وعندئذ تأخذ شعيبا الغيرة على جلال ربه ووقاره ؛ فيتنصل من الاعتزاز برهطه وقومه ؛ ويجبههم بسوء التقدير لحقيقة القوى القائمة في هذا الوجود ، وبسوء الأدب مع الله المحيط بما يعملون . ويلقي كلمته الفاصلة الأخيرة . ويفاصل قومه على أساس العقيدة ، ويخلي بينهم وبين الله ، وينذرهم العذاب الذي ينتظر أمثالهم ، ويدعهم لمصيرهم الذي يختارون :
( قال : يا قوم : ارهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا ؟ إن ربي بما تعملون محيط . ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل ، سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ) . .
أجماعة من البشر مهما يكونوا من القوة والمنعة فهم ناس ، وهم ضعاف ، وهم عباد من عباد الله . . أهؤلاء أعز عليكم من الله ؟ . . أهؤلاء أشد قوة ورهبة في نفوسكم من الله ؟
( واتخذتموه وراءكم ظهريا ) . .
وهي صورة حسية للترك والإعراض ، تزيد في شناعة فعلتهم ، وهم يتركون الله ويعرضون عنه ، وهم من خلقه ، وهو رازقهم وممتعهم بالخير الذي هم فيه . فهو البطر وجحود النعمة وقلة الحياء إلى جانب الكفر والتكذيب وسوء التقدير .
( إن ربي بما تعملون محيط ) . .
والإحاطة أقصى الصور الحسية للعلم بالشيء والقدرة عليه .
إنها غضبة العبد المؤمن لربه أن يستباح جلاله - سبحانه - ووقاره . الغضبة التي لا يقوم إلى جوارها شيء من الاعتزاز بنسبه ورهطه وعشيرته وقومه . . إن شعيبا لم ينتفخ ولم ينتفش أن يجد القوم يرهبون رهطه ، فلا تمتد إليه أيديهم بالبطش الذي يريدونه ! ولم يسترح ولم يطمئن إلى أن يكون رهطه هم الذين يحمونه ويمنعونه من قومه - الذين افترق طريقهم عن طريقه - وهذا هو الإيمان في حقيقته . . أن المؤمن لا يعتز إلا بربه ؛ ولا يرضى أن تكون له عصبة تخشى ولا يخشى ربه ! فعصبية المسلم ليست لرهطه وقومه ، إنما هي لربه ودينه . وهذا هو مفرق الطريق في الحقيقة بين التصور الإسلامي والتصور الجاهلي في كل أزمانه وبيئاته !
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَقَوْمِ أَرَهْطِيَ أَعَزّ عَلَيْكُم مّنَ اللّهِ وَاتّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنّ رَبّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } .
يقول تعالى ذكره : قال شعيب لقومه : يا قوم أَعْزَزْتم قومكم ، فكانوا أعزّ عليكم من الله ، واستخففتم بربكم ، فجعلتموه خلف ظهوركم ، لا تأتمرون لأمره ولا تخافون عقابه ، ولا تعظمونه حقّ عظمته . يقال للرجل إذا لم يقض حاجة الرجل : نبذ حاجته وراء ظهره : أي تركها لا يلتفت إليها ، وإذا قضاها قيل : جعلها أمامه ونُصْب عينيه . ويقال : ظهرت بحاجتي وجعلتها ظِهرِية : أي : خلف ظهرك ، كما قال الشاعر :
*** وَجَدْنا بني البَرْصَاءِ مِنْ وَلَدِ الظّهْرِ ***
بمعنى : أنهم يظهرون بحوائج الناس ، فلا يلتفتون إليها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { قالَ يا قَوْمِ أرَهْطِي أعَزّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ واتخَذْتُمَوهُ وَرَاءَكُم ظهرِيّا } ، وذلك أن قوم شعيب ورهطه كانوا أعزّ عليهم من الله ، وصَغُر شأن الله عندهم ، عزّ ربنا وجلّ ثناؤه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : { واتّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّا } ، قال : قفا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { قالَ يا قَوْمِ أرَهْطِي أعَزّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ واتخَذْتُمَوهُ وَرَاءَكُم ظَهْرِيّا } ، يقول : عَزّزتم قومكم ، وأظهرتم بربكم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { وَاتّخَذْتُمُوه وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّا } ، قال : لم تراقبوه في شيء ، إنما تراقبون قومي . { وَاتّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّا } ، يقول : عَزّزتم قومكم وأظهرتم بربكم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { وَاتّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّا } ، قال : لم تراقبوه في شيء ، إنما تراقبون قومي ، واتخذتموه وراءكم ظِهْرِيّا لا تخافونه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { أرَهْطِي أعَزّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللّه } ، ِ قال : أعززتم قومكم واغتررتم بربكم ، سمعت إسحاق بن أبي إسرائيل ، قال : قال سفيان : { واتّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّا } ، كما يقول الرجل للرجل : خلفت حاجتي خلف ظهرك ، فاتخذتموه وراءكم ظهريّا : استخففتم بأمره ، فإذا أراد الرجل قضاء حاجة صاحبه ، جعلها أمامه بين يديه ، ولم يستخف بها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { واتّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّا } ، قال : الظهري : الفضل ، مثل الجمال يخرج معه بإبل ظهارية فضل لا يحمل عليها شيئا إلا أن يحتاج إليها ، قال : فيقول : إنما ربكم عندكم مثل هذا إن احتجتم إليه ، وإن لم تحتاجوا إليه فليس بشيء .
وقال آخرون : معنى ذلك : واتخذتم ما جاء به شعيب وراءكم ظهريّا ، فالهاء في قوله : { واتّخَذْتُمُوهُ } ، على هذا من ذكر ما جاء به شعيب عليه السلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { واتّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّا } ، قال : تركتم ما جاء به شعيب .
قال : حدثنا جعفر بن عون ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، قال : نبذوا أمره .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد : { واتّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّا } ، قال : نبذتم أمره .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { واتّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّا } ، قال : هم رهط شعيب تركهم ما جاء به وراء ظهورهم ظهريّا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد . قال : وحدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { واتّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّا } ، قال : استثناؤهم رهط شعيب ، وتركهم ما جاء به شعيب وراء ظهورهم ظهريّا .
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك لقرب قوله : { واتّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّا } ، من قوله : { أرَهْطِي أعَزّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللّه } ، فكانت الهاء في قوله { واتّخَذْتُمُوهُ } ، بأن تكون من ذكر الله لقرب جوارها منه أشبه وأولى .
وقوله : { إنّ رَبّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } ، يقول : إن ربي محيط علمه بعملكم ، فلا يخفى عليه منه شيء ، وهو مجازيكم على جميعه عاجلاً وآجلاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.