المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

30- ترك اليهود الوحدانية في عقيدتهم ، وقالوا : عزيز{[81]} ابن الله ، وترك النصارى الوحدانية كذلك ، فقالوا : المسيح ابن الله . وقولهم هذا مبتدع من عندهم ، يرددونه بأفواههم ولم يأتهم به كتاب ولا رسول ، وليس عليهم حُجة ولا برهان ، وهم في هذا القول يشابهون قول المشركين قبلهم ، لعن الله هؤلاء الكفار وأهلكهم . عجباً لهم كيف يضلون عن الحق وهو ظاهر ، ويعدلون إلى الباطل .


[81]:عزيز هو عزرا الكاهن من نسل هارون خرج من بابل مع رجوع اليهود الثاني بعد وفاة رسول الله موسى بنحو ألف عام، وكان عزرا يلقب بالكاتب لأنه كان يكتب في شريعة موسى. ملحوظة: خرج عزرا ومن معه من اليهود إلى أورشليم سنة 456 ق. م السنة السابقة من حكم أريخشسنا ملك فارس بعد خراب أورشليم وحرق بيت القدس ونهبه بزمن طويل.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

قوله تعالى : { قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله } ، روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود : سلام بن مشكم ، والنعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله ؟ فأنزل الله عز وجل : { وقالت اليهود عزير ابن الله } . قرأ عاصم والكسائي ويعقوب عزير بالتنوين والآخرون بغير تنوين ، لأنه اسم أعجمي ويشبه اسما مصغرا ، ومن نون قال : لأنه اسم خفيف ، فوجهه أن يصرف ، وإن كان أعجميا مثل نوح وهود ولوط . واختار أبو عبيدة التنوين وقال : لأن هذا ليس بمنسوب إلى أبيه ، إنما هو كقولك زيد ابن الأمير وزيد ابن أختنا ، فعزيز مبتدأ وما بعده خبر له . وقال عبيد بن عمير : إنما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء ، وهو الذي قال : { إن الله فقير ونحن أغنياء } [ آل عمران – 181 ] . وروى عطية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إنما قالت اليهود عزير ابن الله من أجل أن عزيرا كان فيهم وكانت التوراة عندهم والتابوت فيهم ، فأضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق ، فرفع الله عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم ، فدعا الله عزير وابتهل إليه أن يرد إليه الذي نسخ من صدورهم ، فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله تعالى نزل نور من السماء فدخل جوفه فعادت إليه التوراة فأذن في قومه ، وقال : يا قوم قد آتاني الله التوراة وردها إلي ! فعلق به الناس يعلمهم ، فمكثوا ما شاء الله تعالى ، ثم إن التابوت نزل بعد ذهابه منهم ، فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان يعلمهم عزير فوجدوه مثله ، فقالوا : ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله .

وقال الكلبي : أن يختنصر لما ظهر على بني إسرائيل وقتل من قرأ التوراة ، وكان عزير إذ ذاك صغيرا ، فاستصغره فلم يقتله ، فلما رجع بنو إسرائيل إلى البيت المقدس وليس فيهم مائة سنة ، يقال : أتاه ملك بإناء فيه ماء ، فسقاه ، فمثلت التوراة في صدره ، فلما أتاهم قال : أنا عزير ، فكذبوه وقالوا : إن كنت كما تزعم فأمل علينا التوراة ؟ فكتبها لهم ، ثم إن رجلا قال : إن أبي حدثني عن جدي ، أن التوراة جعلت في خابية ، ودفنت في كرم ، فانطلقوا معه حتى أخرجوها ، فعارضوها بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر منها حرفا ، فقالوا : إن الله يقذف التوراة في قلب رجل إلا أنه ابنه ، فعند ذلك قالت اليهود : عزير ابن الله وأما النصارى فقالوا : المسيح ابن الله ، وكان السبب فيه أنهم كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة بعدما رفع عيسى عليه السلام يصلون إلى القبلة ، ويصومون رمضان ، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب ، وكان في اليهود رجل شجاع يقال به بولص قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام ، ثم قال لليهود : إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا به والنار مصيرنا ، فنحن مغبونون إن دخلوا الجنة دخلنا النار ، فإني أحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار ، وكان له فرس يقال له العقاب يقاتل عليه فعرقب فرسه وأظهر الندامة ، ووضع على رأسه التراب ، فقال له النصارى : من أنت ؟ قال : بولص عدوكم ، فنوديت من السماء : ليست لك توبة إلا أن تتنصر ، وقد ثبت . فأدخلوه الكنيسة ، ودخل بيتا سنة لا يخرج منه ليلا ولا نهارا حتى تعلم الإنجيل ، ثم خرج وقال : نوديت أن الله قبل توبتك ، فصدقوه وأحبوه ، ثم مضى إلى بيت المقدس ، واستحلف عليهم نسطورا وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة ، ثم توجه إلى الروم وعلمهم اللاهوات والناسوت ، وقال : لم يكن عيسى بإنس ولا بجسم ، ولكنه ابن الله ، وعلم ذلك رجلا يقال له يعقوب ثم دعا رجلا يقال له ملكان فقال له : إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى ، فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا ، وقال لكل واحد منهم : أنت خالصتي ، وقد رأيت عيسى في المنام فرضي عني . وقال لكل واحد منهم : إني غدا أذبح نفسي ، فادع الناس إلى نحلتك . ثم دخل المذبح فذبح نفسه وقال : إنما أفعل ذلك لمرضاة عيسى ، فلما كان يوم ثالثة دعا كل واحد منهم الناس إلى نحلته ، فتبع كل واحد طائفة من الناس ، فاختلفوا واقتتلوا فقال الله عز وجل : { وقالت النصارى المسيح ابن الله } .

قوله تعالى : { ذلك قولهم بأفواههم } ، يقولون بألسنتهم من غير علم . قال أهل المعاني : لم يذكر الله تعالى قولا مقرونا بالأفواه والألسن إلا كان ذلك زورا .

قوله تعالى : { يضاهئون } ، قرأ عاصم بكسر الهاء مهموزا ، والآخرون بضم الهاء غير مهموز ، وهما لغتان يقال : ضاهيتة وضاهأته ، ومعناهما واحد . قال ابن عباس رضي الله عنه : يشابهون . والمضاهاة المشابهة . وقال مجاهد : يواطئون . وقال الحسن : يوافقون .

قوله تعالى : { قول الذين كفروا من قبل } ، قال قتادة والسدي : ضاهت النصارى قول اليهود من قبل ، فقالوا : المسيح ابن الله ، كما قالت اليهود عزير ابن الله ، وقال مجاهد : يضاهئون قول المشركين من قبل الذين كانوا يقولون اللات والعزى ومناة بنات الله . وقال الحسن : شبه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة كما قال في مشركي العرب : { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم } [ البقرة-188 ] . وقال القتيبي : يريد أن من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يقولون ما قال أولهم ، { قاتلهم الله } ، قال ابن عباس : لعنهم الله . وقال ابن جريح : أي : قتلهم الله . وقيل : ليس هو على تحقيق المقاتلة ولكنه بمعنى التعجب .

قوله تعالى : { أنى يؤفكون } ، أي : يصرفون عن الحق بعد قيام الأدلة عليه .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

{ 30 - 33 } { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }

لما أمر تعالى بقتال أهل الكتاب ، ذكر من أقوالهم الخبيثة ، ما يهيج المؤمنين الذين يغارون لربهم ولدينه على قتالهم ، والاجتهاد وبذل الوسع فيه فقال : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } وهذه المقالة وإن لم تكن مقالة لعامتهم فقد قالها فرقة منهم ، فيدل ذلك على أن في اليهود من الخبث والشر ما أوصلهم إلى أن قالوا هذه المقالة التي تجرأوا فيها على اللّه ، وتنقصوا عظمته وجلاله .

وقد قيل : إن سبب ادعائهم في { عزير } أنه ابن اللّه ، أنه لما سلط الله الملوك{[368]}  على بني إسرائيل ، ومزقوهم كل ممزق ، وقتلوا حَمَلَةَ التوراة ، وجدوا

عزيرا بعد ذلك حافظا لها أو لأكثرها ، فأملاها عليهم من حفظه ، واستنسخوها ، فادعوا فيه هذه الدعوى الشنيعة .

{ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ } عيسى ابن مريم { ابْنُ اللَّهِ } قال اللّه تعالى { ذَلِكَ } القول الذي قالوه { قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ } لم يقيموا عليه حجة ولا برهانا .

ومن كان لا يبالي بما يقول ، لا يستغرب عليه أي قول يقوله ، فإنه لا دين ولا عقل ، يحجزه ، عما يريد من الكلام .

ولهذا قال : { يُضَاهِئُونَ } أي : يشابهون في قولهم هذا { قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ } أي : قول المشركين الذين يقولون : { الملائكة بنات اللّه } تشابهت قلوبهم ، فتشابهت أقوالهم في البطلان .

{ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي : كيف يصرفون على الحق ، الصرف الواضح المبين ، إلى القول الباطل المبين .


[368]:- في ب: أنه لما تسلط الملوك.
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

وهذا إغراء من الله تعالى للمؤمنين على قتال المشركين الكفار من اليهود والنصارى ، لمقالتهم هذه المقالة الشنيعة ، والفِرْية على الله تعالى ، فأما اليهود فقالوا في العُزَير : " إنه ابن الله " ، تعالى [ الله ]{[13383]} عن ذلك علوا كبيرا . وذكر السدي وغيره أن الشبهة التي حصلت لهم في ذلك ، أن العمالقة لما غلبت على بني إسرائيل ، فقتلوا علماءهم وسَبَوا كبارهم ، بقي العزير يبكي على بني إسرائيل وذهاب العلم منهم ، حتى سقطت جفون عينيه ، فبينا هو ذات يوم إذ مَرّ على جبانة ، وإذ{[13384]} امرأة تبكي عند قبر وهي تقول : وامطعماه ! واكاسياه ! [ فقال لها ويحك ]{[13385]} من كان يطعمك قبل هذا ؟ قالت : الله . قال : فإن الله حي لا يموت ! قالت : يا عزير فمن كان يُعلم العلماء قبل بني إسرائيل ؟ قال : الله . قالت : فلم تبكي عليهم ؟ فعرف أنه شيء قد وُعظ به . ثم قيل له : اذهب إلى نهر كذا فاغتسل منه ، وصَلِّ هناك ركعتين ، فإنك ستلقى هناك شيخا ، فما أطعمك فكله . فذهب ففعل ما أمر به ، فإذا شيخ فقال له : افتح فمك . ففتح فمه . فألقى فيه شيئًا كهيئة الجمرة العظيمة ، ثلاث مرات ، فرجع عُزَير وهو من أعلم الناس بالتوراة ، فقال : يا بني إسرائيل ، قد جئتكم بالتوراة . فقالوا : يا عُزَير ، ما كنت كَذَّابا . فعمد فربط على إصبع من أصابعه قلما ، وكتب التوراة بإصبعه كلها ، فلما تراجع الناس من عَدُوّهم ورجع العلماء ، وأخبروا بشأن عزير ، فاستخرجوا النسخ التي كانوا أودعوها في الجبال ، وقابلوها{[13386]} بها ، فوجدوا ما جاء به صحيحا ، فقال بعض جهلتهم : إنما صنع هذا لأنه ابن الله .

وأما ضَلال النصارى في المسيح فظاهر ؛ ولهذا كَذَّب الله سبحانه الطائفتين فقال : { ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ } أي : لا مستند لهم فيما ادعوه سوى افترائهم واختلاقهم ، { يضاهئون } أي : يشابهون { قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ } أي : من قبلهم من الأمم ، ضلوا كما ضل هؤلاء ، { قَاتَلَهُمُ اللَّهُ } وقال ابن عباس : لعنهم الله ، { أَنَّى يُؤْفَكُونَ } ؟ أي : كيف يضلون عن الحق ، وهو ظاهر ، ويعدلون إلى الباطل ؟


[13383]:- زيادة من ت ، ك.
[13384]:- في ت ، د : "وإذا".
[13385]:- زيادة من ت ، د ، أ.
[13386]:- في ت ، د ، ك : "وقابلوه".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

الذي كثر في كتب أهل العلم أن فرقة من اليهود تقول هذه المقالة وروي أنه لم يقلها إلا فنحاص ، وقال ابن عباس : قالها أربعة من أحبارهم ، سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، وقال النقاش : لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا .

قال القاضي أبو محمد : فإذا قالها واحد فيتوجه أن يلزم الجماعة شنعة المقالة لأجل نباهة القائل فيهم ، وأقوال النبهاء أبداً مشهورة في الناس يحتج بها ، فمن هنا صح أن تقول الجماعة قول نبيها ، وقرأ عاصم والكسائي «عزير ابن الله » بتنوين عزير ، والمعنى أن ابناً على هذا خبر ابتداء عن عزير ، وهذا هو أصح المذاهب لأن هذا هو المعنى المنعيّ عليهم ، و { عزير } ونحوه ينصرف عجمياً كان أو عربياً ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «عزير ابن الله » دون تنوين عزير ، فقال بعضهم «ابن » خبر عن «عزير » وإنما حذف التنوين من عزير لاجتماع الساكنين{[5600]} ونحوه قراءة من قرأ { أحد الله الصمد }{[5601]} قال أبو علي وهو كثير في الشعر ، وأنشد الطبري في ذلك [ الرجز ]

لَتَجِدَنِّي بالأمير برّا

وبالقناةِ مدْعساً مكرا

إذا عطيف السلمي فرا{[5602]}

قال القاضي أبو محمد : فالألف على هذه القراءة والتأويل ثابتة في «ابن » وقال بعضهم «ابن » صفة ل «عزير » كما تقول زيد بن عمرو وجعلت الصفة والموصوف بمنزلة اسم واحد وحذف التنوين إذا جاء الساكنان كأنهما التقيا من كلمة واحدة « ، والمعنى عزير ابن الله معبودنا وإلهنا أو المعنى معبودنا أو إلهنا عزير ابن الله .

قال القاضي أبو محمد : وقياس هذه القراءة والتأويل أن يحذف الألف من ابن «لكنها تثبت في خط المصحف ، فيترجح من هذا كله أن قراءة التنوين في » عزير «أقواها ، وحكى الطبري وغيره أن بني إسرائيل أصابتهم فتن وبلاء وقيل مرض وأذهب الله عنهم التوراة في ذلك ونسوها ، وكان علماؤهم قد دفنوها أول ما أحسوا بذلك البلاء ، فلما طالت المدة فقدت التوراة جملة فحفظها الله عزيراً كرامة منه له ، فقال لبني إسرائيل إن الله قد حفظني التوراة فجعلوا يدرسونها من عنده ، ثم إن التوراة المدفونة وجدت فإذا هي مساوية لما كان عزير يدرس ، فضوا عند ذلك وقالوا إن هذا لن يتهيأ لعزير إلا وهو ابن الله ، وظاهر قول النصارى { المسيح ابن الله } أنها بنوة النسل كما قالت العرب في الملائكة وكذلك يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما ، وهذا أشنع في الكفر ، قال أبو المعالي : أطبقت النصارى على أن المسيح إله وأنه ابن الإله .

قال القاضي أبو محمد : ويقال إن بعضهم يعتقدها بنوة ُحُنٍّو ورحمة ، وهذا المعنى أيضاً لا يحل أن تطلق البنوة عليه ، وهو كفر لمكان الإشكال الذي يدخل من جهة التناسل وكذلك كفرت اليهود في قولهم { عزير ابن الله } وقولهم نحن أبناء الله ، وإنما توجد في كلام العرب استعارة البنوة عبارة عن نسب وملازمات تكون بين الأشياء إذا لم يشكل الأمر وكان أمر النسل لاستحالة من ذلك قول عبد الملك بن مروان : وقد زبنتنا الحرب وزبناها{[5603]} فنحن بنوها وهي أمنا يريد للملازمة ومن ذلك قول حديث بن مخفض : [ الطويل ]

بنو المجد لم تقعد بهم أمهاتهم*** وآباؤهمْ أبناء صدق فأنجبوا{[5604]}

ومن ذلك ابن نعش وابن ماء وابن السبيل ونحو ذلك ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]

*والأرض تحملنا وكانت أمنا*

ومنه أحد التأويلات في قوله صلى الله عليه وسلم «لا يدخل الجنة ابن زنى »{[5605]} أي ملازمة والتأويل الآخر أن لا يدخلها مشكل الأمر والتأويلان في قول النصارى { المسيح ابن الله } كما تقدم من الصفة والخبر إلا أن شغب التنوين ارتفع هاهنا ، و { عزير } نبي من أنبياء بني إسرائيل ، وقوله { بأفواههم } يتضمن معنيين : أحدهما إلزامهم المقالة والتأكيد في ذلك كما قال { يكتبون الكتاب بأيديهم }{[5606]} ، وكقوله { ولا طائر يطير بجناحيه }{[5607]} ، والمعنى الثاني في قوله { بأفواهم } أي هو ساذج لا حجة عليه ولا برهان{[5608]} غاية بيانه أن يقال بالأفواه قولاً مجرداً نفس دعوى{[5609]} ، و { يضاهون } قراءة الجماعة ومعناه يحاكون ويبارون ويماثلون ، وقرأ عاصم وحده من السبعة وطلحة بن مصرف «يضاهئون » بالهمز على أنه من ضاهأ وهي لغة ثقيف بمعنى ضاهى .

قال القاضي أبو محمد : ومن قال إن هذا مأخوذ من قولهم امرأة ضهياء وهي التي لا تحيض وقيل التي لا ثدي لها سميت بذلك لشبهها بالرجال فقوله خطأ قاله أبو علي : لأن الهمزة في ضاهأ أصلية ، وفي ضهياء زائدة كحمراء{[5610]} ، وإن كان الضمير في { يضاهون } لليهود والنصارى جميعاً فالإشارة بقوله { الذين كفروا من قبل } هي إما لمشركي العرب إذ قالوا الملائكة بنات الله وهم أول كافر وهو قول الضحاك : وإما لاسم سالفة قبلهما ، وإما للصدر الأول من كفرة اليهود والنصارى ، ويكون { يضاهون } لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن كان الضمير في { يضاهون } للنصارى فقط كانت الإشارة ب { الذين كفروا من قبل } إلى اليهود ، وعلى هذا فسر الطبري وحكاه الزهراوي عن قتادة ، وقوله { قاتلهم الله } دعاء عليهم عام لأنواع الشر ، ومعلوم أن من قاتله الله فهو المغلوب المقتول ، وحكى الطبري عن ابن عباس أن المعنى لعنهم الله{[5611]} ، و{ أنى يؤفكون } مقصده أنى توجهوا أو أنى ذهبوا ، وبدل مكان هذا الفعل المقصود فعل سوء يحق لهم ، وذلك فصيح في الكلام كما تقول لعن الله الكافر أنى هلك كأنك تحتم عليه بهلاك وكأنه حتم عليهم في هذه الآية بأنهم يؤفكون ، ومعناه يحرمون ويصرفون عن الخير ، والأرض المأفوكة التي لم يصبها مطر ، قال أبو عبيدة { يؤفكون } معناه يحدون .

قال القاضي أبو محمد : يريد من قولك رجل محدود أي محروم لا يصيب خيراً ، وكأنه من الإفك الذي هو الكذب ، فكأن المأفوك هو الذي تكذبه أراجيه فلا يلقى خيراً{[5612]} ، ويحتمل أن يكون قوله تعالى : { أنى يؤفكون } ابتداء تقرير ، أي بأي سبب ومن أي جهة يصرفون عن الحق بعدما تبين لهم ، و «قاتل » في هذه الآية بمعنى قتل وهي مفاعلة من واحد وهذا كله بين .


[5600]:- يرى أبو حيان في "البحر" أنّ من زعم ذلك وكذلك من زعم أن (ابنا) صفة لـ [عزير] وقه بين علمين فحذف تنوينه والخبر محذوف، أي: معبودنا- فقوله متمحّل، لأن الذي أنكر عليهم إنما هو نسبة البنوّة إلى الله تعالى.
[5601]:- الآيتان (1، 2) من سور (الإخلاص).
[5602]:-دعسه بالرمح يدعسه دعسا: طعنة، ورجل مدعس: طعّان، ويكون بالصاد، قال صاحب اللسان: "وهو الأعرف"، وقال سيبويه: "وكذلك الأنثى بغير هاء، ولا يجمع بالواو والنون لأن الهاء لا تدخل مؤنثة". والشاهد في قوله: "عُطيف السلمي" بدون تنوين في (عُطيف).
[5603]:- ومنه قولهم: "حرب زبون" لأنها تزبن الناس أي تدفعهم وتصدمهم على التشبيه بالناقة الزّبون وهي التي تدفع حالبها عن حلبها، وفي حديث معاوية: "فربما زبنت فكسرت أنف حالبها".
[5604]:- يصفهم بالمجد والشرف من جهة الأمهات ومن جهة الآباء، ومعنى "لم تقعد بهم أمهاتهم": لم تقصر من ناحية الشرف، يقال: فلان مقعد الحسب إذا لم يكن له شرف، وقد أقعده آباؤه وتقعدوه، قال الطّرماح يهجو رجلا: ولكنه عبد تقعد رأيه لئام الفحول وارتخاص المناكح وأنجب الرجل: ولد نجيبا. والنجيب الكريم، قال الشاعر: أنجب أزمان والده به إذ نجلاه فنعم ما نجلا
[5605]:-تقدم الكلام على هذا عند تفسير قوله تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس} وهي الآية (179) من سورة (الأعراف).
[5606]:- من الآية (79) من سورة (البقرة).
[5607]:- من الآية (38) من سورة (الأنعام).
[5608]:- وردت كلمة (ساذج) في بعض النسخ بالدال المهملة أي (سادج)، والسّدج والتّسدّج: الكذب وتقوّل الأباطيل، وقد سدج سْدجا وتسدّج أي: تكذب، قال الشاعر: "فينا أقاويل امرئ تسدّجا"، فالمعنى: هو كلام كاذب لا حجة عليه.
[5609]:- هكذا بالأصل.
[5610]:- اختلف العلاء في (ضهيأ) هل يمد أولا؟ فقال ابن ولاّد: امرأة ضهيأ، وهي التي لا تحيض، مهموز غير ممدود، وسيبويه يمده فيجعله ضهياء، والهمزة فيه زائدة لأنهم عند الجمع يقولون: نساء ضهي فيحذفون الهمزة، ونقل أبو الحسن عن النجيرميّ "امرأة ضهياء" بالمدّ والهاء. جمع بين علامتي تأنيث، حكاه عن أبي عمر الشيباني، وأنشد: "ضهياءة أو عاقر جماد".
[5611]:- قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل شيء في القرآن قتل فهو لعن، ومنه قوله أبان بن ثغلب: قاتلها الله تلحاني وقد علَمت أني لنفسي إفسادي وإصلاحي وقال النقاش: أصل "قاتل الله" الدعاء، ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشر وهم لا يريدون الدعاء، وأنشد الأصمعي: يا قاتل الله ليلى كيف تُعجبني وأخبر الناس أني لا أباليها؟
[5612]:- من الإفك بمعنى الصرف عن الحق قوله تعالى: {يؤفك عنه من أفك} أي: يصرف عن الإيمان من صُرف، ومنه أيضا قوله تعالى: {أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا} أي: لتصرفنا وتصدنا؟ ويأتي الأفيك والمأفوك بمعنى المخدوع عن رأيه، وبمعنى من لا حزم له ولا حيلة، وعليه قول الشاعر: "مالي أراك عاجزا أفيكا"؟.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في القائل:"عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ"؛ فقال بعضهم: كان ذلك رجلاً واحدا هو فنحاص...

وقال آخرون: بل كان ذلك قول جماعة منهم...

"وَقالَتِ النّصَارَى المسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذلكَ قَوْلُهُمْ بأفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ "يعني قول اليهود: عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ. يقول: نسبة قول هؤلاء في الكذب على الله والفرية عليه ونسبتهم المسيح إلى أنه لله ابن ككذب اليهود وفريتهم على الله في نسبتهم عزير إلى أنه لله ابن، ولا ينبغي أن يكون لله ولد سبحانه، بل له ما في السموات والأرض، كلّ له قانتون.

... عن ابن عباس، قوله: "يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ" يقول: قالوا مثل ما قال أهل الأوثان...

وأما قوله: "قاتَلَهُمُ اللّهُ" فإن معناه فيما ذكر عن ابن عباس: لعنهم الله، وكلّ شيء في القرآن «قتل» فهو لعن...

وقوله: "أنّى يُؤْفَكُونَ" يقول: أيّ وجه يذهب بهم ويحيدون، كيف يصدّون عن الحقّ...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... وقوله تعالى: (ذلك قولهم بأفواههم) أي ذلك قول قالوه بلا حجة ولا برهان، كانت لهم في ذلك، أو قالوا ذلك بأفواههم على غير شبه اعترضت لهم، فحملتهم على ذلك.

وقوله تعالى: (يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) يحتمل هذا أن قد كان قبل هؤلاء من قد قال مثل قول هؤلاء...

وقوله تعالى: (قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) هذه الكلمة كلمة اللعن، تستعمل عند مناكير القول والفعل من غير حصول المنفعة...

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

قوله تعالى: {وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ} قيل إنه أراد فرقة من اليهود قالت ذلك؛ والدليل على ذلك أن اليهود قد سمعت ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم تنكره...

قوله تعالى: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}... وقيل إنهم يضاهئونهم لأن أولئك قالوا: الملائكة بنات الله...

وقوله تعالى: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بأَفْوَاهِهِمْ} يعني أنه لا يرجع إلى معنى صحيح ولا حقيقة له ولا محصول أكثر من وجوده في أفواههم...

معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :

قوله تعالى: {ذلك قولهم بأفواههم}، يقولون بألسنتهم من غير علم. قال أهل المعاني: لم يذكر الله تعالى قولا مقرونا بالأفواه والألسن إلا كان ذلك زورا.

قوله تعالى: {يضاهئون}... قال ابن عباس رضي الله عنه: يشابهون. والمضاهاة: المشابهة. وقال مجاهد: يواطئون. وقال الحسن: يوافقون.

قوله تعالى: {قول الذين كفروا من قبل}... وقال الحسن: شبه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة كما قال في مشركي العرب: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم} [البقرة-188]. وقال القتيبي: يريد أن من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يقولون ما قال أولهم. {قاتلهم الله}، قال ابن عباس: لعنهم الله. وقال ابن جريح: أي: قتلهم الله. وقيل: ليس هو على تحقيق المقاتلة ولكنه بمعنى التعجب.

قوله تعالى: {أنى يؤفكون}، أي: يصرفون عن الحق بعد قيام الأدلة عليه.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

... فإن قلت: كل قول يقال بالفم فما معنى قوله: {ذلك قَوْلُهُم بأفواههم}؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن يراد أنه قول لا يعضده برهان، فما هو إلاّ لفظ يفوهون به، فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدلّ على معان. وذلك أن القول الدال على معنى لفظه مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب. وما لا معنى له مقول بالفم لا غير...

{يضاهون} لا بدّ فيه من حذف مضاف تقديره يضاهي قولهم قولهم، ثم حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه؛ فانقلب مرفوعاً. والمعنى: أن الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم، يعني أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث. أو يضاهي قول المشركين: الملائكة بنات الله تعالى الله عنه. وقيل: الضمير للنصارى، أي يضاهي قولهم: المسيح ابن الله، قول اليهود: عزير ابن الله، لأنهم أقدم منهم...

{قاتلهم الله} أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا، تعجباً من شناعة قولهم، كما يقال لقوم ركبوا شنعاء: قاتلهم الله ما أعجب فعلهم. {أنى يُؤْفَكُونَ} كيف يصرفون عن الحق؟.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وظاهر قول النصارى {المسيح ابن الله} أنها بنوة النسل كما قالت العرب في الملائكة وكذلك يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما، وهذا أشنع في الكفر، قال أبو المعالي: أطبقت النصارى على أن المسيح إله وأنه ابن الإله... ويقال إن بعضهم يعتقدها بنوة ُحُنٍّو ورحمة، وهذا المعنى أيضاً لا يحل أن تطلق البنوة عليه، وهو كفر لمكان الإشكال الذي يدخل من جهة التناسل وكذلك كفرت اليهود في قولهم {عزير ابن الله} وقولهم نحن أبناء الله وقوله {قاتلهم الله} دعاء عليهم عام لأنواع الشر، ومعلوم أن من قاتله الله فهو المغلوب المقتول و {أنى يؤفكون} مقصده أنى توجهوا أو أنى ذهبوا..

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

فقوله تعالى: {أنى يؤفكون} معناه كيف يصدون ويصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل، حتى يجعلوا لله ولدا! وهذا التعجب إنما هو راجع إلى الخلق، والله تعالى لا يتعجب من شيء، ولكن هذا الخطاب على عادة العرب في مخاطباتهم، والله تعالى عجب نبيه من تركهم الحق وإصرارهم على الباطل.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

وهذا إغراء من الله تعالى للمؤمنين على قتال المشركين الكفار من اليهود والنصارى، لمقالتهم هذه المقالة الشنيعة، والفِرْية على الله تعالى، فأما اليهود فقالوا في العُزَير:"إنه ابن الله"، تعالى [الله] عن ذلك علوا كبيرا وأما ضَلال النصارى في المسيح فظاهر؛ ولهذا كَذَّب الله سبحانه الطائفتين فقال: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} أي: لا مستند لهم فيما ادعوه سوى افترائهم واختلاقهم...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

...وجملة القول: إن اليهود كانوا وما زالوا يقدسون عزيراً هذا، حتى إن بعضهم أطلق عليه لقب ابن الله، ولا ندري أكان إطلاقه عليه بمعنى التكريم الذي أطلق على إسرائيل وداود وغيرهما، أم بالمعنى الذي سيأتي قريبا عن فيلسوفهم (فيلو)، وهو قريب من فلسفة وثنيي الهند التي هي أصل عقيدة النصارى. وقد اتفق المفسرون على أن إسناد هذا القول إليهم يراد به بعضهم لا كلهم، وهو مبني على القاعدة التي بيناها في تفسير بعض آيات سورة البقرة التي تحكي عنهم أقوالاً وأفعالاً مسندة إليهم في جملتهم، وهي مما صدر عن بعضهم، وهي أن المراد من هذا الأسلوب تقرير أن الأمة تعد متكافلة في شؤونها العامة، وأن ما يفعله بعض الفرق أو الجماعات أو الزعماء منها يكون له تأثير في جملتها، والمنكر الذي يفعله بعضهم إذا لم ينكره عليه جمهورهم ويزيلوه يؤاخذون به كلهم، وبينا في تفسير قوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [الأنفال: 25] أن من سنن الاجتماع البشري أن المصائب والرزايا التي تحل بالأمم بفشو المفاسد والرذائل فيها لا تختص الذين تلبسوا بتلك المفاسد وحدهم، كما أن الأوبئة التي تحدث بكثرة الأقذار في الشعب وغير ذلك من الإسراف في الشهوات تكون عامة أيضا.

وأما الذين قالوا هذا القول من اليهود فهم بعض يهود المدينة، كالذين قال الله فيهم: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلَّت أيديهم} [المائدة: 64]، والذين قال فيهم {لقد كفر الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} [آل عمران: 181] ردا على قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسناً} [البقرة: 245]؟ ويحتمل أن يكون قد سبقهم إليه غيرهم ولم ينقل إلينا.

روى ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزيراً ابن الله؟ وإنما قالوا هو ابن الله من أجل أن عزيراً كان في أهل الكتاب، وكانت التوراة عندهم يعملون بها ما شاء الله تعالى أن يعملوا، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق، وكان التابوت فيهم، فلما رأى الله تعالى أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء رفع عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم، (وذكر الراوي حكاية إسرائيلية قال في آخرها أن عزيراً صلى ودعا الله أن يرد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة، فاستجاب له فصار يعلمهم إياه، ثم نزل التابوت عليهم فعرضوا عليه ما علمهم عزير فوجدوه مثله).

فنحن نأخذ بما قاله ابن عباس رواية عمن جاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود وقالوا ما قالوا فإنه رواية عن شيء وقع في زمنه فأخبر عما رأى وسمع، وأما ما حكاه من سبب قولهم فما هو إلا رواية عن بعضهم كذبوا فيه عليه أو على من حدثه به، والظاهر أنه مما سمعه من كعب الأحبار، إذ روى عنه كثيراً من الإسرائيليات، فقد أخرج أبو الشيخ عن كعب أنه قال: دعا عزير ربه عزَّ وجلَّ أن يلقَّى التوراة كما أنزل على موسى عليه السلام في قلبه. فأنزلها الله تعالى عليه، فبعد ذلك قالوا عزير ابن الله...

{وقالت النصارى المسيح ابن الله} هذا القول كان يقوله القدماء منهم، ويقصدون به معنى مجازياً كالمحبوب والمكرم، ثم سرت إليهم فلسفة الهنود في (كرشنا) وغيرهم من قدماء الوثنيين، ثم اتفقت عليه فرقهم المعروفة في هذه الأزمنة، وعلى أنه حقيقة لا مجاز. وعلى أن (ابن الله) بمعنى (الله) وبمعنى (روح القدس)؛ لأن هؤلاء الثلاثة عندهم واحد حقيقة لا مجازا، هذا تعليم الكنائس الذي قررته المجامع الرسمية بتأثير الفلسفة الرومية ولكن بعد المسيح وتلاميذه بثلاثة قرون، ويخالفه خلق كثير منهم أعظمهم شأنا الموحدون والعقليون. والكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستينية لا تعتد بنصرانيتهم ولا بدينهم... {يضاهئون قول الذين كفروا من قبل} أي يشابهون ويحاكون فيه قول الذين كفروا من قبلهم، فقالوا هذا القول أو مثله. قيل: إن المراد بهم مشركو العرب الذين قالوا إن الملائكة بنات الله. وقيل: إن المراد سلفهم الذين قالوا هذا القول قبلهم. وهذا مبني على أن الكلام في اليهود والنصارى الذين كانوا في عصر نزول القرآن، إذ لم يصل إلينا أن أحدا من سلف أولئك اليهود في بلاد العرب أو غيرها قالوا عزير ابن الله، وإن كان غير بعيد في نفسه، ولو كانت الآية نصاً فيه لجزمنا به؛ لأن عدم وصول نقل إلينا فيه لا يقتضي عدم وقوعه.

والراجح المختار أن المراد بكل من اليهود والنصارى في الآية الجنس، وهو يصدق بوقوع ذلك من بعضهم في أي عصر كان، والمختار في مضاهأتهم للذين كفروا من قبلهم يصدق في كل من وقع ذلك منهم والله أعلم بهم.

وقد علمنا من تاريخ قدماء الوثنيين في الشرق والغرب أن عقيدة الابن لله والحلول والتثليث كانت معروفة عند البراهمة في الهند والبوذيين فيها وفي الصين واليابان وقدماء الفرس والمصريين واليونان والرومان، وقد بينا هذا في تفسير آية 4: 196 التي تقدمت الإشارة إليها آنفا، وهذا البيان لهذه الحقيقة من معجزات القرآن، فإنه لم يكن يعرفها أحد من العرب ولا ممن حولهم؛ بل لم تظهر إلا في هذا الزمان، كما يقال مثل هذا فيما بينه من حقيقة أمر كتبهم، وسيأتي بيانه قريبا في فصل خاص.

{قاتلهم الله} هذه الجملة تستعمل في اللسان العربي للتعجب، فهو المراد بها لا ظاهر معناها. قال في مجاز الأساس: وقاتله الله ما أفصحه. اه وحكى النقاش أن أصل«قاتله الله» الدعاء ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشر، وهم لا يريدون الدعاء اه. وفسره بعضهم بالدعاء على أن المراد به اللعنة أو الهلاك. والأول أظهر.

{أنى يؤفكون} تقدم مثل الجملة في الرد على قول الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة من سورة المائدة، إذ قال تعالى: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} [المائدة: 75]، ومثله في سورة الأنعام بعد الاستدلال على الخالق عز وجل: {ذلكم الله فأنى تؤفكون} [الأنعام: 95]، والإفك صرف الشيء عن وجهه، [وبابه من وزن ضرب]، ويقال أفك بالبناء للمفعول بمعنى صرف عقله عن إدراك الحقيقة، ورجل مأفوك العقل، فمادة أفك تستعمل في صرف العقل والنفس عن الحق إلى الباطل ونحوه. والمعنى هنا كيف يصرفون عن حقيقة التوحيد والتنزيه للخالق عز وجل، وهو الذي تجزم به العقول، والذي بلغه عن الله تعالى كل رسول، فهو جمع بين المعقول والمنقول، ويقولون هذا القول الذي لا يقبله عقل، ولم يصح به عن أنبياء الله ورسله نقل؟ فأين عزير والمسيح من رب العالمين، الخالق لهذا الكون العظيم، الذي وصل من عجائب سعته إلى علم البشر القليل أن بعض شموسه لا يصل نورها إلى الأرض إلا بعد قطع الملايين من السنين النورية، فهل يليق بعاقل من هذه الدواب التي تعيش على هذه الذرة الصغيرة منه (وهي الأرض) أن يجعل لخالقه كله، ومدبر أمره، ولدا وعائلة من جنسه، وأن يرتقي به الغرور إلى أن يجعل واحدا منهم هو الخالق له، والمدبر لأمره، مع العلم بأنه ولد من امرأة وكان يأكل ويشرب ويتعب ويتألم الخ: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} [الزمر: 39]، {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين} [الأنبياء: 26 29].

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

لما أمر تعالى بقتال أهل الكتاب، ذكر من أقوالهم الخبيثة، ما يهيج المؤمنين الذين يغارون لربهم ولدينه على قتالهم، والاجتهاد وبذل الوسع فيه...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

.. لما أمر الله المسلمين بقتال أهل الكتاب {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}.. كانت هنالك ملابسات في واقع المجتمع المسلم في المدينة -تحدثنا عنها في تقديم السورة وتقديم المقطع الأول منها- تدعو إلى توكيد هذا الأمر وتقويته؛ وجلاء الأسباب والعوامل التي تحتمه؛ وإزالة الشبهات والمعوقات التي تحيك في بعض النفوس تجاهه. وبخاصة أن طاعة هذا الأمر كانت تقتضي مواجهة الروم في أطراف الشام. والروم كانوا مرهوبين من العرب قبل الإسلام؛ وكانوا مسيطرين على شمال الجزيرة لفترة طويلة؛ ولهم أعوان من القبائل العربية، وسلطنة خاضعة لنفوذهم هي سلطنة الغساسنة.. وحقيقة أن هذه لم تكن أول ملحمة يخوضها المسلمون مع الروم، بعد أن أعز الله أولئك العرب بالإسلام، وجعل منهم أمة تواجه الروم والفرس بعد أن كانوا قبائل لا تجرؤ ولا تفكر في الالتحام بالروم والفرس؛ وكل ما عرف عنها من شجاعة إنما يتبدى في قتال بعضها لبعض، وفي الغارات والثارات والنهب والسلب! ولكن مهابة الروم كانت ما تزال باقية في أعماق النفوس -وبخاصة تلك التي لم يتم انطباعها بالطابع الإسلامي الأصيل- وكانت آخر ملحمة كبيرة بين المسلمين والروم -وهي غزوة مؤتة- ليست في صالح المسلمين. وقد احتشد فيها من الروم وعملائهم من نصارى العرب ما روي أنه مائتا ألف!

كل هذه الملابسات -سواء ما يتعلق منها بتركيب المجتمع المسلم في هذه الفترة؛ أو ما يختص برواسب المهابة للروم والتخوف من الالتحام معهم؛ مضافاً إليها ظروف الغزوة ذاتها- وقد سميت غزوة العسرة لما سنبينه من الظروف التي أحاطت بها -وفوق ذلك كله شبهة أن الروم وعمالهم من نصارى العرب هم أهل كتاب.. كل هذه الملابسات دعت إلى زيادة الإيضاحات والبيانات القوية لتقرير حتمية هذا الأمر، وإزالة الشبهات والمعوقات النفسية، وجلاء الأسباب والعوامل لتلك الحتمية..

وفي هذه الآية يبين السياق القرآني ضلال عقيدة أهل الكتاب هؤلاء؛ وأنها تضاهئ عقيدة المشركين من العرب، والوثنيين من قدامى الرومان وغيرهم. وأنهم لم يستقيموا على العقيدة الصحيحة التي جاءتهم بها كتبهم؛ فلا عبرة إذن بأنهم أهل كتاب، وهم يخالفون في الاعتقاد الأصل الذي تقوم عليه العقيدة الصحيحة في كتبهم. والذي يلفت النظر هو ذكر اليهود هنا وقولهم: عزير ابن الله؛ في حين أن الآيات كانت بصدد التوجيه والتحضير لمواجهة الروم وحلفائهم من نصارى العرب.

وذلك- على ما نرجح -يرجع إلى أمرين:

الأول: أنه لما كان نص الآيات عاماً؛ والأمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون عاما؛ فقد اقتضى السياق بيان الأصل الاعتقادي الذي يستند إليه هذا الأمر العام في شأن أهل الكتاب عامة من اليهود والنصارى سواء.

الثاني: أن اليهود كانوا قد رحلوا من المدينة إلى أطراف الشام؛ بعدما اشتبكوا مع الإسلام والمسلمين في حرب مريرة منذ مقدم الرسول- صلى الله عليه وسلم -إلى المدينة؛ انتهت بإجلاء بني قينقاع وبني النضير إلى أطراف الشام؛ هم وأفراد من بني قريظة. فكان اليهود يومئذ في طريق الانطلاق الإسلامي إلى أطراف الشام. مما اقتضى أن يشملهم ذلك الأمر، وأن يشملهم هذا البيان.

وقول النصارى: {المسيح ابن الله} معلوم مشهور؛ وما تزال عليه عقائدهم حتى اللحظة منذ أن حرفها بولس، ثم تم تحريفها على أيدي المجامع المقدسة- كما سنبين -فأما قول اليهود: {عزير ابن الله} فليس شائعاً ولا معروفاً اليوم. والذي في كتب اليهود المدونة الباقية سفر باسم "عزرا"- وهو عزير -نعت فيه بأنه كاتب ماهر في توراة موسى، وأنه وجه قلبه لالتماس شريعة الرب.. ولكن حكاية هذا القول عن اليهود في القرآن دليل قاطع على أن بعضهم على الأقل- وبخاصة يهود المدينة -زعموا هذا الزعم، وراج بينهم؛ وقد كان القرآن يواجه اليهود والنصارى مواجهة واقعية؛ ولو كان فيما يحكيه من أقوالهم ما لا وجود له بينهم لكان هذا حجة لهم على تكذيب ما يرويه رسول الله- صلى الله عليه وسلم -ولما سكتوا عن استخدام هذا على أوسع نطاق!

... ولقد صدر حكم الله بالكفر الصريح على من يقولون: المسيح ابن الله.

وعلى من يقولون: المسيح هو الله. وعلى من يقولون: إن الله ثالث ثلاثة. ولا تجتمع صفة الكفر وصفة الإيمان في عقيدة، ولا في قلب. إنما هما أمران مختلفان!

والتعقيب القرآني على قول اليهود: {عزير ابن الله}. وقول النصارى: {المسيح ابن الله} يثبت أنهم في هذا يماثلون قول الذين كفروا من قبل ومعتقداتهم وتصوراتهم:

{ذلك قولهم بأفواههم، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل}..

فهو أولاً يثبت أن هذا القول صادر منهم، وليس مقولاً عنهم. ومن ثم يذكر {أفواههم} لاستحضار الصورة الحسية الواقعية- على طريقة القرآن في التصوير -إذ أنه مفهوم أن قولهم يكون بأفواههم. فهذه الزيادة ليست لغواً- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً -وليست إطناباً زائداً، إنما هي طريقة التعبير القرآنية التصويرية؛ فهي التي تستحضر "صورة "القول، وتحيلها واقعية كأنها مسموعة مرئية! وذلك فضلاً على ما تؤديه من معنى بياني آخر- إلى جانب استحياء الصورة وإثباتها -وهو أن هذا القول لا حقيقة له في عالم الواقع؛ إنما هو مجرد قول بالأفواه، ليس وراءه موضوع ولا حقيقة!

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

{ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} أي أن ذلك القول قول تردده أفواههم بألسنتهم، ولا يدركون له حقيقة يتصورونها، فهم يرددون: الواحد ثلاثة، والثلاثة واحد، وإذا سألتهم عن مميزات كل واحد، وكيف يجتمعون، لم يحيروا جوابا إلا أن يقولوا هذه غيبيات يصدقها العقل الديني، ولا يصدقها العقل والمنطق، ويقولون الآن كما قال بعضهم في القرن الرابع المسيحي: إنها صفات ثلاثة للإله، ولو سألتهم هل المسيح الذي ولدته أمه مريم من غير أب صفة، وليس ذاتا كانت تمشي في الأسواق، وتعظ، وقتله – في زعمهم – الرومان وصلبوه، وجعلتم الصليب، قالوا: إن اللاهوت دخل الناسوت، أو ولد اللاهوت والناسوت، ولم يستطيعوا أن يصورا ما يقولون تصويرا تدركه العقول...