الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞وَإِن تَعۡجَبۡ فَعَجَبٞ قَوۡلُهُمۡ أَءِذَا كُنَّا تُرَٰبًا أَءِنَّا لَفِي خَلۡقٖ جَدِيدٍۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ ٱلۡأَغۡلَٰلُ فِيٓ أَعۡنَاقِهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (5)

قوله تعالى : { فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } : يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه خبرٌ مقدمٌ ، و " قولُهم " مبتدأ مؤخرٌ ، ولا بد مِنْ حَذْفِ صفةٍ لتتِمَّ الفائدةُ ، أي : فَعَجَبٌ أيُّ عَجَبٍ ، أو غريب ونحوه . والثاني : أنه مبتدأٌ ، وسَوَّغَ الابتداءُ ما ذكرتْهُ مِن الوصفِ المقدِّرِ ، ولا يَضُرُّ حينئذٍ كونُ خبِرهِ ، معرفةً ، وهذا كما اَعْرب سيبويهِ " كم " مِنْ " كم مالُك " و " خيرٌ " مِنْ " اقصِدْ رجلاً خيرٌ منه أبوه " مبتدأين لمسوِّغِ الابتداء بهما ، وخبرُهما معرفةً . قاله الشيخ وللنزاعِ فيه مجالٌ .

على أنَّ هناك عِلَّةً لا تَتَأتَّى ههنا : وهي أن الذي حَمَلَ سيبويهِ على ذلك في المسألتين أنَّ أكثرَ ما يقع موقعَ " كم " و " خير " ما هو مبتدأ ، فلذلك حَكَمَ عليهما بحكمِ الغالبِ بخلافِ ما نحن فيه .

الثالث : أنَّ " عجبٌ " مبتدأٌ بمعنى مُعْجِب ، و " قولُهم " فاعلٌ به ، قاله أبو البقاء ، ورَدَّ عليه الشيخُ : بانهم نَصُّوا على أن " فَعَلاً " و " فُعْلَة " و " فِعْلاً " يَنُوب عن مفعولٍ في المعنى ولا يعمل عملَه ، فلا تقول : مررتُ برجلٍ ذِبْحٍ كبشُه ، ولا غُرْفةٍ ماؤه ، ولا قَبَضٍ مالُه " . قلت : وأيضاً فإن الصفاتِ لا تعملُ إلاَّ إذا اعتمَدَتْ على أشياءَ مخصوصةٍ ، وليس منها هنا شيءٌ .

قوله : { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } يجوز في هذه الجملةِ الاستفهاميةِ وجهان ، أحدُهما : -وهو الظاهر- أنها منصوبةُ المحلِّ لحكايتها بالقولِ . والثاني : أنها وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ بدلاً مِنْ قولُهم " ، وبه بدأ الزمخشري ، ويكون بدلَ كلٍ مِنْ كل ، لأنّ هذا هو نفسُ قولِهم . و " إذا " هنا ظرفٌ محضٌ ، وليس فيها معنى الشرطِ ، والعاملُ فيها مقدرٌ يُفَسِّره { لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } تقديرُه : أإذا كنا تراباً نُبْعَثُ أو نُحْشَر ، ولا يَعْمل فيها { خَلْقٍ جَدِيدٍ } لأنَّ ما بعد " إذا " لا يعمل فيما قبلها ، ولا يعمل فيها أيضاً " كُنَّا " لإِضافتها إليها .

واختلف القرَّاءُ في هذا الاستفهامِ المكررِ اختلافاً منتشراً ، وهو في أحدِ عشرَ موضعاً من القرآن ، فلا بُدَّ مِنْ تَعيينِها وبيانِ مراتبِ القرَّاء فيها ، فإنَّ في ضبطها عُسْراً يَسْهُل بعَوْنِ الله تعالى :

أمَّا المواضعُ المذكورةُ ، فأوَّلُها ما في هذه السورة . الثاني والثالث كلاهما في " الإِسراء " وهما : { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً }

[ الآيتان : 49 ، 98 ] موضعان الرابع : في " المؤمنون " { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [ الآية : 82 ] . وفي " النمل " : { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ } [ الآية : 67 ] ، وفي " العنكبوت " : { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ }

[ الآيتان : 28 ، 29 ] . وفي " ألم ، السجدة " { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ الآية : 10 ] . وفي " الصافات " موضعان ، وفي الواقعة موضعٌ : { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [ الصافات :16 ، 53 ، الواقعة : 47 ] . وفي " النازعات " : { أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } [ الآية : 11 ] .

هذه هي المواضعُ المختلَفُ فيها ، وأمَّا ضبطُ الخلافِ فيها بالنسبةِ إلى القرَّاء ففيه طريقان ، أحدهما بالنسبة إلى ذِكْر القُرَّاء ، والثاني : بالنسبة إلى ذِكْر السُّوَر وهذا الثاني أقربُ ، فلذلك بَدَأْتُ به فأقول : هذه المواضعُ تنقسم قسمين : قسمٌ منها سبعةُ مواضعَ لها حكمٌ واحدٌ ، وقسمٌ منها أربعةُ مواضعَ ، لكلٍ منها حكمٌ على حِدَته .

أمَّا القسم الأول : فمنه في هذه السورة ، والثاني والثالث في سبحان ، والرابع في المؤمنين ، والخامس في ألم السجدة ، والسادس والسابع في الصَّافات ، وقد عَرَفْتَ أعيانَها ممَّا تقدَّمَ .

أمَّا حكمُها : فإنَّ نافعاً والكسائيَّ يستفهمان في الأول ويُخْبران في الثاني ، وأن ابنَ عامرٍ يُخْبِر في الأول ، ويستفهم في الثاني ، وأنَّ الباقين يَسْتفهمون في الأول والثاني .

وأمَّا القسمُ الثاني : فأوَّله [ ما في سورة النمل ] ، وحكمُه : أنَّ نافعاً يُخْبِر في الأول ويستفهم في الثاني ، وأن ابنَ عامر والكسائي يعكِسُه ، أي : يَسْتفهمان في الأول ويُخْبِران في الثاني ، وأنَّ الباقين يَسْتفهمون فيهما . الثاني : ما في سورة العنكبوت ، وحكمُه : أن نافعاً وابنَ كثير وابنَ عامرٍ وحفصاً يُخْبرون في الأول ويستفهمون في الثاني ، وأن الباقين يستفهمون فيهما . الثالث : ما في سورة الواقعة ، وحكمُه : أن نافعاً والكسائيَّ يستفهمان في الأول ، ويُخبران في الثاني ، وأن الباقين يستفهمون فيهما . الرابع ما في سورة النازعات ، وحكمه : أنَّ نافعاً وابن عامر والكسائي يستفهمون في الأول ويخبرون في الثاني ، وأنَّ الباقين يستفهمون فيهما .

وأمَّا الطريقُ الآخرُ بالنسبة إلى القراء فأقول : إن القراء فيها على أربعِ مراتبَ ، والأولى : ان نافعاً -رحمه الله- قرأ بالاستفهام في الأول وبالخبر في الثاني ، إلا في النمل والعنكبوت فإنه عَكَس . المرتبة الثانية : أن ابن كثير وحفصاً قرآ بالاستفهام في الأول والثاني ، إلا الأولَ من العنكبوت فقرآه بالخبر . المرتبة الثالثة : أن ابنَ عامر قرأ بالخبر في الأول والاستفهام في الثاني ، إلا في النمل والواقعة والنازعات ، فقرأ في النمل والنازعات بالاستفهام في الأول ، وبالخبر في الثاني ، وفي الواقعة بالاستفهام فيهما . المرتبة الرابعة : الباقون -وهم أبو عمرو وحمزة وأبو بكر- قرؤوا بالاستفهام في الأول والثاني ، ولم يخالِفْ أحدٌ منهم أصلَه ، وإنما ذكرت هذين الطريقين لعُسْرهما وصعوبةِ استخراجهما من كتب القراءات .

ثم الوجهُ في قراءةِ مَن ، استفهم في الأول والثاني قَصْدُ المبالغة في الإِنكار ، فاتى به في الجملة الأولى ، وأعاده في الثانية تأكيداً له ، والوجهُ في قراءة منْ أتى به في مرة واحدةً حصولُ المقصودِ به ؛ لأنَّ كلَّ جملة مرتبطةٌ بالأخرى ، فإذا أنكرَ في إحداهما حَصَل الإِنكار في الأخرى ، وأمَّا مَنْ خالف أصلَه في شيءٍ من ذلك فلاتِّباعِ الأثَر .