في هذه السورة دعوة إلى القراءة والتعلم ، وأن من قدر على خلق الإنسان من أصل ضعيف قادر على أن يعلمه الكتبة ، يضبط بها العلوم ويتم بها التفاهم ، ويعلمه ما لم يعلم فهو سبحانه مفيض العلم على الإنسان ، وتنبه السورة إلى أن الثراء والقوة قد يدفعان النفوس إلى مجاوزة حدود الله ، ولكن مصير الكل إلى الله في النهاية ، وتوجه الحديث لكل من يصلح للخطاب منذرة الطغاة الصادين عن الخير . مهددة لهم بأخذهم بالنواصي إلى النار ، فلا تنفعهم الأنصار ، وتختم السورة بدعوة الممتثلين إلى مخالفة المعاندين المكذبين والتقرب بالطاعة إلى رب العالمين .
1- اقرأ - يا محمد - ما يوحى إليك مفتتحاً باسم ربك الذي له - وحده - القدرة على الخلق .
{ اقرأ باسم ربك الذي خلق } أكثر المفسرين : على أن هذه السورة أول سورة نزلت من القرآن ، وأول ما نزل خمس آيات من أولها إلى قوله : { ما لم يعلم } .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : " أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، فكان يخلو بغار حراء ، فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة ، فيتزود لمثلها حتى جاء الحق ، وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقرأ ( اقرأ ) فقال : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة حتى أرسلني ، فقال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } . فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد ، فقال : زملوني زملوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة : مالي ؟ وأخبرها الخبر ، وقال : لقد خشيت على نفسي ، فقالت خديجة : كلا ، والله ما يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى -ابن عم خديجة- وكان امرأً تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربي ، فيكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخاً كبيراً قد عمي ، فقالت له خديجة : يا ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال له ورقة : يابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى ، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعاً ، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أومخرجي هم ؟ قال : نعم لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ، ثم لم يلبث ورقة أن توفي ، وفتر الوحي " . وروى محمد بن إسماعيل هذا الحديث في موضع آخر من كتابه ، عن يحيى بن بكير بهذا الإسناد ، وقال : حدثني عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر قال الزهري ، فأخبرني عروة عن عائشة وذكر الحديث ، قال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } حتى بلغ { ما لم يعلم } وزاد في آخره فقال : وفتر الوحي فترةً حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً حتى يتردى من رؤوس شواهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه ، تبدى له جبريل فقال : يا محمد ، إنك رسول الله حقاً ، فيسكن لذلك جأشه ، وتقر نفسه ، فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل ، فقال له مثل ذلك " .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أنبأنا عبد الله بن حامد الوراق أنبأنا مكي بن عبدان ، أنبأنا عبد الرحمن بن بشر ، حدثنا سفيان عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري عن عروة عن " عائشة قالت : أول سورة نزلت قوله عز وجل : { اقرأ باسم ربك } " .
قوله عز وجل : { اقرأ باسم ربك } قال أبو عبيدة : مجازه : اقرأ اسم ربك ، يعني أن الباء زائدة ، والمعنى : اذكر اسمه ، أمر أن يبتدئ القراءة باسم الله تأديباً . { الذي خلق } قال الكلبي : يعني الخلائق .
سورة العلق مكية وآيتها تسع عشرة
مطلع هذه السورة هو أول ما نزل من القرآن باتفاق . والروايات التي تذكر نزول غيرها ابتداء ليست وثيقة . قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر بن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت :
" أول ما بدئ به رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . ثم حبب إليه الخلاء . وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد ، قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود إلى ذلك . ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها . حتى جاءه الحق وهو في غار حراء . فجاءه الملك ، فقال : اقرأ . قال : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد . ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثالثة ، ثم قال : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم ) . . فرجع بها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ترجف بوادره ، حتى دخل على خديجة ، فقال " زملوني زملوني " فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال : يا خديجة مالي ? وأخبرها الخبر . وقال : " قد خشيت على نفسي " فقالت له : كلا . أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا . إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي ، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها . وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية . كان يكتب الكتاب العربي ، وكتب العبرانية من الإنجيل - ما شاء الله أن يكتب - وكان شيخا كبيرا قد عمي . فقالت خديجة : أي ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال ورقة : ابن أخي ، ما ترى ? فأخبره رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بما رأى . فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى . ليتني فيها جذع ، ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " أو مخرجي هم ? " فقال ورقة : نعم . لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي ، وإن أدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا . ثم لم ينشب ورقة أن توفي . . . الخ " . وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري . .
وروى الطبري - بإسناده - عن عبد الله بن الزبير . قال :
" قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : فجاءني - وأنا نائم - بنمط من ديباج فيه كتاب . فقال : اقرأ . فقلت : ما اقرأ . فغتني حتى ظننت أنه الموت . ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ماذا أقرأ ? وما أقول ذلك إلا افتداء من أن يعود إلي بمثل ما صنع بي . قال : اقرأ باسم ربك الذي خلق . . . إلى قوله : علم الإنسان ما لم يعلم قال : فقرأته . ثم انتهى ، ثم انصرف عني . وهببت من نومي ، وكأنما كتب في قلبي كتابا . قال : ولم يكن من خلق الله أبغض علي من شاعر أو مجنون . كنت لا أطيق أن أنظر إليهما ، قال : قلت : إن الأبعد - يعني نفسه - لشاعر أو مجنون ! لا تحدث بها عني قريش أبدا ! لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن ! قال : فخرجت أريد ذلك . حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول : يا محمد . أنت رسول الله وأنا جبريل . قال فرفعت رأسي إلى السماء ، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل . قال : فوقفت أنظر إليه ، وشغلني ذلك عما أردت ، فما أتقدم وما أتأخر ، وجعلت أصرف وجهي عنه في أفاق السماء ، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك ، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي ، ولا أرجع ورائي ، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ، حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني . . ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي . . . " . .
وقد رواه ابن إسحاق مطولا عن وهب بن كيسان عن عبيد أيضا . .
وقفت هنا أمام هذا الحادث الذي طالما قرأناه في كتب السيرة وفي كتب التفسير ، ثم مررنا به وتركناه ، أو تلبثنا عنده قليلا ثم جاوزناه !
إنه حادث ضخم . ضخم جدا . ضخم إلى غير حد . ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته ، فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا !
إنه حادث ضخم بحقيقته . وضخم بدلالته . وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعا . . وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد - بغير مبالغة - هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل .
ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة ?
حقيقته أن الله جل جلاله ، العظيم الجبار القهار المتكبر ، مالك الملك كله ، قد تكرم - في عليائه - فالتفت إلى هذه الخليقة المسماة بالإنسان ، القابعة في ركن من أركان الكون لا يكاد يرى اسمه الأرض . وكرم هذه الخلقية باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي ، ومستودع حكمته ، ومهبط كلماته ، وممثل قدره الذي يريده - سبحانه - بهذه الخليقة .
وهذه حقيقة كبيرة . كبيرة إلى غير حد . تتكشف جوانب من عظمتها حين يتصور الإنسان - قدر طاقته - حقيقة الألوهية المطلقة الأزلية الباقية . ويتصور في ظلها حقيقة العبودية المحدودة الحادثة الفانية . ثم يستشعر وقع هذه العناية الربانية بهذا المخلوق الإنساني ؛ ويتذوق حلاوة هذا الشعور ؛ ويتلقاه بالخشوع والشكر والفرح والابتهال . . وهو يتصور كلمات الله ، تتجاوب بها جنبات الوجود كله ، منزلة لهذا الإنسان في ذلك الركن المنزوي من أركان الوجود الضئيلة !
دلالته - في جانب الله سبحانه - أنه ذو الفضل الواسع ، والرحمة السابغة ، الكريم الودود المنان . يفيض من عطائه ورحمته بلا سبب ولا علة ، سوى أن الفيض والعطاء بعض صفاته الذاتية الكريمة .
ودلالته - في جانب الإنسان - أن الله - سبحانه - قد أكرمه كرامة لا يكاد يتصورها ، ولا يملك أن يشكرها . وأن هذه وحدها لا ينهض لها شكره ولو قضى عمره راكعا ساجدا . . هذه . . أن يذكره الله ، ويلتفت إليه ، ويصله به ، ويختار من جنسه رسولا يوحي إليه بكلماته . وأن تصبح الأرض . . مسكنه . . مهبطا لهذه الكلمات التي تتجاوب بها جنبات الوجود في خشوع وابتهال .
فأما آثار هذا الحادث الهائل في حياة البشرية كلها فقد بدأت منذ اللحظة الأولى . بدأت في تحويل خط التاريخ ، منذ أن بدأت في تحويل خط الضمير الإنساني . . منذ أن تحددت الجهة التي يتطلع إليها الإنسان ويتلقى عنها تصوراته وقيمه وموازينه . . إنها ليست الأرض وليس الهوى . . إنما هي السماء والوحي الإلهي .
ومنذ هذه اللحظة عاش أهل الأرض الذين استقرت في أرواحهم هذه الحقيقة . . في كنف الله ورعايته المباشرة الظاهرة . عاشوا يتطلعون إلى الله مباشرة في كل أمرهم . كبيره وصغيره . يحسون ويتحركون تحت عين الله . ويتوقعون أن تمتد يده - سبحانه - فتنقل خطاهم في الطريق خطوة خطوة . تردهم عن الخطأ وتقودهم إلى الصواب . . وفي كل ليلة كانوا يبيتون في ارتقاب أن يتنزل عليهم من الله وحي يحدثهم بما في نفوسهم ، ويفصل في مشكلاتهم ، ويقول لهم : خذوا هذا ودعوا ذاك !
ولقد كانت فترة عجيبة حقا . فترة الثلاثة والعشرين عاما التالية ، التي استمرت فيها هذه الصلة الظاهرة المباشرة بين البشر والملأ الأعلى . فترة لا يتصور حقيقتها إلا الذين عاشوها . وأحسوها . وشهدوا بدأها ونهايتها . وذاقوا حلاوة هذا الاتصال . وأحسوا يد الله تنقل خطاهم في الطريق . ورأوا من أين بدأوا وإلى أين انتهوا . . وهي مسافة هائلة لا تقاس بأي مقياس من مقاييس الأرض . مسافة في الضمير لا تعدلها مسافة في الكون الظاهر ، ولا يماثلها بعد بين الأجرام والعوالم ! المسافة بين التلقي من الأرض والتلقي من السماء . بين الاستمداد من الهوى والاستمداد من الوحي بين الجاهلية والإسلام . بين البشرية والربانية ، وهي أبعد مما بين الأرض والسماء في عالم الأجرام !
وكانوا يعرفون مذاقها . ويدركون حلاوتها . ويشعرون بقيمتها ، ويحسون وقع فقدانها حينما انتقل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الرفيق الأعلى ، وانقطعت هذه الفترة العجيبة التي لا يكاد العقل يتصورها لولا أنها وقعت حقا .
عن أنس - رضي الله عنه - قال : قال أبو بكر لعمر - رضي الله عنهما - بعد وفاة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] انطلق بنا إلى أم أيمن - رضي الله عنها - نزورها كما كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يزورها . فلما أتيا إليها بكت . فقالا لها : ما يبكيك ? أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ? قالت : بلى ، إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء . فهيجتهما على البكاء ، فجعلا يبكيان معها . . . [ أخرجه مسلم ] . . .
ولقد ظلت آثار هذه الفترة تعمل في حياة البشر منذ تلك اللحظة إلى هذه اللحظة ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
لقد ولد الإنسان من جديد باستمداد قيمه من السماء لا من الأرض ، واستمداد شريعته من الوحي لا من الهوى .
لقد تحول خط التاريخ كما لم يتحول من قبل قط ، وكما لم يتحول من بعد أيضا . وكان هذا الحدث هو مفرق الطريق . وقامت المعالم في الأرض واضحة عالية لا يطمسها الزمان ، ولا تطمسها الأحداث . وقام في الضمير الإنساني تصور للوجود وللحياة وللقيم لم يسبق أن اتضح بمثل هذه الصورة ، ولم يجيء بعده تصور في مثل شموله ونصاعته وطلاقته من اعتبارات الأرض جميعا ، مع واقعيته وملاءمته للحياة الإنسانية . ولقد استقرت قواعد هذا المنهج الإلهي في الأرض ! وتبينت خطوطه ومعالمه . ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ) . . لا غموض ولا إبهام . إنما هو الضلال عن علم ، والانحراف عن عمد ، والالتواء عن قصد !
إنه الحادث الفذ في تلك اللحظة الفريدة . الحادث الكوني الذي ابتدأ به عهد في هذه الأرض وانتهى عهد . والذي كان فرقانا في تاريخ البشر لا في تاريخ أمة ولا جيل . والذي سجلته جنبات الوجود كله وهي تتجاوب به ، وسجله الضمير الإنساني . وبقي أن يتلفت هذا الضمير اليوم على تلك الذكرى العظيمة ولا ينساها . وأن يذكر دائما أنه ميلاد جديد للإنسانية لم يشهده إلا مرة واحدة في الزمان . . .
ذلك شأن المقطع الأول من السورة . فأما بقيتها فواضح أنها نزلت فيما بعد . فهي تشير إلى مواقف وحوادث في السيرة لم تجيء إلا متأخرة ، بعد تكليف الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إبلاغ الدعوة ، والجهر بالعبادة ، وقيام المشركين بالمعارضة . وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في السورة : ( أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ? ) . . . الخ
ولكن هناك تناسقا كاملا بين أجزاء السورة ، وتسلسلا في ترتيب الحقائق التي تضمنتها بعد هذا المطلع المتقدم . يجعل من السورة كلها وحدة منسقة متماسكة . .
( اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم ) . .
إنها السورة الأولى من هذا القرآن ، فهي تبدأ باسم الله . وتوجه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أول ما توجه ، في أول لحظة من لحظات اتصاله بالملأ الأعلى ، وفي أول خطوة من خطواته في طريق الدعوة التي اختير لها . . توجهه إلى أن يقرأ باسم الله : ( اقرأ باسم ربك ) . .
وتبدأ من صفات الرب بالصفة التي بها الخلق والبدء : ( الذي خلق ) .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح . ثم حُبب إليه الخلاء ، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه - وهو : التعبد - الليالي ذواتَ العدد ، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فَتُزَوِّد{[30233]} لمثلها حتى فَجَأه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فيه فقال : اقرأ . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فقلت : ما أنا بقارئ " . قال : " فأخذني فَغَطَّني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فَغَطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } حتى بلغ : { مَا لَمْ يَعْلَمْ } قال : فرجع بها تَرجُف بَوادره{[30234]} حتى دخل على خديجة فقال : " زملوني زملوني " . فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوْع . فقال : يا خديجة ، ما لي : فأخبرها الخبر وقال : " قد خشيت علي " . فقالت له : كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا ؛ إنك لتصل الرحم ، وتصدُق الحديث ، وتحمل الكَلَّ ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به وَرَقة بن نوفل بن أسَد بن عبد العُزى بن قُصي - وهو ابن عم خديجة ، أخي أبيها ، وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ، وكتب بالعربية من الإنجيل{[30235]} ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخًا كبيرًا قد عَميَ - فقالت خديجة : أيّ ابن عم ، اسمع من ابن أخيك . فقال ورقة : ابنَ أخي ، ما ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى{[30236]} ليتني{[30237]} فيها جَذعا أكونُ حيا حين يخرجك قومك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أومخرجيَّ هُم ؟ " . فقال ورقة : نعم ، لم يأت رجل قط بما جئت به{[30238]} إلا عودي ، وإن يُدركني يومك أنصُرْكَ نصرًا مُؤزرًا . [ ثم ] {[30239]} لم ينشَب وَرَقة أن تُوُفِّي ، وفَتَر الوحي فترة حتى حَزن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزنًا غدا منه مرارا كي يَتَردى من رؤوس شَوَاهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه ، تبدى له جبريل فقال : يا محمد ، إنك رسولُ الله حقًا . فيسكن بذلك جأشه ، وتَقَرُّ نفسه فيرجع . فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة الجبل تَبَدى له جبريل ، فقال له مثل ذلك .
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري{[30240]} وقد تكلمنا على هذا الحديث من جهة سنده ومتنه ومعانيه في أول شرحنا للبخاري مستقصى ، فمن أراده فهو هناك محرر ، ولله الحمد والمنة .
فأول شيء [ نزل ]{[30241]} من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات{[30242]} وهُنَّ أول رحمة رَحم الله بها العباد ، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم . وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة ، وأن من كَرَمه تعالى أن عَلّم الإنسان ما لم يعلم ، فشرفه وكرمه بالعلم ، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة ، والعلم تارة يكون في الأذهان ، وتارة يكون في اللسان ، وتارة يكون في الكتابة بالبنان ، ذهني ولفظي ورسمي ، والرسمي يستلزمهما من غير عكس ، فلهذا قال : { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } وفي الأثر : قيدوا العلم بالكتابة{[30243]} . وفيه أيضا : " من عمل بما علم رزقه{[30244]} الله علم ما لم يكن [ يعلم ]{[30245]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبّكَ الأكْرَمُ * الّذِى عَلّمَ بِالْقَلَمِ * عَلّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلاّ إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىَ * أَن رّآهُ اسْتَغْنَىَ * إِنّ إِلَىَ رَبّكَ الرّجْعَىَ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : اقْرأْ باسِمِ رَبّكَ محمدا صلى الله عليه وسلم يقول : اقرأ يا محمد بذكر ربك الّذِي خَلَقَ ، ثم بين الذي خلق فقال : خَلَقَ الإنْسانَ مِنْ عَلَقٍ يعني : من الدم ، وقال : من علق والمراد به من علقة ، لأنه ذهب إلى الجمع ، كما يقال : شجرة وشجر ، وقصَبة وقَصَب ، وكذلك علقة وعَلَق . وإنما قال : من علق والإنسان في لفظ واحد ، لأنه في معنى جمع ، وإن كان في لفظ واحد ، فلذلك قيل : من عَلَق .