومبسمها عن شَتيِتِ--*** النبات غير أكسَّ ولا متفصّم
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن عمرو قال ثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله { لا انفصام لها } قال : لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
حدثني المثنى قال : ثنا أبو حذيقة قال : ثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .
حدثني موسى بن هارون قال : ثنا عمرو قال : ثنا أسباط عن السدى { لا انفصام لها } قال لا انقطاع لها .
القول في تأويل قوله ( والله سميعٌ عليمٌ ) .
يعني تعالى ذكره والله سميع إيمان المؤمن بالله وحده ، الكافر بالطاغوت عند اقراره بوحدانية الله وتبرئة من الأنداد والأوثان التي تعبد من دون الله ، عليم بما عزم عليه من توحيد الله وإخلاص ربوبيته قلبه ، وما انطوى عليه من البراءة من الآلهة والأصنام والطواغيت ضميره ، وبغير ذلك مما أخفته نفس كل أحد من خلقه لا ينكتم عنه سرّ ولا يخفى عليه أمر حتى يجازى كلاً يوم القيامة بما نطق به لسانه وأضمرته نفسه إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً .