قوله تعالى : { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } ، قال الحسن وقتادة : نزلت الآية في أهل الإيمان ، وقال قوم : نزلت في المشركين ، قوله { عذاباً من فوقكم } يعني : الصيحة ، والحجارة ، والريح ، والطوفان . كما فعل بعاد وثمود ، وقوم لوط ، وقوم نوح .
قوله تعالى : { أو من تحت أرجلكم } ، يعني : الرجفة والخسف ، كما فعل بقوم شعيب وقارون ، وعن ابن عباس ومجاهد : { عذابا من فوقكم } السلاطين الظلمة ، { ومن تحت أرجلكم } العبيد السوء ، وقال الضحاك : { من فوقكم } من قبل كباركم ، { أو من تحت أرجلكم } أي من أسفل منكم .
قوله تعالى : { أو يلبسكم شيعا } ، أي : يخلطكم فرقا ، ويبث فيكم الأهواء المختلفة .
قوله تعالى : { ويذيق بعضكم بأس بعض } يعني : السيوف المختلفة ، يقتل بعضكم بعضا .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو اليمان ، أنا حماد بن زيد ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر ، قال : لما نزلت هذه الآية { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أعوذ بوجهك الكريم ) ، قال : { أو من تحت أرجلكم } ، قال : أعوذ بوجهك قال : { أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هذا أهون أو هذا أيسر ) .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنا أبو جعفر محمد بن علي دحيم الشيباني ، أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي عرفة ، أنا يعلي بن عبيد الطنافسي ، أنا عثمان بن حكيم ، عن عامر ابن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررنا على مسجد بني معاوية ، فدخل فصلى ركعتين ، وصلينا معه ، فناجى ربه طويلاً ثم قال : ( سألت ربي ثلاثاً : سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها ، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم ، فمنعنيها ) .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنا السيد أبو الحسن محمد الحسين بن داود العلوي ، أنا أبو بكر محمد بن أحمد بن دلويه الدقاق ، ثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، ثنا إسماعيل بن أبي أويس ، حدثني أخي ، عن سليمان بن بلال ، عن عبيد الله بن عبد الرحمن الأنصاري ، أن عبد الله بن عمر جاءهم ثم قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم : دعا في مسجد فسأل الله ثلاثاً ، فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة ، سأله أن لا يسلط على أمته عدواً من غيرهم يظهر عليهم فأعطاه ذلك ، وسأله أن لا يهلكهم بالسنين فأعطاه ذلك ، وسأله أن لا يجعل بأس بعضهم على بعض ، فمنعه ذلك .
{ 65 - 67 } { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }
أي : هو تعالى قادر على إرسال العذاب إليكم من كل جهة . { مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ } أي : يخلطكم { شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } أي : في الفتنة ، وقتل بعضكم بعضا .
فهو قادر على ذلك كله ، فاحذروا من الإقامة على معاصيه ، فيصيبكم من العذاب ما يتلفكم ويمحقكم ، ومع هذا فقد أخبر أنه قادر على ذلك . ولكن من رحمته ، أن رفع عن هذه الأمة العذاب من فوقهم بالرجم والحصب ، ونحوه ، ومن تحت أرجلهم بالخسف .
ولكن عاقب من عاقب منهم ، بأن أذاق بعضهم بأس بعض ، وسلط بعضهم على بعض ، عقوبة عاجلة يراها المعتبرون ، ويشعر بها العالمون{[291]}
{ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ } أي : ننوعها ، ونأتي بها على أوجه كثيرة وكلها دالة على الحق . { لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } أي : يفهمون ما خلقوا من أجله ، ويفقهون الحقائق الشرعية ، والمطالب الإلهية .
{ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } كما فعل بقوم نوح ولوط وأصحاب الفيل . { أو من تحت أرجلكم } كما أغرق فرعون ، وخسف بقارون . وقيل من فوقكم أكابركم وحكامكم ومن تحت أرجلكم سفلتكم وعبيدكم . { أو يلبسكم } يخلطكم . { شيعا } فرقا متحزبين على أهواء شتى ، فينشب القتال بينكم قال :
وكتيبة لبستها بكتيبة *** حتى إذا التبست نفضت لها يدي
{ ويذيق بعضكم بأس بعض } يقاتل بعضكم بعضا . { انظر كيف نصرف الآيات } بالوعد والوعيد . { لعلهم يتقون } .
{ قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } .
استئناف ابتدائي عُقّب به ذكرُ النعمة التي في قوله : { قل من يُنجّيكم } بذكر القدرة على الانتقام ، تخويفاً للمشركين . وإعادة فعل الأمر بالقول مثل إعادته في نظائره للاهتمام المبيَّن عند قوله تعالى : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة } [ الأنعام : 40 ] . والمعنى قل للمشركين ، فالمخاطب بضمائر الخطاب هم المشركون . والمقصود من الكلام ليس الإعلام بقدرة الله تعالى فإنَّها معلومة ، ولكن المقصود التهديد بتذكيرهم بأنّ القادر من شأنه أن يُخاف بأسُه فالخبر مستعمل في التعريض مجازاً مرسلاً مركّباً ، أو كناية تركيبية . وهذا تهديد لهم ، لقولهم { لولا أنزل عليه آية من ربِّه } [ يونس : 20 ] .
وتعريف المسند والمسند إليه أفاد القصر ، فأفاد اختصاصه تعالى بالقدرة على بعث العذاب عليهم وأنّ غيره لا يقدر على ذلك فلا ينبغي لهم أن يخشوا الأصنام ، ولو أرادوا الخير لأنفسهم لخافوا الله تعالى وأفردوه بالعبادة لمرضاته ، فالقصر المستفاد إضافي . والتعريف في { القادر } تعريف الجنس ، إذ لا يقدر غيره تعالى على مثل هذا العذاب .
والعذاب الذي من فوق مثل الصواعق والريح ، والذي من تحت الأرجل مثل الزلازل والخسف والطوفان .
و{ يلبسكم } مُضارع لَبَسَه بالتحريك أي خلطه ، وتعدية فعل { يلبسكم } إلى ضمير الأشخاص بتقدير اختلاط أمرهم واضطرابه ومَرجه ، أي اضطراب شؤونهم ، فإنّ استقامة الأمور تشبه انتظام السلك ولذلك سمَّيت استقامة أمور الناس نظاماً . وبعكس ذلك اختلال الأمور والفوضى تشبه اختلاط الأشياء ، ولذلك سمّي مَرَجاً ولَبْساً . وذلك بزوال الأمن ودخول الفساد في أمور الأمّة ، ولذلك يقرن الهَرْج وهو القتل بالمَرْج ، وهو الخلط فيقال : هم في هَرْج ومَرْج ، فسكون الراء في الثاني للمزاوجة .
وانتصب { شِيَعاً } على الحال من الضمير المنصوب في { يَلْبِسَكم } . والشيَع جمع شيعة بكسر الشين وهي الجماعة المتَّحدة في غرض أو عقيدة أو هوى فهم متّفقون عليه ، قال تعالى : { إنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيَاً لست منهم في شيء } [ الأنعام : 159 ] . وشيعة الرجل أتباعه والمقتدون به قال تعالى : { وإنّ من شيعته لإبراهيم } [ الصافات : 83 ] أي من شيعة نوح .
وتشتّت الشيع وتعدّد الآراء أشدّ في اللبس والخلط ، لأنّ اللبس الواقع كذلك لبس لا يرجى بعده انتظام .
وعطف عليه { ويذيق بعضَكم بأس بعض } لأنّ من عواقب ذلك اللبس التقاتل . فالبأس هو القتل والشرّ ، قال تعالى : { وسرابيل تقيكم بأسكم } [ النحل : 81 ] . والإذاقة استعارة للألم .
وهذا تهديد للمشركين كما قلنا بطريق المجاز أو الكناية . وقد وقع منه الأخير فإنّ المشركين ذاقوا بأس المسلمين يومَ بدر وفي غزوات كثيرة .
في « صحيح البخاري » عن جابر بن عبد الله قال : " لما نزلتْ { قُلْ هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } قال رسول صلى الله عليه وسلم أعوذُ بوجهك . قال : { أوْ من تحت أرجلكم } قال : أعوذ بوجهك قال : { أو يلبِسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض } قال رسول الله : هذا أهون ، أو هذا أيسر " اه . واستعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك خشية أن يعمّ العذاب إذا نزل على الكافرين مَن هو بجوارهم من المسلمين لقوله تعالى : { واتَّقُوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة } [ الأنفال : 25 ] وفي الحديث قالوا : « يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال : نعم إذا كثر الخبث » وفي الحديث الآخر « ثم يُحْشَرُون على نيّاتهم » ومعنى قوله : هذه أهون ، أنّ القتل إذا حلّ بالمشركين فهو بيد المسلمين فيلحق المسلمين منه أذى عظيم لكنَّه أهون لأنَّه ليس فيه استئصال وانقطاع كلمة الدين ، فهو عذاب للمشركين وشهادة وتأييد للمسلمين . وفي الحديث : « لا تتمنَّوا لقاء العدوّ واسألوا الله العافية » وبعض العلماء فسّر الحديث بأنَّه استعاذ أن يقع مثل ذلك بين المسلمين . ويتَّجه عليه أن يقال : لماذا لم يستعذ الرسول صلى الله عليه وسلم من وقوع ذلك بين المسلمين ، فلعلّه لأنه أوحي إليه أنّ ذلك يقع في المسلمين ، ولكن الله وعده أن لا يسلِّط عليهم عدوّاً من غير أنفسهم . وليست استعاذته بدالة على أنّ الآية مراد بها خطاب المسلمين كما ذهب إليه بعض المفسّرين ، ولا أنَّها تهديد للمشركين والمؤمنين ، كما ذهب إليه بعض السلف ؛ إلاّ على معنى أنّ مفادها غيرَ الصريح صالح للفريقين لأنّ قدرة الله على ذلك صالحة للفريقين ، ولكن المعنى التهديدي غير مناسب للمسلمين هنا . وهذا الوجه يناسب أن يكون الخبر مستعملاً في أصل الإخبار وفي لازمه فيكون صريحاً وكناية ولا يناسب المجاز المركّب المتقدّم بيانه .
{ انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الايات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } .
استئناف وردَ بعد الاستفهامين السابقين . وفي الأمر بالنظر تنزيل للمعقول منزلة المحسوس لقصد التعجيب منه ، وقد مضى في تفسير قوله تعالى : { انظر كيف يفترون على الله الكذب } في سورة [ النساء : 50 ]
وتصريف الآيات تنويعها بالترغيب تارة والترهيب أخرى . فالمراد بالآيات آيات القرآن . وتقدّم معنى التصريف عند قوله تعالى : { انظر كيف نصرّف الآيات ثم هم يصدفون } في هذه السورة [ 46 ] .
{ ولعلّهم يفقهون } استئناف بياني جواب لسؤال سائل عن فائدة تصريف الآيات ، وذلك رجاء حصول فهمهم لأنَّهم لعنادهم كانوا في حاجة إلى إحاطة البيان بأفهامهم لعلَّها تتذكَّر وترعوي .
وتقدّم القول في معنى ( لعلّ ) عند قوله تعالى : { لعلّكم تتّقون } في سورة [ البقرة : 21 ] .
وتقدّم معنى الفقه عند قوله تعالى : { فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً } في سورة [ النساء : 78 ] .