المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

30- ترك اليهود الوحدانية في عقيدتهم ، وقالوا : عزيز{[81]} ابن الله ، وترك النصارى الوحدانية كذلك ، فقالوا : المسيح ابن الله . وقولهم هذا مبتدع من عندهم ، يرددونه بأفواههم ولم يأتهم به كتاب ولا رسول ، وليس عليهم حُجة ولا برهان ، وهم في هذا القول يشابهون قول المشركين قبلهم ، لعن الله هؤلاء الكفار وأهلكهم . عجباً لهم كيف يضلون عن الحق وهو ظاهر ، ويعدلون إلى الباطل .


[81]:عزيز هو عزرا الكاهن من نسل هارون خرج من بابل مع رجوع اليهود الثاني بعد وفاة رسول الله موسى بنحو ألف عام، وكان عزرا يلقب بالكاتب لأنه كان يكتب في شريعة موسى. ملحوظة: خرج عزرا ومن معه من اليهود إلى أورشليم سنة 456 ق. م السنة السابقة من حكم أريخشسنا ملك فارس بعد خراب أورشليم وحرق بيت القدس ونهبه بزمن طويل.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

قوله تعالى : { قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله } ، روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود : سلام بن مشكم ، والنعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله ؟ فأنزل الله عز وجل : { وقالت اليهود عزير ابن الله } . قرأ عاصم والكسائي ويعقوب عزير بالتنوين والآخرون بغير تنوين ، لأنه اسم أعجمي ويشبه اسما مصغرا ، ومن نون قال : لأنه اسم خفيف ، فوجهه أن يصرف ، وإن كان أعجميا مثل نوح وهود ولوط . واختار أبو عبيدة التنوين وقال : لأن هذا ليس بمنسوب إلى أبيه ، إنما هو كقولك زيد ابن الأمير وزيد ابن أختنا ، فعزيز مبتدأ وما بعده خبر له . وقال عبيد بن عمير : إنما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء ، وهو الذي قال : { إن الله فقير ونحن أغنياء } [ آل عمران – 181 ] . وروى عطية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إنما قالت اليهود عزير ابن الله من أجل أن عزيرا كان فيهم وكانت التوراة عندهم والتابوت فيهم ، فأضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق ، فرفع الله عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم ، فدعا الله عزير وابتهل إليه أن يرد إليه الذي نسخ من صدورهم ، فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله تعالى نزل نور من السماء فدخل جوفه فعادت إليه التوراة فأذن في قومه ، وقال : يا قوم قد آتاني الله التوراة وردها إلي ! فعلق به الناس يعلمهم ، فمكثوا ما شاء الله تعالى ، ثم إن التابوت نزل بعد ذهابه منهم ، فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان يعلمهم عزير فوجدوه مثله ، فقالوا : ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله .

وقال الكلبي : أن يختنصر لما ظهر على بني إسرائيل وقتل من قرأ التوراة ، وكان عزير إذ ذاك صغيرا ، فاستصغره فلم يقتله ، فلما رجع بنو إسرائيل إلى البيت المقدس وليس فيهم مائة سنة ، يقال : أتاه ملك بإناء فيه ماء ، فسقاه ، فمثلت التوراة في صدره ، فلما أتاهم قال : أنا عزير ، فكذبوه وقالوا : إن كنت كما تزعم فأمل علينا التوراة ؟ فكتبها لهم ، ثم إن رجلا قال : إن أبي حدثني عن جدي ، أن التوراة جعلت في خابية ، ودفنت في كرم ، فانطلقوا معه حتى أخرجوها ، فعارضوها بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر منها حرفا ، فقالوا : إن الله يقذف التوراة في قلب رجل إلا أنه ابنه ، فعند ذلك قالت اليهود : عزير ابن الله وأما النصارى فقالوا : المسيح ابن الله ، وكان السبب فيه أنهم كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة بعدما رفع عيسى عليه السلام يصلون إلى القبلة ، ويصومون رمضان ، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب ، وكان في اليهود رجل شجاع يقال به بولص قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام ، ثم قال لليهود : إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا به والنار مصيرنا ، فنحن مغبونون إن دخلوا الجنة دخلنا النار ، فإني أحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار ، وكان له فرس يقال له العقاب يقاتل عليه فعرقب فرسه وأظهر الندامة ، ووضع على رأسه التراب ، فقال له النصارى : من أنت ؟ قال : بولص عدوكم ، فنوديت من السماء : ليست لك توبة إلا أن تتنصر ، وقد ثبت . فأدخلوه الكنيسة ، ودخل بيتا سنة لا يخرج منه ليلا ولا نهارا حتى تعلم الإنجيل ، ثم خرج وقال : نوديت أن الله قبل توبتك ، فصدقوه وأحبوه ، ثم مضى إلى بيت المقدس ، واستحلف عليهم نسطورا وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة ، ثم توجه إلى الروم وعلمهم اللاهوات والناسوت ، وقال : لم يكن عيسى بإنس ولا بجسم ، ولكنه ابن الله ، وعلم ذلك رجلا يقال له يعقوب ثم دعا رجلا يقال له ملكان فقال له : إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى ، فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا ، وقال لكل واحد منهم : أنت خالصتي ، وقد رأيت عيسى في المنام فرضي عني . وقال لكل واحد منهم : إني غدا أذبح نفسي ، فادع الناس إلى نحلتك . ثم دخل المذبح فذبح نفسه وقال : إنما أفعل ذلك لمرضاة عيسى ، فلما كان يوم ثالثة دعا كل واحد منهم الناس إلى نحلته ، فتبع كل واحد طائفة من الناس ، فاختلفوا واقتتلوا فقال الله عز وجل : { وقالت النصارى المسيح ابن الله } .

قوله تعالى : { ذلك قولهم بأفواههم } ، يقولون بألسنتهم من غير علم . قال أهل المعاني : لم يذكر الله تعالى قولا مقرونا بالأفواه والألسن إلا كان ذلك زورا .

قوله تعالى : { يضاهئون } ، قرأ عاصم بكسر الهاء مهموزا ، والآخرون بضم الهاء غير مهموز ، وهما لغتان يقال : ضاهيتة وضاهأته ، ومعناهما واحد . قال ابن عباس رضي الله عنه : يشابهون . والمضاهاة المشابهة . وقال مجاهد : يواطئون . وقال الحسن : يوافقون .

قوله تعالى : { قول الذين كفروا من قبل } ، قال قتادة والسدي : ضاهت النصارى قول اليهود من قبل ، فقالوا : المسيح ابن الله ، كما قالت اليهود عزير ابن الله ، وقال مجاهد : يضاهئون قول المشركين من قبل الذين كانوا يقولون اللات والعزى ومناة بنات الله . وقال الحسن : شبه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة كما قال في مشركي العرب : { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم } [ البقرة-188 ] . وقال القتيبي : يريد أن من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يقولون ما قال أولهم ، { قاتلهم الله } ، قال ابن عباس : لعنهم الله . وقال ابن جريح : أي : قتلهم الله . وقيل : ليس هو على تحقيق المقاتلة ولكنه بمعنى التعجب .

قوله تعالى : { أنى يؤفكون } ، أي : يصرفون عن الحق بعد قيام الأدلة عليه .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

{ 30 - 33 } { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }

لما أمر تعالى بقتال أهل الكتاب ، ذكر من أقوالهم الخبيثة ، ما يهيج المؤمنين الذين يغارون لربهم ولدينه على قتالهم ، والاجتهاد وبذل الوسع فيه فقال : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } وهذه المقالة وإن لم تكن مقالة لعامتهم فقد قالها فرقة منهم ، فيدل ذلك على أن في اليهود من الخبث والشر ما أوصلهم إلى أن قالوا هذه المقالة التي تجرأوا فيها على اللّه ، وتنقصوا عظمته وجلاله .

وقد قيل : إن سبب ادعائهم في { عزير } أنه ابن اللّه ، أنه لما سلط الله الملوك{[368]}  على بني إسرائيل ، ومزقوهم كل ممزق ، وقتلوا حَمَلَةَ التوراة ، وجدوا

عزيرا بعد ذلك حافظا لها أو لأكثرها ، فأملاها عليهم من حفظه ، واستنسخوها ، فادعوا فيه هذه الدعوى الشنيعة .

{ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ } عيسى ابن مريم { ابْنُ اللَّهِ } قال اللّه تعالى { ذَلِكَ } القول الذي قالوه { قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ } لم يقيموا عليه حجة ولا برهانا .

ومن كان لا يبالي بما يقول ، لا يستغرب عليه أي قول يقوله ، فإنه لا دين ولا عقل ، يحجزه ، عما يريد من الكلام .

ولهذا قال : { يُضَاهِئُونَ } أي : يشابهون في قولهم هذا { قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ } أي : قول المشركين الذين يقولون : { الملائكة بنات اللّه } تشابهت قلوبهم ، فتشابهت أقوالهم في البطلان .

{ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي : كيف يصرفون على الحق ، الصرف الواضح المبين ، إلى القول الباطل المبين .


[368]:- في ب: أنه لما تسلط الملوك.
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

وهذا إغراء من الله تعالى للمؤمنين على قتال المشركين الكفار من اليهود والنصارى ، لمقالتهم هذه المقالة الشنيعة ، والفِرْية على الله تعالى ، فأما اليهود فقالوا في العُزَير : " إنه ابن الله " ، تعالى [ الله ]{[13383]} عن ذلك علوا كبيرا . وذكر السدي وغيره أن الشبهة التي حصلت لهم في ذلك ، أن العمالقة لما غلبت على بني إسرائيل ، فقتلوا علماءهم وسَبَوا كبارهم ، بقي العزير يبكي على بني إسرائيل وذهاب العلم منهم ، حتى سقطت جفون عينيه ، فبينا هو ذات يوم إذ مَرّ على جبانة ، وإذ{[13384]} امرأة تبكي عند قبر وهي تقول : وامطعماه ! واكاسياه ! [ فقال لها ويحك ]{[13385]} من كان يطعمك قبل هذا ؟ قالت : الله . قال : فإن الله حي لا يموت ! قالت : يا عزير فمن كان يُعلم العلماء قبل بني إسرائيل ؟ قال : الله . قالت : فلم تبكي عليهم ؟ فعرف أنه شيء قد وُعظ به . ثم قيل له : اذهب إلى نهر كذا فاغتسل منه ، وصَلِّ هناك ركعتين ، فإنك ستلقى هناك شيخا ، فما أطعمك فكله . فذهب ففعل ما أمر به ، فإذا شيخ فقال له : افتح فمك . ففتح فمه . فألقى فيه شيئًا كهيئة الجمرة العظيمة ، ثلاث مرات ، فرجع عُزَير وهو من أعلم الناس بالتوراة ، فقال : يا بني إسرائيل ، قد جئتكم بالتوراة . فقالوا : يا عُزَير ، ما كنت كَذَّابا . فعمد فربط على إصبع من أصابعه قلما ، وكتب التوراة بإصبعه كلها ، فلما تراجع الناس من عَدُوّهم ورجع العلماء ، وأخبروا بشأن عزير ، فاستخرجوا النسخ التي كانوا أودعوها في الجبال ، وقابلوها{[13386]} بها ، فوجدوا ما جاء به صحيحا ، فقال بعض جهلتهم : إنما صنع هذا لأنه ابن الله .

وأما ضَلال النصارى في المسيح فظاهر ؛ ولهذا كَذَّب الله سبحانه الطائفتين فقال : { ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ } أي : لا مستند لهم فيما ادعوه سوى افترائهم واختلاقهم ، { يضاهئون } أي : يشابهون { قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ } أي : من قبلهم من الأمم ، ضلوا كما ضل هؤلاء ، { قَاتَلَهُمُ اللَّهُ } وقال ابن عباس : لعنهم الله ، { أَنَّى يُؤْفَكُونَ } ؟ أي : كيف يضلون عن الحق ، وهو ظاهر ، ويعدلون إلى الباطل ؟


[13383]:- زيادة من ت ، ك.
[13384]:- في ت ، د : "وإذا".
[13385]:- زيادة من ت ، د ، أ.
[13386]:- في ت ، د ، ك : "وقابلوه".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنّىَ يُؤْفَكُونَ } .

اختلف أهل التأويل في القائل : عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ فقال بعضهم : كان ذلك رجلاً واحدا ، هو فنحاص . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير ، قوله : وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ ، قال : قالها رجل واحد ، قالوا : إن اسمه فنحاص ، وقالوا : هو الذي قال : إنّ اللّهَ فَقِيرٌ ونَحنُ أغْنِياءُ .

وقال آخرون : بل كان ذلك قول جماعة منهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامُ بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ، وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله ؟ فأنزل في ذلك من قولهم : وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقالَتِ النّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللّهِ . . . إلى : أنّى يُؤْفَكُونَ .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وإنما قالوا : هو ابن الله من أجل أن عزيرا كان في أهل الكتاب وكانت التوراة عندهم يعملون بها ما شاء الله أن يعملوا ، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحقّ . وكان التابوت فيهم فلما رأى الله أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء ، رفع الله عنهم التابوت ، وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم ، وأرسل الله عليهم مرضا ، فاستطلقت بطونهم ، حتى جعل الرجل يمشي كَبِدُه ، حتى نسوا التوراة ، ونسخت من صدورهم ، وفيهم عزير . فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم ، وكان عزير قبل من علمائهم ، فدعا عزير الله وابتهل إليه أن يردّ إليه الذي نسخ من صدره من التوراة . فبينما هو يصلي مبتهلاً إلى الله ، نزل نور من الله فدخل جوفه ، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة ، فأذن في قومه فقال : يا قوم قد آتاني الله التوراة ، وردّها إليّ فعلق يعلمهم ، فمكثوا ما شاء الله وهو يعلمهم . ثم إن التابوت نزل بعد ذلك ، وبعد ذهابه منهم فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلمهم ، فوجدوه مثله ، فقالوا : والله ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ إنما قالت ذلك ، لأنهم ظهرت عليهم العمالقة فقتلوهم ، وأخذوا التوراة ، وذهب علماؤهم الذين بقوا فدفنوا كتب التوراة في الجبال . وكان عزير غلاما يتعبد في رءوس الجبال لا ينزل إلا يوم عيد ، فجعل الغلام يبكي ويقول : ربّ تركت بني إسرائيل بغير عالم فلم يزل يبكي حتى سقطت أشفار عينيه . فنزل مرّة إلى العيد فلما رجع إذا هو بامرأة قد مثلت له عند قبر من تلك القبور تبكي وتقول : يا مطعماه ، ويا كاسياه فقال لها : ويحك ، من كان يطعمك ويكسوك ويسقيك وينفعك قبل هذا الرجل ؟ قالت : الله . قال : فإن الله حيّ لم يمت . قالت : يا عزير ، فمن كان يعلم العلماء قبل بني إسرائيل ؟ قال : الله . قالت : فلم تبكي عليهم ؟ فلما عرف أنه قد خُصِم ولى مدبرا ، فدعته فقالت : يا عزير إذا أصبحت غدا فأت نهر كذا وكذا فاغتسل فيه ، ثم اخرج فصلّ ركعتين ، فإنه يأتيك شيخ فما أعطاك فخذه فلما أصبح ، انطلق عزير إلى ذلك النهر ، فاغتسل فيه ، ثم خرج فصلى ركعتين ، فجاءه الشيخ فقال : افتح فمك ففتح فمه ، فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة مجتمعا كهيئة القوارير ثلاث مرار . فرجع عزير وهو من أعلم الناس بالتوراة ، فقال : يا بني إسرائيل ، إني قد جئتكم بالتوراة . فقالوا يا عزير ما كنت كذّابا . فعمد فربط على كلّ أصبع له قلما ، وكتب بأصابعه كلها ، فكتب التوراة كلها . فلما رجع العلماء أخبروا بشأن عزير ، فاستخرج أولئك العلماء كتبهم التي كانوا دفنوها من التوراة في الجبال ، وكانت في خوابٍ مدفونة ، فعارضوها بتوراة عزير فوجدوها مثلها ، فقالوا : ما أعطاك الله هذا إلا أنك ابنه .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة وبعض المكيين والكوفيين : «وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ » لا ينوّنون «عزيرا » . وقرأه بعض المكيين والكوفيين : عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ بتنوين «عزير » . قال : هو اسم مجرى وإن كان أعجميا لخفته ، وهو مع ذلك غير منسوب إلى الله ، فيكون بمنزلة قول القائل : زيد بن عبد الله ، وأوقع الابن موقع الخبر ، ولو كان منسوبا إلى الله لكان الوجه فيه إذا كان الابن خبرا : الإجراء والتنوين ، فكيف وهو منسوب إلى غير أبيه . وأما من ترك تنوين «عزير » ، فإنه لما كانت الباء من ابن ساكنة مع التنوين الساكن والتقى ساكنان فحذف الأوّل منهما استثقالاً لتحريكه ، قال الراجز :

لَتَجِدَنّي بالأَمِيرِ بَرّا *** وبالقَناةِ مِدْعَسا مِكَرا

*** إذا غَطَيْفُ السّلَمِيّ فَرّا ***

فحذف النون للساكن الذي استقبلها .

قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ بتنوين «عزير » لأن العرب لا تنوّن الأسماء إذا كان الابن نعتا للاسم ، كقولهم : هذا زيد بن عبد الله ، فأرادوا الخبر عن عُزير بأنه ابن الله ، ولم يريدوا أن يجعلوا الابن له نعتا . والابن في هذا الموضع خبر لعزير ، لأن الذين ذكر الله عنهم أنهم قالوا ذلك ، إنما أخبروا عن عزير أنه كذلك ، وإن كانوا بقيلهم ذلك كانوا كاذبين على الله مفترين . وَقالَتِ النّصَارَى المسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذلكَ قَوْلُهُمْ بأفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يعني قول اليهود : عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ . يقول : نسبة قول هؤلاء في الكذب على الله والفرية عليه ونسبتهم المسيح إلى أنه لله ابن ككذب اليهود وفريتهم على الله في نسبتهم عزير إلى أنه لله ابن ، ولا ينبغي أن يكون لله ولد سبحانه ، بل له ما في السموات والأرض ، كلّ له قانتون .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يقول : يشبهون .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ضاهت النصارى قول اليهود قبلهم .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ النصارى يضاهئون قول اليهود في عزير .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج : يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يقول : النصارى يضاهئون قول اليهود .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يقول : قالوا مثل ما قال أهل الأوثان .

وقد قيل : إن معنى ذلك : يحكون بقولهم قول أهل الأديان الذين قالوا : اللات والعُزّى ومناة الثالثة الأخرى .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق : «يُضَاهُونَ » بغير همز . وقرأه عاصم : يُضَاهِئُونَ بالهمز ، وهي لغة لثقيف . وهما لغتان ، يقال : ضاهيته على كذا أضاهيه مضاهاة وضاهأته عليه مضاهأة ، إذا مالأته عليه وأعنته .

قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك ترك الهمز ، لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار واللغة الفصحى .

وأما قوله : قاتَلَهُمُ اللّهُ فإن معناه فيما ذكر عن ابن عباس ، ما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : قاتَلَهُمُ اللّهُ يقول : لعنهم الله ، وكلّ شيء في القرآن «قتل » فهو لعن .

وقال ابن جريج في ذلك ، ما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : قاتَلَهُمُ اللّهُ يعني النصارى ، كلمةٌ من كلام العرب .

فأما أهل المعرفة بكلام العرب فإنهم يقولون معناه : قتلهم الله ، والعرب تقول : قاتعك الله ، وقاتعها الله بمعنى : قاتلك الله ، قالوا : وقاتعك الله أهون من قاتله الله . وقد ذكروا أنهم يقولون : شاقاه الله ما باقاه ، يريدون : أشقاه الله ما أبقاه . قالوا : ومعنى قوله : قاتَلَهُمُ اللّهُ كقوله : قُتِلَ الخَرّاصُونَ وقُتِلَ أصَحابُ الأُخْدُودِ واحد ، وهو بمعنى التعجب . فإن كان الذي قالوا كما قالوا ، فهو من نادر الكلام الذي جاء على غير القياس ، لأن فاعلت لا تكاد أن تجيء فعلاً إلا من اثنين ، كقولهم : خاصمت فلانا وقاتلته ، وما أشبه ذلك . وقد زعموا أن قولهم : عافاك الله منه ، وأن معناه : أعفاك الله ، بمعنى الدعاء لمن دعا له بأن يعفيه من السوء .

وقوله : أنّى يُؤْفَكُونَ يقول : أيّ وجه يذهب بهم ويحيدون ، كيف يصدّون عن الحقّ ، وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

الذي كثر في كتب أهل العلم أن فرقة من اليهود تقول هذه المقالة وروي أنه لم يقلها إلا فنحاص ، وقال ابن عباس : قالها أربعة من أحبارهم ، سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، وقال النقاش : لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا .

قال القاضي أبو محمد : فإذا قالها واحد فيتوجه أن يلزم الجماعة شنعة المقالة لأجل نباهة القائل فيهم ، وأقوال النبهاء أبداً مشهورة في الناس يحتج بها ، فمن هنا صح أن تقول الجماعة قول نبيها ، وقرأ عاصم والكسائي «عزير ابن الله » بتنوين عزير ، والمعنى أن ابناً على هذا خبر ابتداء عن عزير ، وهذا هو أصح المذاهب لأن هذا هو المعنى المنعيّ عليهم ، و { عزير } ونحوه ينصرف عجمياً كان أو عربياً ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «عزير ابن الله » دون تنوين عزير ، فقال بعضهم «ابن » خبر عن «عزير » وإنما حذف التنوين من عزير لاجتماع الساكنين{[5600]} ونحوه قراءة من قرأ { أحد الله الصمد }{[5601]} قال أبو علي وهو كثير في الشعر ، وأنشد الطبري في ذلك [ الرجز ]

لَتَجِدَنِّي بالأمير برّا

وبالقناةِ مدْعساً مكرا

إذا عطيف السلمي فرا{[5602]}

قال القاضي أبو محمد : فالألف على هذه القراءة والتأويل ثابتة في «ابن » وقال بعضهم «ابن » صفة ل «عزير » كما تقول زيد بن عمرو وجعلت الصفة والموصوف بمنزلة اسم واحد وحذف التنوين إذا جاء الساكنان كأنهما التقيا من كلمة واحدة « ، والمعنى عزير ابن الله معبودنا وإلهنا أو المعنى معبودنا أو إلهنا عزير ابن الله .

قال القاضي أبو محمد : وقياس هذه القراءة والتأويل أن يحذف الألف من ابن «لكنها تثبت في خط المصحف ، فيترجح من هذا كله أن قراءة التنوين في » عزير «أقواها ، وحكى الطبري وغيره أن بني إسرائيل أصابتهم فتن وبلاء وقيل مرض وأذهب الله عنهم التوراة في ذلك ونسوها ، وكان علماؤهم قد دفنوها أول ما أحسوا بذلك البلاء ، فلما طالت المدة فقدت التوراة جملة فحفظها الله عزيراً كرامة منه له ، فقال لبني إسرائيل إن الله قد حفظني التوراة فجعلوا يدرسونها من عنده ، ثم إن التوراة المدفونة وجدت فإذا هي مساوية لما كان عزير يدرس ، فضوا عند ذلك وقالوا إن هذا لن يتهيأ لعزير إلا وهو ابن الله ، وظاهر قول النصارى { المسيح ابن الله } أنها بنوة النسل كما قالت العرب في الملائكة وكذلك يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما ، وهذا أشنع في الكفر ، قال أبو المعالي : أطبقت النصارى على أن المسيح إله وأنه ابن الإله .

قال القاضي أبو محمد : ويقال إن بعضهم يعتقدها بنوة ُحُنٍّو ورحمة ، وهذا المعنى أيضاً لا يحل أن تطلق البنوة عليه ، وهو كفر لمكان الإشكال الذي يدخل من جهة التناسل وكذلك كفرت اليهود في قولهم { عزير ابن الله } وقولهم نحن أبناء الله ، وإنما توجد في كلام العرب استعارة البنوة عبارة عن نسب وملازمات تكون بين الأشياء إذا لم يشكل الأمر وكان أمر النسل لاستحالة من ذلك قول عبد الملك بن مروان : وقد زبنتنا الحرب وزبناها{[5603]} فنحن بنوها وهي أمنا يريد للملازمة ومن ذلك قول حديث بن مخفض : [ الطويل ]

بنو المجد لم تقعد بهم أمهاتهم*** وآباؤهمْ أبناء صدق فأنجبوا{[5604]}

ومن ذلك ابن نعش وابن ماء وابن السبيل ونحو ذلك ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]

*والأرض تحملنا وكانت أمنا*

ومنه أحد التأويلات في قوله صلى الله عليه وسلم «لا يدخل الجنة ابن زنى »{[5605]} أي ملازمة والتأويل الآخر أن لا يدخلها مشكل الأمر والتأويلان في قول النصارى { المسيح ابن الله } كما تقدم من الصفة والخبر إلا أن شغب التنوين ارتفع هاهنا ، و { عزير } نبي من أنبياء بني إسرائيل ، وقوله { بأفواههم } يتضمن معنيين : أحدهما إلزامهم المقالة والتأكيد في ذلك كما قال { يكتبون الكتاب بأيديهم }{[5606]} ، وكقوله { ولا طائر يطير بجناحيه }{[5607]} ، والمعنى الثاني في قوله { بأفواهم } أي هو ساذج لا حجة عليه ولا برهان{[5608]} غاية بيانه أن يقال بالأفواه قولاً مجرداً نفس دعوى{[5609]} ، و { يضاهون } قراءة الجماعة ومعناه يحاكون ويبارون ويماثلون ، وقرأ عاصم وحده من السبعة وطلحة بن مصرف «يضاهئون » بالهمز على أنه من ضاهأ وهي لغة ثقيف بمعنى ضاهى .

قال القاضي أبو محمد : ومن قال إن هذا مأخوذ من قولهم امرأة ضهياء وهي التي لا تحيض وقيل التي لا ثدي لها سميت بذلك لشبهها بالرجال فقوله خطأ قاله أبو علي : لأن الهمزة في ضاهأ أصلية ، وفي ضهياء زائدة كحمراء{[5610]} ، وإن كان الضمير في { يضاهون } لليهود والنصارى جميعاً فالإشارة بقوله { الذين كفروا من قبل } هي إما لمشركي العرب إذ قالوا الملائكة بنات الله وهم أول كافر وهو قول الضحاك : وإما لاسم سالفة قبلهما ، وإما للصدر الأول من كفرة اليهود والنصارى ، ويكون { يضاهون } لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن كان الضمير في { يضاهون } للنصارى فقط كانت الإشارة ب { الذين كفروا من قبل } إلى اليهود ، وعلى هذا فسر الطبري وحكاه الزهراوي عن قتادة ، وقوله { قاتلهم الله } دعاء عليهم عام لأنواع الشر ، ومعلوم أن من قاتله الله فهو المغلوب المقتول ، وحكى الطبري عن ابن عباس أن المعنى لعنهم الله{[5611]} ، و{ أنى يؤفكون } مقصده أنى توجهوا أو أنى ذهبوا ، وبدل مكان هذا الفعل المقصود فعل سوء يحق لهم ، وذلك فصيح في الكلام كما تقول لعن الله الكافر أنى هلك كأنك تحتم عليه بهلاك وكأنه حتم عليهم في هذه الآية بأنهم يؤفكون ، ومعناه يحرمون ويصرفون عن الخير ، والأرض المأفوكة التي لم يصبها مطر ، قال أبو عبيدة { يؤفكون } معناه يحدون .

قال القاضي أبو محمد : يريد من قولك رجل محدود أي محروم لا يصيب خيراً ، وكأنه من الإفك الذي هو الكذب ، فكأن المأفوك هو الذي تكذبه أراجيه فلا يلقى خيراً{[5612]} ، ويحتمل أن يكون قوله تعالى : { أنى يؤفكون } ابتداء تقرير ، أي بأي سبب ومن أي جهة يصرفون عن الحق بعدما تبين لهم ، و «قاتل » في هذه الآية بمعنى قتل وهي مفاعلة من واحد وهذا كله بين .


[5600]:- يرى أبو حيان في "البحر" أنّ من زعم ذلك وكذلك من زعم أن (ابنا) صفة لـ [عزير] وقه بين علمين فحذف تنوينه والخبر محذوف، أي: معبودنا- فقوله متمحّل، لأن الذي أنكر عليهم إنما هو نسبة البنوّة إلى الله تعالى.
[5601]:- الآيتان (1، 2) من سور (الإخلاص).
[5602]:-دعسه بالرمح يدعسه دعسا: طعنة، ورجل مدعس: طعّان، ويكون بالصاد، قال صاحب اللسان: "وهو الأعرف"، وقال سيبويه: "وكذلك الأنثى بغير هاء، ولا يجمع بالواو والنون لأن الهاء لا تدخل مؤنثة". والشاهد في قوله: "عُطيف السلمي" بدون تنوين في (عُطيف).
[5603]:- ومنه قولهم: "حرب زبون" لأنها تزبن الناس أي تدفعهم وتصدمهم على التشبيه بالناقة الزّبون وهي التي تدفع حالبها عن حلبها، وفي حديث معاوية: "فربما زبنت فكسرت أنف حالبها".
[5604]:- يصفهم بالمجد والشرف من جهة الأمهات ومن جهة الآباء، ومعنى "لم تقعد بهم أمهاتهم": لم تقصر من ناحية الشرف، يقال: فلان مقعد الحسب إذا لم يكن له شرف، وقد أقعده آباؤه وتقعدوه، قال الطّرماح يهجو رجلا: ولكنه عبد تقعد رأيه لئام الفحول وارتخاص المناكح وأنجب الرجل: ولد نجيبا. والنجيب الكريم، قال الشاعر: أنجب أزمان والده به إذ نجلاه فنعم ما نجلا
[5605]:-تقدم الكلام على هذا عند تفسير قوله تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس} وهي الآية (179) من سورة (الأعراف).
[5606]:- من الآية (79) من سورة (البقرة).
[5607]:- من الآية (38) من سورة (الأنعام).
[5608]:- وردت كلمة (ساذج) في بعض النسخ بالدال المهملة أي (سادج)، والسّدج والتّسدّج: الكذب وتقوّل الأباطيل، وقد سدج سْدجا وتسدّج أي: تكذب، قال الشاعر: "فينا أقاويل امرئ تسدّجا"، فالمعنى: هو كلام كاذب لا حجة عليه.
[5609]:- هكذا بالأصل.
[5610]:- اختلف العلاء في (ضهيأ) هل يمد أولا؟ فقال ابن ولاّد: امرأة ضهيأ، وهي التي لا تحيض، مهموز غير ممدود، وسيبويه يمده فيجعله ضهياء، والهمزة فيه زائدة لأنهم عند الجمع يقولون: نساء ضهي فيحذفون الهمزة، ونقل أبو الحسن عن النجيرميّ "امرأة ضهياء" بالمدّ والهاء. جمع بين علامتي تأنيث، حكاه عن أبي عمر الشيباني، وأنشد: "ضهياءة أو عاقر جماد".
[5611]:- قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل شيء في القرآن قتل فهو لعن، ومنه قوله أبان بن ثغلب: قاتلها الله تلحاني وقد علَمت أني لنفسي إفسادي وإصلاحي وقال النقاش: أصل "قاتل الله" الدعاء، ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشر وهم لا يريدون الدعاء، وأنشد الأصمعي: يا قاتل الله ليلى كيف تُعجبني وأخبر الناس أني لا أباليها؟
[5612]:- من الإفك بمعنى الصرف عن الحق قوله تعالى: {يؤفك عنه من أفك} أي: يصرف عن الإيمان من صُرف، ومنه أيضا قوله تعالى: {أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا} أي: لتصرفنا وتصدنا؟ ويأتي الأفيك والمأفوك بمعنى المخدوع عن رأيه، وبمعنى من لا حزم له ولا حيلة، وعليه قول الشاعر: "مالي أراك عاجزا أفيكا"؟.