السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{۞وَإِن تَعۡجَبۡ فَعَجَبٞ قَوۡلُهُمۡ أَءِذَا كُنَّا تُرَٰبًا أَءِنَّا لَفِي خَلۡقٖ جَدِيدٍۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ ٱلۡأَغۡلَٰلُ فِيٓ أَعۡنَاقِهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (5)

ولما ذكر تعالى الدلائل القاهرة الدالة على معرفة المبدأ ذكر بعده ما يدل على المعاد بقوله تعالى : { وإن تعجب } ، أي : يا أكرم الخلق من تكذيب الكفار لك بعد أن كنت تعرف عندهم بالصادق الأمين { فعجب } ، أي : فحقيق أن يتعجب منه { قولهم } ، أي : منكري البعث { أئذا كنا تراباً } ، أي : بعد الموت { أئنا لفي خلق جديد } ، أي : خلق بعد الموت كما كنا قبله ، ولم يعلموا أنّ القادر على إنشاء الخلق وما تقدّم على غير مثال قادر على إعادتهم . وقيل : وإن تعجب من اتخاذ المشركين ما لا يضرّهم ولا ينفعهم آلهة يعبدونها مع إقرارهم بأنّ الله تعالى خلق السماوات ، والأرض ، وهو يضر وينفع ، وقد رأوا قدرة الله تعالى وما ضرب لهم به الأمثال فعجب قولهم ذلك ، والعجب تغير النفس برؤية المستبعد في العادة ، وقال المتكلمون : العجب هو الذي لا يعرف سببه ، وذلك في حق الله تعالى محال ؛ لأنه تعالى علام الغيوب لا تخفى عليه خافية ، وقرأ أبو عمرو وخلاد والكسائي بإدغام الباء في الفاء ، والباقون بالإظهار .

تنبيه : هنا آيتان في كل منهما همزتان ، فقرأ قالون بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الهمزة الثانية ، ويدخل بينهما ألفاً على الاستفهام ، وفي الآية الثانية بهمزة مكسورة وبعدها نون مشددة على الخبر ، وورش كذلك إلا أنه لا يدخل بين الهمزتين في أئذا ألفاً وينقل في الثاني على أصله ، وابن كثير يقرأ بالاستفهام فيهما من غير إدخال ألف بين الهمزتين مع تحقيق الأولى وتسهيل الثانية فيهما ، وأبو عمرو كذلك مع إدخال ألف بينهما ، وابن عامر في الأول بهمزة مكسورة بعدها ذال مفتوحة على الخبر ، وفي الثاني بهمزة مفتوحة محققة وهمزة مكسورة محققة على الاستفهام ، وأدخل هشام بينهما ألفاً بخلاف عنه ، والباقون بهمزتين محققتين الأولى مفتوحة ، والثانية مكسورة ولا ألف بينهما في الموضعين .

فائدة : جميع ما في القرآن من ذلك أحد عشر موضعاً في تسع سور ، والأحد عشر مكرّرة فتصير اثنين وعشرين ، في هذه السورة موضع ، والثاني والثالث في سورة الإسراء ، والرابع في المؤمنون ، والخامس في النمل ، والسادس في العنكبوت ، والسابع في السجدة ، والثامن والتاسع في الصافات ، والعاشر في الواقعة ، والحادي عشر في النازعات . وأذكر إن شاء الله تعالى في كل سورة من السور المذكورة مذهبهم في محله .

{ أولئك } ، أي : الذين جمعوا أنواعاً من البعد من كل خير { الذين كفروا بربهم } ، أي : غطوا ما يجب إظهاره بسبب الاستهانة بالذي بدأ خلقهم ، ثم رباهم بأنواع اللطف ، فإذا أنكروا معادهم فقد أنكروا بدأهم { وأولئك } البعداء البغضاء { الأغلال } يوم القيامة { في أعناقهم } بسبب كفرهم ، والغل : طوق من حديد تقيد به اليد في العنق ، وقيل : المراد بالأغلال ذلهم وانقيادهم يوم القيامة كما يقاد الأسير الذليل بالغل ، وقيل : إنهم مقيدون بالضلال لا يرجى فلاحهم . { وأولئك } ، أي : الذين لا خسارة أعظم من خسارتهم { أصحاب النار هم فيها خالدون } ، أي : ثابت خلودهم دائماً لا يخرجون منها ولا يموتون . ولما كان صلى الله عليه وسلم يهدّدهم تارة بعذاب يوم القيامة وتارة بعذاب الدنيا ، والقوم كلما هدّدهم بعذاب يوم القيامة أنكروا القيامة والبعث والحشر والنشر ، وهو الذي تقدّم ذكره في الآية الأولى .