{ 2 هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب }- وهم يهود بني النضير - { من ديارهم }عند أول إخراج لهم من جزيرة العرب . { ما ظننتم }- أيها المسلمون-{ أن يخرجوا }من ديارهم لقوتهم ، { وظنوا }- هم - { أنهم مانعتهم حصونهم }من بأس الله ، فأخذهم الله من حيث لم يظنوا أن يؤخذوا من جهته ، وألقى في قلوبهم الفزع الشديد ، يخربون بيوتهم بأيديهم ليتركوها خاوية ، وأيدي المؤمنين ليقضوا على تحصنهم ، فاتعظوا بما نزل بهم يا أصحاب العقول .
{ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني بني النضير ، { من ديارهم } التي كانت بيثرب ، قال ابن إسحاق : كان إجلاء بني النضير بعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد وفتح قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان . { لأول الحشر } قال الزهري : كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى ، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء ، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا . قال ابن عباس : من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية ، فكان هذا أول حشر إلى الشام ، قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : اخرجوا ، قالوا إلى أين ، قال : إلى أرض المحشر ، ثم يحشر الخلق يوم القيامة إلى الشام . وقال الكلبي : إنما قال : { لأول الحشر } لأنهم كانوا أول من أجلي من أهل الكتاب من جزيرة العرب ، ثم أجلى آخرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه . قال مرة الهمداني : كان أول الحشر من المدينة ، والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحاء من الشام في أيام عمر . وقال قتادة : كان هذا أول الحشر ، والحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا . { ما ظننتم } أيها المؤمنون { أن يخرجوا } من المدينة لعزتهم ومنعتهم ، وذلك أنهم كانوا أهل حصون وعقار ونخيل كثيرة . { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله } أي : وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله ، { فأتاهم الله } أي أمر الله وعذابه ، { من حيث لم يحتسبوا } وهو أنه أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بقتالهم وإجلائهم وكانوا لا يظنون ذلك ، { وقذف في قلوبهم الرعب } بقتل سيدهم كعب بن الأشرف . { يخربون } قرأ أبو عمرو : بالتشديد ، والآخرون بالتخفيف ، ومعناهما واحد ، { بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } قال الزهري : وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما صالحهم على أن لهم ما أقلت الإبل ، كانوا ينظرون إلى الخشب في منازلهم فيهدمونها وينزعون منها ما يستحسنونه فيحملونه على إبلهم ، ويخرب المؤمنون باقيها . قال ابن زيد : كانوا يقلعون العمد ، وينقضون السقوف ، وينقبون الجدران ، ويقلعون الخشب حتى الأوتاد ، يخربونها لئلا يسكنها المؤمنون حسداً منهم وبغضا . قال قتادة : كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها ويخربها اليهود من داخلها . قال ابن عباس رضي الله عنهما : كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها لتتسع لهم المقاتل ، وجعل أعداء الله ينقبون دورهم في أدبارها فيخرجون إلى النبي بعدها فيتحصنون فيها ويكسرون ما يليهم ، ويرمون بالتي خرجوا منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذلك قوله عز وجل : { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا } فاتعظوا وانظروا فيما نزل بهم ، { يا أولي الأبصار } يا ذوي العقول والبصائر .
ثم يقص نبأ الحادث الذي نزلت فيه السورة :
هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . ما ظننتم أن يخرجوا ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ؛ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، وقذف في قلوبهم الرعب ، يخربون بيتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، فاعتبروا يا أولي الأبصار . ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب النار . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ، ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب .
ومن هذه الآيات نعلم أن الله هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . والله هو فاعل كل شيء . ولكن صيغة التعبير تقرر هذه الحقيقة في صورة مباشرة ، توقع في الحس أن الله تولى هذا الإخراج من غير ستار لقدرته من فعل البشر ! وساق المخرجين للأرض التي منها يحشرون ، فلم تعد لهم عودة إلى الأرض التي أخرجوا منها .
ويؤكد فعل الله المباشر في إخراجهم وسوقهم بالفقرة التالية في الآية :
( ما ظننتم أن يخرجوا ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ) . .
فلا أنتم كنتم تتوقعون خروجهم ولا هم كانوا يسلمون في تصور وقوعه ! فقد كانوا من القوة والمنعة في حصونهم بحيث لا تتوقعون أنتم أن تخرجوهم منها كما أخرجوا . وبحيث غرتهم هذه المنعة حتى نسوا قوة الله التي لا تردها الحصون !
( فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا . وقذف في قلوبهم الرعب ) .
أتاهم من داخل أنفسهم ! لا من داخل حصونهم ! أتاهم من قلوبهم فقذف فيها الرعب ، ففتحوا حصونهم بأيديهم ! وأراهم أنهم لا يملكون ذواتهم ، ولا يحكمون قلوبهم ، ولا يمتنعون على الله بإرادتهم وتصميمهم ! فضلا على أن يمتنعوا عليه ببنيانهم وحصونهم . وقد كانوا يحسبون حساب كل شيء إلا أن يأتيهم الهجوم من داخل كيانهم . فهم لم يحتسبوا هذه الجهة التي أتاهم الله منها . وهكذا حين يشاء الله أمرا . يأتي له من حيث يعلم ومن حيث يقدر ، وهو يعلم كل شيء ، وهو على كل شيء قدير . فلا حاجة إذن إلى سبب ولا إلى وسيلة ، مما يعرفه الناس ويقدرونه . فالسبب حاضر دائما والوسيلة مهيأة . والسبب والنتيجة من صنعه ، والوسيلة والغاية من خلقه ؛ ولن يمتنع عليه سبب ولا نتيجة ، ولن يعز عليه وسيلة ولا غاية . . . وهو العزيز الحكيم . .
ولقد تحصن الذين كفروا من أهل الكتاب بحصونهم فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب . ولقد امتنعوا بدورهم وبيوتهم فسلطهم الله على هذه الدور والبيوت يخربونها بأيديهم ، ويمكنون المؤمنين من إخرابها :
( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ) . .
وبهذا تتم حكاية ما وقع للذين كفروا من أهل الكتاب ، في تلك الصورة الموحية ، وهذه الحركة المصورة . . والله - سبحانه - يأتيهم من وراء الحصون فتسقط بفعلهم هم ؛ ثم يزيدون فيخربونها بأيديهم وأيدي المؤمنين .
هنا يجيء أول تعقيب في ظل هذه الصورة ، وعلى إيقاع هذه الحركة :
( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) . .
وهو هتاف يجيء في مكانه وفي أوانه . والقلوب متهيئة للعظة متفتحة للاعتبار .
{ هُوَ الّذِيَ أَخْرَجَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنّوَاْ أَنّهُمْ مّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ اللّهِ فَأَتَاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : { هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ } الله الذي أخرج الذين جحدوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب ، وهم يهود بني النضير من ديارهم ، وذلك خروجهم عن منازلهم ودورهم ، حين صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يؤمنهم على دمائهم ونسائهم وذراريهم ، وعلى أن لهم ما أقلّت الإبل من أموالهم ، ويخلو له دورهم ، وسائر أموالهم ، فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك ، فخرجوا من ديارهم ، فمنهم من خرج إلى الشام ، ومنهم من خرج إلى خيبر ، فذلك قول الله عزّ وجلّ : { هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيارهِمْ لأوّل الْحَشْر } ، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله عزّ وجلّ : { هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ }قال : النضير حتى قوله : { وَلِيُخْزيَ الفاسِقِينَ } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة { هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ }قيل : الشام ، وهم بنو النضير حيّ من اليهود ، فأجلاهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر ، مَرْجِعَه من أحد .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري { مِنْ دِيارِهِمْ لأَوّل الْحَشْرِ } قال : هم بنو النضير قاتلهم النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى صالحهم على الجلاء ، فأجلاهم إلى الشام ، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من شيء إلا الحلقة ، والحلقة : السلاح ، كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى ، وكان الله عزّ وجلّ قد كتب عليهم الجلاء ، ولولا ذلك عذبهم في الدنيا بالقتل والسباء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ }قال : هؤلاء النضير حين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن حَميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، قال : نزلت في بني النضير سورة الحشر بأسرها ، يذكر فيها ما أصابهم الله عزّ وجل به من نقمته ، وما سلط عليهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عمل به فيهم ، فقال : { هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ . . . }الاَيات .
وقوله : { لأَوّلِ الْحَشْرِ } يقول تعالى ذكره : لأوّل الجمع في الدنيا ، وذلك حشرهم إلى أرض الشام . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، قوله : { لأَوّلِ الْحَشْرِ }قال : كان جلاؤهم أوّل الحشر في الدنيا إلى الشام .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : تجيء نار من مَشرِق الأرض ، تَحْشُر الناس إلى مغاربها ، فتبيت معهم حيث باتُوا ، وتَقِيل معهم حيث قالوا ، وتأكل من تَخَلّف .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أجلى بني النضير ، قال : «امْضوا فَهَذَا أوّل الحَشْرِ ، وَإنّا عَلى الأثَرِ » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { لأَوّلِ الحَشْرِ } قال : الشام حين ردّهم إلى الشام ، وقرأ قول الله عزّ وجلّ : { يا أيّها الّذِينَ أوتُوا الكِتابَ آمَنُوا بِمَا نَزّلْنا مَصَدّقا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنرُدّها على أدْبارِها }قال : من حيث جاءت ، أدبارها أن رجعت إلى الشام ، من حيث جاءت ردّوا إليه .
وقوله : { ما ظَنَنْتُمْ أنْ يخْرُجُوا } ، يقول تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ظننتم أن يخرج هؤلاء الذين أخرجهم الله من ديارهم من أهل الكتاب من مساكنهم ومنازلهم ، { وَظَنّوا أنّهُمْ ما نِعَتُهُمْ حُصُونُهمْ مِنَ اللّهِ } وإنما ظنّ القوم فيما ذكر أن عبد الله بن أُبي وجماعة من المنافقين بعثوا إليهم لما حصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرونهم بالثبات في حصونهم ، ويعدونهم النصر ، كما :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، أن رهطا من بني عوف ابن الخزرج منهم عبد الله بن أُبي ابن سلول ووديعة ومالك ابنا نوفل وسويد وداعس ، بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنّعوا ، فإنا لن نسلمكم ، وإن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن خرجتم خرجنا معكم ، فتربصوا لذلك من نصرهم ، فلم يفعلوا ، وكانوا قد تحصنوا في الحصون من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل بهم .
وقوله : { فأتاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا }يقول تعالى ذكره : فأتاهم أمر الله من حيث لم يحتسبوا أنه يأتيهم ، وذلك الأمر الذي أتاهم من الله حيث لم يحتسبوا ، قذف في قلوبهم الرعب بنزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم في أصحابه ، يقول جلّ ثناؤه : { وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرّعُبَ } .
وقوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤمِنِينَ }يعني جلّ ثناؤه بقوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ }بني النضير من اليهود ، وأنهم يخربون مساكنهم ، وذلك أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة فيما ذُكر في منازلهم مما يستحسنونه ، أو العمود أو الباب ، فينزعون ذلك منها بأيديهم وأيدي المؤمنين . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤمِنِينَ } جعلوا يخربونها من أجوافها ، وجعل المؤمنون يخربون من ظاهرها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزّهريّ ، قال : لما صالحوا النبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا لا يعجبهم خشبة إلا أخذوها ، فكان ذلك خرابها . وقال قتادة : كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها ، وتخربها اليهود من داخلها .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، قال : احتملوا من أموالهم ، يعني بني النضير ، ما استقلت به الإبل ، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه ، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به ، قال : فذلك قوله : { يُخْربُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤمِنِينَ }وذلك هدمهم بيوتهم عن نُجف أبوابهم إذا احتملوها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله عزّ وجلّ : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤمِنِينَ } قال : هؤلاء النضير ، صالحهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على ما حملت الإبل ، فجعلوا يقلعوا الأوتاد يخربون بيوتهم .
وقال آخرون : إنما قيل ذلك كذلك ، لأنهم كانوا يخربون بيوتهم ليبنوا بنقضها ما هدم المسلمون من حصونهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤمِنِينَ فاعْتَبِرُوا يا أُولي الأبْصَارِ } قال : يعني بني النضير ، جعل المسلمون كلما هدموا شيئا من حصونهم جعلوا ينقضون بيوتهم ويخربونها ، ثم يبنون ما يخرب المسلمون ، فذلك هلاكهم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤمِنِينَ } يعني أهل النضير جعل المسلمون كلما هدموا من حصنهم جعلوا ينقضون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، ثم يبنون ما خرّب المسلمون .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والمدينة والعراق سوى أبي عمرو : { يُخْرِبُونَ }بتخفيف الراء ، بمعنى يخرجون منها ويتركونها معطلة خرابا ، وكان أبو عمرو يقرأ ذلك «يخرّبون » بالتشديد في الراء بمعنى يهدّمون بيوتهم . وقد ذكر عن أبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري أنهما كانا يقرآن ذلك نحو قراءة أبي عمرو . وكان أبو عمرو فيما ذكر عنه يزعم أنه إنما اختار التشديد في الراء لما ذكرت من أن الإخراب : إنما هو ترك ذلك خرابا بغير ساكن ، وإن بني النضير لم يتركوا منازلهم ، فيرتحلواعنها ، ولكنهم خربّوبها بالنقض والهدم ، وذلك لا يكون فيما قال إلا بالتشديد .
وقوله : { فاعْتَبرُا يا أولي الأبصارِ }يقول تعالى ذكره : فاتعظوا يا معشر ذوي الأفهام بما أحلّ الله بهؤلاء اليهود الذين قذف الله في قلوبهم الرعب ، وهم في حصونهم من نقمته ، واعلموا أن الله ولّى من والاه ، وناصر رسوله على كلّ من ناوأه ، ومحلّ من نقمته به نظير الذي أحلّ ببني النضير . وإنما عنى بالأبصار في هذا الموضع أبصار القلوب ، وذلك أن الاعتبار بها يكون دون الإبصار بالعيون .
{ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر }أي في أول حشرهم من جزيرة العرب إذ لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك أو في أول حشرهم للقتال أو الجلاء إلى الشام وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه إياهم من خيبر إليه أو في أول حشر الناس إلى الشام ، وآخر حشرهم أنهم يحشرون إليه عند قيام الساعة فيدركهم هناك أو أن نارا تخرج من المشرق فتحشرهم إلى المغرب ، والحشر إخراج جمع من مكان إلى آخر . { ما ظننتم أن يخرجوا }لشدة بأسهم ومنعتهم ، { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله }أي أن حصونهم تمنعهم من بأس الله وتغيير النظم وتقديم الخبر وإسناد الجملة إلى ضميرهم للدلالة على فرط وثوقهم بحصانتها ، واعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة بسببها ، ويجوز أن تكون حصونهم فاعلا ل مانعتهم { فأتاهم الله }أي عذابه وهو الرعب والاضطرار إلى الجلاء ، وقيل الضمير ل المؤمنين أي فأتاهم نصر الله وقرىء { فآتاهم الله }أي العذاب أو النصر { من حيث لم يحتسبوا }لقوة وثوقهم ، { وقذف في قلوبهم الرعب }وأثبت فيها الخوف الذي يرعبها أي يملؤها { يخربون بيوتهم بأيديهم }ضنا بها على المسلمين وإخراجا لما استحسنوا من آلاتها ، { وأيدي المؤمنين }فإنهم أيضا كانوا يخربون ظواهرها نكاية وتوسيعا لمجال القتال ، وعطفها على أيديهم من حيث أن تخريب المؤمنين مسبب عن نقضهم فكأنهم استعملوهم فيه ، والجملة حال أو تفسير ل الرعب وقرأ أبو عمرو { يخربون } بالتشديد وهو أبلغ لما فيه من التكثير ، وقيل الإخراب التعطيل أو ترك الشيء خرابا ، والتخريب الهدم { فاعتبروا يا أولي الأبصار }فاتعظوا بحالهم فلا تغدروا ولا تعتمدوا على غير الله واستدل به على أن القياس حجة من حيث أنه أمر بالمجاوزة من حال إلى حال وحملها عليها في حكم لما بينهما من المشاركة المقتضية له على ما قررناه في الكتب الأصولية .
و { الذين كفروا من أهل الكتاب } هم بنو النضير ، وكانت قبيلة عظيمة من بني إسرائيل موازية في القدر والمنزلة لبني قريظة ، وكان يقال للقبيلتين الكاهنان ، لأنهما من ولد الكاهن بن هارون ، وكانت أرضهم وحصونهم قريبة من المدينة ، ولهم نخل وأموال عظيمة ، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد خرج إلى بني النضير فحاصرهم وأجلاهم على أن يحملوا من أموالهم ما أقلته إبلهم حاشى الحلقة وهي جميع السلاح ، فخرجوا إلى بلاد مختلفة فذلك قوله تعالى : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر } . وقوله تعالى : { لأول الحشر } اختلف الناس في معنى ذلك بعد اتفاقهم على أن { الحشر } : الجمع والتوجيه إلى ناحية ما . فقال الحسن بن أبي الحسن وغيره : أراد حشر القيامة أي هذا أوله ، والقيام من القبور آخره ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : «امضوا هذا أول الحشر وإنا على الأثر »{[11017]} . وقال عكرمة والزهري وغيرهما : المعنى { لأول }موضع{ الحشر } وهو الشام ، وذلك أن أكثر بني النضير جاءت إلى الشام ، وقد روي أن حشر القيامة هو إلى بلد الشام وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبني النضير{[11018]} «اخرجوا » ، قالوا : إلى أين ؟ قال : «إلى أرض المحشر » ، وقال قوم في كتاب المهدوي : المراد { الحشر } في الدنيا الذي هو الجلاء والإخراج ، فهذا الذي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني النضير أوله ، والذي فعل عمر بن الخطاب بأهل خيبر آخره ، وأخبرت الآية بمغيب وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بجلاء أهل خيبر ، ويحتمل أن يكون آخر الحشر في قول النبي عليه السلام في مرضه : «لا يبقين دينان في جزيرة العرب » ، فإن ذلك يتضمن إجلاء بقاياهم قال الخليل في ما حكى الزجاج : سميت جزيرة لأنه أحاط بها بحر الحبشة وبحر فارس ودجلة والفرات ، وفي هذه الإحاطة نظر . وقوله تعالى : { ما ظننتم أن يخرجوا } معناه : لمنعتهم وكثرة عددهم ، فلم تكن آمالكم وظنونكم تنتهي إلى أنهم يخرجون ويدعون أموالهم لكم ، وبحسب ذلك من المنعة والعدد والتحصن ظنوا هم أن لن يقدر عليهم وقوله تعالى : { من الله } يريد : من جند الله حزب الله وقوله تعالى : { فأتاهم الله } عبارة عن إظهاره تعالى المسلمين عليهم وإلقائهم في حيز الهزم والذل .
وقرأ الجمهور : «الرعْب » بسكون العين ، وقرأ أبو جعفر وشيبة ، بضم العين ، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى : { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } ، فقال الضحاك والزجاج وغيره : كلما هدم المسلمون من حصنهم في القتال هدموا هم من البيوت وخربوا الحصون دأباً فهذا معنى تخريبهم . وقال الزهراوي وغيره كانوا لما أبيح لهم ما تستقل به الإبل لا يدعون خشبة حسنة ولا نجافاً{[11019]} ولا سارية إلا قلعوه وخربوا البيوت عنه ، وقوله تعالى : { وأيدي المؤمنين } من حيث فعلهم ، وكفرهم داعية إلى تخريب المؤمنين بيوتهم ، فكأنهم قد خربوها هم بأيدي المؤمنين . وقال جماعة من المفسرين : إنهم لما أزمعوا الجلاء شحوا على ترك البيوت سليمة للمؤمنين فهدموا وخربوا لمعنى الإفساد على من يأتي . قال قتادة : خرب المؤمنون من خارج ليدخلوا وخربوا هم من داخل . وقرأ جمهور القراء : «يخْرِبون » بسكون الخاء وتخفيف الراء . وقرأ أبو عمرو وحده والحسن بخلاف عنه وقتادة وعيسى بفتح الخاء وشد الراء . فقال فريق من العلماء اللغويين القراءتان بمعنى واحد وقال أبو عمرو بن العلاء : خرب ، معناه : هدم وأفسد وأخرب معناه ترك الموضع خراباً وذهب عنه ، ثم نبه تعالى المؤمنين وغيرهم ممن له أن ينظر على نصرة رسوله وصنعه له فيمن حاده وناوأه بقوله تعالى : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } أي العيون والأفهام .