قوله تعالى : { وإن تعجب فعجب قولهم } ، العجب تغير النفس برؤية المستبعد في العادة ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعناه : إنك إن تعجب من إنكارهم النشأة الآخرة مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله عز وجل فعجب أمرهم . وكان من المشركون ينكرون البعث ، مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله تعالى ، وقد تقرر في القلوب أن الإعادة أهون من الابتداء ، فهذا موضع العجب . وقيل : معناه : وإن تعجب من تكذيب المشركين واتخاذهم ما لا يضر ولا ينفع آلهة يعبدونها وهم قد رأوا من قدرة الله تعالى ما ضرب لهم به الأمثال فعجب قولهم ، أي : فتعجب أيضا من قولهم : { أئذا كنا ترابا } ، بعد الموت ، { أئنا لفي خلق جديد } ، أي : نعاد خلقا جديدا كما كنا قبل الموت .
قرأ نافع والكسائي ويعقوب أئذا مستفهما إنا بتركه ، على الخبر ، ضده : أبو جعفر وابن عامر . وكذلك في سبحان في موضعين ، والمؤمنون ، وآلم السجدة ، وقرأ الباقون بالاستفهام فيهما وفي الصافات في موضعين هكذا إلا إن أبا جعفر يوافق نافعا في أول الصافات فيقدم الاستفهام ويعقوب لا يستفهم الثانية { أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما إنا لمدينون } [ الصافات-53 ] . قال الله تعالى : { أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم } ، يوم القيامة { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .
{ 5 } { وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
يحتمل أن معنى قوله { وَإِنْ تَعْجَبْ } من عظمة الله تعالى وكثرة أدلة توحيده ، فإن العجب -مع هذا- إنكار المكذبين وتكذيبهم بالبعث ، وقولهم { أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي : هذا بعيد في غاية الامتناع بزعمهم ، أنهم بعد ما كانوا ترابا ، أن الله يعيدهم ، فإنهم -من جهلهم- قاسوا قدرة الخالق بقدرة المخلوق .
فلما رأوا هذا ممتنعا في قدرة المخلوق ظنوا أنه ممتنع على قدرة الخالق ، ونسوا أن الله خلقهم أول مرة ولم يكونوا شيئا .
ويحتمل أن معناه : وإن تعجب من قولهم وتكذيبهم للبعث ، فإن ذلك من العجائب ، فإن الذي توضح له الآيات ، ويرى من الأدلة القاطعة على البعث ما لا يقبل الشك والريب ، ثم ينكر ذلك فإن قوله من العجائب .
ولكن ذلك لا يستغرب على { الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ } وجحدوا وحدانيته ، وهي أظهر الأشياء وأجلاها ، { وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ } المانعة لهم من الهدى { فِي أَعْنَاقِهِمْ } حيث دعوا إلى الإيمان فلم يؤمنوا ، وعرض عليهم الهدى فلم يهتدوا ، فقلبت قلوبهم وأفئدتهم عقوبة على أنهم لم يؤمنوا به أول مرة ، { وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } لا يخرجون منها أبدا .
{ وإن تعجب } يا محمد من إنكارهم البعث . { فعجب قولهم } حقيق بأن يتعجب منه فإن من قدر على إنشاء ما قص عليك كانت الإعادة أيسر شيء عليه ، والآيات المعدودة كما هي دالة على وجود المبدأ فهي دالة على إمكان الإعادة من حيث إنها تدل على كمال علمه وقدرته وقبول المواد لأنواع تصرفاته . { أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد } بدل من قولهم أو مفعول له ، والعامل في إذا محذوف دل عليه : { أئنا لفي خلق جديد } . { أولئك الذين كفروا بربهم } لأنهم كفروا بقدرته على البعث . { وأولئك الأغلال في أعناقهم } مقيدون بالضلال لا يرجى خلاصهم أو يغلون يوم القيامة . { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } لا ينفكون عنها ، وتوسيط الفصل لتخصيص الخلود بالكفار .
هذه آية توبيخ للكفرة أي «وإن تعجب » يا محمد من جهالتهم وإعراضهم عن الحق - فهم أهل لذلك ، وعجب وغريب ومزر بهم «قولهم » : أنعود بعد كوننا «تراباً » - خلقاً جديداً - ويحتمل اللفظ منزعاً آخر أي وإن كنت تريد عجباً فلهم ، فإن من أعجب العجب «قولهم »{[6900]} .
واختلف القراء في قراءة قوله : { أئذا كنا تراباً } فقرأ ابن كثير وأبو عمرو : «أئذا كنا تراباً أئنا لفي خلق جديد » جميعاً بالاستفهام ، غير أن أبا عمرو يمد الهمزة ثم يأتي بالياء ساكنة ، وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مد . وقرأ نافع «أئذا كنا » مثل أبي عمرو ، واختلف عنه في المد ، وقرأ «إنا لفي خلق جديد » مكسورة على الخبر ، ووافقه الكسائي في اكتفائه بالاستفهام الأول عن الثاني ، غير أنه كان يهمز همزتين ، وقرأ عاصم وحمزة «أئذا كنا تراباً أئنا » بهمزتين فيهما . وقرأ ابن عامر «إذا كنا » مكسورة الألف من غير استفهام «ءائنا » يهمز ثم يمد ثم يهمز ، فمن قرأ بالاستفهامين فذلك للتأكيد والتحفي والاهتبال بهذا التقدير ، ومن استفهم في الأول فقط فإنما القصد بالاستفهام الموضع الثاني ، و «إذا ظرف له ، و » إذا «في موضع نصب بفعل مضمر ، تقديره : انبعث أو نحشر إذا . ومن استفهم في الثاني فقط فهو بين ، - ولا حول ولا قوة إلا بالله - .
والإشارة ب { أولئك } إلى القوم القائلين : { أئذا كنا تراباً } وتلك المقالة إنما هي تقرير مصمم على الجحد والإنكار للبعث ، فلذلك حكم عليهم بالكفر .
وقوله : { وأولئك الأغلال } يحتمل معنيين :
أحدهما : الحقيقة وأنه أخبر عن كون { الأغلال في أعناقهم } في الآخرة فهي كقوله تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل }{[6901]} [ غافر : 71 ] .
ويحتمل أن يكون مجازاً وأنه أخبر عن كونهم مغللين عن الإيمان ، فهي إذن تجري مجرى الطبع والختم على القلوب ، وهي كقوله تعالى : { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان ، فهم مقمحون }{[6902]} [ يس : 8 ] وباقي الآية بين .
وقال بعض الناس { الأغلال } -هنا - عبارة عن الأعمال ، أي أعمالهم الفاسدة في أعناقهم كالأغلال .
قال القاضي أبو محمد : وتحرير هذا هو في التأويل الثاني الذي ذكرناه .
عطف على جملة { الله الذي رفع السماوات بغير عمد } [ الرعد : 2 ] فلما قُضِي حق الاستدلال على الوحدانية نقل الكلام إلى الردّ على منكري البعث وهو غرض مستقل مقصود من هذه السورة . وقد أدمج ابتداءً خلال الاستدلال على الوحدانية بقوله : { لعلكم بلقاء ربكم توقنون } [ الرعد : 2 ] تمهيداً لما هنا ، ثم نقل الكلام إليه باستقلاله بمناسبة التدليل على عظيم القدرة مستخرجاً من الأدلة السابقة عليه أيضاً كقوله : { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق : 15 ] وقوله : { إنه على رَجعه لقادر } [ سورة الطارق : 8 ] فصيغ بصيغة التعجيب من إنكار منكري البعث لأن الأدلة السالفة لم تبق عذراً لهم في ذلك فصار في إنكارهم محل عجب المتعجب .
فليس المقصود من الشرط في مثل هذا تعليق حصول مضمون جواب الشرط على حصول فعل الشرط كما هو شأن الشروط لأن كون قولهم : { أإذا كنا تراباً } عجباً أمر ثابت سواء عجب منه المتعجب أم لم يعجب ، ولكن المقصود أنه إن كان اتصاف بتعجب فقولهم ذلك هو أسبق من كل عجب لكل متعجب ، ولذلك فالخطاب يجوز أن يكون موجهاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو المناسب بما وقع بعده من قوله : { ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة } [ الرعد : 6 ] وما بعده من الخطاب الذي لا يصلُحُ لغير النبي . ويجوز أن يكون الخطاب هنا لغير معين مثل { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم } [ السجدة : 12 ] .
والفعل الواقع في سياق الشرط لا يقصد تعلقه بمعمول معين فلا يقدر : إن تعجب من قول أو إن تعجب من إنكار ، بل ينزل الفعل منزلة اللازم ولا يقدر له مفعول . والتقدير : إن يكن منك تعجب فاعجب من قولهم الخ . . . .
على أن وقوع الفعل في سياق الشرط يشبه وقوعه في سياق النفي فيكون لعموم المفاعيل في المقام الخَطابي ، أي إن تعجب من شيء فعجب قولهم . ويجوز أن تكون جملة وإن تعجب } الخ عطفاً على جملة { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } [ سورة الرعد : 1 ] . فالتقدير : إن تعجب من عدم إيمانهم بأن القرآن منزل من الله ، فعجب إنكارهم البعث .
وفائدة هذا هو التشويق لمعرفة المتعجب منه تهويلاً له أو نحوه ، ولذلك فالتنكير في قوله : { فعجب } للتنويع لأن المقصود أن قولهم ذلك صالح للتعجيب منه ، ثم هو يفيد معنى التعظيم في بابه تبعاً لما أفاده التعليق بالشرط من التشويق .
والاستفهام في { أإذا كنا تراباً } إنكاري ، لأنهم موقنون بأنهم لا يكونون في خلق جديد بعد أن يكونوا تراباً . والقول المحكي عنهم فهو في معنى الاستفهام عن مجموع أمرين وهما كونهم : تراباً ، وتجديد خلقهم ثانية . والمقصود من ذلك العجب والإحالة .
وقرأ الجمهور : { أإذا كنا } بهمزة استفهام في أوله قبل همزة { إذا } . وقرأه ابن عامر بحذف همزة الاستفهام .
وقرأ الجمهور : { أإنا لفي خلق جديد } بهمزة استفهام قبل همزة { إنّا } . وقرأه نافع وابن عامر وأبو جعفر بحذف همزة الاستفهام .
والإشارة بقوله : { أولئك الذين كفروا بربهم } للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيرد بعد اسم الإشارة من الخبَر لأجْل ما سبق اسمَ الإشارة من قولهم : { أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد } بعد أن رأوا دلائل الخلق الأول فحق عليهم بقولهم ذلك حكمان : أحدهما أنهم كفروا بربهم لأن قولهم : { أإذا كنا تراباً أإنا لفي خلق جديد } لا يقوله إلا كافر بالله . أي بصفات إلهيته إذ جعلوه غير قادر على إعادة خلقه ؛ وثانيهما استحقاقهم العذاب .
وعطف على هذه الجملة جملة { وأولئك الأغلال في أعناقهم } مفتتحة باسم الإشارة لمثل الغرض الذي افتتحت به الجملة قبلها فإن مضمون الجملتين اللتين قبلها يحقق أنهم أحرياء بوضع الأغلال في أعناقهم وذلك جزاء الإهانة . وكذلك عطف جملة { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .
وقوله : { الأغلال في أعناقهم } وعيد بسوقهم إلى الحساب سوق المذلة والقهر ، وكانوا يضعون الأغلال للأسرى المثقلين ، قال النابغة :
أو حُرّة كمهاة الرمل قـد كُبلت *** فوق المعاصم منها والعراقيب
تدعو قعينا وقد عض الحديد بها *** عض الثقاف على صمّ الأنابيب
والأغلال : مع غُل بضم الغين ، وهو القيد الذي يوضع في العنق ، وهو أشد التقييد . قال تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل } [ غافر : 71 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإن تعجب} يا محمد بما أوحينا إليك من القرآن، كقوله في الصافات: {بل عجبت ويسخرون} [الصافات:12]، ثم قال: {فعجب قولهم}، يعني كفار مكة، يقول: لقولهم عجب، فعجبه من قولهم، يعني ومن تكذيبهم بالبعث حين قالوا: {أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد}، تكذيبا بالبعث، ثم نعتهم، فقال: {أولئك الذين كفرو بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} لا يموتون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإن تعجب يا محمد من هؤلاء المشركين المتخذين ما لا يضرّ ولا ينفع آلهة يعبدونها من دوني، "فعجب قولهم أئِذَا كُنّا تُرَابا "وبلينا فعدمنا "أئِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ": أإنا لمجدّد إنشاؤنا وإعادتنا خلقا جديدا كما كنا قبل وفاتنا؟ تكذيبا منهم بقدرة الله، وجحودا للثواب والعقاب والبعث بعد الممات... قال ابن زيد في قوله: "وَإنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ" قال: إن تعجب من تكذيبهم، وهم قد رأوا من قدرة الله وأمره وما ضرب لهم من الأمثال، فأراهم من حياة الموتى في الأرض الميتة، إن تعجب من هذه فتعجب من قولهم: "أئِذَا كُنّا تُرَابا أئِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ" أو لا يرون أنا خلقناهم من نطفة، فالخلق من نطفة أشدّ أم الخلق من تراب وعظام؟...
وقوله: "أُولَئِكَ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ" يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين أنكروا البعث وجحدوا الثواب والعقاب، "وَقالُوا أئِذَا كُنّا تُرَابا أئِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ" هم الذين جحدوا قدرة ربهم وكذّبوا رسوله، وهم الذين في أعناقهم الأغلال يوم القيامة في نار جهنم. فأولئك أصحاب النار: يقول: هم سكان النار يوم القيامة، "هُمْ فيها خَالِدُونَ" يقول: هم فيها ماكثون أبدا، لا يموتون فيها، ولا يخرجون منها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال الحسن: إن تعجب يا محمد من تكذيبهم إياك في الرسالة فعجب قولهم حين قالوا: (أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)...
يقول: إن عجبت من قولهم في تكذيبهم إياك في الرسالة، ولم تكن رسولا من قبل، فقولهم وإنكارهم قدرة الله على البعث والإحياء بعد الموت أعجب، إذ قد رأوا، وشاهدوا من قدرة الله وآياته أعجب من تكذيبهم ما لو تفكروا، وتأملوا، ولم يعاندوا، عرفوا أنه قادر على ذلك كله. فوصفهم الله تعالى بالعجز وأنه لا يقدر على البعث والإحياء بعد الهلاك أعجب من تكذيبهم إياك في الرسالة، ولم يكن سبق منك إليهم ما يوجب رسالتك وتصديقك، وقد سبق من الله إليهم ما يعرفهم قدرته على ذلك أو على أكثر منه...
قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) يشبه أن يكون لما كفروا بالبعث كان كفرهم بالله لأنهم عرفوه عاجزا حين قالوا: لا يقدر على بعث الخلق، ومن عرف ربه عاجزا فهو لم يعرف الرب حقيقة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... مدح الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم تعجبه من الكفار في عبادتهم ما لا يملك لهم نفعا ولا ضرا. ثم أخبر أن هذا موضع العجب، وذمهم بعجبهم من إعادتهم ثانية مع علمهم بالنشأة الأولى، وفيما بين الله تعالى من خلق السموات والأرض، وما بينهما من عجائب أفعاله التي تدل على أنه قادر على الإعادة، كما دلت على الإنشاء، لأن هذا مما ينبغي أن يتدبره العاقل، وقد قيل: (لا خير فيمن لا يتعجب من العجب، وأرذل منه المتعجب من غير عجب). والعجب والتعجب واحد؛ وهو تغير النفس بما خفي سببه عن الكافر وخرج عن العادة، فهؤلاء الجهال توهموا أنهم إذا صاروا ترابا لا يمكن أن يصيروا حيوانا. والذي أنشأهم أول مرة قادر أن يعيدهم ثانية.
ثم أخبر تعالى عنهم، فقال: هؤلاء هم الذين جحدوا نعم الله، وكفروا بآياته ودلالاته، وهم الذين يحشرهم الله يوم القيامة، والأغلال في أعناقهم. والغل: طوق يقيد به اليد في العنق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَإِن تَعْجَبْ} يا محمد من قولهم في إنكار البعث، فقولهم عجيب حقيق بأن يتعجب منه؛ لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة ولم يعي بخلقهنّ، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب. {أَءِذَا كُنَّا} إلى آخر قولهم: يجوز أن يكون في محل الرفع بدلا من قولهم، وأن يكون منصوباً بالقول. وإذا نصب بما دل عليه قوله: {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ} أولئك الكاملون المتمادون في كفرهم {وَأُوْلَئِكَ الأغلال فِي أعناقهم} وصف بالإصرار، كقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أعناقهم أغلالا} [يس: 8]... أو هو من جملة الوعيد...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه آية توبيخ للكفرة أي «وإن تعجب» يا محمد من جهالتهم وإعراضهم عن الحق -فهم أهل لذلك، وعجب وغريب ومزر بهم «قولهم»: أنعود بعد كوننا «تراباً»- خلقاً جديداً -ويحتمل اللفظ منزعاً آخر أي وإن كنت تريد عجباً، فإن من أعجب العجب «قولهم»...
{وأولئك الأغلال} يحتمل معنيين: أحدهما: الحقيقة وأنه أخبر عن كون {الأغلال في أعناقهم} في الآخرة فهي كقوله تعالى: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل} [غافر: 71]. ويحتمل أن يكون مجازاً وأنه أخبر عن كونهم مغللين عن الإيمان، فهي إذن تجري مجرى الطبع والختم على القلوب، وهي كقوله تعالى: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان، فهم مقمحون} [يس: 8]...
اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل القاهرة على ما يحتاج إليه في معرفة المبدأ، ذكر بعده مسألة المعاد فقال: {وإن تعجب فعجب قولهم} وفيه أقوال: القول الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن تعجب من تكذيبهم إياك بعد ما كانوا قد حكموا عليك أنك من الصادقين فهذا عجب. والثاني: إن تعجب يا محمد من عبادتهم ما لا يملك لهم نفعا ولا ضرا بعد ما عرفوا الدلائل الدالة على التوحيد فهذا عجب. والثالث: تقدير الكلام إن تعجب يا محمد فقد عجبت في موضع العجب لأنهم لما اعترفوا بأنه تعالى مدبر السموات والأرض وخالق الخلائق أجمعين، وأنه هو الذي رفع السموات بغير عمد، وهو الذي سخر الشمس والقمر على وفق مصالح العباد، وهو الذي أظهر في العالم أنواع العجائب والغرائب، فمن كانت قدرته وافية بهذه الأشياء العظيمة كيف لا تكون وافية بإعادة الإنسان بعد موته، لأن القادر على الأقوى الأكمل فأن يكون قادرا على الأقل الأضعف من باب أولى، فهذا تقرير موضع التعجب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ثبت قطعاً بما أقام من الدليل على عظيم قدرته بما أودعه من الغرائب في ملكوته التي لا يقدر عليها سواه أن هذا إنما هو فعل واحد قهار مختار يوجد المعدوم ويفاوت بين ما تقتضي الطبائع اتحاده، كان إنكار شيء من قدرته عجباً، فقال عطفاً على قوله:
{ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} [هود: 17] مشيراً إلى أنهم يقولون: إن الوعد بالبعث سحر لا حقيقة له {وإن تعجب} أي يوماً من الأيام أو ساعة من الدهر فاعجب من إنكارهم البعث {فعجب} عظيم لا تتناهى درجاته في العظم {قولهم} بعد ما رأوا من الآيات الباهرة والدلالات الناطقة بعظيم القدرة على كل شيء منكرين: {أإذا كنا تراباً} واختلط التراب الذي تحولنا إليه بالتراب الأصلي فصار لا يتميز، ثم كرروا التعجب والإنكار بالاستفهام ثانياً فقالوا: {أإنا لفي خلق جديد} هذا قولهم بعد أن فصلنا من الآيات ما يوجب أنهم بلقاء ربهم يوقنون، وهذا الاستفهام الثاني مفسر لما نصب الأول بما فيه من معنى {أنبعث}، والعجب: تغير النفس بما خفي سببه عن العادة...
ولما كان هذا إنكار المحسوس من القدرة، استحقوا ما يستحق من يطعن في ملك الملك، فقال: {أولئك} أي الذين جمعوا أنواعاً من البعد مع كل خير {الذين كفروا بربهم} أي غطوا كل ما يجب إظهاره بسبب الاستهانة بالذي بدأ خلقهم ثم رباهم بأنواع اللطف، فإذا أنكروا معادهم فقد أنكروا مبدأهم {وأولئك} أي البعداء البغضاء {الأغلال} أي الحدائد التي تجمع أيدي الأسرى إلى أعناقهم، ويقال لها: جوامع، وتارة تكون في الأعناق فقط يعذب بها الناس؛ ولما كان طرفا العنق غليظين، فلا تكون إحاطة الجامعة منها إذا كانت ضيقة إلا بالوسط، جعل الأعناق ظروفاً باعتبار أنها على بعض منها، وذلك كناية عن ضيقها، فقال: {في أعناقهم} أي بكفرهم وإن لم تكن الأغلال مشاهدة الآن، فهي لقدرة المهدد بها على الفعل كأنها موجودة، وهم منقادون لما قدر عليهم من أسبابها كما يقاد المغلول بها إلى ما يريد قائده، والغل: طوق تقيد به اليد في العنق، وأصله: انغل في الشيء -إذا انتشب فيه، وغل المال- إذا خان بانتشابه في المال الحرام {وأولئك} أي الذين لا خسارة أعظم من خسارتهم {أصحاب النار}. ولما كانت الصحبة تقتضي الملازمة، صرح بها فقال: {هم} أي خاصة {فيها} أي متمحضة لا يخلطها نعيم {خالدون} أي ثابت خلودهم دائماً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإنه لعجيب يستحق التعجيب، أن يسأل قوم بعد هذا العرض الهائل: (أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد؟).. والذي خلق هذا الكون الضخم ودبره على هذا النحو، قادر على إعادة الأناسي في بعث جديد. إنما هو الكفر بربهم الذي خلقهم ودبر أمرهم. وإنما هي أغلال العقل والقلب. فالجزاء هو الأغلال في الأعناق، تنسيقا بين غل العقل وغل العنق؛ والجزاء هو النار خالدين فيها. فقد عطلوا كل مقومات الإنسان التي من أجلها يكرمه الله، وانتكسوا في الدنيا فهم في الآخرة يلاقون عاقبة الانتكاس حياة أدنى من حياتهم الدنيا، التي عاشوها معطلي الفكر والشعور والإحساس...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {الله الذي رفع السماوات بغير عمد} [الرعد: 2] فلما قُضِي حق الاستدلال على الوحدانية نقل الكلام إلى الردّ على منكري البعث وهو غرض مستقل مقصود من هذه السورة. وقد أدمج ابتداءً خلال الاستدلال على الوحدانية بقوله: {لعلكم بلقاء ربكم توقنون} [الرعد: 2] تمهيداً لما هنا، ثم نقل الكلام إليه باستقلاله بمناسبة التدليل على عظيم القدرة مستخرجاً من الأدلة السابقة عليه أيضاً كقوله: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد} [ق: 15] وقوله: {إنه على رَجعه لقادر} [سورة الطارق: 8] فصيغ بصيغة التعجيب من إنكار منكري البعث لأن الأدلة السالفة لم تبق عذراً لهم في ذلك فصار في إنكارهم محل عجب المتعجب. فليس المقصود من الشرط في مثل هذا تعليق حصول مضمون جواب الشرط على حصول فعل الشرط كما هو شأن الشروط لأن كون قولهم: {أإذا كنا تراباً} عجباً أمر ثابت سواء عجب منه المتعجب أم لم يعجب، ولكن المقصود أنه إن كان اتصاف بتعجب فقولهم ذلك هو أسبق من كل عجب لكل متعجب، ولذلك فالخطاب يجوز أن يكون موجهاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو المناسب بما وقع بعده من قوله: {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة} [الرعد: 6] وما بعده من الخطاب الذي لا يصلُحُ لغير النبي. ويجوز أن يكون الخطاب هنا لغير معين مثل {ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم} [السجدة: 12]. والفعل الواقع في سياق الشرط لا يقصد تعلقه بمعمول معين فلا يقدر: إن تعجب من قول أو إن تعجب من إنكار، بل ينزل الفعل منزلة اللازم ولا يقدر له مفعول. والتقدير: إن يكن منك تعجب فاعجب من قولهم الخ...
على أن وقوع الفعل في سياق الشرط يشبه وقوعه في سياق النفي فيكون لعموم المفاعيل في المقام الخَطابي، أي إن تعجب من شيء فعجب قولهم. ويجوز أن تكون جملة وإن تعجب} الخ عطفاً على جملة {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} [سورة الرعد: 1]. فالتقدير: إن تعجب من عدم إيمانهم بأن القرآن منزل من الله، فعجب إنكارهم البعث. وفائدة هذا هو التشويق لمعرفة المتعجب منه تهويلاً له أو نحوه، ولذلك فالتنكير في قوله: {فعجب} للتنويع لأن المقصود أن قولهم ذلك صالح للتعجيب منه، ثم هو يفيد معنى التعظيم في بابه تبعاً لما أفاده التعليق بالشرط من التشويق. والاستفهام في {أإذا كنا تراباً} إنكاري، لأنهم موقنون بأنهم لا يكونون في خلق جديد بعد أن يكونوا تراباً. والقول المحكي عنهم فهو في معنى الاستفهام عن مجموع أمرين وهما كونهم: تراباً، وتجديد خلقهم ثانية. والمقصود من ذلك العجب والإحالة... والإشارة بقوله: {أولئك الذين كفروا بربهم} للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيرد بعد اسم الإشارة من الخبَر لأجْل ما سبق اسمَ الإشارة من قولهم: {أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد} بعد أن رأوا دلائل الخلق الأول فحق عليهم بقولهم ذلك حكمان: أحدهما أنهم كفروا بربهم لأن قولهم: {أإذا كنا تراباً أإنا لفي خلق جديد} لا يقوله إلا كافر بالله. أي بصفات إلهيته إذ جعلوه غير قادر على إعادة خلقه؛ وثانيهما استحقاقهم العذاب. وعطف على هذه الجملة جملة {وأولئك الأغلال في أعناقهم} مفتتحة باسم الإشارة لمثل الغرض الذي افتتحت به الجملة قبلها فإن مضمون الجملتين اللتين قبلها يحقق أنهم أحرياء بوضع الأغلال في أعناقهم وذلك جزاء الإهانة. وكذلك عطف جملة {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}. وقوله: {الأغلال في أعناقهم} وعيد بسوقهم إلى الحساب سوق المذلة والقهر، وكانوا يضعون الأغلال للأسرى المثقلين،... قال تعالى: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل} [غافر: 71]. وإعادة اسم الإشارة ثلاثاً للتهويل. وجملة {هم فيها خالدون} بيان لجملة أصحاب النار...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل الخطاب لكل من يقرأ القرآن، والأول أولى لأنه جاء بعد ذلك {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات} والاستعجال منهم لا يكون إلا للنبي صلى الله عليه وسلم.
ومعنى النص السامي: وإن يكن من شأنك يا محمد أن تعجب من أمر فالأمر الجدير بالعجب، فهو قولهم {أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد} أما إن هذا هو وحده الأمر الحقيق بالعجب، ونكر {فعجب قولهم} لإفادة عظم هذا العجب لشدة الغرابة فيه.
والعجب منصب على قولهم {أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد}، فموضوع العجب هو هذا القول؛ لأنه غريب في ذاته ينافي كل معقول، وكل محسوس؛ لأنهم يرون في خلق الله تعالى أن الله سبحانه خلق السموات والأرض، وخلق كل نوع نباتا، وأشجارا، ويحيي ويميت، ويفلق الحب والنوى. فيجعل منه زرعا متراكبا، ونخيلا وجنات، وفوق ذلك هم يسلمون بأنه الذي ابتدأ خلقهم، والابتداء في حكم العقل والفكر أشد من الإعادة، كما قال تعالى: {...
كما بدأكم تعودون29} (الأعراف) وعجبهم الضال هو في أنهم بعد أن يصيروا ترابا يعودون أحياء.
والاستفهام للإنكار، لإنكار الوقوع مع الغرابة من هذا الوقوع، إن كان، وكرر الاستفهام {أئذا كنا ترابا}، وقولهم: {أئنا لفي خلق جديد}؛ لأن موضع الغرابة هو الخلق الجديد بعد أن يصيروا ترابا، فدخل الاستفهام على الحالين، والتعبير ب {خلق جديد} يدل على موضع استغرابهم، ونسوا أن الذي يخلقهم خلقا جديدا هو الذي أنشأهم ابتداء على غير مثال سبق، ومن أنشأ على غير مثال سبق قادر على الإعادة على المثال الذي بدأه.
والسبب في ذلك أنهم كفروا بربهم؛ ولذا قال تعالى: {أولئك الذين كفروا بربهم} الإشارة إليهم محملين بهذا العجب من إعادة الخلق جديدا ممن بدأه، وفي هذه الجملة السامية بيان سبب الإنكار وهو أنهم كفروا بربهم، كفروا بقدرته القاهرة، والتعبير بربهم في هذا المقام له سره العميق؛ لأنهم يكفرون بقدرته وهو الذي أنشأهم، ويربيهم، ويقوم على أمورهم، فكيف يعجز عن حال من أحوالهم.
{وأولئك الأغلال في أعناقهم} الإشارة إليهم على النحو الذي بيناه، والأغلال جمع غل وهو القيد الذي يرفع اليد إلى الأعناق، وذكرت الأعناق في الآية لتأكيد وجود الغل، وفي الكلام ما يفيد أن الأغلال معنوية؛ ذلك أنهم لسيطرة المادة عليهم كانوا كأنهم في أغلالها لا ينفصلون عن هذه الأغلال، فالكفر بالغيب أداهم إلى هذه الحال المثيرة للعجب من أمرهم، ففي الكلام استعارة، شبهت حالهم في استغراق المادة لنفوسهم بحال من وضع الغل في عنقه، فلا يتحرك إلا تحت سيطرة هذه الأغلال،و {في أعناقهم} ترشيح للاستعارة.
وهناك تخريج آخر، وهو أنهم يكونون في أغلال من حديد يساقون بها إلى جهنم، وقد أكد سبحانه وتعالى بعد ذلك أنهم أصحاب النار هم فيها خالدون. فقال سبحانه وتعالى: {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} الإشارة لما ذكرنا إلى موضع العجب من أمورهم، وقد أكد خلودهم في النار بالتعبير عنهم بأنهم أصحاب النار، أي الذين يلازمونها بالصحبة الدائمة المستمرة، وب {هم} التي تدل على التوكيد، وتدل أيضا على اختصاصهم بالدخول في النار والخلود فيها، أنهم يبالغون في إنكار البعث، ولا تجديهم النذر، بل يستهزءون بالإنذار بعد الإنذار.