هي مدنية ، وعدد آياتها عشرون ومائة ، وهي من أواخر سور القرآن نزولا ، وقد اشتملت على بيان وجوب الوفاء بالعقود عامة ، سواء أكانت بين العبد وربه ، أم بين الناس بعضهم مع بعض ، وبينت بعض المحرمات من الأطعمة ، كما بينت الحلال منها ، وحل نساء أهل الكتاب . وذكر أركان الوضوء ، والتيمم ، وفيها بيان طلب العدالة مع العدو . وقد تضمنت الإشارة إلى نعم الله على المسلمين ، ووجوب المحافظة على كتابهم ، وبينت أن اليهود حرفوا الكلم عن مواضعه ، وأن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به ، وأنهم كفروا بقولهم إن المسيح ابن الله . وتكذيب اليهود والنصارى في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه . ثم تضمنت بعض أخبار اليهود ، كما تضمنت قصة ولدي آدم التي تثبت أن الاعتداء في طبيعة ابن آدم ، ثم وجوب القصاص تهذيبا لهذه الطبيعة . واشتملت على عقوبة البغاء وعقوبة السرقة . ثم عادت إلى بيان تحريف اليهود للأحكام التشريعية التي اشتملت عليها التوراة ، وبيان أن التوراة والإنجيل كان فيهما الحق قبل التحريف ، وقررت وجوب الحكم بما أنزل الله ، وأشارت إلى عداوة اليهود والنصارى الحاليين للمؤمنين ، ووجوب عدم الخضوع لهم ، وعدم الرضا بما يفعلون نحوهم وضرورة مقاومتهم ، وقررت كفر النصارى الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة ، ثم أنصف القرآن في هذه السورة بعض النصارى الذين أذعنوا للحق وآمنوا به . ثم اشتملت على منع المؤمن من أن يحرم بعض الطيبات عليه ، وبينت كفارة الأيمان إذا حنث ، ثم حرمت الخمر تحريما قاطعا ، ثم بينت بعض مناسك الحج ومكانة الكعبة والأشهر الحرم ، وبطلان بعض ما حرمه العرب على أنفسهم من غير حجة ولا دليل ، كما بينت حكم الوصية في السفر ، وختمت السورة بالمعجزات التي جرت على يد عيسى عليه السلام ومع ذلك كفر به بنو إسرائيل ، وذكرت تبرؤ عيسى عليه السلام من الذين عبدوه ، وبيان ملك الله سبحانه للسماوات والأرض وكمال قدرته .
1- يا أيها المؤمنون : التزموا الوفاء بجميع العهود التي بينكم وبين الله ، والعهود المشروعة التي بينكم وبين الناس . وقد أحل الله لكم أكل لحوم الأنعام من الإبل والبقر والغنم ، إلا ما ينص لكم على تحريمه . ولا يجوز لكم صيد البر إذا كنتم مُحْرِمين ، أو كنتم في أرض الحرم . إن الله يقضى بحكمته ما يريد من أحكام ، وأن هذا من عهود الله عليكم{[47]} .
مائة وعشرون آية ، مدنية كلها إلا قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } الآية ، فإنها نزلت بعرفات .
روي عن أبي ميسرة قال : أنزل الله تعالى في هذه السورة ثمانية عشر حكماً لم ينزلها في غيرها ، قوله : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } وقوله : { والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام } { وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن } ، { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ، وتمام الطهور في قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة } { والسارق والسارقة } { ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } الآية { وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } ، وقوله : { شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } . أي بالعهود . قال الزجاج : هي أوكد العهود ، يقال : عاقدت فلاناً وعقدت عليه ، ألزمته ذلك باستيثاق ، وأصله من عقد الشيء بغيره ، ووصله به ، كما يعقد الحبل بالحبل إذا وصل ، واختلفوا في هذه العقود ، قال ابن جريج : هذا خطاب لأهل الكتاب ، يعني : يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة أوفوا بالعهود التي عهدتها إليكم في شأن محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو قوله :{ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس } [ آل عمران : 187 ] وقال الآخرون : هو عام ، وقال قتادة : أراد بها الحلف الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : هي عهود الإيمان والقرآن ، وقيل : هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم .
{ أحلت لكم بهيمة الأنعام } . قال الحسن وقتادة : هي الأنعام كلها ، وهي الإبل ، والبقر ، والغنم . وأراد تحليل ما حرم أهل الجاهلية على أنفسهم من الأنعام ، روى أبو ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بهيمة الأنعام هي الأجنة ، ومثله عن الشعبي قال : هي الأجنة التي توجد ميتة في بطون أمهاتها إذا ذبحت ، أو نحرت . ذهب أكثر أهل العلم إلى تحليله . قال الشيخ رحمه الله تعالى : قرأت على أبي عبد الله محمد بن الفضل الخرقي فقلت : قرأ على أبي سهل محمد بن عمر ابن طرفة وأنت حاضر ، فقيل له : حدثكم أبو سليمان الخطابي أنا أبو بكر بن سادة ، أنا أبو داود السجستاني ، أنا مسدد ، أنا هشيم ، عن مخلد ، عن أبي الوداك ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم قال : قلنا : يا رسول الله ننحر الناقة ، ونذبح البقرة والشاة ، فنجد في بطنها الجنين ، أنلقيه أم نأكله ؟ فقال : كلوه إن شئتم ، فإن ذكاته ذكاة أمه . وروى أبو الزبير ، عن جابر ، عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ذكاة الجنين ذكاة أمة ) وشرط بعضهم الاشعار ، قال ابن عمر : ذكاة ما في بطنها في ذكاتها إذا تم خلقه ، ونبت شعره ، ومثله عن سعيد بن المسيب . وعند أبي حنيفة رضي الله عنه : لا يحل أكل الجنين إذا خرج ميتاً بعد ذكاة الأم ، وقال الكلبي : بهيمة الأنعام : وحشها ، وهي : الظباء ، وبقر الوحش ، سميت بهيمة لأنها أبهمت عن التمييز ، وقيل : لأنها لا نطق لها .
قوله تعالى : { إلا ما يتلى عليكم } . أي : ما ذكر في قوله : { حرمت عليكم الميتة } إلى قوله : { وما ذبح على النصب } .
قوله تعالى : { غير محلي الصيد } . وهو نصب على الحال ، أي : لا محلي الصيد ، ومعنى الآية : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إلا ما كان منها وحشيا ، فإنه صيد لا يحل لكم في حال الإحرام ، فذلك : قوله تعالى : { وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد } .
سورة المائدة مدنية وآياتها عشرون ومائة
نزل هذا القرآن الكريم على قلب رسول الله [ ص ] لينشى ء به أمة ؛ وليقيم به دولة ؛ ولينظم به مجتمعا ؛ وليربي به ضمائر وأخلاقا وعقولا ؛ وليحدد به روابط ذلك المجتمع ؛ فيما بينه ؛ وروابط تلك الدولة مع سائر الدول ؛ وعلاقات تلك الأمة بشتى الأمم . . وليربط ذلك كله برباط قوي واحد ، يجمع متفرقة ، ويؤلف أجزاءه ، ويشدها كلها إلى مصدر واحد ، وإلى سلطان واحد ، وإلى جهة واحدة . . وذلك هو الدين ، كما هو في حقيقته عند الله ؛ وكما عرفه المسلمون . أيام أن كانوا " مسلمين " !
ومن ثم نجد في هذه السورة - كما وجدنا في السور الثلاث الطوال قبلها - موضوعات شتى ؛ الرابط بينها جميعا هو هذا الهدف الأصيل الذي جاء القرآن كله لتحقيقه : إنشاء أمة ، وإقامة دولة ، وتنظيم مجتمع ؛ على أساس من عقيدة خاصة ، وتصور معين ، وبناء جديد . . الأصل فيه إفراد الله - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان ؛ وتلقي منهج الحياة وشريعتها ونظامها وموازينها وقيمها منه وحده بلا شريك . .
وكذلك نجد بناء التصور الاعتقادي وتوضيحه وتخليصه من أساطير الوثنية ، وانحرافات أهل الكتاب وتحريفاتهم . . إلى جانب تبصير الجماعة المسلمة بحقيقة ذاتها وحقيقة دورها ، وطبيعة طريقها وما في هذا الطريق من مزالق وأشواك ، وشباك يرصدها لها أعداؤها وأعداء هذا الدين . . إلى جانب أحكام الشعائر التعبدية التي تطهر روح الفرد المسلم وروح الجماعة المسلمة ؛ وتربطها بربها . إلى جانب التشريعات الاجتماعية التي تنظم روابط مجتمعها ؛ والتشريعات الدولية التي تنظم علاقاتها بغيرها . . إلى جانب التشريعات التي تحلل وتحرم ألوانا من المآكل والمشارب والمناكح ؛ أو ألوانا من الأعمال والمسالك . . كل ذلك حزمة واحدة في السورة الواحدة يمثل معنى " الدين " كما أراده الله وكما فهمه المسلمون . أيام أن كانوا مسلمين .
على أن السياق القرآني - كما يبدو في هذه السورة وكما رأيناه في سورتي آل عمران والنساء من قبل لا يكتفي بهذا المعنى الضمني المستفاد من سوق هذه الموضوعات كلها في إطار سورة واحدة ؛ وسوقها كذلك في شتى سور القرآن المتفرقة التي تؤلف هذا الكتاب ؛ وتمثل المنهج الرباني الذي يتضمنه . . لا يكتفي السياق القرآني هنا بهذا المعنى الضمني ؛ إنما ينص عليه نصا ؛ ويؤكده تأكيدا ؛ ويتكى ء عليه اتكاء شديدا وهو ينص على أن هذا كله هو " الدين " ؛ وأن الإقرار به كله هو " الإيمان " ؛ وأن الحكم به كله " هو الإسلام " . . وأن الذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الكافرون . الظالمون . الفاسقون . . وأنهم - إذن - يبتغون حكم الجاهلية ولا يبتغي حكم الجاهلية المؤمنون المسلمون .
وهذا الأصل الكبير هو الذي يبرز في هذه السورة بروزا واضحا مقررا منصوصا عليه نصا . إلى جانب تصحيح التصور الاعتقادي الذي يقوم عليه هذا الأصل الكبير . .
ويحسن أن نصور من سياق النصوص القرآنية في السورة كيف برز هذان الأصلان الكبيران في سياقها كله ، وكيف يقوم هذا على ذاك قياما طبيعيا ومنطقيا .
إن السياق القرآني يستند في تقرير أن الحكم بما أنزل الله هو " الإسلام " ؛ وأن ما شرعه الله للناس من حلال أو حرام هو " الدين " إلى أن الله هو " الإله الواحد " لا شريك له في ألوهيته ؛ وإلى أن الله هو الخالق الواحد لا شريك له في خلقه . وإلى أن الله هو المالك الواحد لا شريك له في ملكه . . ومن ثم يبدو حتميا ومنطقيا ألا يقضي شيء إلا بشرعه وإذنه . فالخالق لكل شيء ، المالك لكل شيء ، هو صاحب الحق ، وصاحب السلطان في تقرير المنهج الذي يرتضيه لملكه ولخلقه . . هو الذي يشرع فيما يملك ؛ وهو الذي يطاع شرعه وينفذ حكمه ؛ وإلا فهو الخروج والمعصية والكفر . . إنه هو الذي يقرر الاعتقاد الصحيح للقلب ؛ كما يقرر النظام الصحيح للحياة سواء بسواء . والمؤمنون به هم الذين يؤمنون بالعقيدة التي يقررها ؛ ويتبعون النظام الذي يرتضيه . هذه كتلك سواء بسواء . وهم يعبدونه بإقامة الشعائر ، ويعبدونه باتباع الشرائع ، بلا تفرقة بين الشعيرة والشريعة ؛ فكلتاهما من عند الله ، الذي لا سلطان لأحد في ملكه وعباده معه . بما أنه هو الإله الواحد . المالك الواحد . العليم بما في السموات والأرض جميعا . . ومن ثم فإن الحكم بشريعة الله هو دين كل نبي ؛ لأنه هو دين الله ، ولا دين سواه .
ومن ثم تتوارد النصوص هكذا في ثنايا السورة ؛ في تقرير الألوهية الواحدة ؛ ونفي كل شرك أو تثليث أو خلط بين ذات الله - سبحانه - وبين غيره . أو بين خصائص الألوهية ، وخصائص العبودية على الإطلاق : يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير . قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين . يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام . ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه . ويهديهم إلى صراط مستقيم . لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم . قل . فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ؟ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ، يخلق ما يشاء . والله على كل شيء قدير . وقالت اليهود والنصارى : نحن أبناء الله وأحباؤه ! قل فلم يعذبكم بذنوبكم ؟ بل أنتم بشر ممن خلق . يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء . ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ، وإليه المصير . يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل ، أن تقولوا : ما جاءنا من بشير ولا نذير . فقد جاءكم بشير ونذير . والله على كل شيء قدير . .
( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم . وقال المسيح : يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم ، إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ، ومأواه النار ، وما للظالمين من أنصار . لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة . وما من إله إلا إله واحد . وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم . . .
ولأن الله هو وحده الإله ، وهو وحده الخالق ، وهو وحده المالك . . فهو وحده الذي يشرع ، هو وحده الذي يحلل ويحرم ، وهو وحده الذي يطاع فيما يشرع وفيما يحرم أو يحلل . كما أنه هو وحده الذي يعبد ، وهو وحده الذي يتوجه إليه العباد بالشعائر . وقد أخذ الميثاق على عباده بهذا كله ؛ فهو يطالب الذين آمنوا أن يفوا بميثاقهم وتعاقدهم معه ؛ ويحذرهم عواقب نقض الميثاق وخلف العقود ؛ كما وقع من بني إسرائيل قبلهم :
( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود . . . )
( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ، ولا الشهر الحرام ، ولا الهدي ، ولا القلائد ، ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . . . )
واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به ، إذ قلتم : سمعنا وأطعنا ، واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور . يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى ، واتقوا الله . إن الله خبير بما تعملون .
لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ، وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ؛ وقال الله : إني معكم ، لئن أقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وآمنتم برسلي ، وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا ، لأكفرن عنكم سيئاتكم ، ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار . فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل . فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ، ونسوا حظا مما ذكروا به . ولا تزال تطلع على خائنة منهم - إلا قليلا منهم - فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين . ومن الذين قالوا : إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ، فنسوا حظا مما ذكروا به ؛ فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون .
ويتضمن سياق السورة أحكاما شرعية منوعة : منها ما يتعلق بالحلال والحرام من الذبائح ومن الصيد . ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام في فترة الإحرام وفي المسجد الحرام . ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام من النكاح . ومنها ما يتعلق بالطهارة والصلاة . ومنها ما يتعلق بالقضاء وإقامة العدل فيه . ومنها ما يتعلق بالحدود في السرقة وفي الخروج على الجماعة المسلمة . ومنها ما يتعلق بالخمر والميسر والأنصاب والأزلام . ومنها ما يتعلق بالكفارات في قتل الصيد مع الإحرام وفي اليمين . ومنها ما يتعلق بالوصية عند الموت . ومنها ما يتعلق بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي من الأنعام ، ومنها ما يتعلق بشريعة القصاص في التوراة مما جعله الله كذلك شريعة للمسلمين . . وهكذا تلتقي الشرائع بالشعائر في سياق السورة بلا حاجز ولا فاصل !
وإلى جوار هذه الأحكام الشرعية المنوعة يجيء الأمر بالطاعة والتقيد بما شرعه الله وما أمر به ؛ والنهي عن التحريم والتحليل إلا بإذنه ؛ ويجيء النص على أن هذا هو الدين الذي ارتضاه الله للأمة المؤمنة بعد أن أكمله وأتم به نعمته :
( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ، ولا الشهر الحرام ، ولا الهدي ، ولا القلائد ، ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . . ) . .
( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا . . . ) . .
( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا . . ) . .
( اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا . . )
ولا يدع السياق أمر الطاعة والاتباع في التحليل والتحريم مجملا . إنما هو ينص نصا على وجوب الحكم بما أنزل الله - دون سواه - وإلا فهو الكفر والظلم والفسق . . وتتوارد النصوص القرآنية في هذا الأمر حاسمة جازمة على هذا النسق :
( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، من الذين قالوا : آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، ومن الذين هادوا ، سماعون للكذب ، سماعون لقوم آخرين لم يأتوك . يحرفون الكلم من بعد مواضعه ؛ يقولون : إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا - ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا - أولئك الذين ) ( لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ، لهم في الدنيا خزي ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم . سماعون للكذب أكالون للسحت . فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم . وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا . وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ، إن الله يحب المقسطين ، وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ، ثم يتولون من بعد ذلك ، وما أولئك بالمؤمنين . إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ، يحكم بها النبيون الذين أسلموا ، للذين هادوا ، والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء . فلا تخشوا الناس واخشون ، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا . . ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون . . وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، والجروح قصاص . فمن تصدق به فهو كفاره له . . ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون . . وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم ، مصدقا لما بين يديه من التوراة ، وآتيناه الإنجيل ، فيه هدى ونور ، ومصدقا لما بين يديه من التوراة ، وهدى وموعظة للمتقين ، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه . . ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون . . وأنزلنا إليك الكتاب بالحق ، مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه . . فاحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق . . لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا . ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ؛ ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات ، إلى الله مرجعكم جميعا ، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون . . وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم ، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك . . فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ، وإن كثيرا من الناس لفاسقون . . أفحكم الجاهلية يبغون ؟ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ؟ )
وهكذا تتبين القضية . . إله واحد . وخالق واحد . ومالك واحد . . وإذن فحاكم واحد . ومشرع واحد . ومتصرف واحد . . وإذن فشريعة واحدة ، ومنهج واحد ، وقانون واحد . . وإذن فطاعة واتباع وحكم بما أنزل الله ، فهو إيمان وإسلام . أو معصية وخروج وحكم بغير ما أنزل الله ، فهو كفر وظلم وفسوق . . وهذا هو الدين كما أخذ الله ميثاق العباد جميعا عليه ، وكما جاء به كل الرسل من عنده . . أمة محمد والأمم قبلها على السواء . .
ولم يكن بد أن يكون " دين الله " هو الحكم بما أنزل الله دون سواه . فهذا هو مظهر سلطان الله . مظهر حاكمية الله . مظهر أن لا إله إلا الله .
وهذه الحتمية : حتمية هذا التلازم بين " دين الله " و " الحكم بما أنزل الله " لا تنشأ فحسب من أن ما أنزل الله خير مما يصنع البشر لأنفسهم من مناهج وشرائع وأنظمة وأوضاع . فهذا سبب واحد من أسباب هذه الحتمية . وليس هو السبب الأول ولا الرئيسي . إنما السبب الأول والرئيسي ، والقاعدة الأولى والأساس في حتمية هذا التلازم هي أن الحكم بما أنزل الله إقرار بألوهية الله ، ونفي لهذه الألوهية وخصائصها عمن عداه . وهذا هو " الإسلام " بمعناه اللغوي : " الاستسلام " وبمعناه الاصطلاحي كما جاءت به الأديان . . الإسلام لله . . والتجرد عن ادعاء الألوهية معه ؛ وادعاء أخص خصائص الألوهية ، وهي السلطان والحاكمية ، وحق تطويع العباد وتعبيدهم بالشريعة والقانون .
ولا يكفي إذن أن يتخذ البشر لأنفسهم شرائع تشابه شريعة الله . أو حتى شريعة الله نفسها بنصها ، إذا هم نسبوها إلى أنفسهم ، ووضعوا عليها شاراتهم ؛ ولم يردوها لله ؛ ولم يطبقوها باسم الله ، إذعانا لسلطانه ، واعترافا بألوهيته ؛ وبتفرده بهذه الألوهية . التفرد الذي يجرد العباد من حق السلطان والحاكمية ، إلا تطبيقالشريعة الله ، وتقريرا لسلطانه في الأرض .
ومن هذه الحتمية ينشأ الحكم الذي تقرره الآيات في سياق السورة : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) . . ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) . . ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) . . ذلك أن الذين لا يحكمون بما أنزل الله يعلنون رفضهم لألوهية الله - سبحانه - ورفضهم لإفراد الله - سبحانه - بهذه الألوهية . يعلنون هذا الرفض بعملهم وواقعهم ؛ ولو لم يعلنوه بأفواههم وألسنتهم . ولغة العمل والواقع أقوى وأكبر من لغة الفم واللسان . ومن ثم يصمهم القرآن بالكفر والظلم والفسق ، أخذا من رفضهم لألوهية الله - حين يرفضون حاكميته المطلقة ؛ وحين يجعلون لأنفسهم خاصة الألوهية الأولى فيشرعون للناس من عند أنفسهم ما لم يأذن به الله .
وعلى هذا المعنى يتكى ء سياق السورة ونصوصها الواضحة الصريحة كذلك .
شأن آخر يتناوله سياق السورة ؛ غير بناء التصور الاعتقادي الصحيح ، وبيان الانحرافات التي تتلبس به عند أهل الكتاب وأهل الجاهلية ؛ وغير بيان معنى " الدين " وأنه الاعتقاد الصحيح والطاعة والتلقي من الله وحده في التحريم والتحليل ، والحكم بما أنزل الله وحده دون تعديل أو تحريف أو تبديل .
ذلك هو شأن هذه الأمة المسلمة ؛ دورها الحقيقي في هذه الأرض ؛ وموقفها تجاه أعدائها ، وكشف هؤلاء الأعداء ، وكيدهم لهذه الأمة ولهذا الدين ؛ وبيان ما هم عليه من الضلالة والانحراف في عقيدتهم ؛ وما هم عليه كذلك من العداء للجماعة المسلمة وإجماع الكيد لها . . إنها المعركة التي يخوضها القرآن الكريم بالجماعة المسلمة ؛ والتي سبق الحديث عنها في السور الثلاث الطوال السابقة . .
إن كتاب هذه الأمة هو كتاب الله الأخير للبشر ؛ وهو يصدق ما بين يديه من الكتاب في أصل الاعتقاد والتصور ؛ ولكنه - بما أنه هو الكتاب الأخير - يهيمن على كل ما سبقه وإليه تنتهي شريعة الله التي ارتضاها لعباده إلى يوم الدين ؛ فما أقره من شرائع أهل الكتاب قبله فهو من شرع الله ؛ وما نسخه فقد فقد صفته هذه وإن كان واردا في كتاب من الكتب المنزلة :
( اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينًا . . )
( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق ، مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ) . .
ومن ثم فإن دور هذه الأمة هو أن تكون الوصية على البشرية ؛ تقيم العدل في الأرض ، غير متأثرة بمودة أو شنآن ، وغير ناظرة في إقامة العدل إلى ما أصابها أو يصيبها من الناس فهذه هي تكاليف القوامة والوصاية والهيمنة . . وغير متأثرة كذلك بانحرافات الآخرين وأهوائهم وشهواتهم ؛ فلا تنحرف فيه شعرة عن منهجها وشريعتها وطريقها القويم ؛ لاسترضاء أحد أو لتأليف قلب ؛ وغير ناظرة إلا إلى الله وتقواه :
( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ؛ وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ، واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) . .
( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله ، شهداء بالقسط ؛ ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى ، واتقوا الله ، إن الله خبير بما تعملون ) .
( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ، فاحكم بينهم بما أنزل الله ؛ ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ) .
( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم ، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ، وإن كثيرا من الناس لفاسقون ) .
ومن مقتضيات أن هذه الأمة هي وارثة الرسالات ؛ وصاحبة الرسالة الأخيرة ، والدين الاخير ؛ وصاحبة الوصاية والقوامة على البشرية بهذا الدين الأخير . . ألا تتولى من يكفرون بهذا الدين ؛ ومن يتخذون فرائضه وشعائره هزوا ولعبا . إنما تتولى الله ورسوله ، ولا تركن إلى ولاية غير المؤمنين بالله ورسوله . فإنما هي أمة بعقيدتها لا بجنسها ، ولا بأرضها ، ولا بموروثاتها الجاهلية . إنما هي " أمة " بهذه العقيدة الجديدة ، وبهذا المنهج الرباني ، وبهذه الرسالة الأخيرة . . وهذه هي آصرة التجمع الوحيدة :
( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون . اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا . . )
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ؛ بعضهم أولياء بعض ، ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) . .
( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون . ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ) . .
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء ، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ، وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ) . .
( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) . .
أما أعداء هذه الأمة فهم أعداء الهدى ، وأعداء منهج الله الصحيح دائما . وهم لا يريدون رؤية الحق ؛ كما أنهم لا يريدون ترك العداء المستحكم في قلوبهم لهذا الحق من قبل ومن بعد . وعلى الأمة المسلمة أن تعرفهم على حقيقتهم ، من تاريخهم القديم مع رسل الله ؛ ومن موقفهم الجديد منها ومن رسولها ودينها القويم :
( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ؛ وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ؛ وقال الله : إني معكم . لئن أقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وآمنتم برسلي ، وعزرتموهم ، وأقرضتم الله قرضا حسنا ، لأكفرن عنكم سيئاتكم ؛ ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار . فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل . فيما نقضهم ميثاقهم لعناهم ، وجعلنا قلوبهم قاسية ، يحرفون الكلم عن مواضعه ، ونسوا حظا مما ذكروا به . ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم . فاعف عنهم واصفح ، إن الله يحب المحسنين . . ومن الذين قالوا : إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ، فنسوا حظا مما ذكروا به ؛ فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ؛ وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون .
( وإذ قال موسى لقومه : يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم ، إذ جعل فيكم أنبياء ، وجعلكم ملوكا ، وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين . يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ؛ ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين . قالوا : يا موسى إن فيها قوما جبارين ، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها ، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون . قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما : ادخلوا عليهم الباب ؛ فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين . قالوا : يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها . فاذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا هاهنا قاعدون . قال : رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين . قال : فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ؛ فلا تأس على القوم الفاسقين . .
( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ؛ ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا . . ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ، ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون )
( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، من الذين قالوا : آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ؛ ومن الذين هادوا . سماعون للكذب ، سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ، يحرفون الكلم من بعد مواضعه ، يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه ، وإن لم تؤتوه فاحذروا . ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا . أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ، لهم في الدنيا خزي ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم . سماعون للكذب أكالون للسحت . . إلخ . . )
( قل : يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله ، وما أنزل إلينا ، وما أنزل من قبل ؛ وأن أكثركم فاسقون ؟ قل : هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ؟ من لعنه الله وغضب عليه ، وجعل منهم القردة والخنازير ، وعبد الطاغوت . . أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل . . ) .
( وإذا جاؤوكم قالوا آمنا ، وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به ؛ والله أعلم بما كانوا يكتمون . وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان ، وأكلهم السحت . لبئس ما كانوا يعملون ! لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت ! لبئس ما كانوا يصنعون ! وقالت اليهود : يد الله مغلولة . غلت أيديهم ، ولعنوا بما قالوا ! بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء . وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ؛ وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ؛ ويسعون في الأرض فسادا ، والله لا يحب المفسدين . )
( قل : يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم . وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ، فلا تأس على القوم الكافرين )
( لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا ؛ كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون . وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا . ثم تاب الله عليهم . ثم عموا وصموا . . كثير منهم . . والله بصير بما يعملون ) .
( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه . لبئس ما كانوا يفعلون . ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا ، لبئس ما قدمت لهم أنفسهم : أن سخط الله عليهم ، وفي العذاب هم خالدون . ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء . ولكن كثيرا منهم فاسقون . . )
( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا . ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى . ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون )إلخ .
وهذه الحملة الكاشفة على أعداء الجماعة المسلمة ؛ والتركيز فيها على اليهود والمشركين بصفة خاصة مع إشارات إلى المنافقين والنصارى أحيانا ، تؤدي بنا إلى شأن آخر مما تعالجه هذه السورة :
إنها تعالج موقفا حاضرا في حياة الجماعة المسلمة في المدينة يومذاك . . كما تعالج موقف الأمة المسلمة ، في تاريخها كله تجاه المعسكرات المعادية لها . . وإنها لهي هي . . على مدار الزمان !
ففي أية فترة تاريخية من حياة الجماعة المسلمة في المدينة تنزلت هذه السورة ؟
في روايات كثيرة أن هذه السورة نزلت بعد سورة الفتح . . وسورة الفتح معروف أنها نزلت في الحديبية في العام السادس من الهجرة . . وفي بعض هذه الروايات أنها نزلت مرة واحدة فيما عدا الآية الثالثة ، التي فيها : ( اليوم أكملت لكم دينكم . . . ) فإنها نزلت في حجة الوداع في السنة العاشرة . .
ولكن المراجعة الموضوعية للسورة للسورة مع أحداث السيرة تكاد تنفي هذه الرواية التي تقول : إن السورة نزلت بكاملها بعد " الفتح " ؛ فضلا على أن هناك حادثة من حوادث السيرة في غزوة بدر ، تقطع بأن الآيات الخاصة بموقف بني إسرئيل مع موسى - عليه السلام - من دخول الأرض المقدسة ، كانت معروفة للمسلمين قبل غزوة بدر في السنة الثانية الهجرية . وقد وردت إشارة إليها على لسان سعد بن معاذ الأنصارى - رضي الله عنه - في رواية ، وعلى لسان المقداد بن عمرو في رواية ، وهو يقول لرسول الله [ ص ] : " إذن والله لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . . ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون . . الخ " . .
أما المراجعة الموضوعية فتصور الموقف بأنه كانت لليهود - في ذلك الوقت الذي نزلت فيه الآيات الخاصة بهم - قوة ونفوذ وعمل في المدينة ، وفي الصف المسلم ؛ مما اقتضى هذه الحملة لكشف موقفهم وإبطال كيدهم . وهذه القوة وهذا النفوذ كانا قد تضاءلا بعد وقعة بني قريظة ، عقب غزوة الخندق ، وقد تطهرت الأرض من القبائل الثلاث اليهودية القوية : بني قينقاع ، وبني النضير وبني قريظة . فلم يكن لهم بعد الحديبية ما يدعو إلى العناية بشأنهم إلى هذا الحد . ثم لقد كانت فترة المهادنة معهم والخطة السليمة قد انتهت ولم يعد لها موضع بعد الذي بدا منهم . فقول الله تعالى لنبيه الكريم : ( ولا تزال تطلع على خائنة منهم - إلا قليلا منهم - فاعف عنهم واصفح . . )لا بد سابق على هذه الفترة . وكذلك أمره بالحكم بينهم أو الإعراض عنهم . .
ومن هذه الملاحظات يترجح لدينا أن مطالع السورة وبعض مقاطعها هي التي نزلت بعد سورة الفتح ؛ بينما نزلت مقاطع منها قبل ذلك ، كما أن الآية التي فيها قول الله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم )لا بد أن تكون قد نزلت بعد ذلك . فقد كانت آخر ما نزل من القرآن على أرجح الأقوال . وأن السورة لم تنزل كلها مرة واحدة كما جاء في إحدى الروايات .
وكما قلنا من قبل في تقديم سورة البقرة ، وتقديم سورة آل عمران ، وتقديم سورة النساء ، نقول هنا عن المعركة التي كان القرآن يخوضها ، بالجماعة المسلمة ، مع أعداء هذه الجماعة ، وأعداء دينها ، وفي مقدمتهم اليهود والمشركون والمنافقون ، وذلك مع بناء التصور الإسلامي في نفوس المؤمنين ؛ ومع تنظيم المجتمع الإسلامي بالتوجيهات والتشريعات . . كل ذلك في وقت واحد ؛ وفي منهج واحد ؛ وفي نفس واحد !
وأهم قواعد البناء : تخليص عقيدة التوحيد من كل غبش . وبيان معنى " الدين " وأنه هو منهج الحياة ؛ وأن الحكم بما أنزل الله وحده ، والتلقي في شئون الحياة كلها من الله وحده هو الإيمان ، وهو الإسلام ؛ وبغير هذا لا يكون هناك توحيد لله . فتوحيد الله هو إفراده - سبحانه - بالألوهية ؛ وبخصائص الألوهية بحيث لا يكون له فيها شريك . والحاكمية والتشريع للناس من خصائص الألوهية ، كتعبيدهم بالعبادة الشعائرية سواء بسواء . . وهذه السورة أشد تركيزا على هذه النقطة كما أسلفنا . .
ومع تقارب الموضوعات التي تعالجها السور الطوال الثلاث السابقة مع الموضوعات التي تعالجها هذه السورة - كما يبدو من هذا الاستعراض السريع - فإنه تبقى لكل سورة " شخصيتها " وجوها وظلالها وأسلوبها الخاص في معالجة هذه الموضوعات ، والزوايا التي تعالجها منها ، والأضواء التي تسلطها عليها ؛ ونوع المؤثرات الموحية المصاحبة للعرض ؛ بحيث تتميز " شخصية " كل سورة تماما ؛ ويبرز طابعها الخاص .
والطابع البارز لهذه السورة هو طابع التقرير والحسم في التعبير . . سواء في ذلك الأحكام الشرعية التي تقتضي بطبيعتها التقرير والحسم في القرآن كله ؛ أو المبادى ء والتوجيهات ، التي قد تتخذ في غير هذه السورة صورا أخرى ؛ ولكنها في هذه السورة تقرر في حسم وصرامة ؛ في أسلوب التقرير الدقيق ، وهو الطابع العام المميز لشخصية السورة . . من بدئها إلى منتهاها .
وقبل أن ننهي هذا التقديم للسورة لا يسعنا إلا أن نبرز الحقيقية التي تتضمنها الآية الثالثة منها . . فإن قول الله سبحانه لهذه الأمة : ( اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا ) . . يتضمن توحيد المصدر الذي تتلقى منه هذه الأمة منهج حياتها ونظام مجتمعها ، وشرائع ارتباطاتها ومصالحها إلى يوم القيامة ، كما يتضمن استقرار هذا الدين بكل جزئياته الاعتقادية والتعبدية والتشريعية ؛ فلا تعديل فيها ولا تغيير ؛ فقد اكتمل هذا الدين وتم وانتهى أمره . وتعديل شيء فيه كإنكاره كله ؛ لأنه إنكار لما قرره الله من تمامه وكماله ؛ وهذا الإنكار هو الكفر الذي لا جدال فيه . . أما العدول عنه كله إلى منهج آخر ، ونظام آخر ، وشريعة أخرى ؛ فلا يحتاج منا إلى وصف ، فقد وصفه الله - سبحانه - في السورة . ولا زيادة بعد وصف الله - سبحانه - لمستزيد . .
إن هذه الآية تقرر - بما لا مجال للجدال فيه - أنه دين خالد ، وشريعة خالدة . وأن هذه الصورة التي رضيها الله للمسلمين دينا هي الصورة الأخيرة . . إنها شريعة ذلك الزمان وشريعة كل زمان ؛ وليس لكل زمان شريعة ، ولا لكل عصر دين . . إنما هي الرسالة الأخيرة للبشر ، قد اكتملت وتمت ، ورضيها الله للناس دينا . فمن شاء أن يبدل ، أو يحور ، أو يغير أو يطور ! إلى آخر هذه التعبيرات التي تلاك في هذا الزمان ، فليبتغ غير الإسلام دينا . . ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) .
إن هذا المنهج الإلهي المشتمل على التصور الاعتقادي ، والشعائر التعبدية ، والشرائع المنظمة لنشاط الحياة كله ؛ يحكم ويصرف ويهيمن على نشاط الحياة كله ؛ وهو يسمح للحياة بأن تنمو في إطاره وترتقي وتتطور ؛ دون خروج على أصل فيه ولا فرع ، لأنه لهذا جاء ، ولهذا كان آخر رسالة للبشر أجمعين . .
إن تطور الحياة في ظل هذا المنهج لا يعني مجافاتها أو إهمالها لأصل فيه ولا فرع ؛ ولكن يعني أن طبيعة المنهج تحتوى كل الإمكانيات التي تسع ذلك التطور ؛ بلا خروج على أصل أو فرع . ويعني أن كل تطور في الحياة كان محسوبا حسابه في ذلك المنهج ؛ لأن الله - سبحانه - لم يكن يخفي عليه - وهو يضع هذا المنهج في صورته الأخيرة ، ويعلن إكماله وارتضاءه للناس دينا - أن هناك تطورات ستقع ، وأن هناك حاجات ستبرز ، وأن هناك مقتضيات ستتطلبها هذه التطورات والحاجات . فلا بد إذن أن يكون هذا المنهج قد احتوى هذه المقتضيات جميعا . .
وما قدر الله حق قدره من يظن غير هذا في أمر من هذه الأمور . .
وبهذا ننهي هذا التقديم العام المجمل للسورة ، ونأخذ في التفصيل . .
( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) . .
إنه لا بد من ضوابط للحياة . . حياة المرء مع نفسه التي بين جنبيه ؛ وحياته مع غيره من الناس ومن الأحياء والأشياء عامة . . الناس من الأقربين والأبعدين ، من الأ الأهل والعشيرة ، ومن الجماعة والأمة ؛ ومن الأصدقاء والأعداء . . والأحياء مما سخر الله للإنسان ومما لم يسخر . . والأشياء مما يحيط بالإنسان في هذا الكون العريض . . ثم . . حياته مع ربه ومولاه وعلاقته به وهي أساس كل حياة .
والإسلام يقيم هذه الضوابط في حياة الناس . يقيمها ويحددها بدقة ووضوح ؛ ويربطها كلها بالله سبحانه ؛ ويكفل لها الاحترام الواجب ، فلا تنتهك ، ولا يستهزأ بها ؛ ولا يكون الأمر فيها للأهواء والشهوات المتقلبة ؛ ولا للمصالح العارضة التي يراها فرد ، أو تراها مجموعة أو تراها أمة ، أو يراها جيل من الناس فيحطمون في سبيلها تلك الضوابط . . فهذه الضوابط التي أقامها الله وحددها هي " المصلحة " ما دام أن الله هو الذي أقامها للناس . . هي المصلحة ولو رأى فرد ، أو رأت مجموعة أو رأت أمة من الناس أو جيل أن المصلحة غيرها ! فالله يعلم والناس لا يعلمون ! وما يقرره الله خير لهم مما يقررون ! وأدنى مراتب الأدب مع الله - سبحانه - أن يتهم الإنسان تقديره الذاتي للمصلحة أمام تقدير الله . أما حقيقة الأدب فهي ألا يكون له تقدير إلا ما قدر الله . وألا يكون له مع تقدير الله ، إلا الطاعة والقبول والاستسلام ، مع الرضى والثقة والاطمئنان . .
هذه الضوابط يسميها الله " العقود " . . ويأمر الذين آمنوا به أن يوفوا بهذه العقود . .
وافتتاح هذه السورة بالأمر بالوفاء بالعقود ، ثم المضي بعد هذا الافتتاح في بيان الحلال والحرام من الذبائح والمطاعم والمشارب والمناكح . وفي بيان الكثير من الأحكام الشرعية والتعبدية . وفي بيان حقيقة العقيدة الصحيحة . وفي بيان حقيقة العبودية وحقيقة الألوهية . وفي بيان علاقات الأمة المؤمنة بشتى الأمم والملل والنحل . وفي بيان تكاليف الأمة المؤمنة في القيام لله والشهادة بالقسط والوصاية على البشرية بكتابها المهيمن على كل الكتب قبلها ، والحكم فيها بما أنزل الله كله ؛ والحذر من الفتنة عن بعض ما أنزل الله ؛ والحذر من عدم العدل تأثراً بالمشاعر الشخصية والمودة والشنآن . .
افتتاح السورة على هذا النحو ، والمضي فيها على هذا النهج يعطي كلمة " العقود " معنى أوسع من المعنى الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة . ويكشف عن أن المقصود بالعقود هو كل ضوابط الحياة التي قررها الله . .
وفي أولها عقد الإيمان بالله ؛ ومعرفة حقيقة ألوهيته سبحانه ، ومقتضى العبودية لألوهيته . . هذا العقد الذي تنبثق منه ، وتقوم عليه سائر العقود ؛ وسائر الضوابط في الحياة .
وعقد الإيمان بالله ؛ والاعتراف بألوهيته وربوبيته وقوامته ؛ ومقتضيات هذا الاعتراف من العبودية الكاملة ، والالتزام الشامل والطاعة المطلقة والاستسلام العميق . . هذا العقد أخذه الله ابتداء على آدم - عليه السلام - وهو يسلمه مقاليد الخلافة في الأرض ، بشرط وعقد هذا نصه القرآني : قلنا : اهبطوا منها جميعا . فإما يأتينكم مني هدى ، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . . فهي خلافة مشروطة باتباع هدى الله الذي ينزله في كتبه على رسله ؛ وإلا فهي المخالفة لعقد الخلافة والتمليك . المخالفة التي تجعل كل عمل مخالف لما أنزل الله ، باطلا بطلانا أصليا ، غير قابل للتصحيح المستأنف ! وتحتم على كل مؤمن بالله ، يريد الوفاء بعقد الله ، أن يرد هذا الباطل ، ولا يعترف به ؛ ولا يقبل التعامل على أساسه . وإلا فما أوفى بعقد الله .
ولقد تكرر هذا العقد - أو هذا العهد - مع ذرية آدم . وهم بعد في ظهور آبائهم . كما ورد في السورة الأخرى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ، وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا ! أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم . أفتهلكنا بما فعل المبطلون ؟ ) فهذا عقد آخر مع كل فرد ؛ عقد يقرر الله - سبحانه - أنه أخذه على بني آدم كلهم وهم في ظهور آبائهم . . وليس لنا أن نسأل : كيف ؟ لأن الله أعلم بخلقة ؛ وأعلم كيف يخاطبهم في كل طور من أطوار حياتهم . بما يلزمهم الحجة . وهو يقول : إنه أخذ عليهم هذا العهد ، على ربوبيته لهم . . فلا بد أن ذلك كان ، كما قال الله سبحانه . . فإذا لم يفوا بتعاقدهم هذا مع ربهم لم يكونوا أوفياء !
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل - كما سيجيء في السورة - يوم نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم . . وسنعلم - من السياق - كيف لم يفوا بالميثاق ؛ وكيف نالهم من الله ما ينال كل من ينقض الميثاق .
والذين آمنوا بمحمد [ ص ] قد تعاقدوا مع الله - على يديه - تعاقدا عاما على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وأثرة علينا ، وألا تنازع الأمر أهله " .
وبعضهم وقعت له بعد ذلك عقود خاصة قائمة على ذلك التعاقد العام . . ففي بيعة العقبة الثانية التي ترتبت عليها هجرة الرسول [ ص ] من مكة إلى المدينة ، كان هناك عقد مع نقباء الأنصار . . وفي الحديبية كان هناك عقد الشجرة وهو " بيعة الرضوان " .
وعلى عقد الإيمان بالله ، والعبودية لله ، تقوم سائر العقود . . سواء ما يختص منها بكل أمر وكل نهي في شريعة الله ، وما يتعلق بكل المعاملات مع الناس والأحياء والأشياء في هذا الكون في حدود ما شرع الله - فكلها عقود ينادي الله الذين آمنوا ، بصفتهم هذه ، أن يوفوا بها . إذ أن صفة الإيمان ملزمة لهم بهذا الوفاء ، مستحثة لهم كذلك على الوفاء . . ومن ثم كان هذا النداء :
( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) . .
ثم يأخذ في تفصيل بعض هذه العقود :
( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود . . أحلت لكم بهيمة الأنعام - إلا ما يتلى عليكم - غير محلي الصيد وأنتم حرم . إن الله يحكم ما يريد . . يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ، ولا الشهر الحرام ، ولا الهدي ، ولا القلائد ، ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . وإذا حللتم فاصطادوا ، ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى . ولا تعاونوا على الإثم والعدوان . واتقوا الله . إن الله شديد العقاب . حرمت عليكم الميتة ، والدم ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، والمنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع - إلا ما ذكيتم - وما ذبح على النصب ، وأن تستقسموا بالأزلام . ذلكم فسق . . اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ، فلا تخشوهم واخشون . . اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينا . . فمن اضطر في مخمصة - غير متجانف لإثم - فإن الله غفور رحيم )
إن هذا التحريم والتحليل في الذبائح ، وفي الأنواع ، وفي الأماكن ، وفي الأوقات . . إن هذا كله من " العقود " . . وهي عقود قائمة على عقد الإيمان ابتداء . فالذين آمنوا يقتضيهم عقد الإيمان أن يتلقوا التحريم والتحليل من الله وحده ؛ ولا يتلقوا في هذا شيئا من غيره . . ومن ثم نودوا هذا النداء ، في مطلع هذا البيان . . وأخذ بعده في بيان الحلال والحرام :
( أحلت لكم بهيمة الأنعام - إلا ما يتلى عليكم - ) . .
وبمقتضى هذا الإحلال من الله ؛ وبمقتضى إذنه هذا وشرعه - لا من أي مصدر آخر ولا استمدادا من أي أصل آخر - صار حلالا لكم ومباحا أن تأكلوا من كل ما يدخل تحت مدلول ( بهيمة الأنعام ) من الذبائح والصيد - إلا ما يتلى عليكم تحريمه منها - وهو الذي سيرد ذكره محرما . . إما حرمة وقتية أو مكانية ؛ وإما حرمة مطلقة في أي مكان وفي أي زمان . وبهيمة الأنعام تشمل الإبل والبقر والغنم ؛ ويضاف إليها الوحشي منها ، كالبقر الوحشي ، والحمر الوحشية والظباء .
ثم يأخذ في الاستثناء من هذا العموم . . . وأول المستثنيات الصيد في حال الإحرام :
( غير محلي الصيد وأنتم حرم ) . .
والتحريم هنا ينطبق ابتداء على عملية الصيد ذاتها . فالإحرام للحج أو للعمرة ، تجرد عن أسباب الحياة العادية واساليبها المألوفة وتوجه إلى الله في بيته الحرام ، الذي جعله الله مثابة الأمان . . ومن ثم ينبغي عنده الكف عن بسط الأكف إلى أي حي من الأحياء . . وهي فترة نفسية ضرورية للنفس البشرية ؛ تستشعر فيها صلة الحياة بين جميع الأحياء في واهب الحياة ؛ وتأمن فيها وتؤمن كذلك من كل اعتداء ؛ وتتخفف من ضرورات المعاش التي أحل من أجلها صيد الطير والحيوان واكله ؛ لترتفع في هذه الفترة على مألوف الحياة وأساليبها ، وتتطلع إلى هذا الأفق الرفاف الوضيء .
وقبل أن يمضي السياق في بيان المستثنيات من حكم الحل العام ، يربط هذا العقد بالعقد الأكبر ، ويذكر الذين آمنوا بمصدر ذلك الميثاق :
طليقة مشيئته ، حاكمة إرادته ، متفردا - سبحانه - بالحكم وفق ما يريد . ليس هنالك من يريد معه ؛ وليس هنالك من يحكم بعده ؛ ولا راد لما يحكم به . . وهذا هو حكمه في حل ما يشاء وحرمة ما يشاء . .
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ إِلاّ مَا يُتْلَىَ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلّي الصّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا : يا أيها الذين أقرّوا بوحدانية الله وأذعنوا له بالعبودية ، وسلموا له الألوهية ، وصدّقوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم في نبوّته وفيما جاءهم به من عند ربهم من شرائع دينه ، أوْفُوا بالعُقُودِ يعني : أوفوا بالعهود التي عاهدتموها ربكم والعقود التي عاقدتموها إياه ، وأوجبتم بها على أنفسكم حقوقا وألزمتم أنفسكم بها لله فروضا ، فأتموها بالوفاء والكمال والتمام منكم لله بما ألزمكم بها ، ولمن عاقدتموه منكم بما أوجبتموه له بها على أنفسكم ، ولا تنكثوها فتنقضوها بعد توكيدها .
واختلف أهل التأويل في العقود التي أمر الله جلّ ثناؤه بالوفاء بها بهذه الاَية ، بعد إجماع جميعهم على أن معنى العقود : العهود فقال بعضهم : هي العقول التي كان أهل الجاهلية عاقد بعضهم بعضا على النصرة والمؤازرة والمظاهرة على من حاول ظلمه أو بغاه سوءا ، وذلك هو معنى الحلف الذي كانوا يتعاقدونه بينهم . ذكر من قال ذلك : معنى العقود العهود :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : أوْفُوا بالعُقُودِ يعني : بالعهود .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جلّ وعزّ : أوْفُوا بالعُقُودِ قال : العهود .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر الرازيّ ، عن الربيع بن أنس ، قال : جلسنا إلى مطرف بن الشّخّير وعنده رجل يحدثهم ، فقال : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بالعُقُودِ قال : هي العهود .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : أوْفُوا بالعُقُودِ قال : العهود .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بالعُقُودِ قال : هي العهود .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : أوْفُوا بالعُقُودِ بالعهود .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : أوْفُوا بالعُقُودِ قال : بالعهود .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أوْفُوا بالعُقُودِ قال : هي العهود .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : سمعت الثوري يقول : أوْفُوا بالعُقُودِ قال : بالعهود .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
قال أبو جعفر : والعقود : جمع عقد ، وأصل العقد : عقد الشيء بغيره ، وهو وصله به ، كما تعقد الحبل بالحبل : إذا وُصِل به شدّا ، يقال منه : عقد فلان بينه وبين فلان عقدا فهو يعقده ، ومنه قول الحطيئة :
قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا عَقْدا لجارِهِمُ ***شَدّوا العِناجَ وشَدّوا فوْقَهُ الكَرَبا
وذلك إذا واثقه على أمر ، وعاهده عليه عهدا بالوفاء له بما عاقده عليه ، من أمان وذمة ، أو نصرة ، أو نكاح ، أو بيع ، أو شركة ، أو غير ذلك من العقود .
ذكر من قال المعنى الذي ذكرنا عمن قاله في المراد من قوله : أوْفُوا بالعُقُودِ .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بالعُقُودِ أي بعقد الجاهلية . ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «أوْفُوا بعَقْدِ الجاهِلِيّةِ ، وَلا تُحْدِثُوا عَقْدا في الإسْلامِ » . وذكر لنا أن فرات بن حيان العجليّ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية ، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «لعَلّكَ تَسألُ عَنْ حِلْفِ لْخَمٍ وَتْيمِ اللّهِ ؟ » فقال : نعم يا نبيّ الله ، قال : «لا يَزِيدُهُ الإسْلامُ إلاّ شِدّةً » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : أوْفُوا بالعُقُودِ قال : عقود الجاهلية : الحلف .
وقال آخرون : بل هي الحلف التي أخذ الله على عباده بالإيمان به وطاعته فيما أحلّ لهم وحرم عليهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا عبد الله ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : أوْفُوا بالعُقُودِ يعني : ما أُحِلّ ، وما حرّم ، وما فُرض ، وما حدّ في القرآن كله ، فلا تغدروا ولا تنكُثُو ثم شدّد ذلك فقال : وَالّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ . . . إلى قوله : سُوءُ الدّارِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أوْفُوا بالعُقُودِ ما عقد الله على العباد مما أحلّ لهم وحرّم عليهم .
وقال آخرون : بل هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم ويعقدها المرء على نفسه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن موسى بن عبيدة ، عن أخيه عبد الله بن عبيدة ، قال : العقود خمس : عُقدة الإيمان ، وعقدة النكاح ، وعقدة العهد ، وعقدة البيع ، وعقدة الحِلف .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا وكيع . عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القُرَظِيّ أو عن أخيه عبد الله بن عبيدة ، نحوه .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بالعُقُودِ قال : عقد العهد وعقد اليمين ، وعقد الحلف ، وعقد الشركة ، وعقد النكاح . قال : هذه العقود خمس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عتبة بن سعيد الحمصي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، قال : حدثنا أبي في قول الله جلّ وعزّ : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بالعُقُودِ قال : العقود خمس : عقدة النكاح ، وعقد الشركة ، وعقد اليمين ، وعقدة العهد ، وعقدة الحلف .
وقال آخرون : بل هذه الاَية أمر من الله تعالى لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم من العمل بما في التوراة والإنجيل في تصديق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : أوْفُوا بالعُقُودِ قال : العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بما جاءهم .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني يونس ، قال : قال محمد بن مسلم . قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران ، فكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم ، فيه : هذا بيان من الله ورسوله يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بالعُقُودِ . فكتب الاَيات منها ، حتى بلغ : إنّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسابِ .
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ما قاله ابن عباس ، وأن معناه : أوفوا يا أيها الذين آمنوا بعقود الله التي أوجبها عليكم وعقدها ، فيما أحلّ لكم وحرّم عليكم ، وألزمكم فرضه ، وبين لكم حدوده .
وأنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال ، لأن الله جلّ وعزّ أتبع ذلك البيان عما أحلّ لعباده وحرّم عليهم وما أوجب عليهم من فرائضه ، فكان معلوما بذلك أن قوله : أوْفُوا بالعُقُودِ أمر منه عباده بالعمل بما ألزمهم من فرائضه وعقوده عقيب ذلك ، ونهي منه لهم عن نقض ما عقده عليهم منه ، مع أن قوله : أوْفُوا بالعُقُودِ أمر منه بالوفاء بكلّ عقد أذن فيه ، فغير جائز أن يخصّ منه شيء حتى تقوم حجة بخصوص شيء منه يجب التسليم لها . فإذ كان الأمر في ذلك كما وصفنا ، فلا معنى لقول من وجّه ذلك إلى معنى الأمر بالوفاء ببعض العقود التي أمر الله بالوفاء بها دون بعض .
وأما قوله : أوْفُوا فإن للعرب فيه لغتين : إحداهما : «أوفوا » من قول القائل : أوفيت لفلان بعهده أو في له به والأخرى من قولهم : وَفَيْتُ له بعهده أفي . والإيفاء بالعهد : إتمامه على ما عُقد عليه من شروطه الجائزة .
القول في تأويل قوله تعالى : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ .
اختلف أهل التأويل في بهيمة الأنعام التي ذكر الله عزّ ذكره في هذه الاَية أنه أحلها لنا ، فقال بعضهم : هي الأنعام كلها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : بهيمة الأنعام : هي الإبل والبقر والغنم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ قال : الأنعام كلها .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا ابن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ قال : الأنعام كلها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ قال : الأنعام كلها .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : بَهِيمَةُ الأنْعامِ : هي الأنعام .
وقال آخرون : بل عني بقوله : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ : أجنة الأنعام التي توجد في بطون أمهاتها إذا نُحِرت أو ذبحت ميتة . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحرث بن محمد ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : أخبرنا أبو عبد الرحمن الفزاري ، عن عطية العوفيّ ، عن ابن عمر في قوله : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ قال : ما في بطونها . قال : قلت : إن خرج ميتا آكلُه ؟ قال : نعم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا يحيى بن زكريا ، عن إدريس الأودي ، عن عطية ، عن ابن عمر نحوه ، وزاد فيه ، قال : نعم ، هو بمنزلة رِئتها وكبدها .
حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : الجنين من بهيمة الأنعام فكلوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن مِسْعر وسفيان ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أن بقرة نُحِرت ، فوجد في بطنها جنين ، فأخذ ابن عباس بذَنَب الجنين ، فقال : هذا من بهيمة الأنعام التي أحلت لكم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : هو من بهيمة الأنعام .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ومؤمّل ، قالا : حدثنا سفيان ، عن قابوس ، عن أبيه ، قال : ذبحنا بقرة ، فإذا في بطنها جنين ، فسألنا ابن عباس ، فقال : هذه بهيمة الأنعام .
وأولى القولين بالصواب في ذلك قول من قال : عَنَى بقوله : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ : الأنعام كلها ، أجِنَتّها وسِخالها وكبارها ، لأن العرب لا تمتنع من تسمية جميع ذلك بهيمة وبهائم ، ولم يخصص الله منها شيئا دون شيء ، فذلك على عمومه وظاهره حتى تأتي حجة بخصوصه يجب التسليم لها . وأما النعم فإنها عند العرب : أسم للإبل والبقر والغنم خاصة ، كما قال جلّ ثناؤه : والأنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ثم قال : والخَيْلَ وَالبِغالَ والحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً ففصل جنس النعم من غيرها من أجناس الحيوان . وأما بهائمها فإنها أولادها . وإنما قلنا : يلزم الكبار منها اسم بهيمة كما يلزم الصغار ، لأن معنى قول القائل : بهيمة الأنعام ، نظير قوله : ولد الأنعام فلما كان لا يسقط معنى الولادة عنه بعد الكبر ، فكذلك لا يسقط عنه اسم البهيمة بعد الكبر . وقد قال قوم : بهيمة الأنعام : وحشيها كالظباء وبقر الوحش والحمر .
القول في تأويل قوله تعالى : إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ .
اختلف أهل التأويل في الذي عناه الله بقوله : إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فقال بعضهم : عنى الله بذلك : أحلت لكم أولاد الإبل والبقر والغنم ، إلا ما بين الله لكم فيما يتلى عليكم بقوله : حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدّمُ . . . الاَية . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : بَهِيمَةُ الإنْعامِ إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ : إلا الميتة وما ذكر معها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ : أي من الميتة التي نهى الله عنها وقدّم فيها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ قال : إلا الميتة ، وما لم يذكر اسم الله عليه .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ : الميتة ولحم الخنزير .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ : هي الميتة والدم ولحم الخنزير ، وما أهلّ لغير الله به .
وقال آخرون : بل الذي استثنى الله بقوله : إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ الخنزير . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ قال : الخنزير .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ يعني : الخنزير .
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من قال : عني بذلك : إلا ما يتلى عليكم من تحريم الله ما حرّم عليكم بقوله : حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ . . . الاَية ، لأن الله عزّ وجلّ استثنى مما أباح لعباده من بهيمة الأنعام ما حرّم عليهم منها ، والذي حرّم عليهم منها ما بينه في قوله : حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدّمُ ولَحْمُ الخِنْزِيرِ وإن كان حرّمه الله علينا فليس من بهيمة الأنعام فيستثنى منها ، فاستثناء ما حرّم علينا مما دخل في جملة ما قبل الاستثناء أشبه من استثناء ما حرّم مما لم يدخل في جملة ما قبل الاستثناء .
القول في تأويل قوله تعالى : غيرَ مُحِلّى الصّيْدِ وأنْتُمْ حُرُمٌ إنّ اللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود غير محلى الصيد وأنتم حرم ، أحلت لكم بهيمة الأنعام . فلذلك على قولهم من المؤخر الذي معناه التقديم ، ف «غير » منصوب على قول قائلي هذه المقالة على الحال مما في قوله : «أوفوا » ، من ذكر الذين آمنوا . وتأويل الكلام على مذهبهم : أوفوا أيها المؤمنون بعقود الله التي عقدها عليكم في كتابه ، لا محلين الصيد وأنتم حرم .
وقال آخرون : معنى ذلك : أحلت لكم بهيمة الأنعام الوحشية من الظباء والبقر والحمر ، غير محلي الصيد : غير مستحلي اصطيادها ، وأنتم حرم ، إلا ما يتلى عليكم . ف «غير » على قول هؤلاء منصوب على الحال من الكاف والميم اللتين في قوله : «لَكُمْ » بتأويل : أحلت لكم أيها الذين آمنوا بهيمة الأنعام ، لا مستحّلي اصطيادها في حال إحرامكم .
وقال آخرون : معنى ذلك : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها ، إلا ما يتلى عليكم ، إلا ما كان منها وحشيا ، فإنه صيد فلا يحلّ لكم وأنتم حرم . فكأنّ من قال ذلك ، وجه الكلام إلى معنى : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها ، إلا ما يتلى عليكم ، إلا ما يُبيّن لكم من وحشيها ، غير مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم ، فتكون «غير » منصوبة على قولهم على الحال من الكاف والميم في قوله : إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، قال : جلسنا إلى مُطَرّفَ بن الشّخّير وعنده رجل ، فحدثهم فقال : أحلت لكم بهيمة الأنعام صيدا ، غير محلي الصيد وأنتم حرم ، فهو عليكم حرام . يعني : بقر الوحش والظباء وأشباهه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ غيرَ مُحِلّي الصّيْدِ وأنْتُمْ حُرُمٌ قال : الأنعام كلها حِلّ إلا ما كان منها وحشيّا ، فإنه صيد ، فلا يحلّ إذا كان محرِما .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب على ما تظاهر به تأويل أهل التأويل في قوله : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ من أنها الأنعام وأجنتها وسخالها ، وعلى دلالة ظاهر التنزيل قول من قال : معنى ذلك : أوفوا بالعقود غير محلي الصيد وأنتم حرم ، فقد أحلت لكم بهيمة الأنعام في حال إحرامكم أو غيرها من أحوالكم ، إلا ما يتلى عليكم تحريمه من الميتة منها والدم وما أهلّ لغير الله به . وذلك أن قوله : إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ لو كان معناه : إلا الصيد ، لقيل : إلا ما يتلى عليكم من الصيد غير محليه ، وفي ترك الله وصْل قوله : إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ بما ذكرت ، وإظهار ذكر الصيد في قوله : غيرَ مُحِلّي الصّيْدِ أوضح الدليل على أن قوله : إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ خبر متناهيةٌ قصته ، وأن معنى قوله : غيرَ مُحِلّي الصّيْدِ منفصل منه . وكذلك لو كان قوله : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ مقصودا به قصد الوحش ، لم يكن أيضا لإعادة ذكر الصيد لفي قوله : غيرَ مُحِلّي الصّيْدِ وجه وقد مضى ذكره قبل ، ولقيل : أحلت لكم بهيمة الأنعام ، إلا ما يتلى عليكم ، غير محليه وأنتم حرم . وفي أظهاره ذكر الصيد في قوله : غيرَ مُحِلّي الصّيْدِ أبين الدلالة على صحة ما قلنا في معنى ذلك .
فإن قال قائل : فإن العرب ربما أظهرت ذكر الشيء باسمه وقد جرى ذكره باسمه ؟ قيل : ذلك من فعلها ضرورة شعر ، وليس ذلك بالفصيح المستعمل من كلامهم ، وتوجيه كلام الله إلى الأفصح من لغات من نزل كلامه بلغته أولى ما وجد إلى ذلك سبيل من صرفه إلى غير ذلك .
فمعنى الكلام إذن : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بعقود الله التي عقد عليكم ، مما حرّم وأحلّ ، لا محلين الصيد في حَرمكم ، ففيما أحلّ لكم من بهيمة الأنعام المذكّاة دون ميتتها متسع لكم ومستغنى عن الصيد في حال إحرامكم .
القول في تأويل قوله تعالى : إنّ اللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيد .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : إن الله يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد تحليله ، وتحريم ما أراد تحريمه ، وإيجاب ما شاء إيجابه عليهم ، وغير ذلك من أحكامه وقضاياه ، فأوفوا أيها المؤمنون له بما عقد عليكم من تحليل ما أحلّ لكم وتحريم ما حرّم عليكم ، وغير ذلك من عقوده فلا تنكُثُوها ولا تنقضوها . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : إنّ اللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ : إن الله يحكم ما أراد في خلقه ، وبين لعباده ، وفرض فرائضه ، وحدّ حدوده ، وأمر بطاعته ، ونَهَى عن معصيته .