179- ولقد خلقنا كثيرا من الجن والإنس مآلهم النار يوم القيامة ، لأن لهم قلوبا لا ينفذون بها إلى الحق ، ولهم أعين لا ينظرون بها دلائل القدرة ، ولهم آذان لا يسمعون بها الآيات والمواعظ سماع تدبر وإتعاظ . أولئك كالبهائم لعدم انتفاعهم بما وهبهم الله من عقول للتدبر ، بل هم أضل منها ، لأنها تطلب منافعها وتهرب من مضارها ، وهؤلاء لا يدركون ذلك ، أولئك هم الكاملون في الغفلة .
قوله تعالى : { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس } أخبر الله تعالى أنه خلق كثيراً من الجن والإنس للنار ، وهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ، ومن خلقه الله لجهنم فلا حيلة له في الخلاص منها .
أخبرنا أبو بكر يعقوب بن أحمد بن محمد بن علي الصيرفي ، أنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي ، أنا أحمد بن محمد بن أبي حمزة البلخي ، حدثنا موسى بن محمد بن الحكم الشطوي ، حدثنا حفص بن غياث ، عن طلحة بن يحيى ، عن عائشة بنت طلحة ، عن عائشة أم المؤمنين قالت : " أدرك النبي صلى الله عليه وسلم جنازة صبي من صبيان الأنصار ، فقال عائشة : طوبى له عصفور من عصافير الجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما يدريك ؟ أن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم " . ؟
وقيل : اللام في قوله { لجهنم } لام العاقبة ، أي : ذرأناهم ، وعاقبة أمرهم جهنم ، كقوله تعالى { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً و حزناً } [ القصص :8 ] ، ثم وصفهم فقال : { لهم قلوب لا يفقهون بها } ، أي لا يعلمون بها الخير والهدى .
قوله تعالى : { ولهم أعين لا يبصرون بها } ، طريق الحق وسبيل الرشاد .
قوله تعالى : { ولهم آذان لا يسمعون بها } مواعظ القرآن فيتفكرون فيها ويعتبرون بها ، ثم ضرب لهم مثلاً في الجهل والاقتصار على الأكل والشرب .
قوله تعالى : { أولئك كالأنعام بل هم أضل } أي : كالأنعام في أن همتهم في الأكل والشرب ، والتمتع بالشهوات ، بل هم أضل ، لأن الأنعام تميز بين المضار والمنافع ، فلا تقدم على المضار ، وهؤلاء يقدمون على النار معاندةً مع العلم بالهلاك .
179 وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ .
يقول تعالى مبينا كثرة الغاوين الضالين ، المتبعين إبليس اللعين : وَلَقَدْ ذَرَأْنَا أي : أنشأنا وبثثنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ صارت البهائم أحسن حالة منهم .
لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا أي : لا يصل إليها فقه ولا علم ، إلا مجرد قيام الحجة .
وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا ما ينفعهم ، بل فقدوا منفعتها وفائدتها .
وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا سماعا يصل معناه إلى قلوبهم .
أُولَئِكَ الذين بهذه الأوصاف القبيحة كَالأنْعَامِ أي : البهائم ، التي فقدت العقول ، وهؤلاء آثروا ما يفنى على ما يبقى ، فسلبوا خاصية العقل .
بَلْ هُمْ أَضَلُّ من البهائم ، فإن الأنعام مستعملة فيما خلقت له ، ولها أذهان ، تدرك بها ، مضرتها من منفعتها ، فلذلك كانت أحسن حالا منهم .
أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ الذين غفلوا عن أنفع الأشياء ، غفلوا عن الإيمان باللّه وطاعته وذكره .
خلقت لهم الأفئدة والأسماع والأبصار ، لتكون عونا لهم على القيام بأوامر اللّه وحقوقه ، فاستعانوا بها على ضد هذا المقصود .
فهؤلاء حقيقون بأن يكونوا ممن ذرأ اللّه لجهنم وخلقهم لها ، فخلقهم للنار ، وبأعمال أهلها يعملون .
وأما من استعمل هذه الجوارح في عبادة اللّه ، وانصبغ قلبه بالإيمان باللّه ومحبته ، ولم يغفل عن اللّه ، فهؤلاء ، أهل الجنة ، وبأعمال أهل الجنة يعملون .
يقول تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا } أي : خلقنا وجعلنا { لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ } أي : هيأناهم لها ، وبعمل أهلها يعملون ، فإنه تعالى لما أراد أن يخلق الخلائق ، علم ما هم عاملون قبل كونهم ، فكتب ذلك عنده في كتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، كما ورد في صحيح مسلم ، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء " {[12404]}
وفي صحيح مسلم أيضا ، من حديث عائشة بنت طلحة ، عن خالتها عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، أنها قالت : دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار ، فقلت : يا رسول الله طوبى له ، عصفور من عصافير الجنة ، لم يعمل السوء ولم يدركه . فقال [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ]{[12405]} أو غير ذلك يا عائشة ؟ إن الله خلق الجنة ، وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار ، وخلق لها{[12406]} أهلا وهم في أصلاب آبائهم " {[12407]}
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود [ رضي الله عنه ]{[12408]} ثم يبعث إليه الملك ، فيؤمر بأربع كلمات ، فيكتب : رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم{[12409]} سعيد " .
وتقدم أن الله [ تعالى ]{[12410]} لما استخرج ذرية آدم من صلبه وجعلهم فريقين : أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، قال : " هؤلاء للجنة ولا أبالي ، وهؤلاء للنار ولا أبالي " .
والأحاديث في هذا كثيرة ، ومسألة القدر كبيرة ليس هذا موضع بسطها .
وقوله تعالى : { لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا } يعني : ليس ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله [ سببا للهداية ]{[12411]} كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ]{[12412]} } [ الأحقاف : 26 ] وقال تعالى : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } [ البقرة : 18 ] هذا في حق المنافقين ، وقال في حق الكافرين : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 171 ] ولم يكونوا صمًا بكمًا عميًا إلا عن الهدى ، كما قال تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] ، وقال : { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] ، وقال { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } [ الزخرف : 36 ، 37 ] .
وقوله تعالى : { أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ } أي : هؤلاء الذين لا يسمعون الحق ولا يعونه ولا يبصرون الهدى ، كالأنعام السارحة التي لا تنتفع{[12413]} بهذه الحواس منها إلا في الذي يعيشها من ظاهر الحياة الدنيا كما قال تعالى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً [ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ]{[12414]} } [ البقرة : 171 ] أي : ومثلهم - في حال دعائهم إلى الإيمان - كمثل الأنعام إذا دعاها راعيها لا تسمع إلا صوته ، ولا تفقه{[12415]} ما يقول ؛ ولهذا قال في هؤلاء : { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } أي : من الدواب ؛ لأن الدواب قد تستجيب مع ذلك لراعيها إذا أبس بها ، وإن لم تفقه كلامه ، بخلاف هؤلاء ؛ ولأن الدواب تفقه{[12416]} ما خلقت له إما بطبعها وإما بتسخيرها ، بخلاف الكافر فإنه إنما خلق ليعبد الله ويوحده ، فكفر بالله وأشرك به ؛ ولهذا من أطاع الله من البشر كان أشرف من مثله من الملائكة في معاده ، ومن كفر به{[12417]} من البشر ، كانت الدواب أتم منه ؛ ولهذا قال تعالى : { أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }
{ ولقد ذرأنا } خلقنا . { لجهنم كثيرا من الجن والإنس } يعني المصرين على الكفر في علمه تعالى . { لهم قلوب لا يفقهون بها } إذ لا يلقونها إلى معرفة الحق والنظر في دلائله . { ولهم أعين لا يبصرون بها } أي لا ينظرون إلى ما خلق الله نظر اعتبار . { ولهم آذان لا يسمعون بها } الآيات والمواعظ سماع تأمل وتذكر . { أولئك كالأنعام } في عدم الفقه والإبصار للاعتبار والاستماع للتدبر ، أو في أن مشاعرهم وقواهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها . { بل هم أضلّ } فإنها تدرك ما يمكن لها أن تدرك من المنافع والمضار ، وتجتهد في جلبها ودفعها غاية جهدها ، وهم ليسوا كذلك بل أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار . { أولئك هم الغافلون } الكاملون في الغفلة .