7- وهو الذي أنزل عليك القرآن ، وكان من حكمته أن جعل منه آيات محكمات محددة المعنى بيِّنة المقاصد ، هي الأصل وإليها المرجع ، وأخر متشابهات يدق معناها على أذهان كثير من الناس ، وتشتبه على غير الراسخين في العلم ، وقد نزلت هذه المتشابهات لتبعث العلماء على العلم والنظر ودقة الفكر في الاجتهاد ، وفي البحث في الدين ، وشأن الزائغين عن الحق أن يتتبعوا ما تشابه من القرآن رغبة في إثارة الفتنة ، ويؤوِّلوها حسب أهوائهم . وهذه الآيات لا يعلم تأويلها الحق إلا الله والذين تثبتوا في العلم وتمكنوا منه ، وأولئك المتمكنون منه يقولون : إنا نوقن بأن ذلك من عند الله ، لا نفرق في الإيمان بالقرآن بين محكمه ومتشابهه ، وما يعقل ذلك إلا أصحاب العقول السليمة التي لا تخضع للهوى والشهوة .
قوله تعالى : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات } . مبينات مفصلات ، سميت محكمات من الإحكام ، كأنه أحكمها فمنع الخلق من التصرف فيها لظهورها ووضوح معناها .
قوله تعالى : { هن أم الكتاب } . أي أصله الذي يعمل عليه في الأحكام ، وإنما قال هن أم الكتاب ولم يقل أمهات الكتاب لأن الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة ، وكلام الله واحد ، وقيل معناه : كل آية منهن أم الكتاب كما قال ( وجعلنا ابن مريم وأمه آية ) أي كل واحد منهما آية .
قوله تعالى : { وأخر } جمع أخرى ، ولم يصرفه لأنه معدول عن الآخر ، مثل عمرو وزفر .
قوله تعالى : { متشابهات } فإن قيل : كيف فرق هاهنا بين المحكم والمتشابه وقد جعل كل القرآن محكماً في موضع أخر فقال( الر كتاب أحكمت آياته ) وجعل كله متشابهاً فقال : ( الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها ) . قيل : حيث جعل الكل محكماً ، أراد أن الكل حق ليس فيه عبث ولا هزل ، وحيث جعل الكل متشابهاً ) ؟ قيل : حيث جعل الكل محكما أراد أن الكل حق ليس فيه عبث ولا هزل ، وحيث جعل الكل متشابها أراد أن بعضه يشبه بعضاً في الحق والصدق وفي الحسن ، وجعل هاهنا بعضه محكماً وبعضه متشابهاً ، واختلف العلماء فيهما فقال ابن عباس رضي الله عنهما : المحكمات هن الآيات الثلاث في سورة الأنعام ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) ونظيرها في بني إسرائيل ( وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه ) الآيات . وعنه أنه قال : المتشابهات حروف التهجي في أوائل السور ، وقال مجاهد وعكرمة : المحكم ما فيه الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه يشبه بعضه بعضاً في الحق ، ويصدق بعضه بعضاً كقوله تعالى : ( وما يضل به إلا الفاسقين ) ( ويجعل الرجس على الذين لا يؤمنون ) وقال قتادة والضحاك والسدي : المحكم : الناسخ الذي يعمل به ، والمتشابه ، المنسوخ الذي يؤمن به ولا يعمل به .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : محكمات القرآن ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به ، والمتشابهات ، منسوخة ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به . وقيل المحكمات ما أوقف الله الخلق على معناه ، والمتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه ، لا سبيل لأحد إلى علمه نحو : الخبر عن أشراط الساعة ، وخروج الدجال ، ونزول عيسى عليه السلام ، وطلوع الشمس من مغربها ، وقيام الساعة ، وفناء الدنيا . وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المحكم مالا يحتمل من التأويل غير وجه واحد ، والمتشابه ما يحتمل أوجها . وقيل : المحكم ما يعرف معناه وتكون حجته واضحة ودلائله لائحة لا يشتبه ، والمتشابه هو الذي يدرك علمه بالنظر ، ولا يعرف العوام تفصيل الحق فيه من الباطل . وقال بعضهم : المحكم ما يستقل بنفسه في المعنى ، والمتشابه مالا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره . قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية بأن المتشابه حروف التهجي في أوائل السور ، وذلك أن رهطاً من اليهود منهم حيي بن اخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما ، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له حيي : بلغنا أنه أنزل عليك ( الم ) ننشدك الله أأنزلت عليك ؟ قال : نعم ، قال : فإن كان ذلك حقاً فإني أعلم مدة ملك أمتك ، هي إحدى وسبعون سنة ، فهل أنزل غيرها ؟ قال : نعم ( المص ) قال : فهذه أكثر هي إحدى وستون ومائة سنة ، قال : فهل غيرها ؟ قال : نعم ( الر ) . قال : هذه أكثر هي مائتان وإحدى وثلاثون سنة ، ولقد خلطت علينا فلا ندري أبكثيره نأخذ أم بقليله ، ونحن ممن لا يؤمن بهذا ، فأنزل الله تعالى ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ) .
قوله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } أي ميل عن الحق وقيل شك .
قوله تعالى : { فيتبعون ما تشابه منه } . واختلفوا في المعني بهذه الآية قال الربيع : هم وفد نجران خاصموا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام وقالوا له ، ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه ؟ قال :بلى ، قالوا : حسبنا ذلك ، فأنزل الله هذه الآية . وقال الكلبي : هم اليهود ، طلبوا علم أجل هذه الأمة واستخراجه بحساب الجمل ، وقال ابن جريج ، هم المنافقون ، وقال الحسن : هم الخوارج . وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية { فأما الذين في قلوبهم زيغ } قال : إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري من هم . وقيل : هم جميع المبتدعة .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد ابن إسماعيل ، أنا عبد الله بن مسلمة ، أنا يزيد بن إبراهيم التستري ، عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ) إلى قوله ( أولو الألباب ) قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رأيت الذي يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم .
قوله تعالى { ابتغاء الفتنة } طلب الشرك ، قاله الربيع والسدي . وقال مجاهد : ابتغاء الشبهات واللبس ليضلوا بها جهالهم .
قوله تعالى : { وابتغاء تأويله } تفسيره وعلمه ، دليله قوله تعالى( سأنبئك بتأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) وقيل : ابتغاء عاقبته ، وطلب أجل هذه الأمة من حساب الجمل دليله قوله تعالى ( ذلك خير وأحسن تأويلا ) أي عاقبة .
قوله تعالى : { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } . اختلف العلماء في نظم هذه الآية فقال قوم : الواو في قوله ( والراسخون ) واو العطف يعني أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم .
قوله تعالى : { يقولون آمنا به } وهذا قول مجاهد ، والربيع ، وعلى هذا يكون قوله : يقولون حالا معناه والراسخون في العلم مع علمهم قائلين : آمنا به هذا كقوله تعالى ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى ) ثم قال ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ) إلى أن قال ( والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم ) ثم قال ( والذين جاؤوا من بعدهم ) وهذا عطف على ما سبق ، ثم قال ( يقولون ربنا اغفر لنا ) يعني هم مع استحقاقهم للفيء يقولون : ربنا اغفر لنا ، أي قائلين على الحال . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول في هذه الآية أنا من الراسخين في العلم ، وقال مجاهد : أنا ممن يعلم تأويله . وذهب الأكثرون إلى أن الواو في قوله { والراسخون } واو الاستئناف ، وتم الكلام عند قوله { وما يعلم تأويله إلا الله } وهو قول أبي بن كعب وعائشة وعروة بن الزبير رضي الله عنهم ، وراوية طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وبه قال الحسن وأكثر التابعين ، واختاره الكسائي والفراء والأخفش ، وقالوا : لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ، ويجوز أن يكون في القرآن تأويل استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحداً من خلقه ، كما استأثر بعلم الساعة ووقت طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدجال ، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام ونحوها ، والخلق متعبدون في المتشابه بالإيمان به ، وفي المحكم بالإيمان به والعمل ، ومما يصدق ذلك قراءة عبد الله إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا ، وفي حرف أبي ، ويقول الراسخون في العم آمنا به . وقال عمر بن عبد العزيز في هذه الآية انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا آمنا به كل من عند ربنا وهذا القول قيس في العربية وأشبه بظاهر الآية قوله تعالى ( والراسخون في العلم ) أي الداخلون في العلم هم الذين أتقنوا علمهم بحيث لا يدخل في معرفتهم شك ، وأصله من رسوخ الشيء في الشيء وهو ثبوته ، يقال رسخ الإيمان في قلب فلان ، يرسخ رسخاً ورسوخاً ، وقيل الراسخون في العلم مؤمنو أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه دليله قوله تعالى ( لكن الراسخون في العلم منهم ) يعني المدارسين علم التوراة والإنجيل ، وسئل مالك ابن أنس رضي الله عنه عن الراسخين في العلم قال : العالم العامل بما علم ، المتبع لما علم ، وقيل : الراسخ في العلم من وجد في علمه أربعة أشياء : التقوى بينه وبين الله ، والتواضع بينه وبين الخلق ، والزهد بينه وبين الدنيا ، والمجاهدة بينه وبين نفسه ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والسدي : بقولهم ( آمنا به ) سماهم الله تعالى راسخين في العلم ، فرسوخهم في العلم قولهم آمنا به أي بالمتشابه .
قوله تعالى{ كل من عند ربنا } . المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ وما علمنا وما لم نعلم .
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ }
القرآن العظيم كله محكم كما قال تعالى { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } فهو مشتمل على غاية الإتقان والإحكام والعدل والإحسان { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } وكله متشابه في الحسن والبلاغة وتصديق بعضه لبعضه ومطابقته لفظا ومعنى ، وأما الإحكام والتشابه المذكور في هذه الآية فإن القرآن كما ذكره الله { منه آيات محكمات } أي : واضحات الدلالة ، ليس فيها شبهة ولا إشكال { هن أم الكتاب } أي : أصله الذي يرجع إليه كل متشابه ، وهي معظمه وأكثره ، { و } منه آيات { أخر متشابهات } أي : يلتبس معناها على كثير من الأذهان : لكون دلالتها مجملة ، أو يتبادر إلى بعض الأفهام غير المراد منها ، فالحاصل أن منها آيات بينة واضحة لكل أحد ، وهي الأكثر التي يرجع إليها ، ومنه آيات تشكل على بعض الناس ، فالواجب في هذا أن يرد المتشابه إلى المحكم والخفي إلى الجلي ، فبهذه الطريق يصدق بعضه بعضا ولا يحصل فيه مناقضة ولا معارضة ، ولكن الناس انقسموا إلى فرقتين { فأما الذين في قلوبهم زيغ } أي : ميل عن الاستقامة بأن فسدت مقاصدهم ، وصار قصدهم الغي والضلال وانحرفت قلوبهم عن طريق الهدى والرشاد { فيتبعون ما تشابه منه } أي : يتركون المحكم الواضح ويذهبون إلى المتشابه ، ويعكسون الأمر فيحملون المحكم على المتشابه { ابتغاء الفتنة } لمن يدعونهم لقولهم ، فإن المتشابه تحصل به الفتنة بسبب الاشتباه الواقع فيه ، وإلا فالمحكم الصريح ليس محلا للفتنة ، لوضوح الحق فيه لمن قصده اتباعه ، وقوله { وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله } للمفسرين في الوقوف على { الله } من قوله { وما يعلم تأويله إلا الله } قولان ، جمهورهم يقفون عندها ، وبعضهم يعطف عليها { والراسخون في العلم } وذلك كله محتمل ، فإن التأويل إن أريد به علم حقيقة الشيء وكنهه كان الصواب الوقوف على { إلا الله } لأن المتشابه الذي استأثر الله بعلم كنهه وحقيقته ، نحو حقائق صفات الله وكيفيتها ، وحقائق أوصاف ما يكون في اليوم الآخر ونحو ذلك ، فهذه لا يعلمها إلا الله ، ولا يجوز التعرض للوقوف عليها ، لأنه تعرض لما لا يمكن معرفته ، كما سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله { الرحمن على العرش [ استوى ] }{[152]} فقال السائل : كيف استوى ؟ فقال مالك : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، فهكذا يقال في سائر الصفات لمن سأل عن كيفيتها أن يقال كما قال الإمام مالك ، تلك الصفة معلومة ، وكيفيتها مجهولة ، والإيمان بها واجب ، والسؤال عنها بدعة ، وقد أخبرنا الله بها ولم يخبرنا بكيفيتها ، فيجب علينا الوقوف على ما حد لنا ، فأهل الزيغ يتبعون هذه الأمور المشتبهات تعرضا لما لا يعني ، وتكلفا لما لا سبيل لهم إلى علمه ، لأنه لا يعلمها إلا الله ، وأما الراسخون في العلم فيؤمنون بها ويكلون المعنى إلى الله فيسلمون ويسلمون ، وإن أريد بالتأويل التفسير والكشف والإيضاح ، كان الصواب عطف { الراسخون } على { الله } فيكون الله قد أخبر أن تفسير المتشابه ورده إلى المحكم وإزالة ما فيه من الشبهة لا يعلمها إلا هو تعالى والراسخون في العلم يعلمون أيضا ، فيؤمنون بها ويردونها للمحكم ويقولون { كل } من المحكم والمتشابه { من عند ربنا } وما كان من عنده فليس فيه تعارض ولا تناقض بل هو متفق يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض{[153]} وفيه تنبيه على الأصل الكبير ، وهو أنهم إذا علموا أن جميعه من عند الله ، وأشكل عليهم مجمل المتشابه ، علموا يقينا أنه مردود إلى المحكم ، وإن لم يفهموا وجه ذلك . ولما رغب تعالى في التسليم والإيمان بأحكامه وزجر عن اتباع المتشابه قال { وما يذكر } أي : يتعظ بمواعظ الله ويقبل نصحه وتعليمه إلا { أولوا الألباب } أي : أهل العقول الرزينة لب العالم وخلاصة بني آدم يصل التذكير إلى عقولهم ، فيتذكرون ما ينفعهم فيفعلونه ، وما يضرهم فيتركونه ، وأما من عداهم فهم القشور الذي لا حاصل له ولا نتيجة تحته ، لا ينفعهم الزجر والتذكير لخلوهم من العقول النافعة .
بعدئذ يكشف الذين في قلوبهم زيغ ، الذين يتركون الحقائق القاطعة في آيات القرآن المحكمة ، ويتبعون النصوص التي تحتمل التأويل ، ليصوغوا حولها الشبهات ؛ ويصور سمات المؤمنين حقا وإيمانهم الخالص وتسليمهم لله في كل ما يأتيهم من عنده بلا جدال :
( هو الذي أنزل عليك الكتاب . منه آيات محكمات هن أم الكتاب ، وأخر متشابهات . فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله . وما يعلم تأويله إلا الله . والراسخون في العلم يقولون : آمنا به . كل من عند ربنا - وما يذكر إلا أولوا الألباب - ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمة . إنك أنت الوهاب . ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه . إن الله لا يخلف الميعاد ) .
وقد روى أن نصارى نجران قالوا للرسول [ ص ] ألست تقول عن المسيح : إنه كلمة الله وروحه ؟ يريدون أن يتخذوا من هذا التعبير أداة لتثبيت معتقداتهم عن عيسى - عليه السلام - وأنه ليس من البشر ، إنما هو روح الله - على ما يفهمون هم من هذا التعبير - بينما هم يتركون الآيات القاطعة المحكمة التي تقرر وحدانية الله المطلقة ، وتنفي عنه الشريك والولد في كل صورة من الصور . . فنزلت فيهم هذه الآية ، تكشف محاولتهم هذه في استغلال النصوص المجازية المصورة ، وترك النصوص التجريدية القاطعة .
على أن نص الآية اعم من هذه المناسبة ؛ فهي تصور موقف الناس على اختلافهم من هذا الكتاب الذي أنزله الله على نبيه [ ص ] متضمنا حقائق التصور الإيماني ، ومنهاج الحياة الإسلامية ؛ ومتضمنا كذلك أمورا غيبية لا سبيل للعقل البشري أن يدركها بوسائله الخاصة ، ولا مجال له لأن يدرك منها أكثر مما تعطيه النصوص بذاتها .
فأما الأصول الدقيقة للعقيدة والشريعة فهي مفهومة المدلولات قاطعة الدلالة ، مدركة المقاصد - وهي أصل هذا الكتاب - وأما السمعيات والغيبيات - ومنها نشأة عيسى عليه السلام ومولده - فقد جاءت للوقوف عند مدلولاتها القريبة والتصديق بها لأنها صادرة من هذا المصدر " الحق " ويصعب إدراك ماهياتها وكيفياتها ، لأنها بطبيعتها فوق وسائل الإدراك الإنساني المحدود .
وهنا يختلف الناس - حسب استقامة فطرتهم أو زيغها - في استقبال هذه الآيات وتلك . فأما الذين في قلوبهم زيغ وانحراف وضلال عن سواء الفطرة ، فيتركون الأصول الواضحة الدقيقة التي تقوم عليها العقيدة والشريعة والمنهاج العملي للحياة ، ويجرون وراء المتشابه الذي يعول في تصديقه على الإيمان بصدق مصدره ، والتسليم بأنه هو الذي يعلم " الحق " كله ، بينما الإدراك البشري نسبي محدود المجال . كما يعول فيه على استقامة الفطرة التي تدرك بالإلهام المباشر صدق هذا الكتاب كله ، وأنه نزل بالحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . . يجرون وراء المتشابه لأنهم يجدون فيه مجالا لإيقاع الفتنة بالتأويلات المزلزلة للعقيدة ، والاختلافات التي تنشأ عن بلبلة الفكر ، نتيجة إقحامه فيما لا مجال للفكر في تأويله . . ( وما يعلم تأويله إلا الله ) . .
وأما الراسخون في العلم ، الذين بلغ من علمهم أن يعرفوا مجال العقل وطبيعة التفكير البشري ، وحدود المجال الذي يملك العمل فيه بوسائله الممنوحة له . . أما هؤلاء فيقولون في طمأنينة وثقة :
( آمنا به ، كل من عند ربنا ) . .
يدفعهم إلى هذه الطمأنينة ، أنه من عند ربهم . فهو إذن حق وصدق . وما يقرره الله صادق بذاته . وليس من وظيفة العقل البشري ولا في طوقه أن يبحث عن أسبابه وعلله ، كما أنه ليس في طوقه أن يدرك ماهيته وطبيعة العلل الكامنة وراءه .
والراسخون في العلم يطمئنون ابتداء إلى صدق ما يأتيهم من عند الله . يطمئنون إليه بفطرتهم الصادقة الواصلة . . ثم لا يجدون من عقولهم شكا فيه كذلك ؛ لأنهم يدركون أن من العلم ألا يخوض العقل فيما لا مجال فيه للعلم ، وفيما لا تؤهله وسائله وأدواته الإنسانية لعلمه . .
وهذا تصوير صحيح للراسخين في العلم . . فما يتبجح وينكر إلا السطحيون الذين تخدعهم قشور العلم ، فيتوهمون أنهم أدركوا كل شيء ، وأن ما لم يدركوه لا وجود له ؛ أو يفرضون إدراكهم على الحقائق ، فلا يسمحون لها بالوجود إلا على الصورة التي أدركوها . ومن ثم يقابلون كلام الله المطلق بمقررات عقلية لهم ! صاغتها عقولهم المحدودة ! أما العلماء حقا فهم أكثر تواضعا ، وأقرب إلى التسليم بعجز العقل البشري عن إدراك حقائق كثيرة تكبر طاقته وترتفع عليها . كما أنهم أصدق فطرة فما تلبث فطرتهم الصادقة أن تتصل بالحق وتطمئن إليه .
( وما يذكر إلا أولوا الألباب ) . .
وكأنه ليس بين أولي الألباب وإدراك الحق إلا أن يتذكروا . . فإذا الحق المستقر في فطرتهم الموصولة بالله ، ينبض ويبرز ويتقرر في الألباب .
{ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات } أحكمت عبارتها بأن حفظت من الإجمال والاحتمال . { هن أم الكتاب } أصله يرد إليها غيرها والقياس أمهات فأفرد على تأويل كل واحدة ، أو على أن الكل بمنزلة آية واحدة . { وأخر متشابهات } محتملات لا يتضح مقصودها -لإجمال أو مخالفة ظاهر- إلا بالفحص والنظر ليظهر فيها فضل العلماء ، ويزداد حرصهم على أن يجتهدوا في تدبرها وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها ، فينالوا بها -وبإتعاب القرائح في استخراج معانيها ، والتوفيق بينها وبين المحكمات -معالي الدرجات . وأما قوله تعالىك { الر كتاب أحكمت آياته } فمعناه أنها حفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ ، وقوله : { كتابا متشابها } فمعناه أنه يشبه بعضه بعضا في صحة المعنى وجزالة اللفظ ، و{ أخر } جمع أخرى وإنما لم ينصرف لأنه وصف معدول عن الآخر ولا يلزم منه معرفته ، لأن معناه أن القياس أن يعرف ولم يعرف لا أنه في معنى المعرف أو عن { أخر } من { فأما الذين في قلوبهم زيغ } عدول عن الحق كالمبتدعة . { فيتبعون ما تشابه منه } فيتعلقون بظاهره أو بتأويل باطل { ابتغاء الفتنة } طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه . { وابتغاء تأويله } وطلب أن يؤولوه على ما يشتهونه ، ويحتمل أن يكون الداعي إلى الاتباع مجموع الطلبتين ، أو كل واحدة منهما على التعاقب . والأول يناسب المعاند والثاني يلائم الجاهل . { وما يعلم تأويله } الذي يجب أن يحمل عليه . { إلا الله والراسخون في العلم } أي الذين ثبتوا وتمكنوا فيه ، ومن وقف على { إلا الله } فسر المتشابه بما استأثر الله بعلمه : كمدة بقاء الدنيا ، ووقت قيام الساعة ، وخواص الأعداد كعدد الزبانية ، أو بمبادل القاطع على أن ظاهره غير مراد ولم يدل على ما هو المراد . { يقولون آمنا به } استئناف موضح لحال { الراسخين } ، أو حال منهم أو خبر أن جعلته مبتدأ . { كل من عند ربنا } أي كل من المتشابه والمحكم من عنده ، { وما يذكر إلا أولوا الألباب } مدح للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر ، وإشارة إلى ما استعدوا به للاهتداء إلى تأويله ، وهو تجرد العقل عن غواشي الحس ، واتصال الآية بما قبلها من حيث إنها تصوير الروح بالعلم وتربيته ، وما قبلها في تصوير الجسد وتسويته ، أو أنها جواب عن تشبث النصارى بنحو قوله تعالى : { وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } . كما أنه جواب عن قوله لا أب له غير الله ، فتعين أن يكون هو أباه تعالى مصور الأجنة كيف يشاء فيصور من نطفة أب ومن غيرها ، وبأنه صوره في الرحم والمصور لا يكون أب المصور .
و { الكتاب } في هذه الآية القرآن بإجماع من المتأولين ، والمحكمات ، المفصلات المبينات الثابتات الأحكام ، والمتشابهات هي التي فيها نظر وتحتاج إلى تأويل ويظهر فيها ببادي النظر إما تعارض مع أخرى أو مع العقل ، إلى غير من أنواع التشابه ، فهذا الشبه الذي من أجله توصف ب { متشابهات } ، إنما هو بينها وبين المعاني الفاسدة التي يظنها أهل الزيغ ومن لم يمعن{[2937]} النظر ، وهذا نحو الحديث الصحيح ، عن النبي عليه السلام ، الحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور متشابهات{[2938]} أي يكون الشيء حراماً في نفسه فيشبه عند من لم يمعن النظر شيئاً حلالاً وكذلك الآية يكون لها في نفسها معنى صحيح فتشبه عند من لم يمعن النظر أو عند الزائغ معنى آخر فاسداً فربما أراد الاعتراض به على كتاب الله ، هذا عندي معنى الإحكام والتشابه في هذه الآية ، ألا ترى أن نصارى نجران قالوا للنبي عليه السلام ، أليس في كتابك أن عيسى كلمة وروح منه ؟ قال نعم{[2939]} ، قالوا : فحسبنا إذاً {[2940]} فهذا التشابه . *** .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : فهذا التشابه ، واختلفت عبارة المفسرين في تعيين المحكم والمتشابه المراد بهذه الآية ، فقال ابن عباس المحكمات هي قوله تعالى : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم }{[2941]} إلى ثلاثة آيات ، وقوله في بني إسرائيل { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه }{[2942]} وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات ، وقال ابن عباس أيضاً : المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وما يؤمن به ويعمل{[2943]} ، والمتشابه منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به ، وقال ابن مسعود وغيره : المحكمات الناسخات ، والمتشابهات المنسوخات .
قال الفقيه الإمام : وهذا عندي على جهة التمثيل أي يوجد الإحكام في هذا والتشابه في هذا ، لا أنه وقف على هذا النوع من الآيات ، وقال بهذا القول قتادة والربيع والضحاك ، وقال مجاهد وعكرمة : المحكمات ما فيه الحلال والحرام ، وما سوى ذلك فهو متشابه يصدق بعضه بعضاً ، وذلك مثل قوله : { وما يضل به إلا الفاسقين }{[2944]} وقوله : { كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون }{[2945]} .
قال الفقيه أبو محمد : وهذه الأقوال وما ضارعها يضعفها أن أهل الزيغ لا تعلق لهم بنوع مما ذكر دون سواه ، وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المحكمات هي التي فيهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه ، والمتشابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية ، وقال ابن زيد{[2946]} : المحكم ما أحكم فيه قصص الأنبياء والأمم وبين لمحمد وأمته ، والمتشابه هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور بعضها باتفاق الألفاظ{[2947]} واختلاف المعاني ، وبعضه بعكس ذلك نحو قوله : { حية تسعى }{[2948]} و { ثعبان مبين }{[2949]} ونحو : اسلك يدك{[2950]} ، وأدخل يدك{[2951]} ، وقالت جماعة من العلماء منهم جابر بن عبد الله بن رئاب{[2952]} وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثوري ، وغيرهما : المحكمات من آي القرآن ما عرف العلماء تأويله وفهموا معناه وتفسيره والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه قال بعضهم : وذلك مثل وقت قيام الساعة وخروج يأجوج ومأجوج والدجال ونزول عيسى ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور .
قال القاضي رحمه الله : أما الغيوب التي تأتي فهي من المحكمات ، لأن ما يعلم{[2953]} البشر منها محدود وما لا يعلمونه وهو تحديد الوقت محدود أيضاً ، وأما أوائل السور فمن المتشابه لأنها معرضة للتأويل{[2954]} ولذلك اتبعته اليهود وأرادوا أن يفهموا منه مدة أمة محمد عليه السلام ، وفي بعض هذه العبارات التي ذكرنا للعلماء اعتراضات ، وذلك أن التشابه الذي في هذه الآية مقيد بأنه مما لأهل الزيغ به تعلق ، وفي بعض عبارات المفسرين تشابه لا يقتضي لأهل الزيغ تعلقاً .
وقوله تعالى : { أم الكتاب } فمعناه الإعلام بأنها معظم الكتاب وعمدة ما فيه إذ المحكم في آيات الله كثير قد فصل ولم يفرط في شيء منه{[2955]} .
قال يحيى بن يعمر{[2956]} : هذا كما يقال لمكة -أم القرى- ولمرو ام خراسان ، وكما يقال أم الرأس لمجتمع الشؤون إذ هو أخطر مكان ، قال المهدوي والنقاش : كل آية محكمة في كتاب الله يقال لها { أم الكتاب } ، وهذا مردود بل جميع المحكم هو { أم الكتاب } ، وقال النقاش : وذلك كما تقول : كلكم عليَّ أسد ضار .
قال الفقيه أبو محمد : وهذا المثال غير محكم ، وقال ابن زيد : { أم الكتاب } معناه جماع الكتاب ، وحكى الطبري عن أبي فاختة{[2957]} أنه قال : { هن أم الكتاب } يراد به فواتح السور إذ منها يستخرج القرآن { الم ذلك الكتاب } منه استخرجت سورة البقرة { الم الله لا إله إلا هو } منه استخرجت سورة آل عمران ، وهذا قول متداع للسقوط مضطرب لم ينظر قائله أول الآية وآخرها ومقصدها وإنما معنى الآية الإنحاء على أهل الزيغ والإشارة بذلك أولاً إلى نصارى نجران وإلى اليهود الذين كانوا معاصرين{[2958]} لمحمد عليه السلام فإنهم كانوا يعترضون معاني القرآن ، ثم تعم بعد ذلك كل زائغ ، فذكر الله تعالى أنه نزل الكتاب على محمد إفضالاً منه ونعمة ، وأن محكمه وبينه الذي لا اعتراض فيه هو معظمه والغالب عليه ، وأن متشابهه الذي يحتمل التأويل ويحتاج إلى التفهم هو أقله . ثم إن أهل الزيغ يتركون المحكم الذي فيه غنيتهم ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة وأن يفسدوا ذات البين{[2959]} ويردوا الناس إلى زيغهم ، فهكذا تتوجه المذمة عليهم ، و { أخر } جمع أخرى لا ينصرف لأنه صفة ، وعدل عن الألف واللام في أنه يثنى ويجمع ، وصفات التفضيل كلها إذا عريت عن الألف واللام لم تثن ولم تجمع كأفضل وما جرى مجراه ، ولا يفاضل بهذه الصفات بين شيئين إلا وهي منكرة ، ومتى دخلت عليه الألف واللام زال معنى التفضيل بين أمرين ، وليس عدل { أخر } عن الألف واللام مؤثراً في التعريف كما هو عدل - سحر- بل أخر نكرة ، وأما سحر فعدل لأنه{[2960]} زالت الألف واللام وبقي معرفة في قوله ، جئت يوم الجمعة سحر ، وخلط المهدوي في هذه المسألة وأفسد كلام سيبويه{[2961]} فتأمله .
{ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }
قوله تعالى : { الذين في قلوبهم زيغ } بعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل صاحب بدعة ، والزيغ الميل ، ومنه زاغت الشمس ، وزاغت الأبصار ، والإشارة بالآية في ذلك الوقت كانت إلى نصارى نجران لتعرضهم للقرآن في أمر عيسى عليه السلام ، قاله الربيع ، وإلى اليهود ، ثم تنسحب على كل ذي بدعة أو كفر ، وبالميل عن الهدى فسر الزيغ محمد بن جعفر بن الزبير وابن مسعود وجماعة من الصحابة ومجاهد وغيرهم ، و { ما تشابه منه } هو الموصوف آنفاً - بمتشابهات - وقال قتادة في تفسير قوله تعالى { وأما الذين في قلوبهم زيغ } : إن لم يكونوا الحرورية وأنواع الخوارج ، فلا أدري من هم ؟ وقالت عائشة : إذا رأيتم الذين يجادلون في القرآن فهم الذي عنى الله فاحذروهم{[2962]} ، وقال الطبري : الأشبه أن تكون الآية في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدته ومدة أمته بسبب حروف أوائل السور ، وهؤلاء هم اليهود ، و { ابتغاء } نصب على المفعول من أجله ، ومعناه طلب الفتنة{[2963]} ، وقال الربيع ، { الفتنة } هنا الشرك ، وقال مجاهد : { الفتنة } الشبهات واللبس على المؤمنين ، ثم قال : { وابتغاء تأويله } والتأويل هو مرد الكلام ومرجعه والشيء الذي يقف عليه من المعاني ، وهو من آل يؤول ، إذا رجع ، فالمعنى وطلب تأويله على منازعهم الفاسدة .
هذا فيما له تأويل حسن وإن كان مما لا يتأول بل يوقف فيه كالكلام في معنى الروح ونحوه ، فنفس طلب تأويله هو اتباع ما تشابه . وقال ابن عباس : ابتغوا معرفة مدة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، ثم قال : { وما يعلم تأويله إلا الله } فهذا على الكمال والتوفية فيما لا يتأول ولا سبيل لأحد عليه{[2964]} كأمر الروح وتعرف وقت قيام الساعة وسائر الأحداث التي أنذر بها الشرع ، وفيما يمكن أن يتأوله العلماء ويصح التطرق إليه ، فمعنى الآية : وما يعلم تأويله على الكمال إلا الله .
واختلف العلماء في قوله تعالى : { والراسخون في العلم } فرأت{[2965]} فرقة ، أن رفع { والراسخون } هو بالعطف على اسم الله عز وجل وأنهم داخلون في علم المتشابه في كتاب الله وأنهم مع علمهم به ، { يقولون آمنا به } الآية . قال بهذا القول ابن عباس ، وقال : أنا ممن يعلم تأويله ، وقال مجاهد : والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به ، وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير وغيرهم ، و { يقولون } على هذا التأويل نصب على الحال ، وقالت طائفة أخرى : { والراسخون } رفع بالابتداء وهو مقطوع من الكلام الأول وخبره { يقولون } ، والمنفرد بعلم المتشابه هو الله وحده بحسب اللفظ في الآية وفعل الراسخين قولهم { آمنا به } قالته عائشة وابن عباس أيضاً ، وقال عروة بن الزبير : إن الراسخين لا يعلمون تأويله ولكنهم يقولون ، { آمنا به } ، وقال أبو نهيك الأسدي{[2966]} : إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم { آمنا به كل من عند ربنا } وقال مثل هذا عمر بن عبد العزيز ، وحكى نحوه الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس .
قال القاضي رحمه الله : وهذه المسألة إذا تؤملت قرب الخلاف فيها من الاتفاق ، وذلك أن الله تعالى قسم آي الكتاب قسمين : - محكماً ومتشابهاً - فالمحكم هو المتضح المعنى لكل من يفهم كلام العرب لا يحتاج فيه إلى نظر ولا يتعلق به شيء يلبس ويستوي في علمه الراسخ وغيره والمتشابه يتنوع ، فمنه ما لا يعلم البتة ، كأمر الروح ، وآماد المغيبات التي قد أعلم الله بوقوعها إلى سائر ذلك ، ومنه ما يحمل وجوه في اللغة ومناح في كلام العرب ، فيتأول تأويله المستقيم ، ويزال ما فيه مما عسى أن يتعلق به من تأويل غير مستقيم كقوله في عيسى { وروح منه }{[2967]} إلى غير ذلك ، ولا يسمى أحد راسخاً إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيراً بحسب ما قدر له ، وإلا فمن لا يعلم سوى المحكم فليس يسمى راسخاً ، وقوله تعالى : { وما يعلم تأويله } الضمير عائد على جميع{[2968]} متشابه القرآن ، وهو نوعان كما ذكرنا ، فقوله { إلا الله } مقتض ببديهة العقل أنه يعلمه على الكمال والاستيفاء ، يعلم نوعيه جميعاً ، فإن جعلنا قوله : { والراسخون } عطفاً على اسم الله تعالى ، فالمعنى إدخالهم في علم التأويل لا على الكمال ، بل علمهم إنما هو في النوع الثاني من المتشابه ، وبديهة العقل تقضي بهذا ، والكلام مستقيم على فصاحة العرب كما تقول : ما قام لنصرتي إلا فلان وفلان ، وأحدهما قد نصرك بأن حارب معك ، والآخر إنما أعانك بكلام فقط ، إلى كثير من المثل ، فالمعنى { وما يعلم } تأويل المتشابه إلا الله { والراسخون } كل بقدره ، وما يصلح له ، { والراسخون } بحال قول في جميعه { آمنا به } ، وإذا تحصل لهم في الذي لا يعلم ولا يتصور عليه تمييزه من غيره فذلك قدر من العلم بتأويله ، وإن جعلنا قوله : { والراسخون } ، رفعاً بالابتداء مقطوعاً مما قبله ، فتسميتهم راسخين يقتضي بأنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أي شيء هو رسوخهم ، إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع ، وما الرسوخ إلا المعرفة بتصاريف الكلام وموارد الأحكام ، ومواقع المواعظ ، وذلك كله بقريحة معدة ، فالمعنى { وما يعلم تأويله } على الاستيفاء إلى الله ، والقوم الذي يعلمون منه ما يمكن أن يعلم يقولون في جميعه { آمنا به كل من عند ربنا } وهذا القدر هو الذي تعاطى{[2969]} ابن عباس رضي الله عنه ، وهو ترجمان القرآن ، ولا يتأول عليه أنه علم وقت الساعة وأمر الروح وما شاكله . فإعراب { الراسخون } يحتمل الوجهين ، ولذلك قال ابن عباس بهما ، والمعنى فيهما يتقارب بهذا النظر الذي سطرناه ، فأما من يقول : إن المتشابه إنما هو ما لا سبيل لأحد إلى علمه فيستقيم على قوله إخراج الراسخين من علم تأويله ، لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح ، بل الصحيح في ذلك قول من قال : المحكم ما لا يحتمل إلا تأويلاً واحداً والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهاً ، وهذا هو متبع أهل الزيغ ، وعلى ذلك يترتب النظر الذي ذكرته ، ومن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه فإنما أرادوا{[2970]} هذا النوع وخافوا أن يظن أحد أن الله وصف الراسخين بعلم التأويل على الكمال ، وكذلك ذهب الزجاج إلى أن الإشارة بما تشابه منه إنما هي إلى وقت البعث الذي أنكره{[2971]} ، وفسر باقي الآية على ذلك ، فهذا أيضاً تخصيص لا دليل عليه ، وأما من يقول ، إن المتشابه هو المنسوخ فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح ، ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون التأويل وأطنب في ذلك ، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس : «إلا الله ويقول : الراسخون في العلم آمنا به » ، وقرأ ابن مسعود «وابتغاء تأويله » ، إن تأويله إلا عند الله ، - { والراسخون في العلم } يقولون { آمنا به } - والرسوخ الثبوت في الشيء ، وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل أو الشجر في الأرض وسئل النبي عليه السلام عن «الراسخين في العلم » ، فقال : هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه{[2972]} .
وقوله : { كل من عند ربنا } فيه ضمير عائد على كتاب الله ، محكمه ومتشابهه ، والتقدير ، كله من عند ربنا ، وحذف الضمير لدلالة لفظ كل عليه ، إذ هي لفظة تقتضي الإضافة . ثم قال تعالى : { وما يذكر إلا أولو الألباب } أي ما يقول هذا ويؤمن به ويقف حيث وقف ويدع اتباع المتشابه إلاذو لب ، وهو العقل ، و { أولو } : جمع ذو .
{ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه ءايات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات }
استئناف ثالث بإخبار عن شأن من شؤون الله تعالى ، متعلّق بالغرض المسوق له الكلام : وهو تحقيق إنزاله القرآنَ والكتابينِ من قبله ، فهذا الاستئناف مؤكّد لمضمون قوله : { نزل عليك الكتاب بالحق } [ آل عمران : 3 ] هُوَ الذى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيات محكمات هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ متشابهات } وتمهيد لقوله : { منه آيات محكمات } لأنّ الآيات نزلت في مجادلة وفد نجران ، وصُدّرت بإبطال عقيدتهم في إلاهية المسيح : والإشارة إلى أوصاف الإله الحقّة ، تَوَجَّه الكلام هنا إلى إزالة شبهتهم في شأن زعمهم اعترافَ نصوص القرآن بإلهية المسيح ؛ إذ وُصف فيها بأنّه روح الله ؛ وأنّه يُحي الموتى وأنّه كلمة الله ، وغير ذلك فنودي عليهم بأن ما تعلّقوا به تعلّق اشتباه وسوء تأويل .
وفي قوله : { هو الذي أنزل الكتاب } قصر صفة إنزال القرآن على الله تعالى : لتكون الجملة ، مع كونها تأكيداً وتمهيداً ، إبطالاً أيضاً لقول المشركين : { إنّما يعلّمه بَشَر } [ النحل : 103 ] وقولهم : { أساطير الأوّلين اكتَتبها فهي تُمْلَى عليه بُكْرَةً وأصيلا } [ الفرقان : 5 ] . وكقوله : { وما تنزلت به الشياطين وما ينبغِي لهم وما يستطيعون إنّهم عن السمع لمعزولون } [ الشعراء : 210 212 ] ذلك أنّهم قالوا : هو قول كاهن ، وقول شاعر ، واعتقدوا أنّ أقوال الكهّان وأقوال الشعراء من إملاء الأرْئِياء ( جمعَ رئي ) .
ومن بدائع البلاغة أن ذكر في القصر فعل أنزل ، الذي هو مختصّ بالله تعالى ولو بدون صيغة القصر ، إذ الإنزال يرادف الوحي ولا يكون إلاّ من الله بخلاف ما لو قال هو الذي آتاك الكتاب .
وضمير { منه } عائد إلى القرآن . و« منه » خبر مقدم و { آيات محكمات } مبتدأ .
والإحكام في الأصل المنع ، قال جرير :
أبني حنيفة أحْكِموا سُفَهَاءَكم *** إنّي أخاف عليكُم أنْ أغضبَا
واستعمل الإحكام في الإتقان والتوثيق ؛ لأنّ ذلك يمنع تطرّق ما يضادّ المقصود ، ولذا سمّيت الحِكْمة حكْمَة ، وهو حقيقة أو مجاز مشهور .
أطلق المحكم في هذه الآية على واضح الدلالة على سبيل الاستعارة لأنّ في وضوح الدلالة ، منعاً لتطرّق الاحتمالات الموجبة للتردّد في المراد .
وأطلق التشابه هنا على خفاء الدلالة على المعنى ، على طريقة الاستعارة لأنّ تطرّق الاحتمال في معاني الكلام يفضي إلى عدم تعيّن أحد الاحتمالات ، وذلك مثل تشابُه الذوات في عدم تمييز بعضها عن بعض .
وقوله : { أم الكتاب } أمّ الشيء أصله وما ينضمّ إليه كثيره وتتفرّع عنه فروعه ، ومنه سمّيت خريطة الرأس ، الجامعة له : أمّ الرأس وهي الدمَاغ ، وسمّيت الراية الأمّ لأنّ الجيْش ينضوي إليها ، وسمّيت المدينة العظيمة أمّ القرى ، وأصل ذلك أنّ الأمّ حقيقة في الوالدة ، وهي أصل للمولود وجامع للأولاد في الحضانة ، فباعتبار هذين المعنيين ، أطلق اسم الأمّ على ما ذكرنا ، على وجه التشبيه البليغ . ثم شاع ذلك الإطلاق حتى ساوى الحقيقة ، وتقدّم ذلك في تسمية الفاتحة أمّ القرآن .
والكتاب : القرآن لا محالة ؛ لأنّه المتحدّث عنه بقوله : { هو الذي أنزل عليك الكتاب } فليس قوله : { أم الكتاب } هنا بمثلِ قوله : { وعنده أم الكتاب } [ الرعد : 39 ] .
وقوله : { وأُخر متشابهات } المتشابهات المتماثلات ، والتماثل يكون في صفات كثيرة فيبين بما يدل على وجه التماثل ، وقد يترك بيانه إذا كان وجه التماثل ظاهراً ، كما في قوله تعالى : { إن البقر تشابه علينا } [ البقرة : 70 ] ولم يذكر في هذه الآية جهة التشابه .
وقد أشارت الآية : إلى أنّ آيات القرآن صنفان : محكمات وأضدادها ، التي سميت متشابهات ، ثم بيّن أنّ المحكمات هي أمّ الكتاب ، فعلمنا أنّ المتشابهات هي أضداد المحكمات ، ثم أعقب ذلك بقوله : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } [ آل عمران : 7 ] أي تأويله الذي لا قبل لأمثالهم به فعلمنا أنّ المتشابهات هي التي لم يتّضح المقصود من معانيها ، فعلمنا أنّ صفة المحكمات ، والمتشابهات ، راجعة إلى ألفاظ الآيات .
ووصف المحكمات بأنّها أمُّ الكتاب فاحتمل أن يكون المراد من الأمّ الأصل ، أو المرجع ، وهما متقاربان : أي هنّ أصل القرآن أو مرجعه ، وليس يناسب هذين المعنيين إلاّ دلالةُ القرآن ؛ إذ القرآن أنزل للإرشاد والهدي ، فالمحكمات هي أصول الاعتقاد والتشريع والآداب والمواعظ ، وكانت أصولاً لذلك : باتّضاح دلالتها ، بحيث تدل على معانٍ لا تحتمل غيرها أو تحتمله احتمالاً ضعيفاً غير معتدَ به ، وذلك كقوله : { ليس كمثله شي } [ الشورة : 11 ] { لا يُسأل عمّا يفعل } [ الأنبياء : 23 ] { يريد اللَّه بكم اليسر } [ البقرة : 185 ] { واللَّه لا يحبّ الفساد } [ البقرة : 205 ] { وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى فإنّ الجنة هي المأوى } [ النازعات : 40 ] . وباتّضاح معانيها بحيث تتناولها أفهام معظم المخاطبين بها وتتأهّل لفهمها فهي أصل القرآن المرجوعُ إليه في حمل معاني غيرها عليها للبيان أو التفريع .
والمتشابهات مقابل المحكمات ، فهي التي دلّت على معانٍ تشابهت في أن يكون كلُّ منها هو المرادَ . ومعنى تشابهها : أنّها تشابهت في صحة القصد إليها ، أي لم يكن بعضها أرجح من بعض . أو يكون معناها صادقاً بصور كثيرة متناقضة أو غير مناسبة لأن تكون مراداً ، فلا يتبيّن الغرض منها ، فهذا وجه تفسير الآية فيما أرى .
وقد اختلف علماء الإسلام في تعيين المقصود من المحكمات والمتشابهات على أقوال : مرجعها إلى تعيين مقدار الوضوح والخفاء ، فعن ابن عباس : أنّ المحكم ما لا تختلف فيه الشرائع كتوحيد الله تعالى ، وتحريم الفواحش ، وذلك ما تضمنته الآيات الثلاث من أواخر سورة [ الأنعام : 151 ] : { قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم } والآيات من سورة [ الإسراء : 23 ] : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } وأن المتشابه المجملات التي لم تبيّن كحروف أوائل السور .
وعن ابن مسعود ، وابن عباس أيضاً : أنّ المحكم ما لم ينسخ والمتشابه المنسوخ وهذا بعيد عن أن يكون مراداً هنا لعدم مناسبتِه للوصفين ولا لبقية الآية .
وعن الأصم : المحكم ما اتّضح دليلُه ، والمتشابه ما يحتاج إلى التدبّر ، وذلك كقوله تعالى : { والذي نزّل من السماء ما ء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتاً كذلك تخرجون } [ الزخرف : 11 ] فأولها محكم وآخرها متشابه .
وللجمهور مذهبان : أولهما أنّ المحكم ما اتّضحت دلالته ، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه ، ونسب هذا القول لمالك ، في رواية أشهب ، من جامع العتبيَّة ، ونسبه الخفاجي إلى الحنفية وإليه مال الشاطبي في الموافقات .
وثانيهما أنّ المحكم الواضح الدلالة ، والمتشابه الخفيُها ، وإليه مال الفخر : فالنص والظاهر هنا المحكم ، لاتّضاح دلالتهما ، وإن كان أحدهما أي الظاهر يتطرّقه احتمال ضعيف ، والمجمل والمؤوّل هما المتشابه ، لاشتراكهما في خفاء الدلالة وإن كان أحدهما : أي المؤول دالاً على معنى مرجوح ، يقابله معنى راجح ، والمجمل دالاً على معنى مرجوح يقابله مرجوح آخر ، ونسبت هذه الطريقة إلى الشافعية .
قال الشاطبي : فالتشابه : حقيقي ، وإضافي ، فالحقيقي : ما لا سبيل إلى فهم معناه ، وهو المراد من الآية ، والإضافي : ما اشتبه معناه ، لاحتياجه إلى مراعاة دليل آخر . فإذا تقصّى المجتهد أدلّة الشريعة وجد فيها ما يبيّن معناه ، والتشابه بالمعنى الحقيقي قليل جدّاً في الشريعة وبالمعنى الإضافي كثير .
وقد دل هذه الآية على أنّ من القرآن محكماً ومتشابهاً ، ودلت آيات أخر على أنّ القرآن كلَّه محكم ، قال تعالى : { كتاب أحكمت آياته } [ هود : 1 ] وقال : { تلك آيات الكتاب الحكيم } [ يونس : 1 ] والمراد أنّه أحكم وأتقنَ في بلاغته ، كما دلت آيات على أنّ القرآن كلّه متشابه ، قال تعالى : { اللَّهُ نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً } [ الزمر : 23 ] والمعنى أنّه تشابه في الحسن والبلاغة والحقيّة ، وهو معنَى : « ولو كان من عند غير الله لوَجدوا فيه اختلافاً كثيراً » فلا تعارض بين هذه الآيات : لاختلاف المراد بالإحكام والتشابه في مواضعها ، بحسب ما تقتضيه المقامات .
وسبب وقوع المتشابهات في القرآن : هو كونه دعوة ، وموعظة ، وتعليماً ، وتشريعاً باقياً ، ومعجزة ، وخوطب به قوم لم يسبق لهم عهد بالتعليم والتشريع ، فجاء على أسلوب مناسب لِجمع هذه الأمور ، بحسب حال المخاطبين الذين لم يعتادوا الأساليب التدريسية ، أو الأمالي العلمية ، وإنّما كانت هجّيراهم الخطابة والمقاولة ، فأسلوب المواعظ والدعوةِ قريب من أسلوب الخطابة ، وهو لذلك لا يأتي على أساليب الكتب المؤلَّفة لِلعلم ، أو القوانين الموضوعة للتشريع ، فأودعت العلوم المقصود منه في تضاعيف الموعظة والدعوة ، وكذلك أودع فيه التشريع ، فلا تجد أحكام نوع من المعاملات ، كالبيع ، متّصلاً بعضها ببعض ، بل تلفيه موزّعاً على حسب ما اقتضته مقامات الموعظة والدعوة ، ليخفّ تلقّيه على السامعين ، ويعتادُوا علم ما لم يألفوه في أسلوب قد ألفوه فكانت متفرّقة يضمّ بعضها إلى بعض بالتدبّر . ثم إنّ إلقاء تلك الأحكام كان في زمان طويل ، يزيد على عشرين سنة ، ألقِي إليهم فيها من الأحكام بمقدار ما دعت إليه حاجتهم ، وتحمّلته مقدرتهم ، على أنّ بعض تشريعه أصول لا تتغيّر ، وبعضه فروع تختلف باختلاف أحوالهم ، فلذلك تجد بعضها عاماً ، أو مطلقاً ، أو مجملاً ، وبعضها خاصاً ، أو مقيداً ، أو مبيَّناً ، فإذا كان بعض المجتهدين يرى تخصيص عموم بعض عموماته بخصوص بعض الخصوصات مثلاً ، فلعلّ بعضاً منهم لا يتمسّك إلاّ بعمومه ، حينئذ ، كالذي يرى الخاص الوارد بعد العام ناسخاً ، فيحتاج إلى تعيين التاريخ ، ثم إنّ العلوم التي تعرّض لها القرآن هي من العلوم العليا : وهي علوم فيما بعد الطبيعة ، وعلوم مراتب النفوس ، وعلوم النظام العمراني ، والحكمة ، وعلوم الحقوق .
وفي ضيق اللغة الموضوعة عن الإيفاء بغايات المرادات في هاته العلوم ، وقصور حالة استعداد أفهام عموم المخاطبين لها ، مَا أوجب تشابهاً في مدلولات الآيات الدالة عليها . وإعجازُ القرآن : منه إعجاز نظمي ومنه إعجاز علمي ، وهو فنّ جليل من الإعجاز بيّنته في المقدمة العاشرة من مقدّمات هذا التفسير . فلمّا تعرض القرآن إلى بعض دلائل الأكوان وخصائصها ، فيما تعرّض إليه ، جاء به محكياً بعبارة تصلح لحكاية حالته على ما هو في نفس الأمر ، وربّما كان إدراك كنه حالته في نفس الأمر مجهولاً لأقوام ، فيعدّون تلك الآي الدالة عليه من المتشابه فإذا جاء من بَعْدهم علموا أنّ ما عدّه الذين قبلهم متشابهاً ما هو إلاّ محكم .
على أنّ من مقاصد القرآن أمرين آخرين :
أحدَهما كونه شريعة دائمة ، وذلك يقتضي فتح أبواب عباراته لِمختلِف استنباط المستنبطين ، حتى تؤخذ منه أحكام الأولين والآخرين ، وثانيهما تعويد حَمَلة هذه الشريعة ، وعلماء هذه الأمة ، بالتنقيب ، والبحث ، واستخراج المقاصد من عويصات الأدلة ، حتى تكون طبقات علماء الأمة صالحة في كلّ زمان لفهم تشريع الشارع ومقصده من التشريع ، فيكونوا قادرين على استنباط الأحكام التشريعية ، ولو صيغ لهم التشريع في أسلوب سهل التناول لاعتادوا العكوف على ما بينَ أنظارهم في المطالعة الواحدة . من أجل هذا كانت صلوحية عباراته لاختلاف منازع المجتهدين ، قائمة مقام تلاحق المؤلّفين في تدوين كتب العلوم ، تبعاً لاختلاف مراتب العصور .
فإذا علمت هذا علمت أصل السبب في وجود ما يسمّى بالمتشابه في القرآن . وبقي أن نذكر لك مراتب التشابه وتفاوت أسبابها . وأنّها فيما انتهى إليه استقراؤنا الآن عشر مراتب :
أولاها : معانٍ قُصِد إيداعها في القرآن ، وقُصد إجمالها : إمّا لعدم قابلية البشر لفهمها ، ولو في الجملة ، إن قلنا بوجود المجمل ، الذي استأثر الله بعلمه ، على ما سيأتي ، ونحن لا نختاره . وإمّا لعدم قابليتهم لكنه فهمها ، فألقيت إليهم على وجه الجملة أو لعدم قابلية بعضهم في عصر ، أو جهةٍ ، لفهمها بالكنه ومن هذا أحوال القيامة ، وبعضُ شؤون الربوبية كالإتيان في ظُلل من الغمام ، والرؤية ، والكلامِ ، ونحو ذلك .
وثانيتها : معانٍ قصد إشعار المسلمين بها ، وتَعيّن إجمالها ، مع إمكان حملها على معانٍ معلومةٍ لكن بتأويلات : كحُروف أوائل السور ، ونحوِ { الرحمانُ على العرش استوى } [ طه : 5 ] { ثم استوى إلى السماء }{[205]} [ البقرة : 29 ] .
ثالثتها : معانٍ عاليةً ضاقت عن إيفاء كنهها اللغةُ الموضوعةُ لأقصى ما هو متعارَف أهلها ، فعبّر عن تلك المعاني بأقصى ما يقرِّب معانيَها إلى الأفهام ، وهذا مثل أكثر صفات الله نحو الرحمان ، الرؤوف ، المتكبّر ، نورُ السموات والأرض .
رابعتها : معانٍ قَصُرت عنها الأفهام في بعض أحوال العصور ، وأودعت في القرآن ليكون وجودها معجزة قُرآنيَّة عند أهل العلم في عصور قد يضعف فيها إدراك الإعجاز النظمي ، نحو قوله : { والشمس تجري لمستقر لها } [ يس : 38 ] { وأرسلنا الرياح لواقح } [ الحجر : 22 ] { يكور الليل على النهار } [ الزمر : 5 ] { وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب } [ النمل : 88 ] { تنبت بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] { زيتونة لا شرقية ولا غربية } [ النور : 35 ] { وكان عرشه على الماء } [ هود : 7 ] { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } [ فصلت : 11 ] وذكرِ سُدِّ يأجوج ومأجوج{[206]} .
خامستها : مَجازات وكنايات مستعملة في لغة العرب ، إلاّ أنّ ظاهرها أوهم معاني لا يليق الحمل عليها في جانب الله تعالى : لإشعارها بصفات تخالف كمال الإلهية ، وتوقّف فريق في محملها تنزيهاً ، نحو : { فإنّك بأعيننا } [ الطور : 48 ] { والسماء بنيناها بأيدٍ } [ الذاريات : 47 ] { ويبقى وجه ربّك }{[207]} [ الرحمن : 27 ] .
وسادستها : ألفاظ من لغات العرب لم تُعرف لدى الذين نزل القرآن بينهم : قريش والأنصار مثل : { وفاكهة وأبّا } [ عبس : 31 ] ومثل { أو يأخذهم على تخوف }{[208]} [ النحل : 47 ] { إنّ إبراهيم لأوّاه حليم } [ التوبة : 114 ] { ولا طعامٌ إلاّ مِنْ غِسْلِينٍ }{[209]} [ الحاقة : 36 ] .
سابعتها : مصطلحات شرعية لم يكن للعرب علم بخصوصها ، فما اشتهر منها بين المسلمين معناه ، صار حقيقة عرفية : كالتيمّم ، والزكاة ، وما لم يشتهر بقي فيه إجمال : كالربا قال عمر : « نزلت آيات الربا فِي آخر ما أنزل فتوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبيّنها » وقد تقدم في سورة البقرة .
ثامنتها : أساليب عربية خفيت على أقوام فظنّوا الكلام بها متشابهاً ، وهذا مثل زيادة الكاف في قوله تعالى : { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] ومثل المشاكلة في قوله : { يخادعون اللَّه وهو خادعهم } [ النساء : 142 ] فيعلم السامع أنّ إسناد خادع إلى ضمير الجلالة إسناد بمعنى مجازي اقتضته المشاكلة .
وتاسعتها : آيات جاءت على عادات العرب ، ففهمها المخاطبون ، وجاء مَن بعدهم فلم يفهموها ، فظنّوها من المتشابه ، مثل قوله : { فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أَنْ يَطَّوّفَ بهما } [ البقرة : 158 ] ، في « الموطأ » قال ابن الزبير : « قلت لعائشة وكنت يومئذ حدثاً لم أتفقّه لا أرى بأساً على أحدٍ ألاّ يطوف بالصفا والمروة » فقالت له : « ليس كما قلت إنّما كان الأنصار يهلون لمناةَ الطاغية » إلخ . ومنه : { عَلِم اللَّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم } [ البقرة : 187 ] { ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتّقوا وءامنوا } [ المائدة : 93 ] الآية فإنّ المراد فيما شربوا من الخمر قبل تحريمها .
عاشرتها : أفهام ضعيفة عَدت كثيراً من المتشابه وما هو منه ، وذلك أفهام الباطنية ، وأفهام المشبِّهة ، كقوله تعالى : { يوم يكشف عن ساق } [ القلم : 42 ] .
وليس من المتشابه ما صرّح فيه بأنّا لا نصل إلى علمه كقوله : { قل الروح من أمر ربي } [ الإسراء : 85 ] ولا ما صرّح فيه بجهل وقته كقوله : { لا تأتيكم إلاّ بغتة } [ الأعراف : 187 ] .
وليس من المتشابه ما دلّ على معنى يعارض الحملَ عليه دليل آخر ، منفصل عنه ؛ لأنّ ذلك يرجع إلى قاعدة الجمع بين الدليلين المتعارضين ، أو ترجيح أحدهما على الآخر ، مثل قوله تعالى خطاباً لإبليس : { واستفزز من استطعت منهم بصوتك } الآية في سورة [ الإسراء : 64 ] مع ما في الآيات المقتضية { فإنّ الله غني عنكم ولا يرضَى لعباده الكفر } [ الزمر : 7 ] إنه لا يحبّ الفساد .
وقد علمتم من هذا أنّ مِلاك التشابه هو عدم التواطؤ بين المعاني واللغة : إمّا لضيقها عن المعاني ، وإمّا لضيق الأفهام عن استعمال اللغة في المعنى ، وإمّا لتناسي بعض اللغة ، فيتبيّن لك أنّ الإحكام والتشابه : صفتان للألفاظ ، باعتبار فهم المعاني .
وإنّما أخبر عن ضمير آياتٍ محكمات ، وهو ضمير جمع ، باسم مفرد ليس دالاً على أجزاءٍ وهو { أمّ } ، لأنّ المراد أنّ صنف الآيات المحكمات يتنزّل من الكتابِ منزلة أمّه أي أصله ومرجِعه الذي يُرجّع إليه في فهم الكتاب ومقاصده . والمعنى : هنّ كأمِّ للكتاب . ويعلم منه أنّ كل آية من المحكمات أم للكتاب في ما تتضمّنه من المعنى . وهذا كقول النابغة يَذْكُر بني أسد :
* فَهُمْ دِرْعِي التِي استلأمْتُ فيها *
أي مجموعهم كالدِّرع لي ، ويعلم منه أنّ كلّ أحد من بني أسد بمنزلة حلقة من حلق الدرع . ومن هذا المعنى قوله تعالى : { واجعلنا للمتقين إماما } [ الفرقان : 74 ] .
والكلام على ( أخَر ) تقدّم عند قوله تعالى : { فعدة من أيام أخر } [ البقرة : 184 ] .
{ فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ ابتغآء الفتنة وابتغآء تَأْوِيلِهِ } .
تفصيل لإجمال اقتضاه الكلام السابق ؛ لأنّه لما قسّم الكتاب إلى محكم ومتشابه ، وكان ذلك التقسيم باعتبار دلالة الألفاظ على المعاني ، تشوّفت النفس إلى معرفة تلقّي الناس للمتشابه . أمّا المحكم فتلقّي الناس له على طريقة واحدة ، فلا حاجة إلى تفصيل فيه ، واقتصر في التفصيل على ذكر قسم من أقسامه : وهو حال الذين في قلوبهم زيغ كيف تلقّيهم للمتشابهات ؛ لأنّ بيان هذا هو الأهمّ في الغرض المسوق له الكلام ، وهو كشف شبهة الذين غرّتهم المتشابهات ولم يهتدوا إلى حقّ تأويلها ، ويعرف حال قسيمهم وهم الذين لا زيغ في قلوبهم بطريق المقابلة ثم سيُصرّح بإجمال حال المهتدين في تلقّي ومتَشبهات القرآن .
والقلوب محالُّ الإدراك ، وهي العقول ، وتقدّم ذلك عند قوله تعالى : { ومن يكتمها فإنّه آثم قلبه } في سورة [ البقرة : 283 ] .
والزيغ : الميل والانحراف عن المقصود : { ما زاغ البصر } [ النجم : 17 ] ويقال : زاغت الشمس . فالزيغ أخصّ من الميل ؛ لأنّه ميل عن الصواب والمقصودِ .
والاتّباع هنا مجاز عن الملازمة والمعاودة ، أي يعكفون على الخوض في المتشابه ، يحصونه ، شبهت تلك الملازمة بملازمة التابع متبوعَهُ .
وقد ذكر علة الاتّباع ، وهو طلب الفتنة ، وطَلبُ أن يؤوّلوه ، وليس طلبُ تأويله في ذاته بمذمّة ، بدليل قوله : { وما يعلم تأويله إلاّ اللَّهُ والراسخون في العلم } كما سنبيِّنه وإنّما محلّ الذم أنّهم يطلبون تأويلاً ليسوا أهلاً له فيؤوّلونه بما يُوافق أهواءهم .
وهذا ديدن الملاحِدة وأهلِ الأهواء : الذين يتعمّدون حمل الناس على متابعتهم تكثيراً لسوادهم .
ولما وَصَف أصحَاب هذا المقصد بالزيغ في قلوبهم ، علمنا أنّه ذمهم بذلك لهذا المقصد ، ولا شك أنّ كل اشتغال بالمتشابه إذا كان مفضياً إلى هذا المقصد يناله شيء من هذا الذم . فالذين اتّبعوا المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله المنافقون ، والزنادقة ، والمشركون مثال تأويل المشركين : قصةُ العاصي بن وائل من المشركين إذْ جاءه خباب بن الأرت من المسلمين يتقاضاه أجراً ، فقال العاصي متهكّما به « وإنِّي لمبعوثٌ بعد الموت أي حَسْب اعتقادكم فسوفَ أقضيك إذا رجعتُ إلى مال وولد » فالعاصي توهّم ، أو أراد الإيهام ، أنّ البعث بعد الموت رجوع إلى الدنيا ، أو أراد أن يوهم دهماء المشركين ذلك ليكون أدْعَى إلى تكذيب الخبر بالبعث ، بمشاهدة عدم رجوع أحد من الأموات ، ولذلك كانوا يقولون : { فأتُوا بآبائنا إن كُنتم صادقين } [ الدخان : 36 ] .
ومثال تأويل الزنادقة : ما حكاه محمد بن علي بن رزام الطائي الكوفي قال : كنت بمكة حين كان الجَنَّابي زعيم القرامطة بمكة ، وهم يقتلون الحجاج ، ويقولون : أليس قد قال لكم محمد المكي « ومن دخله كان آمناً فأيُّ أمْن هنا ؟ » قال : فقلت له : هذا خرج في صورة الخبر ، والمراد به الأمرُ أي ومن دخله فأمِّنُوه ، كقوله : { والمطلقات يتربّصن } [ البقرة : 228 ] . والذين شابهوهم في ذلك كلّ قوم يجعلون البحث في المتشابه ديدنهم ، ويفضون بذلك إلى خلافات وتعصّبات . وكلّ من يتأوّل المتشابه على هواه ، بغير دليل على تأويله مستند إلى دليل واستعمال عربي .
وقد فُهم أنّ المراد : التأويل بحسب الهوى ، أو التأويل المُلْقِي في الفتنة ، بقرينة قوله تعالى : { وما يعلم تأويله إلا اللَّه والراسخون في العلم يقولون ءامنّا به } الآية ، كما فهم من قوله : { فيتّبعون } أنّهم يهْتَمُّون بذلك ، ويستهترون به ، وهذا ملاك التفرقة بين حال من يتبع المتشابه للإيقاع في الشك والإلحاد ، وبين حال من يفسّر المتشابه ويؤوّله إذا دعاه داع إلى ذلك . وفي « البخاري » عن سعيد بن جُبير أنّ رجلاً قال لابن عباس : « إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ » قال : ما هو قال : « فلا أنسَابَ بينهم يومئذ ولا يتساءلون » وقال « وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون » وقال : « ولا يكتمون الله حديثاً » وقال : « قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين » قال ابن عباس : « فلا أنساب بينهم في النفخة الأولى ثم النفخة الثانية أقبل بعضهم على بعض يتساءلون ، فأما قوله : { والله ربّنا ما كنّا مشركين } [ الأنعام : 23 ] فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فيقول المشركون : تعالَوا نقلْ : « ما كنا مشركين ، فيختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم فعند ذلك لا يكتمون الله حديثاً » .
وأخرج البخاري ، عن عائشة : قالت « تلا رسول الله هذه الآية إلى قوله : { أولوا الألباب } [ البقرة : 269 ] قالت قال رسول الله : " فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم " . ويقصد من قوله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } التعريض بنصارى نجران ، إذ ألزموا المسلمين بأنّ القرآن يشهد لكون الله ثالث ثلاثة بما يقع في القرآن من ضمير المتكلم ومعه غيره من نحو خلقنا وأمرنا وقضينا ، وزعموا أنّ ذلك الضمير له وعيسى ومريم ولا شك أنّ هذا إن صح عنهم هو تمويه ؛ إذ من المعروف أنّ في ذلك الضمير طريقتين مشهورتين إما إرادة التشريك أو إرادة التعظيم فما أرادوا من استدلالهم هذا إلا التمويه على عامة الناس .
{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } .
جملة حال أي وهم لا قِبل لهم بتأويله ؛ إذ ليس تأويله لأمثالهم ، كما قيل في المثل : « ليس بعشّك فادرجي » .
ومن هنا أمسك السلف عن تأويل المتشابهات ، غير الراجعة إلى التشريع ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : « أيُّ أرضٍ تُقِلّنِي وأيُّ سماء تُظِلُّنِي إن قلتُ في كتاب الله بما لا أعلم » . وجاء في زمن عمر رضي الله عنه رجل إلى المدينة من البصرة ، يقال له صَبِيغ بن شريك أو ابن عِسْل التميمي{[210]} فجعل يسأل الناس عن متشابه القرآن ، وعن أشياء فأحضره عمر ، وضربه ضرباً موجعاً ، وكرّر ذلك أياماً ، فقال : « حسبُك يا أمير المؤمنين فقد ذهب ما كنتُ أجد في رأسي » ثم أرجعه إلى البصرة وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن يمنع الناس من مخالطته . ومن السلف من تأوّل عند عروض الشبهة لبعض الناس ، كما فعل ابن عباس فيما ذكرناه آنفا .
قال ابن العربي في « العواصم من القواصم » « من الكائدين للإسلام الباطنية والظاهرية » . قلت : أمَّا الباطنية فقد جعلوا معظم القرآن متشابهاً ، وتأوّلوه بحسب أهوائهم ، وأمّا الظاهريون فقد أكثروا في متشابهه ، واعتقدوا سبب التشابه واقعاً ، فالأوّلون دخلوا في قوله : { وابتغاء تأويله } ، والأخيرون خرجوا من قوله : { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } أو وما يعلم تأويله إلا الله ، فخالفوا الخلف والسلف . قال ابن العربي « في العواصم » « وأصل الظاهريين الخوارج الذين قالوا : لا حُكْم إلاّ لله » يعني أنّهم أخذوا بظاهر قوله تعالى : { إنِ الحُكْمُ إلا لله } ولم يتأولوه بما هو المراد من الحكم .
والمراد بالراسخين في العلم : الذين تمكّنوا في علم الكتاب ، ومعرفة محامله ، وقام عندهم من الأدلة ما أرشدهم إلى مراد الله تعالى ، بحيث لا تروج عليهم الشبه . والرسوخ في كلام العرب : الثبات والتمكن في المكان ، يقال : رسخت القدم ترسخ رسوخاً إذا ثبتت عند المشي ولم تتزلزل ، واستعير الرسوخ لكمال العقل والعلم بحيث لا تضلّله الشبه ، ولا تتطرّقه الأخطاء غالباً ، وشاعت هذه الاستعارة حتى صارت كالحقيقة .
فالراسخون في العلم : الثابتون فيه العارفون بدقائقه ، فهم يحسنون مواقع التأويل ، ويعلمونه .
ولذا فقوله : { والراسخون } معطوف على اسم الجلالة ، وفي هذا العطف تشريف عظيم : كقوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم } [ آل عمران : 18 ] وإلى هذا التفسير مَال ابن عباس ، ومجاهد ، وَالربيع بن سليمان ، والقاسم بن محمد ، والشافعية ، وابن فورك ، والشيخ أحمد القرطبي ، وابن عطية ، وعلى هذا فليس في القرآن آية استأثر الله بعلمها . ويؤيّد هذا أن الله أثبت للراسخين في العلم فضيلة . ووصفهم بالرسوخ ، فآذن بأنّ لهم مزية في فهم المتشابه : لأنّ المحكم يستوي في علمه جميع من يفهم الكلام ، ففي أيِّ شيء رسوخهم ، وحكى إمام الحرمين ، عن ابن عباس : أنّه قال في هاته الآية : « أنا ممّن يعلم تأويله » .
وقيل : الوقف على قوله : { إلا الله } وإنّ جملة { والراسخون في العلم } مستأنفة ، وهذا مروي عن جمهور السلف ، وهو قول ابن عمر ، وعائشة ، وابن مسعود ، وأبي ، ورواه أشهب عن مالك في جامع العتبية ، وقاله عروة بن الزبير ، والكسائي ، والأخفش والفرّاء ، والحنفية ، وإليه مال فخر الدين .
ويؤيّد الأول وصفهم بالرسوخ في العلم ؛ فإنّه دليل بيّن على أنّ الحُكم الذي أثبت لهذا الفريق ، هو حكم من معنى العلم والفهم في المعضِلات ، وهو تأويل المتشابه ، على أنّ أصل العطف هو عطف المفردات دون عطف الجمل ، فيكون الراسخون معطوفاً على اسم الجلالة فيدخلون في أنّهم يعلمون تأويله . ولو كان الراسخون مبتدأ وجملةُ : « يقولون ءامّنا به » خبراً ، لكان حاصل هذا الخبر ممّا يستوي فيه سائر المسلمين الذين لا زيغ في قلوبهم ، فلا يكون لتخصيص الراسخين فائدة . قال ابن عطية : « تسميتهم راسخين تقتضي أنّهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أيّ شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلاّ ما يعلمه الجميع وما الرسوخ إلاّ المعرفةُ بتصاريف الكلام بقريحة معدة » وما ذكرناه وذكره ابن عطية لا يعد وأن يكون ترجيحاً لأحد التفسيرين ، وليس إبطالاً لمقابله إذ قد يوصف بالرسوخ من يفرق بين ما يستقيم تأويله ، وما لا مطمع في تأويله .
وفي قوله : { وما يذكر إلا أولوا الألباب } إشعار بأنّ الراسخين يعلمون تأويل المتشابه .
واحتجّ أصحاب الرأي الثاني ، وهو رأي الوقف على اسم الجلالة : بأنّ الظاهر أن يكون جملة ( والراسخون ) مستأنفة لتكون معادِلاً لجملة : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } ، والتقدير : وأمّا الراسخون في العلم . وأجاب التفتازاني بأنّ المعادِل لا يلزم أن يكون مذكوراً ، بل قد يحذف لدلالة الكلام عليه . واحتجّوا أيضاً بقوله تعالى : { يقولون آمنا به كل من عند ربنا } قال الفخر : لو كانوا عالمين بتأويله لم يكن لهذا الكلام فائدة ؛ إذ الإيمان بما ظهر معناه أمر غير غريب وسنجيب عن هذا عند الكلام على هذه الجملة .
وذكر الفخر حججاً أخر غير مستقيمة .
ولا يخفى أنّ أهل القول الأول لا يثبتون متشابهاً غير ما خفي المراد منه ، وأنّ خفاء المراد متفاوت ، وأنّ أهل القول الثاني يثبتون متشابهاً استأثر الله بعلمه ، وهو أيضاً متفاوت ؛ لأنّ منه ما يقبل تأويلات قريبَة ، وهو ممّا ينبغي ألاّ يعدّ من المتشابه في اصطلاحهم ، لكنّ صنيعهم في الإمساك عن تأويل آيات كثيرة سَهْللٍ تأويلُها مثل { فإنّك بأعيننا } [ الطور : 48 ] دلّ على أنّهم يسدّون باب التأويل في المتشابه ، قال الشيخ ابن عطية « إنّ تأويل ما يمكن تأويله لا يَعلم تأويلَه على الاستيفاء إلاّ الله تعالى فمَن قالَ ، من العلماء الحذّاق : بأنّ الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه ، فإنّما أراد هذا النوع ، وخافوا أن يظنّ أحد أنّ الله وصف الراسخين بعلم التأويل على الكمال » .
وعلى الاختلاف في محمل العطف في قوله تعالى : { والراسخون في العلم } انبنى اختلاف بين علماء الأمة في تأويل ما كان متشابهاً : من آيات القرآن ، ومن صحاح الأخبار ، عن النبي صلى الله عليه وسلم
فكان رأي فريق منهم الإيمانَ بها ، على إبهامها وإجمالها ، وتفويضَ العلم بكنه المراد منها إلى الله تعالى ، وهذه طريقة سلَف علمائنا ، قبل ظهور شكوك الملحدين أو المتعلِّمين ، وذلك في عصر الصحابة والتابعين وبعض عصر تابعيهم ، ويُعبّر عنها بطريقة السلف ، ويقولون : طريقة السلف أسْلَمُ ، أي أشدُّ سلامة لهم من أن يَتأوّلوا تأويلات لا يدرَى مدى ما تفضِي إليه من أمور لا تليق بجلال الله تعالى ولا تتّسق مع ما شرعه للناس من الشرائع ، مع ما رأوا من اقتناع أهل عصرهم بطريقتهم ، وانصرافهم عن التعمّق في طلب التأويل .
وكان رأي جمهور من جاء بعد عصر السلف تأويلها بمعانٍ من طرائق استعمال الكلام العربي البليغ من مجاز ، واستعارة ، وتمثيل ، مع وجود الدّاعي إلى التأويل ، وهو تعطّش العلماء الذين اعتادوا التفكر والنظر وفهم الجمع بين أدلّة القرآن والسنة ، ويعبّر عن هذه الطريقة بطريقة الخلف ، ويقولون : طريقة الخلف أعم ، أي أنسب بقواعد العلم وأقوى في تحصيل العلم القاطع لِجدال الملحدين ، والمقنع لمن يتطلّبون الحقائق من المتعلّمين ، وقد يصفونها بأنّها أحْكَمُ أي أشدّ إحكاماً ؛ لأنّها تقنع أصحاب الأغراض كلّهم . وقد وقع هذان الوصفان في كلام المفسّرين وعلماءِ الأصول ، ولم أقف على تعيين أوّلِ من صدَرا عنه ، وقد تعرّض الشيخ ابن تيمية في « العقيدة الحموية » إلى ردّ هذين الوصفين ولم ينسبهما إلى قائل . والموصوف بأسْلَم وبأعلَم الطريقةُ لا أهلُها ؛ فإنّ أهل الطريقتين من أئمة العلم ، وممّن سلموا في دينهم من الفِتن .
وليس في وصف هذه الطريقة ، بأنّها أعْلَمُ أوْ أحْكَمُ ، غضاضة من الطريقة الأولى ؛ لأنّ العصور الذين درجوا على الطريقة الأولى ، فيهم من لا تخفى عليهم محاملها بسبب ذوقهم العربي ، وهديهم النبوي ، وفيهم من لا يُعير البحثَ عنها جانباً من همّته ، مثل سائر العامة . فلا جرم كان طَيّ البحث عن تفصيلها أسلم للعموم ، وكان تفصيلها بعد ذلك أعْلَم لمن جاء بعدهم ، بحيث لو لم يؤوِّلوها به لأوسعوا ، للمتطلّعين إلى بيانها ، مجالاً للشك أو الإلحاد ، أو ضيققِ الصدر في الاعتقاد .
واعلم أنّ التأويل منه ما هو واضح بيِّن ، فصرف اللفظ المتشابه عن ظاهره إلى ذلك التأويل يُعادِل حملَ اللفظ على أحد معنييه المشهورين لأجل كثرة استعمال اللفظ في المعنى غير الظاهر منه . فهذا القسم من التأويل حقيق بألاّ يسمّى تأويلاً وليس أحدُ مَحْمَلَيْه بأقوى من الآخر إلاّ أنّ أحدهما أسبقُ في الوضع من الآخر ، والمحملان متساويان في الاستعمال وليس سبقُ إطلاق اللفظ على أحد المعنيين بمقتضٍ ترجيحَ ذلك المعنى ، فكم من إطلاق مجازي للفظٍ هو أسبق إلى الأفهام من إطلاقه الحقيقي . وليس قولهم في علم الأصول بأنّ الحقيقة أرجحُ من المجاز بمقبول على عمومه .
وتسميةُ هذا النوع بالمتشابه ليست مرادة في الآية . وعدّه من المتشابه جمود .
ومن التأويل ما ظاهر معنى اللفظ فيه أشهر من معنى تأويله ولكنّ القرائن أو الأدلةَ أوجبت صرف اللفظ عن ظاهر معناه فهذا حقيق بأن يعدّ من المتشابه .
ثم إنّ تأويل اللفظ في مِثله قد يتيسّر بمعنى مستقيم يغلب على الظن أنّه المراد إذا جَرى حمل اللفظ على ما هو من مستعملاته في الكلام البليغ مثل الأيدي والأعين في قوله : { بَنيناها بأيدٍ } [ الذاريات : 47 ] وقوله : { فإنَّك بأعيننا } [ الطور : 48 ] فمَن أخذوا من مثله أنّ لله أعيناً لا يُعرف كنهها ، أوْ له يداً ليست كأيدينا ، فقد زادوا في قوة الاشتباه .
ومنه ما يعتبر تأويله احتمالاً وتجويزاً بأن يكون الصرف عن الظاهر متعيّناً وأمّا حمله على ما أوّلوه به فعلى وجه الاحتمال والمثالِ ، وهذا مثل قوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] وقوله : { هل ينظرون إلاّ أن يأتيَهم الله في ظُلَل من الغمام } [ البقرة : 210 ] فمثل ذلك مقطوع بوجوب تأويله ولا يَدعي أحد ، أن ما أوّلَه به هو المرادُ منه ولكنّه وجه تابع لإمكان التأويل ، وهذا النوع أشدّ مواقع التشابه والتأويل .
وقد استبان لك من هذه التأويلات : أنّ نظم الآية جاء على أبلغ ما يعبّر به في مقام يسع طائفتين من علماء الإسلام في مختلف العصور .
وقوله : { يقولون آمنا به } حال من ( الراسخون ) أي يعلمون تأويله في هذه الحالة والمعنى عليه : يحتمل أن يكون المراد من القول الكناية عن الاعتقاد ؛ لأنّ شأن المعتقد أن يقول معتَقَده ، أي يعلمون تأويله ولا يهجس في نفوسهم شك من جهة وقوع المتشابه حتى يقولوا : لماذا لم يجىء الكلام كلّه واضحاً ، ويتطرّقهم من ذلك إلى الرّيبة في كونه من عند الله ، فلذلك يقولون : { كل من عند ربنا } .
ويحتمل أنّ المراد يقولون لغيرهم : أي من لم يبلغ مرتبة الرسوخ من عامة المسلمين ، الذين لا قِبل لهم بإدراك تأويله ، ليعلّموهم الوقوف عند حدود الإيمان ، وعدمَ التطلّع إلى ما ليس في الإمكان ، وهذا يقرب ممّا قاله أهل الأصول : إنّ المجتهد لا يلزمه بيانُ مُدركه للعامي ، إذا سأله عن مأخذ الحكم ، إذا كان المدرَك خفياً . وبهذا يحصل الجواب عن احتجاج الفخر بهذه الجملة لترجيح الوقفِ على اسم الجلالة .
وعلى قول المتقدّمين يكون قوله : { يقولون } خبراً ، وقولهم : { آمنا به } آمنّا بكونه من عند الله ، وإن لم نفهم معناه .
وقوله : { كل من عند ربنا } أي كلٌ من المحكَم والمتشابه . وهو على الوجهين بيان لمعنى قولهم : { آمنا به } ، فلذلك قطعت الجملة . أي كلّ من المحكم والمتشابه ، مُنزل من الله .
وزيدت كلمة ( عند ) للدلالة على أنّ مِن هنا للابتداء الحقيقي دون المجازي ، أي هو منزل من وحي الله تعالى وكلامِه ، وليس كقوله : { ما أصابك مِن حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك } [ النساء : 197 ] .
وجملة { وما يذَّكَّر إلاّ أولوا الألباب } تذييل ، ليس من كلام الراسخين ، مَسوق مَساق الثناء عليهم في اهتدائهم إلى صحيح الفهم .
والألبابُ : العقول . وتقدّم عند قوله تعالى : { واتقون يا أولي الألباب } في سورة [ البقرة : 197 ] .
- ابن جرير: حدثني يونس قال: أخبرنا أشهب،عن مالك في قوله: {وما يعلم تأويله إلا الله} قال: ثم ابتدأ فقال: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا}، وليس يعلمون تأويله.
- مكي: روى ابن القاسم، أن مالكا سئل عن الراسخين في العلم من هم؟. فقال: العامل بما علم، المتبع له، وقال في رواية ابن وهب عنه: العالم العامل بما علم المتبع له.
- ابن رشد: قال ابن القاسم: وسألته-يعني مالكا- عن تفسير قول الله عز وجل: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} أيعلم تأويله الراسخون في العلم؟ قال: لا، إنما تفسير ذلك أن الله عز وجل قال: {وما يعلم تأويله إلا الله} ثم أخبر فقال: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} ليس يعلمون تأويله. والآية التي بعدها أشد عندي قوله: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ}: الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ}؛ يعني بالكتاب: القرآن.
{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ}: من الكتاب آيات، يعني بالآيات: آيات القرآن. وأما المحكمات: فإنهنّ اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جعلن أدلة عليه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعبر، وما أشبه ذلك. ثم وصف جل ثناؤه هؤلاء الآيات المحكمات بأنهنّ هنّ أمّ الكتاب، يعني بذلك: أنهنّ أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم. وإنما سماهنّ أم الكتاب، لأنهنّ معظم الكتاب، وموضع مفزع أهله عند الحاجة إليه، وكذلك تفعل العرب، تسمي الجامع معظم الشيء: أُمّا له، فتسمي راية القوم التي تجمعهم في العساكر أمهم، والمدبر معظم أمر القرية والبلدة أمها. وقد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته. ووحد أمّ الكتاب، ولم يجمع فيقول: هنّ أمهات الكتاب، وقد قال هنّ لأنه أراد جميع الآيات المحكمات أمّ الكتاب، لا أن كل آية منهنّ أمّ الكتاب، ولو كان معنى ذلك أن كل آية منهنّ أمّ الكتاب، لكان لا شكّ قد قيل: هنّ أمهات الكتاب. {وأُخرَ}: جمع أخرى.
{مُتَشَابِهَاتٌ}: متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعنى، كما قال جلّ ثناؤه: {وأتُوُا بِهِ مُتَشابِها} يعني في المنظر: مختلفا في المطعم، وكما قال مخبرا عمن أخبر عنه من بني إسرائيل أنه قال: {إنّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} يعنون بذلك: تشابه علينا في الصفة، وإن اختلفت أنواعه.
فتأويل الكلام إذا: إن الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، هو الذي أنزل عليك يا محمد القرآن؛ منه آيات محكمات بالبيان، هنّ أصل الكتاب الذي عليه عمادك وعماد أمتك في الدين، وإليه مفزعك ومفزعهم فيما افترضت عليك وعليهم من شرائع الإسلام، وآيات أخر هنّ متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعاني.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {مِنْهُ آياتٌ مُحْكَمَاتٌ هُمّ أمّ الكتابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهاتٌ} وما المحكم من آي الكتاب، وما المتشابه منه؟
فقال بعضهم: المحكمات من آي القرآن: المعمول بهنّ، وهن الناسخات، أو المثبتات الأحكام، والمتشابهات من آيه: المتروك العمل بهن، المنسوخات... عن ابن عباس قوله: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} المحكمات: ناسخه، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه، وما يؤمن به، ويعمل به. قال: {وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ} والمتشابهات: منسوخه، ومقدّمه، ومؤخره، وأمثاله، وأقسامه، وما يؤمن به، ولا يعمل به.
وقال آخرون: المحكمات من آي الكتاب: ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد، والمتشابه منه: ما احتمل من التأويل أوجها...
وقال آخرون: معنى المحكم: ما أحكم الله فيه من آي القرآن وقصص الأمم ورسلهم الذين أرسلوا إليهم، ففصله ببيان ذلك لمحمد وأمته. والمتشابه: هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور فقصة باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وقصة باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني...
وقال آخرون: بل المحكم من آي القرآن: ما عرف العلماء تأويله، وفهموا معناه وتفسيره، والمتشابه: ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه، وذلك نحو الخبر عن وقت مخرج عيسى ابن مريم، ووقت طلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناء الدنيا، وما أشبه ذلك، فإن ذلك لا يعلمه أحد. وقالوا: إنما سمى الله من آي الكتاب المتشابه: الحروف المقطعة التي في أوائل بعض سور القرآن من نحو "الم"، و"المص"، و"المر"، و"الر"، وما أشبه ذلك، لأنهن متشابهات في الألفاظ، وموافقات حروف حساب الجمل. وكان قوم من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طمعوا أن يدركوا من قبلها معرفة مدة الإسلام وأهله، ويعلموا نهاية أُكْلِ محمد وأمته، فأكذب الله أحدوثتهم بذلك، وأعلمهم أن ما ابْتَغَوْا علمه من ذلك من قبل هذه الحروف المتشابهة لا يدركونه ولا من قبل غيرها، وأن ذلك لا يعلمه إلا الله. وهذا قول ذكر عن جابر بن عبد الله أن هذه الآية نزلت فيه، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه وعن غيره ممن قال نحو مقالته في تأويل ذلك في تفسير قوله: {الم ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ}.
وهذا القول الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أشبه بتأويل الآية، وذلك أن جميع ما أنزل الله عز وجل من آي القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما أنزله عليه بيانا له ولأمته وهدى للعالمين، وغير جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليه، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجة، ثم لا يكون لهم إلى علم تأويله سبيل. فإذا كان ذلك كذلك، فكل ما فيه لخلقه إليه الحاجة، وإن كان في بعضه ما بهم عن بعض معانيه الغنى، وإن اضطرته الحاجة إليه في معان كثيرة، وذلك كقول الله عز وجل: {يَوْمَ يَأتِي بَعْضُ آياتِ رَبّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسا إيمَانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أوْ كَسَبَتْ فِي إيمانِها خَيْرا} فأعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم أمته أن تلك الآية التي أخبر الله جل ثناؤه عباده أنها إذا جاءت لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ذلك، هي طلوع الشمس من مغربها. فالذي كانت بالعباد إليه الحاجة من علم ذلك هو العلم منهم بوقت نفع التوبة بصفته بغير تحديده بعد بالسنين والشهور والأيام، فقد بين الله ذلك لهم بدلالة الكتاب، وأوضحه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مفسّرا. والذي لا حاجة لهم إلى علمه منه هو العلم بمقدار المدة التي بين وقت نزول هذه الآية ووقت حدوث تلك الآية، فإن ذلك مما لا حاجة بهم إلى علمه في دين ولا دنيا، وذلك هو العلم الذي استأثر الله جل ثناؤه به دون خلقه، فحجبه عنهم، وذلك وما أشبهه هو المعنى الذي طلبت اليهود معرفته في مدة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من قبل قوله: الم، والمص، والر، والمر، ونحو ذلك من الحروف المقطعة المتشابهات، التي أخبر الله جل ثناؤه أنهم لا يدركون تأويل ذلك من قِبَله، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله.
فإذا كان المتشابه هو ما وصفنا، فكل ما عداه فمحكم، لأنه لن يخلو من أن يكون محكما بأنه بمعنى واحد لا تأويل له غير تأويل واحد، وقد استغني بسماعه عن بيان يبيّنه، أو يكون محكما، وإن كان ذا وجوه وتأويلات وتصرف في معان كثيرة، فالدلالة على المعنى المراد منه إما من بيان الله تعالى ذكره عنه أو بيان رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته، ولن يذهب علم ذلك عن علماء الأمة لما قد بينا.
{هُنّ أمّ الكِتابِ}: قد أتينا على البيان عن تأويل ذلك بالدلالة الشاهدة على صحة ما قلنا فيه، ونحن ذاكرو اختلاف أهل التأويل فيه. وذلك أنهم اختلفوا في تأويله؛ فقال بعضهم: معنى قوله: {هُنّ أُمّ الكِتابِ} هنّ اللائي فيهنّ الفرائض والحدود والأحكام، نحو قيلنا الذي قلنا فيه. وقال آخرون: بل معنيّ بذلك فواتح السور التي منها يستخرج القرآن.
{فأمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}: فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحقّ، وانحراف عنه. يقال منه: زاغ فلان عن الحقّ، وأزاغه الله: إذا أماله، فهو يُزيغه، ومنه قوله جلّ ثناؤه: {رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا}: لا تملها عن الحقّ {بعدَ إذْ هَدَيْتَنا}.
{فأمّا الّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}: ميل عن الهدى... {فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}: شك.
{الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}: المنافقون.
{فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}: ما تشابهت ألفاظه وتصرفت معانيه بوجوه التأويلات، ليحققوا بادعائهم الأباطيل من التأويلات في ذلك ما هم عليه من الضلالة والزيغ عن محجة الحق تلبيسا منهم بذلك على من ضعفت معرفته بوجوه تأويل ذلك وتصاريف معانيه. وقال آخرون: يتبعون المنسوخ والناسخ، فيقولون: ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا مجاز هذه الآية، فتركت الأولى وعمل بهذه الأخرى؟ هلا كان العمل بهذه الآية قبل أن تجيء الأولى التي نسخت. وما باله يعد العذاب من عمل عملاً يعدّ به النار وفي مكان آخر من عمله فإنه لم يوجب النار.
واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية؛ فقال بعضهم: عني به الوفدُ من نصارى نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاجوه بما حاجوه به، وخاصموه بأن قالوا: ألست تزعم أن عيسى روح الله وكلمته؟ وتأوّلوا في ذلك ما يقولون فيه من الكفر. وقال آخرون: بل أنزلت هذه الآية في أبي ياسر بن أخطب، وأخيه حيي بن أخطب، والنفر الذين ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدر مدة أُكْله وأُكل أمته، وأرادوا علم ذلك من قبل قوله: الم، والمص، والمر، والر، فقال الله جل ثناؤه فيهم: {فأمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} يعني هؤلاء اليهود الذين قلوبهم مائلة عن الهدى والحقّ، {فَيَتّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ} يعني معاني هذه الحروف المقطعة المحتملة التصريف في الوجوه المختلفة التأويلات ابتغاء الفتنة...
وقال آخرون: بل عنى الله عزّ وجلّ بذلك كل مبتدع في دينه بدعة مخالفة لما ابتعث به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بتأويل يتأوّله من بعض آي القرآن المحتملة التأويلات، وإن كان الله قد أحكم بيان ذلك، إما في كتابه وإما على لسان رسوله. والذي يدلّ عليه ظاهر هذه الآية أنها نزلت في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمتشابه ما أنزل إليه من كتاب الله إما في أمر عيسى، وإما في مدة أُكله وأُكْل أمته، وهو بأن تكون في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمتشابهه في مدته ومدة أمته أشبه، لأن قوله: {وما يَعْلَمُ تأوِيلَهُ إلاّ اللّهُ} دالّ على أن ذلك إخبار عن المدة التي أرادوا علمها من قبل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله. فأما أمر عيسى وأسبابه، فقد أعلم الله ذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته وبينه لهم، فمعلوم أنه لم يعن إلا ما كان خفيا عن الآحاد.
{ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ}: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: ابتغاء الشرك.
وقال آخرون: معنى ذلك ابتغاء الشبهات.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: إرادة الشبهات واللبس. فمعنى الكلام إذا: فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحقّ وَحَيْفٌ عنه، فيتعبون من آي الكتاب ما تشابهت ألفاظه، واحتمل صرفه في وجوه التأويلات، باحتماله المعاني المختلفة إرادة اللبس على نفسه وعلى غيره، احتجاجا به على باطله الذي مال إليه قلبه دون الحقّ الذي أبانه الله فأوضحه بالمحكمات من آي كتابه.
وهذه الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا أنها نزلت فيه من أهل الشرك، فإنه معنيّ بها كل مبتدع في دين الله بدعة، فمال قلبه إليها، تأويلاً منه لبعض متشابه آي القرآن، ثم حاجّ به وجادل به أهل الحقّ، وعدل عن الواضح من أدلة آيه المحكمات إرادة منه بذلك اللبس على أهل الحقّ من المؤمنين، وطلبا لعلم تأويل ما تشابه عليه من ذلك كائنا من كان، وأيّ أصناف البدعة؛ كان من أهل النصرانية كان أو اليهودية أو المجوسية، أو كان سبئيا، أو حروريا، أو قدريا، أو جهميا، كالذي قال صلى الله عليه وسلم: «فإذَا رَأيْتُمُ الّذِينَ يُجَادِلُونَ بِهِ، فَهُمُ الّذِينَ عَنَى اللّهُ فَاحْذَرُوهُمْ».
وإنما قلنا: القول الذي ذكرنا أنه أولى التأويلين بقوله: {ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ} لأن الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا أهل شرك، وإنما أرادوا بطلب تأويل ما طلبوا تأويله اللبس على المسلمين والاحتجاج به عليهم ليصدّوهم عما هم عليه من الحقّ، فلا معنى لأن يقال: فعلوا ذلك إرادة الشرك، وهم قد كانوا مشركين.
{وابْتِغاءَ تأوِيلِهِ}: اختلف أهل التأويل في معنى التأويل الذي عنى الله جل ثناؤه بقوله: {وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ}؛ فقال بعضهم معنى ذلك: الأجل الذي أرادت اليهود أن تعرفه من انقضاء مدة أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر أمته من قِبَل الحروف المقطعة من حساب الجمل ك«الم»، و«المص»، و«الر»، و«المر» وما أشبه ذلك من الآجال... عن ابن عباس: أما قوله: {وما يَعْلَمُ تأْوِيلَهُ إلاّ اللّهُ} يعني تأويله يوم القيامة إلا الله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: عواقب القرآن. وقالوا: إنما أرادوا أن يعلموا متى يجيء ناسخ الأحكام التي كان الله جل ثناؤه شرعها لأهل الإسلام قبل مجيئه، فنسخ ما قد كان شرعه قبل ذلك.
وقال آخرون: معنى ذلك: وابتغاء تأويل ما تشابه من آي القرآن يتأوّلونه إذ كان ذا وجوه وتصاريف في التأويلات على ما في قلوبهم من الزيغ، وما ركبوه من الضلالة. والقول الذي قاله ابن عباس من أن ابتغاء التأويل الذي طلبه القوم من المتشابه هو معرفة انقضاء المدة، ووقت قيام الساعة، والذي ذكرنا من أنهم طلبوا وأرادوا معرفة وقت هُو جاءٍ قبل مجيئه أولى بالصواب.
وإنما قلنا: إن طلب القوم معرفة الوقت الذي هو جاء قبل مجيئه المحجوب علمه عنهم وعن غيرهم بمتشابه آي القرآن، أولى بتأويل قوله: {وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ} لما قد دللنا عليه قبل من إخبار الله جل ثناؤه أن ذلك التأويل لا يعلمه إلا الله، ولا شك أن معنى قوله: «قضينا» و«فعلنا»، قد علم تأويله كثير من جهلة أهل الشرك، فضلاً عن أهل الإيمان وأهل الرسوخ في العلم منهم.
{وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا}: وما يعلم وقت قيام الساعة وانقضاء مدة أُكل محمد وأمته وما هو كائن، إلا الله، دون من سواه من البشر الذين أمّلوا إدراك علم ذلك من قبل الحساب والتنجيم والكهانة.
وأما الراسخون في العلم، فيقولون: "آمنا به كل من عند ربنا"، لا يعلمون ذلك، ولكن فضل علمهم في ذلك على غيرهم العلم بأن الله هو العالم بذلك دون من سواه من خلقه.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، وهل الراسخون معطوف على اسم الله، بمعنى إيجاب العلم لهم بتأويل المتشابه، أو هم مستأنف ذكرهم بمعنى الخبر عنهم أنهم يقولون آمنا بالمتشابه، وصدّقنا أن علم ذلك لا يعلمه إلا الله؟ فقال بعضهم: معنى ذلك: وما يعلم تأويل ذلك إلا الله وحده منفردا بعلمه. وأما الراسخون في العلم فإنهم ابتدئ الخبر عنهم بأنهم يقولون: آمنا بالمتشابه والمحكم، وأن جميع ذلك من عند الله. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، وهم مع علمهم بذلك ورسوخهم في العلم {يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَا}... عن ابن عباس أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله... [و] عن مجاهد: {وَالرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ} يعلمون تأويله ويقولون آمنا به.
فمن قال القول الأول في ذلك، وقال: إن الراسخين لا يعلمون تأويل ذلك، وإنما أخبر الله عنهم بإيمانهم وتصديقهم بأنه من عند الله، فإنه يرفع «الراسخين في العلم» بالابتداء في قول البصريين، ويجعل خبره «يقولون آمنا به». وأما في قول بعض الكوفيين فبالعائد من ذكرهم في «يقولون»، وفي قول بعضهم بجملة الخبر عنهم، وهي «يقولون». ومن قال القول الثاني، وزعم أن الراسخين يعلمون تأويله عطف بالراسخين على اسم الله فرفعهم بالعطف عليه.
والصواب عندنا في ذلك، أنهم مرفوعون بجملة خبرهم بعدهم وهو «يقولون»، لما قد بينا قبل من أنهم لا يعلمون تأويل المتشابه الذي ذكره الله عز وجل في هذه الآية، وهو فيما بلغني مع ذلك في قراءة أبيّ: «ويقول الرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ» كما ذكرناه عن ابن عباس أنه كان يقرأه، وفي قراءة عبد الله: «إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون».
وأما معنى التأويل في كلام العرب: فإنه التفسير والمرجع والمصير.
وأصله من آل الشيء إلى كذا، إذا صار إليه ورجع، وأوّلته أنا: صيرته إليه. وقد قيل: إن قوله: {وأحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي جزاء، وذلك أن الجزاء هو الذي آل إليه أمر القوم وصار إليه.
{وَالرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ}: يعني بالراسخين في العلم: العلماء الذين قد أتقنوا علمهم ووعوه فحفظوه حفظا لا يدخلهم في معرفتهم وعلمهم بما علموه شك ولا لبس، وأصل ذلك من رسوخ الشيء في الشيء، وهو ثبوته وولوجه فيه، يقال منه: رسخ الإيمان في قلب فلان فهو يَرْسَخ رَسْخا وَرُسُوخا.
وقد روي في نعتهم خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما:
حدثنا موسى بن سهل الرملي، قال: حدثنا محمد بن عبد الله، قال: حدثنا فياض بن محمد الرقي، قال: حدثنا عبد الله بن يزيد بن آدم، عن أبي الدرداء وأبي أمامة، قالا: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الراسخ في العلم؟ قال: «مَنْ بَرّتْ يَمِينُهُ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ، وَاسْتَقَامَ بِهِ قَلْبُهُ، وَعَفّ بَطْنُهُ، فَذَلِكَ الرّاسِخُ فِي العِلْمِ».
وقد قال جماعة من أهل التأويل: إنما سمى الله عزّ وجلّ هؤلاء القوم الراسخين في العلم بقولهم: {آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا}.
{يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ}: أن الراسخين في العلم يقولون صدقنا بما تشابه من آي الكتاب، وأنه حقّ، وإن لم نعلم تأويله.
{كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَا}: كل المحكم من الكتاب والمتشابه منه من عند ربنا، وهو تنزيله ووحيه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم... آمنوا بمتشابهه، وعملوا بمحكمه.
{وَما يَذّكّرُ إلاّ أُولُوا الألْبابِ}: وما يتذكر ويتعظ وينزجر عن أن يقول في متشابه آي كتاب الله ما لا علم له به إلا أولو العقول والنّهَى... وما يذكر في مثل هذا، يعني في ردّ تأويل المتشابه إلى ما قد عرف من تأويل المحكم حتى يتسقا على معنى واحد، إلا أولو الألباب.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله) استأثر الله تعالى بعلم التأويل، وقطع أفهام العباد عنه، والفرق بين التأويل والتفسير: أن التفسير: هو ذكر المعنى الواضح، كما تقول في قوله: (لا ريب فيه) أي: لا شك فيه، وأما التأويل: هو ما يؤول المعنى إليه، ويستقر عليه...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
178- في القرآن محكم ومتشابه، كما قال تعالى: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} واختلفوا في معناه، وإذ لم يرد توقيف في بيانه، فينبغي أن يفسر بما يعلمه أهل اللغة، ويناسب اللفظ من حيث الوضع... ولا يناسبه قولهم: المتشابه: هي الحروف المقطعة في أوائل السور، والمحكم: ما وراء ذلك، ولا قولهم: المحكم ما يعرفه الراسخون في العلم، والمتشابه: القصص والأمثال. وهذا أبعد. بل الصحيح أن المحكم يرجع إلى معنيين:
أحدهما: المكشوف المعنى الذي لا يتطرق إليه إشكال واحتمال، والمتشابه: ما تعارض فيه الاحتمال...
الثاني: إن المحكم ما انتظم وترتب ترتيبا مفيدا، إما على ظاهر أو على تأويل، ما لم يكن فيه متناقض ومختلف، لكن هذا المحكم يقابله: المثبج والفاسد، دون المتشابه، وأما التشابه فيجوز أن يعبر به عن الأسماء المشتركة كالقرء، وكقوله تعالى: {الذي بيده عقدة النكاح} فإنه مردد بين الزوج والولي، وكاللمس المردد بين المس والوطء، وقد يطلق على ما ورد في صفات الله مما يوهم ظاهره الجهة والتشبيه ويحتاج إلى تأويله. [المستصفى: 1/106]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: فهلا كان القرآن كله محكماً؟ قلت: لو كان كله محكماً لتعلق الناس به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمّل من النظر والاستدلال، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به، ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه، ولما في تقادح العلماء وإتعابهم القرائح في استخراج معانيه وردّه إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند الله، ولأنّ المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله ولا اختلاف، إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره، وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد، ففكر وراجع نفسه وغيره ففتح الله عليه وتبين مطابقة المتشابه المحكم، ازداد طمأنينة إلى معتقده وقوّة في إيقانه {الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}: هم أهل البدع {فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ}: فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق. {ابتغاء الفتنة}: طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم. {وابتغاء تَأْوِيلِهِ}: وطلب أن يأوّلوه التأويل الذي يشتهونه. {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم} أي لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله وعباده الذين رسخوا في العلم، أي ثبتوا فيه وتمكنوا وعضوا فيه بضرس قاطع...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {الكتاب} في هذه الآية القرآن بإجماع من المتأولين، والمحكمات، المفصلات المبينات الثابتات الأحكام، والمتشابهات هي التي فيها نظر وتحتاج إلى تأويل ويظهر فيها ببادي النظر إما تعارض مع أخرى أو مع العقل، إلى غيره من أنواع التشابه، فهذا الشبه الذي من أجله توصف ب {متشابهات}، إنما هو بينها وبين المعاني الفاسدة التي يظنها أهل الزيغ ومن لم يمعن النظر، وهذا نحو الحديث الصحيح، عن النبي عليه السلام، "الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور متشابهات "أي يكون الشيء حراماً في نفسه فيشبه عند من لم يمعن النظر شيئاً حلالاً وكذلك الآية يكون لها في نفسها معنى صحيح فتشبه عند من لم يمعن النظر أو عند الزائغ معنى آخر فاسداً فربما أراد الاعتراض به على كتاب الله، هذا عندي معنى الإحكام والتشابه في هذه الآية، ألا ترى أن نصارى نجران قالوا للنبي عليه السلام، أليس في كتابك أن عيسى كلمة وروح منه؟ قال نعم، قالوا: فحسبنا إذاً فهذا التشابه،... {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}. قوله تعالى: {الذين في قلوبهم زيغ} يعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل صاحب بدعة، والزيغ الميل، ومنه زاغت الشمس، وزاغت الأبصار، والإشارة بالآية في ذلك الوقت كانت إلى نصارى نجران لتعرضهم للقرآن في أمر عيسى عليه السلام، قاله الربيع، وإلى اليهود، ثم تنسحب على كل ذي بدعة أو كفر، وبالميل عن الهدى فسر الزيغ محمد بن جعفر بن الزبير وابن مسعود وجماعة من الصحابة ومجاهد وغيرهم.
المسألة الثانية: اعلم أن القرآن دل على أنه بكليته محكم، ودل على أنه بكليته متشابه، ودل على أن بعضه محكم، وبعضه متشابه. أما ما دل على أنه بكليته محكم، فهو قوله {الر تلك آيات الكتاب الحكيم} [يونس: 1] {الر كتاب أحكمت آياته} [هود: 1] فذكر في هاتين الآيتين أن جميعه محكم، والمراد من المحكم بهذا المعنى كونه كلاما حقا فصيح الألفاظ صحيح المعاني وكل قول وكلام يوجد كان القرآن أفضل منه في فصاحة اللفظ وقوة المعنى ولا يتمكن أحد من إتيان كلام يساوي القرآن في هذين الوصفين، والعرب تقول في البناء الوثيق والعقد الوثيق الذي لا يمكن حله: محكم، فهذا معنى وصف جميعه بأنه محكم...
وأما ما دل على أنه بكليته متشابه، فهو قوله تعالى: {كتابا متشابها مثاني} [الزمر: 23] والمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن ويصدق بعضه بعضا، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء: 82] أي لكان بعضه واردا على نقيض الآخر، ولتفاوت نسق الكلام في الفصاحة والركاكة...
وأما ما دل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه، فهو هذه الآية التي نحن في تفسيرها، ولابد لنا من تفسير المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة، ثم من تفسيرهما في عرف الشريعة: أما المحكم فالعرب تقول: حاكمت وحكمت وأحكمت بمعنى رددت، ومنعت، والحاكم يمنع الظالم عن الظلم وحكمة اللجام التي هي تمنع الفرس عن الاضطراب، وفي حديث النخعي: احكم اليتيم كما تحكم ولدك أي امنعه عن الفساد، وقال جرير:
أي امنعوهم، وبناء محكم أي وثيق يمنع من تعرض له، وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي، وأما المتشابه فهو أن يكون أحد الشيئين مشابها للآخر بحيث يعجز الذهن عن التمييز، قال الله تعالى: {إن البقر تشابه علينا} [البقرة: 70] وقال في وصف ثمار الجنة {وأتوا به متشابها} [البقرة: 25] أي متفق المنظر مختلف الطعوم، وقال الله تعالى: {تشابهت قلوبهم} [البقرة: 118] ومنه يقال: اشتبه علي الأمران إذا لم يفرق بينهما، ويقال لأصحاب المخاريق: أصحاب الشبه، وقال عليه السلام: « الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات» وفي رواية أخرى مشتبهات.
... واعلم أن هذا موضع عظيم فنقول: إن كل واحد من أصحاب المذاهب يدعي أن الآيات الموافقة لمذهبه محكمة، وأن الآيات الموافقة لقول خصمه متشابهة...
فلابد ههنا من قانون يرجع إليه في هذا الباب، فنقول: اللفظ إذا كان محتملا لمعنيين وكان بالنسبة إلى أحدهما راجحا، وبالنسبة إلى الآخر مرجوحا، فإن حملناه على الراجح ولم نحمله على المرجوح، فهذا هو المحكم وأما إن حملناه على المرجوح ولم نحمله على الراجح، فهذا هو المتشابه فنقول: صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لابد فيه من دليل منفصل، وذلك الدليل المنفصل إما أن يكون لفظيا وإما أن يكون عقليا...
أما القسم الأول: فنقول: هذا إنما يتم إذا حصل بين ذينك الدليلين اللفظيين تعارض وإذا وقع التعارض بينهما فليس ترك ظاهر أحدهما رعاية لظاهر الآخر أولى من العكس، اللهم إلا أن يقال: إن أحدهما قاطع في دلالته والآخر غير قاطع فحينئذ يحصل الرجحان، أو يقال: كل واحد منهما وإن كان راجحا إلا أن أحدهما يكون أرجح، وحينئذ يحصل الرجحان إلا أنا نقول: أما الأول فباطل، لأن الدلائل اللفظية لا تكون قاطعة البتة، لأن كل دليل لفظي فإنه موقوف على نقل اللغات، ونقل وجوه النحو والتصريف، وموقوف على عدم الاشتراك وعدم المجاز، وعدم التخصيص، وعدم الإضمار، وعدم المعارض النقلي والعقلي، وكان ذلك مظنون، والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنونا، فثبت أن شيئا من الدلائل اللفظية لا يكون قاطعا...
وأما الثاني وهو أن يقال: أحد الدليلين أقوى من الدليل الثاني وإن كان أصل الاحتمال قائما فيهما معا، فهذا صحيح، ولكن على هذا التقدير يصير صرف الدليل اللفظي عن ظاهره إلى المعنى المرجوح ظنيا، ومثل هذا لا يجوز التعويل عليه في المسائل الأصولية، بل يجوز التعويل عليه في المسائل الفقهية فثبت بما ذكرناه أن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح في المسائل القطعية لا يجوز إلا عند قيام الدليل القطعي العقلي على أن ما أشعر به ظاهر اللفظ محال، وقد علمنا في الجملة أن استعمال اللفظ في معناه المرجوح جائز عند تعذر حمله على ظاهره، فعند هذا يتعين التأويل، فظهر أنه لا سبيل إلى صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح إلا بواسطة إقامة الدلالة العقلية القاطعة على أن معناه الراجح محال عقلا ثم إذا قامت هذه الدلالة وعرف المكلف أنه ليس مراد الله تعالى من هذا اللفظ ما أشعر به ظاهره، فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح الذي هو المراد ماذا لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز وترجيح تأويل على تأويل، وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدلائل اللفظية والدلائل اللفظية على ما بينا ظنية لا سيما الدلائل المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر يكون في غاية الضعف، وكل هذا لا يفيد إلا الظن الضعيف والتعويل على مثل هذه الدلائل في المسائل القطعية محال فلهذا التحقيق المتين مذهبا أن بعد إقامة الدلائل القطعية على أن حمل اللفظ على الظاهر محال لا يجوز الخوض في تعيين التأويل، فهذا منتهى ما حصلناه في هذا الباب، والله ولي الهداية والرشاد...
وأما المحقق المنصف، فإنه يحمل الأمر في الآيات على أقسام ثلاثة:
أحدها: ما يتأكد ظاهرها بالدلائل العقلية، فذاك هو المحكم حقا.
وثانيها: الذي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها، فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله تعالى غير ظاهره.
وثالثها: الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرفي ثبوته وانتفائه، فيكون من حقه التوقف فيه، ويكون ذلك متشابها بمعنى أن الأمر اشتبه فيه، ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر، إلا أن الظن الراجح حاصل في إجرائها على ظواهرها فهذا ما عندي في هذا الباب والله اعلم بمراده.
واعلم أنه تعالى لما بين أن الزائغين يتبعون المتشابه، بين أن لهم فيه غرضين، فالأول: هو قوله تعالى: {ابتغاء الفتنة} والثاني: هو قوله {وابتغاء تأويله}...
فأما الأول: فاعلم أن الفتنة في اللغة الاستهتار بالشيء والغلو فيه، يقال: فلان مفتون بطلب الدنيا، أي قد غلا في طلبها وتجاوز القدر.
وذكر المفسرون في تفسير هذه الفتنة وجوها:
أولها: قال الأصم: إنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في الدين، صار بعضهم مخالفا للبعض في الدين، وذلك يفضي إلى التقاتل والهرج والمرج فذاك هو الفتنة.
وثانيها: أن التمسك بذلك المتشابه يقرر البدعة والباطل في قلبه فيصير مفتونا بذلك الباطل عاكفا عليه لا ينقلع عنه بحيلة البتة.
وثالثها: أن الفتنة في الدين هو الضلال عنه ومعلوم أنه لا فتنة ولا فساد أعظم من الفتنة في الدين والفساد فيه. وأما الغرض الثاني لهم: وهو قوله تعالى: {وابتغاء تأويله} فاعلم أن التأويل هو التفسير وأصله في اللغة المرجع والمصير، من قولك آل الأمر إلى كذا إذا صار إليه، وأولته تأويلا إذا صيرته إليه، هذا معنى التأويل في اللغة، ثم يسمى التفسير تأويلا، قال تعالى: {سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا} [الكهف: 78] وقال تعالى: {وأحسن تأويلا} [النساء: 59] وذلك أنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى، واعلم أن المراد منه أنهم يطلبون التأويل الذي ليس في كتاب الله عليه دليل ولا بيان، مثل طلبهم أن الساعة متى تقوم؟ وأن مقادير الثواب والعقاب لكل مطيع وعاص كم تكون؟
قال القاضي: هؤلاء الزائغون قد ابتغوا المتشابه من وجهين أحدهما: أن يحملوه على غير الحق: وهو المراد من قوله {ابتغاء الفتنة} والثاني: أن يحكموا بحكم في الموضع الذي لا دليل فيه، وهو المراد من قوله {وابتغاء تأويله} ثم بين تعالى ما يكون زيادة في ذم طريقة هؤلاء الزائغين فقال: {وما يعلم تأويله إلا الله}...واختلف الناس في هذا الموضع، فمنهم من قال: تم الكلام ههنا، ثم الواو في قوله {والراسخون في العلم} واو الابتداء، وعلى هذا القول: لا يعلم المتشابه إلا الله، وهو المختار عندنا...
والقول الثاني: أن الكلام إنما يتم عند قوله {والراسخون في العلم} وعلى هذا القول يكون العلم بالمتشابه حاصلا عند الله تعالى وعند الراسخين في العلم. والذي يدل على صحة القول الأول وجوه: الحجة الأولى: أن اللفظ إذا كان له معنى راجح، ثم دل دليل أقوى منه على أن ذلك الظاهر غير مراد، علمنا أن مراد الله تعالى بعض مجازات تلك الحقيقة، وفي المجازات كثرة، وترجيح البعض على البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية، والترجيحات اللغوية لا تفيد إلا الظن الضعيف، فإذا كانت المسألة قطعية يقينية، كان القول فيها بالدلائل الظنية الضعيفة غير جائز، مثاله قال الله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة: 286] ثم قال الدليل القاطع على أن مثل هذا التكليف قد وجد على ما بينا في البراهين الخمسة في تفسير هذه الآية فعلمنا أن مراد الله تعالى ليس ما يدل عليه ظاهر هذه الآية، فلا بد من صرف اللفظ إلى بعض المجازات، وفي المجازات كثرة وترجيح بعضها على بعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية، وأنها لا تفيد إلا الظن الضعيف، وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية، فوجب أن يكون القول فيها بالدلائل الظنية باطلا، وأيضا قال الله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] دل الدليل على أنه يمتنع أن يكون الإله في المكان، فعرفنا أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية ما أشعر به ظاهرها، إلا أن في مجازات هذه اللفظة كثرة فصرف اللفظ إلى البعض دون البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية الظنية، والقول بالظن في ذات الله تعالى وصفاته غير جائز بإجماع المسلمين، وهذه حجة قاطعة في المسألة والقلب الخالي عن التعصب يميل إليه، والفطرة الأصلية تشهد بصحته، وبالله التوفيق...
الحجة الثانية: وهو أن ما قبل هذه الآية يدل على أن طلب تأويل المتشابه مذموم، حيث قال: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} ولو كان طلب تأويل المتشابه جائزا لما ذم الله تعالى ذلك...
الحجة الثالثة: أن الله مدح الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به، وقال في أول سورة البقرة {فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم} فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح، لأن كل من عرف شيئا على سبيل التفصيل فإنه لا بد وأن يؤمن به، إنما الراسخون في العلم هم الذين علموا بالدلائل القطعية أن الله تعالى عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها، وعلموا أن القرآن كلام الله تعالى، وعلموا أنه لا يتكلم بالباطل والعبث، فإذا سمعوا آية ودلت الدلائل القطعية على أنه لا يجوز أن يكون ظاهرها مراد الله تعالى، بل مراده منه غير ذلك الظاهر، ثم فوضوا تعيين ذلك المراد إلى علمه، وقطعوا بأن ذلك المعنى أي شيء كان فهو الحق والصواب، فهؤلاء هم الراسخون في العلم بالله حيث لم يزعزعهم قطعهم بترك الظاهر، ولا عدم علمهم بالمراد على التعيين عن الإيمان بالله والجزم بصحة القرآن...
الحجة الرابعة: لو كان قوله {والراسخون في العلم} معطوفا على قوله {إلا الله} لصار قوله {يقولون ءامنا به} ابتداء، وأنه بعيد عن ذوق الفصاحة، بل كان الأولى أن يقال: وهم يقولون آمنا به، أو يقال: ويقولون آمنا به. فإن قيل: في تصحيحه وجهان الأول: أن قوله {يقولون} كلام مبتدأ، والتقدير: هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به والثاني: أن يكون {يقولون} حالا من الراسخين...
الحجة الخامسة: قوله تعالى: {كل من عند ربنا} يعني أنهم آمنوا بما عرفوه على التفصيل، وبما لم يعرفوا تفصيله وتأويله، فلو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل لم يبق لهذا الكلام فائدة. الحجة السادسة: نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير لا يسع أحدا جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير تعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى. وسئل مالك بن أنس رحمه الله عن الاستواء، فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عند بدعة،...
ثم قال: {وما يذكر إلا أولوا الألباب}: وهذا ثناء من الله تعالى على الذين قالوا آمنا به، ومعناه: ما يتعظ بما في القرآن إلا ذوو العقول الكاملة، فصار هذا اللفظ كالدلالة على أنهم يستعملون عقولهم في فهم القرآن، فيعلمون الذي يطابق ظاهره دلائل العقول فيكون محكما، وأما الذي يخالف ظاهره دلائل العقول فيكون متشابها، ثم يعلمون أن الكل كلام من لا يجوز في كلامه التناقض والباطل، فيعلمون أن ذلك المتشابه لا بد وأن يكون له معنى صحيح عند الله تعالى، وهذه الآية دالة على علو شأن المتكلمين الذين يبحثون عن الدلائل العقلية، ويتوسلون بها إلى معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله، ولا يفسرون القرآن إلا بما يطابق دلائل العقول، وتوافق اللغة والإعراب. واعلم أن الشيء كلما كان أشرف كان ضده أخس، فكذلك مفسر القرآن متى كان موصوفا بهذه الصفة كانت درجته هذه الدرجة العظمى التي عظم الله الثناء عليه، ومتى تكلم في القرآن من غير أن يكون متبحرا في علم الأصول، وفي علم اللغة والنحو كان في غاية البعد عن الله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ختم سبحانه وتعالى بوصف العزة الدالة على الغلبة الدالة على كمال القدرة والحكمة المقتضي لوضع كل شيء في أحسن محاله وأكملها المستلزم لكمال العلم، تقديراً لما مر من التصوير وغيره، وكان هذا الكتاب أكمل مسموعات العباد لنزوله على وجه هو أعلى الوجوه، ونظمه على أسلوب أعجز الفصحاء وأبكم البلغاء إلى غير ذلك من الأمور الباهرة والأسرار الظاهرة، وعلى عبد هو أكمل الخلق؛ أعقب الوصفين بقوله بياناً لتمام علمه وشمول قدرته: {هو} أي وحده {الذي} ولما فصل أمر المنزل إلى المحكم والتشابه نظر إليه جملة كما اقتضاه التعبير بالكتاب فعبر بالإنزال دون التنزيل فقال: {أنزل عليك} أي خاصة {الكتاب} أي القرآن، وقصر الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا موضع الراسخين وهو رأسهم دلالة على أنه لا يفهم هذا حق فهمه من الخلق غيره. قال الحرالي: ولما كانت هذه السورة فيما اختصت به من علن أمر الله سبحانه وتعالى مناظرة بسورة البقرة فيما أنزلت من إظهار كتاب الله سبحانه وتعالى كان المنتظم بمنزل فاتحتها ما يناظر المنتظم بفاتحة سورة البقرة، فلما كانت سورة البقرة منزل كتاب هو الوحي انتظم بترجمتها الإعلام بأمر كتاب الخلق الذي هو القدر، فكما بين في أول سورة البقرة كتاب تقدير الذي قدره وكتبه في ذوات من مؤمن وكافر ومردد بينهما هو المنافق فتنزلت سورة كتاب للوحي إلى بيان قدر الكتاب الخلقي لذلك كان متنزل هذا الافتتاح الإلهي إلى أصل منزل الكتاب الوحي؛ ولما بين أمر الخلق أن منهم من فطره على الإيمان ومنهم من جبله على الكفر ومنهم من أناسه بين الخلقين، بين في الكتاب أن منه ما أنزله على الإحكام ومنه ما أنزله على الاشتباه؛ وفي إفهامه ما أنزله على الافتنان والإضلال بمنزلة ختم الكفار؛ انتهى فقال: {منه آيات محكمات} أي لا خفاء بها...
قال الحرالي: وهي التي أبرم حكمها فلم ينبتر كما يبرم الحبل الذي يتخذ حكمة أي زماماً يزم به الشيء الذي يخاف خروجه عن الانضباط، كأن الآية المحكمة تحكم النفس عن جولانها وتمنعها عن جماحها وتضبطها إلى محال مصالحها، ثم قال: فهي آي التعبد من الخلق للخلق اللائي لم يتغير حكمهن في كتاب من هذه الكتب الثلاث المذكورة، فهن لذلك أم انتهى...
فبين سبحانه وتعالى بهذا أنه كما يفعل الأفعال المتشابهة مثل تصوير عيسى عليه الصلاة والسلام من غير نطفة ذكر، مع إظهار الخوارق على يديه لتبين الراسخ في الدين من غيره كذلك يقول الأقوال المتشابهة، وأنه فعل في هذا الكتاب ما فعل في غيره من كتبه من تقسيم آياته إلى محكم ومتشابه ابتلاء لعباده ليبين فضل العلماء الراسخين الموقنين بأنه من عنده، وأن كل ما كان من عند الله سبحانه وتعالى فلا اختلاف فيه في نفس الأمر، لأن سبب الاختلاف الجهل أو العجز، وهو سبحانه وتعالى متعال جده منزه قدره عن شيء من ذلك، فبين فضلهم بأنهم يؤمنون به، ولا يزالون يستنصرون منه سبحانه وتعالى فتح المنغلق وبيان المشكل حتى يفتحه عليهم بما يرده إلى المحكم، وهذا على وجه يشير إلى المهمة الذي تاه فيه النصارى، والتيه الذي ضلوا فيه عن المنهج، واللج الذي أغرق جماعاتهم، وهو المتشابه... فابتغوا الفتنة فيه واعتقدوا الأبوة والبنوة على حقيقتهما ولم يردوا ذلك إلى المحكم الذي قاله لهم فأكثر منه، كما أخبر عنه أصدق القائلين سبحانه وتعالى في الكتاب المتواتر الذي حفظه من التحريف والتبديل: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} [فصلت: 42]، وهو {إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً} [مريم: 30، 31] {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم} [المائدة: 117] {إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [مريم: 51]، هذا مما ورد في كتابنا الذي لم يغيروا ما عندهم فإن كانوا قد بدلوه فقد ولله الحمد منه في الأناجيل الأربعة التي بين أظهرهم الآن في أواخر هذا القرن التاسع من المحكم ما يكفي في رد المتشابه إليه... وقد بين سبحانه وتعالى أنه لا يضل بحرف المتشابه إلا ذوو الطبع العوج الذين لم ترسخ أقدامهم في الدين ولا استنارت معارفهم في العلم فقال: {فأما الذين في قلوبهم زيغ} أي اعوجاج عدلوا به عن الحق. وقال الحرالي: هو ميل المائل إلى ما يزين لنفسه الميل إليه، والمراد هنا أشد الميل الذي هو ميل القلب عن جادة الاستواء و في إشعاره ما يلحق بزيغ القلوب من سيء الأحوال في الأنفس وزلل الأفعال في الأعمال، فأنبأ تعالى عما هو الأشد وأبهم ما هو الأضعف: {فيتبعون} في إشعار هذه الصيغة بما تنبئ عنه من تكلف المتابعة بأن من وقع له الميل فلفته لم تلحقه مذمة هذا الخطاب، فإذا وقع الزلل ولم يتتابع حتى يكون اتباعاً سلم من حد الفتنة بمعالجة التوبة {ما تشابه منه} فأبهمه إبهاماً يشعر بما جرت به الكليات فيما يقع نبأ عن الحق وعن الخلق من نحو أوصاف النفس كالعليم والحكيم وسائر أزواج الأوصاف كالغضب والرضى بناء على الخلق في بادي الصورة من نحو العين واليد والرجل والوجه وسائر بوادي الصورة، كل ذلك مما أنه متشابهات أنزلها الله تعالى ليتعرف للخلق بما جبلهم عليه مما لو لم يتعرف لهم به لم يعرفوه، ففائدة إنزالها التعرف بما يقع به الامتحان بإحجام الفكر عنه والإقدام على التعبد له، ففائدة إنزاله عملاً في المحكم وفائدة إنزاله فيه توقفاً عنه ليقع الابتلاء بالوجهين: عملاً بالمحكم ووقوفاً عن المتشابه...
هذا هو حد الإيمان وموقفه، وإليه أذعن الراسخون في العلم، وهم الذين تحققوا في أعلام العلم، ولم يصغوا إلى وهم التخييل والتمثل به في شيء مما أنبأ الله سبحانه وتعالى به نفسه ولا في شيء مما بينه وبين خلقه وكان في توقفهم عن الخوض في المتشابه تفرغهم للعمل في المحكم، لأن المحكم واضح وجداني، متفقة عليه مدارك الفطن وإذعان الجبلات ومنزلات الكتب، لم يقع فيه اختلاف بوجه حتى كان لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، للزوم الواجب من العمل بالمحكم في إذعان النفس، فكما لا يصلح العراء عن الاتصاف بالمحكم لا يصلح الترامي إلى شيء من الخوض في المتشابه لأحد من أهل العلم والإيمان أهل الدرجات، لأن الله سبحانه وتعالى جبل الخلق وفطرهم على إدراك حظ من أنفسهم من أحوالهم، وأوقفهم عن إدراك ما هو راجع إليه، فأمر الله وتجلياته لا تنال إلا بعناية منه، يزج العبد زجه يقطع به الحجب الظلمانية والنورانية التي فيها مواقف العلماء؛ فليس في هذا الحرف المتشابه إلا أخذ لسانين: لسان وقفة عن حد الإيمان للراسخين في العلم المشتغلين بالاتصاف بالتذلل والتواضع والتقوى والبر الذي أمر صلى الله عليه وسلم أن يتبع فيه حتى ينتهي العبد إلى أن يحبه الله، فيرفع عنه عجز الوقفة عن المتشابه، فلا يشكل عليه دقيق ولا يعييه خفي بما أحبه الله، وما بين ذلك من خوض دون إنقاذ هذه العناية فنقص عن حد رتبة الإيمان والرسوخ في العلم، فكل خائض فيه ناقص من حيث يحب أن يزيد، فهو إما عجز إيماني من حيث الفطر الخلقي، وإما تحقق إيقاني توجبه العناية والمحبة انتهى...
{وما يذكر} أي من الراسخين بما سمع من المتشابه ما في حسه وعقله من أمثال ذلك {إلا أولوا الألباب} قال الحرالي: الذين لهم لب العقل الذي للراسخين في العلم ظاهره، فكان بين أهل الزيغ وأهل التذكر مقابلة بعيدة، فمنهم متذكر ينتهي إلى إيقان، وراسخ في العلم يقف عند حد إيمان، ومتأول يركن إلى لبس بدعة، وفاتن يتبع هوى؛ فأنبأ جملة هذا البيان عن أحوال الخلق بالنظر إلى تلقي الكتاب كما أنبأ بيان سورة البقرة عن جهات تلقيهم للأحكام انتهى...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات}. قال الأستاذ: وهذا رد لاستدلالهم ببعض آيات القرآن على تمييز عيسى على غيره من البشر، إذ ورد فيه أنه روح الله وكلمته. فهو يقول إن هذه الآيات من المتشابهات التي اشتبه عليكم معناها حتى حاولتم جعلها ناقضة للآيات المحكمة في توحيد الله وتنزيهه.
أقول: المحكمات من أحكم الشيء بمعنى: وثقه وأتقنه. والمعنى العام لهذه المادة المنع. فإن كل محكم يمنع بأحكامه تطرق الخلل إلى نفسه أو غيره. ومنه الحكم والحكمة وحكمة الفرس، قيل وهي أصل المادة. و "المتشابه "يطلق في اللغة على ما له أفراد أو أجزاء يشبه بعضها بعضا، وعلى ما يشتبه من الأمر، أي يلتبس قال في الأساس: « وتشابه الشيئان واشتبها، وشبهته به وشبهته إياه واشتبهت الأمور وتشابهت: التبست لإشباه بعضها بعضا. وفي القرآن المحكم والمتشابه، وشبه عليه الأمر لبس عليه، وإياك والمشبهات الأمور المشكلات». وقد وصف القرآن بالإحكام على الإطلاق في أول سورة هود بقوله: {كتاب أحكمت آياته} [هود: 1] وهو من إحكام النظم وإتقانه أو من الحكمة التي اشتملت آياته عليها. ووصف كله بالمتشابه في سورة الزمر: {الله أنزل أحسن الحديث كتابا متشابها} [الزمر: 22] أي يشبه بعضه بعضا في هدايته وبلاغته وسلامته من التناقض والتفاوت والاختلاف: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء:81] أما قوله تعالى: {وأتوا به متشابها} [البقرة: 25] فمفهومه أن ما جيئوا به من الثمرات أخيرا يشبه ما رزقوه من قبل وأنهم اشتبهوا به لهذا التشابه.
وقالوا إن الأصل في ورود التشابه بمعنى المشكل الملتبس أن يكون الالتباس فيه بسبب شبه لغيره، ثم أطلق على كل ملتبس مجازا، وإن كان ظاهر الأساس أن المعنيين حقيقتان فيه. ولا شك أن القرآن يصح أن يوصف كله بالمحكم وبالمتشابه من حيث هو متقن ويشبه بعضه بعضا فيما ذكر.
والتقسيم في هذه الآية مبني على استعمال كل من المحكم والمتشابه في معنى خاص. ولذلك اختلف فيه المفسرون على أقوال:
أحدها: أن المحكمات هي قوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا} [الأنعام: 152] إلى آخر الآية والآيتين اللتين بعدها. والمتشابهات هي التي تشابهت على اليهود وهي أسماء حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور. وذلك أنهم أولوها على حساب الجمل فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة، فاختلط الأمر عليهم واشتبه. وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وزعم الفخر الرازي أن المراد به أن المحكم ما لا تختلف فيه الشرائع كالوصايا في تلك الآيات الثلاث والمتشابه ما يسمى بالمجمل أو هو ما تكون دلالة اللفظ بالنسبة إليه وإلى غيره على السوية إلا بدليل منفصل. وهذا رأي مستقل يجعل المعنى الخاص عاما وهو لا يفهم من هذه الرواية.
ثانيها: أن المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ. وهو مروي عن ابن عباس أيضا وعن ابن مسعود وغيرهما.
ثالثها: أن المحكم ما كان دليله واضحا لائحا، كدلائل الوحدانية والقدرة والحكمة، والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل. عزاه الرازي إلى الأصم وبحث فيه.
رابعها: أن المحكم كل ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جلي أو خفي والمتشابه ما لا سبيل إلى العلم به، كوقت قيام الساعة ومقادير الجزاء على الأعمال.
وهذه الأربعة ذكرها الرازي وكأنه لم يطلع على غيرها. وفي تفسير ابن جرير وغيره أقوال أخرى مروية عن المفسرين منها ما يقرب من بعض ما ذكر فنوردها في سياق العدد.
خامسها: أن المحكمات ما أحكم الله فيها بيان حلاله وحرامه والمتشابه منها ما أشبه بعضه بعضا في المعاني وإن اختلفت ألفاظه. رواه ابن جرير عن مجاهد وعبارته عنده: محكمات ما فيه من الحلال والحرام وما سوى ذلك فهو متشابه يصرف بعضه بعضا وهو مثل قوله: {وما يضل به إلا الفاسقين} [البقرة: 26] ومثل قوله: {كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} [الأنعام: 125] ومثل قوله: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} [محمد: 17] وكأن مجاهدا يعني بالمتشابه ما فيه إبهام أو عموم أو إطلاق أو كل ما لم يكن حكما عمليا فهو عنده خاص بالإنشاء دون الخبر.
سادسها: أن المحكم من آي الكتاب ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجها. رواه ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير وعبارته عنده هكذا: آيات محكمات هن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه وأخر متشابهة في الصدق لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق اهـ. وعبارة ابن جرير في حكايته عنه تجعل المحكم بمعنى النص عند الأصوليين والمتشابه ما يقابله.
سابعها: أن التقسيم خاص بالقصص. فالمحكم منها ما أحكم وفصل فيه خبر الأنبياء مع أممهم والمتشابه ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عن التكرير في السور، وأطال في التمثيل له.
ثامنها: أن المتشابه ما يحتاج إلى بيان وهو مروي عن الإمام أحمد. والمحكم ما يقابله.
تاسعها: أن المتشابه ما يؤمن به ولا يعمل به. ذكره ابن تيمية والظاهر أنه جميع الأخبار فالمحكم هو قسم الإنشاء.
عاشرها: أن المتشابه آيات الصفات: (أي صفات الله) خاصة ومثلها أحاديثها ذكره ابن تيمية أيضا.
وقال الأستاذ الإمام في معنى المتشابهات: التشابه إنما يكون بين شيئين فأكثر، وهو لا يفيد عدم فهم المعنى مطلقا كما قال المفسر (الجلال). ووصف التشابه في هذه الآية هو للآيات باعتبار معانيها، أي إنك إذا تأملت في هذه الآيات تجد معاني متشابهة في فهمها من اللفظ لا يجد الذهن مرجحا لبعضها على بعض. وقالوا أيضا إن المتشابه ما كان إثبات المعنى فيه للفظ الدال عليه ونفيه عنه متساويان فقد تشابه فيه النفي والإثبات أو ما دل فيه اللفظ على شيء من العقل على خلافه فتشابهت الدلالة ولم يمكن الترجيح، كالاستواء على العرش وكون عيسى روح الله وكلمته، فهذا هو المتشابه الذي يقابله المحكم الذي لا ينفي العقل شيئا من ظاهر معناه. أما كون المحكمات هن أم الكتاب فمعناه أنهن أصله وعماده أو معظمه وهذا ظاهر لكنه لا ينطبق إلا على بعض الأقوال.
وقال الأستاذ الإمام: إن معنى ذلك أنها هي الأصل الذي دعى الناس إليه ويمكنهم أن يفهموها ويهتدوا بها وعنها يتفرع غيرها وإليها يرجع. فإن اشتبه علينا شيء نرده إليها. وليس المراد بالرد أن نؤوله بل أن نؤمن بأنه من عند الله، وأنه لا ينافي الأصل المحكم الذي هو أم الكتاب وأساس الدين الذي أمرنا أن نأخذ به على ظاهره الذي لا يحتمل غيره إلا احتمالا مرجوحا. مثال هذه المتشابهات قوله تعالى: {الرحمن على العرش} [طه: 5] وقوله: {يد الله فوق أيديهم} [الفتح:10] وقوله: {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء: 171].
وهذا رأي جمهور المفسرين وذهب جمهور عظيم منهم إلى أنه لا متشابه في القرآن إلا أخبار الغيب كصفة الآخرة وأحوالها من نعيم وعذاب.
{فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} قال الأستاذ الإمام: معنى اتباعه ابتغاء الفتنة أنهم يتبعونه بالإنكار والتنفير استعانة بما في أنفس الناس من إنكار ما لم يصل إليه علمهم ولا يناله حسهم، كالإحياء بعد الموت وشؤون تلك الحياة الأخرى. وابتغاء الفتنة بالنسبة إلى الوجه الأول في معنى المتشابه: هو أن يتبع أهل الزيغ من المشركين والمجسمة مثل قوله تعالى: {وروح منه} [النساء: 171] فيأخذونه على ظاهره من غير نظر إلى الأصل المحكم ليفتنوا الناس بدعوتهم إلى أهوائهم ويختلبوهم بشبهتهم، فيقولون: إن الله روح والمسيح روح منه، فهو من جنسه وجنسه لا يتبعض فهو هو. فالتأويل هنا بمعنى الإرجاع، أي أنهم يرجعونه إلى أهوائهم وتقاليدهم لا إلى الأصل المحكم الذي بنى عليه الاعتقاد. وأما ابتغاء تأويله لهم فهو أنهم يطبقونه على أحوال الناس في الدنيا، فيحولون خبر الإحياء بعد الموت وأخبار الحساب والجنة والنار عن معانيها ويصرفونها إلى معان من أحوال الناس في الدنيا، ليخرجوا الناس من الدين بالمرة. والقرآن مملوء بالرد عليهم كقوله تعالى: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة} [يس:79].
{وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} قال بعض السلف: إن قوله والراسخون في العلم كلام مستأنف، وبعضهم انه معطوف على لفظ الجلالة. قال الأستاذ الإمام استدل الذين قالوا بالوقف عند لفظ الجلالة وبكون ما بعده استئنافا بأدلة (منها) ان الله تعالى ذم الذين يتبعون تأويله (ومنها) قوله: {يقولون آمنا به كل من عند ربنا} [آل عمران: 7] فإن ظاهر الآية التسليم المحض لله تعالى، ومن عرف الشيء وفهمه لا يعبر عنه بما يدل على التسليم المحض. وهذا رأي كثير من الصحابة رضي الله عنهم كأبي بن كعب وعائشة. وذهب ابن عباس وجمهور من الصحابة إلى القول الثاني وكان ابن عباس يقول "أنا من الراسخين في العالم أنا أعلم تأويله". وقالوا في استدلال أولئك أن الله تعالى إنما ذم الذين يبتغون التأويل بذهابهم فيه إلى ما يخالف المحكمات يبتغون بذلك الفتنة والراسخون في العلم ليسوا كذلك، فإنهم أهل اليقين الثابت الذي لا زلزال فيه ولا اضطراب. فهؤلاء يفيض الله تعالى عليهم فهم المتشابه بما يتفق مع المحكم. وأما دلالة قولهم "آمنا به كل من عند ربنا "على التسليم المحض، فهو لا ينافي العلم، فإنهم إنما سلموا بالمتشابه في ظاهره أو بالنسبة إلى غيرهم لعلمهم باتفاقه مع المحكم فهم لرسوخهم في العلم ووقوفهم على حق اليقين لا يضطربون ولا يتزعزعون بل يؤمنون بهذا وبذاك على حد سواء، لأن كلا منهما من عند الله ربنا. ولا غرو فالجاهل في اضطراب دائم والراسخ في ثبات لازم. ومن اطلع على ينبوع الحقيقة لا تشتبه عليه المجاري، فهو يعرف الحق بذاته ويرجع كل قول إليه قائلا: آمنا به كل من عند ربنا.
هذا ما قاله الأستاذ الإمام في بيان التفسير المأثور في الآية ثم قال: بينا أن المتشابه ما استأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة، أو ما خالف ظاهر لفظه المراد منه. وورود المتشابه بالمعنى الأول في القرآن ضروري، لأن من أركان الدين ومقاصد الوحي الإخبار بأحوال الآخرة فيجب الإيمان بما جاء به الرسول من ذلك على أنه من الغيب كما نؤمن بالملائكة والجن، ونقول إنه لا يعلم تأويل ذلك أي حقيقة ما تؤول إليه هذه الألفاظ إلا الله. والراسخون في العلم وغيرهم في هذا سواء. وإنما يعرف الراسخون ما يقع تحت حكم الحس والعقل فيقفون عند حدهم ولا يتطاولون إلى معرفة حقيقة ما يخبر به الرسل عن عالم الغيب، لأنهم يعلمون أنه لا مجال لحسهم ولا لعقلهم فيه، وإنما سبيله التسليم، فيقولون آمنا به كل من عند ربنا. فعلى هذا يكون الوقف على لفظ الجلالة لازما. وإنما خص الراسخين بما ذكر، لأنهم هم الذين يفرقون بين المرتبتين: ما يجول فيه علمهم وما لا يجول فيه. ومن المحال أن يخلو الكتاب من هذا النوع فيكون كله محكما بالمعنى الذي يقابل المتشابه.
ومن الشواهد على أن التأويل هنا بمعنى ما يؤول إليه الشيء وينطبق عليه لا بمعنى ما يفسر به: قوله تعالى: {يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق} [الأعراف: 52]. فتبين مما قررناه أنه لا يقال على هذا لماذا كان القرآن منه محكم ومنه متشابه، لأن المتشابه بهذا المعنى من مقاصد الدين فلا يلتمس له سبب لأنه جاء على أصله.
قال: وأما التفسير الثاني للمتشابه وهو كونه ليس قاصرا على أحوال الآخرة بل يتناول غيرها من صفات الله التي لا يجوز فيها العقل أخذها على ظاهرها وصفات الأنبياء التي من هذا القبيل نحو قوله تعالى: {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء: 171]، فإن هذا ما يمنع الدليل العقلي والدليل السمعي من حمله على ظاهره. فهذا هو الذي يأتي الخلاف في علم الراسخين بتأويله كما تقدم. فالذين قالوا بالنفي جعلوا حكمة تخصيص الراسخين بالتسليم والتفويض هي تمييزهم بين الأمرين وإعطاء كل حكمه كما تقدم آنفا. وأما القائلون بالإثبات الذين يردون ما تشابه ظاهره صفات الله أو أنبيائه إلى أم الكتاب الذي هو المحكم ويأخذون من مجموع المحكم ما يمكنهم من فهم المتشابه، فهؤلاء يقولون: إنه ما خص الراسخين بهذا العلم إلا لبيان منع غيرهم من الخوض فيه. قال: فهذا خاص بالراسخين لا يجوز تقليدهم فيه وليس لغيرهم التهجم عليه. وهذا خاص بما لا يتعلق بعالم الغيب.
قال: وههنا يأتي السؤال: لم كان في القرآن متشابه لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم؟ ولم لم يكن كله محكما يستوي في فهمه جميع الناس، وهو قد نزل هاديا والمتشابه يحول دون الهداية بما يوقع اللبس في العقائد، ويفتح باب الفتنة لأهل التأويل؟
أقول: وقد ذكر الرازي هذا السؤال مفصلا، وذكر للعلماء خمسة أجوبة عنه. قال في المسألة الرابعة من مسائل الآية: إن بعض الملحدة طعن في القرآن لاشتماله على المتشابهات، وقال إنكم تقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه، وذكر شيئا من احتجاج الجبرية والقدرية وغيرهم، وقال إن صاحب كل مذهب يعد ما دل عليه من المحكم وما يخالفه من المتشابه ويلجأ إلى التأويل وإن كان ضعيفا.
قال: أليس أنه لو جعله نقيا عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى حصول الغرض في دينه؟
ثم قال: إن العلماء ذكروا في فوائد المتشابهات وجوها: ونحن ننقلها كما أوردها باختصار قليل لا يضيع شيئا من المعنى وهي:
الوجه الأول: أنه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب. قال الله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} [آل عمران: 142].
الثاني: لو كان القرآن محكما بالكلية لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد، وكان تصريحه مبطلا لكل ما سوى ذلك المذهب. وذلك مما ينفر أرباب المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه. فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملا في المحكم وعلى المتشابه، فحينئذ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يقوي مذهبه ويؤثر مقاله، فحينئذ ينظر فيه جميع أصحاب المذاهب ويجتهد في التأمل فيه كل صاحب مذهب، فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، فبهذا الطريق يتلخص المبطل من باطله ويصل إلى الحق.
الثالث: أن القرآن إذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بدليل العقل وحينئذ يتخلص عن ظلمة التقليد، ويصل إلى ضياء الاستدلال والبينة.
الرابع: لما كان القرآن مشتملا على المحكم والمتشابه افتقروا إلى تعليم طريق التأويلات وترجيح بعضها على بعض، وافتقر تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو وعلم أصول الفقه.
الخامس: وهو السبب الأقوى في هذا الباب أن القرآن كتاب اشتمل على دعوة الخواص والعوام بالكلية وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق. فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا بمتحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي، فوقع في التعطيل فكان الأصح ان يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه، ويكون ذلك مخلوطا بما يدل على الحق الصريح. فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من باب المتشابهات، والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو المحكمات. فهذا ما حضرنا في هذا الباب. والله أعلم اه.
أقول: إنه رحمه الله تعالى لم يأت بشيء نير ولم يحسن ما قاله العلماء، وأسخف هذه الوجوه وأشدها تشوها الثاني. ولا أدري كيف أجاز له عقله أن يقول إن القرآن جاء بالمتشابهات ليستميل أهل المذاهب إلى النظر فيه، وان هذا طريق إلى الحق؟ أين كانت هذه المذاهب عند نزوله؟ ومن اهتدى من أهلها بهذه الطريقة؟ ويقرب من هذا ما قاله في بيان السبب الأقوى من دعوة العوام إلى المتشابه أولا!!
وهاك أيها القارئ ما قاله الأستاذ الإمام في بيان أجوبة العلماء، وهي عنده ثلاثة:
إن الله أنزل المتشابه ليمتحن قلوبنا في التصديق به فإنه لو كان كل ما ورد في الكتاب معقولا واضحا لا شبهة فيه عند أحد من الأذكياء ولا من البلداء لما كان في الإيمان شيء من معنى الخضوع لأمر الله تعالى والتسليم لرسله.
جعل الله المتشابه في القرآن حافزا لعقل المؤمن إلى النظر كيلا يضعف فيموت، فإن السهل الجلي جدا لا عمل للعقل فيه. والدين أعز شيء على الإنسان فإذا لم يجد فيه مجالا للبحث يموت فيه، وإذا مات فيه لا يكون حيا بغيره. فالعقل شيء واحد إذا قوي في شيء قوي في كل شيء، وإذا ضعف ضعف في كل شيء. ولذلك قال: {والراسخون في العلم} ولم يقل الراسخون في الدين لأن العلم أعم وأشمل، فمن رحمته تعالى أن جعل في الدين مجالا لبحث العقل بما أودع فيه من المتشابه، فهو يبحث أولا في تمييز المتشابه من غيره، وذلك يستلزم البحث في الأدلة الكونية والبراهين العقلية وطرق الخطاب ووجوه الدلالة ليصل إلى فهمه ويهتدي إلى تأويله. وهذا الوجه لا يأتي إلا على قول من عطف (والراسخون) على لفظ الجلالة، وليكن كذلك.
إن الأنبياء بعثوا إلى جميع الأصناف من عامة الناس وخاصتهم سواء كانت بعثتهم لأقوامهم خاصة كالأنبياء السالفين عليهم السلام أو لجميع البشر كنبينا صلى الله عليه وسلم. فإذا كانت الدعوة إلى الدين موجهة إلى العالم والجاهل والذكي والبليد والمرأة والخادم، وكان من المعاني ما لا يمكن التعبير بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح كنهه بحيث يفهمه كل مخاطب عاميا كان أو خاصيا، ألا يكون في ذلك من المعاني العالية والحكم الدقيقة ما يفهمه الخاصة ولو بطريق الكناية والتعريض ويؤمر العامة بتفويض الأمر فيه إلى الله تعالى والوقوف عند حد المحكم فيكون لكل نصيبه على قدر استعداده. مثال ذلك: إطلاق لفظ" كلمة الله "و" روح من الله "على عيسى: فالخاصة يفهمون من هذا ما لا تفهمه العامة. ولذلك فتن النصارى بمثل هذا التعبير إذ لم يقفوا عند حد المحكم وهو التنزيه واستحالة ان يكون لله جنس أو أم أو ولد. والمحكم عندنا في هذا قوله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} [آل عمران: 59] وسيأتي في هذه السورة.
أقول: وعندهم مثل قول المسيح في إنجيل يوحنا" وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته".
قال: ومن المتشابه ما يحتمل معاني متعددة وينطبق على حالات مختلفة لو أخذ منها أي معنى وحمل على أية حالة لصح. ويوجد هذا النوع في كلام جميع الأنبياء، وهو على حد قوله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24].
ومنه إبهام القرآن لمواقيت الصلاة لحكمة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في بلاد العرب المعتدلة بالأوقات الخمسة للصلوات الخمس. وما كانت العرب تعلم أن في الدنيا بلادا لا يمكن تحديد هذه المواقيت فيها، كالبلاد التي تشرق فيها الشمس نحو ساعتين لا يزيد نهار أهلها على ذلك. أشار القرآن إلى مواقيت الصلاة بقوله: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون} [الروم: 17]. وسبب هذا الإبهام أن القرآن دين عام لا خاص ببلاد العرب ونحوها. فوجب أن يسهل الاهتداء به حيثما بلغ. ومثل هذا الإجمال والإبهام في مواقيت الصلاة يجعل لعقول الراسخين في العلم وسيلة للمراوحة فيه واستخراج الأحكام منه في كل مكان بحسبه. فأينما ظهرت الحقيقة وجدت لها حكما في القرآن. وهذا النوع من المتشابه من أجلِّ نعم الله تعالى، ولا سبيل إلى الاعتراض على اشتمال الكتاب عليه.
{وما يذكر إلا أولوا الأرباب} قال الأستاذ الإمام أي وما يعقل ذلك ويفقه حكمته إلا أرباب القلوب النيرة والعقول الكبيرة، وإنما وصف الراسخون بذلك لأنهم لم يكونوا راسخين إلا بالتعقل والتدبر لجميع الآيات المحكمة التي هي الأصول والقواعد وينظروا ما يناسب المتشابه منها فيردونه إليه. أقول وهذا التخريج يصدق على أحد الوجهين السابقين. وأما على القول بأن المتشابه ما كان نبأ عن عالم الغيب فهم الذين يعلمون أن قياس الشاهد على الغائب قياس بالفارق اهـ.
اعلم أنه ليس في كتب التفسير المتداولة ما يروي الغليل في هذه المسألة وما ذكرناه آنفا هو صفوة ما قالوه، وخيره كلام الأستاذ الإمام.
وقد رأينا أن نرجع بعد كتابته إلى كلام في المتشابه والتأويل لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية كنا قرأنا بعضه من قبل في تفسيره لسورة الإخلاص، فرجعنا إليه وقرأناه بإمعان، فإذا هو منتهى التحقيق والعرفان، والبيان الذي ليس وراءه بيان، أثبت فيه أنه ليس في القرآن كلام لا يفهم معناه، وأن المتشابه إضافي إذا اشتبه فيه الضعيف لا يشتبه فيه الراسخ، وان التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى هو ما تؤول إليه تلك الآيات في الواقع، ككيفية صفات الله تعالى وكيفية عالم الغيب من الجنة والنار وما فيهما، فلا يعلم أحد غيره تعالى كيفية قدرته وتعلقها بالإيجاد والإعدام وكيفية استوائه على العرش مع أن العرش مخلوق له وقائم بقدرته ولا كيفية عذاب أهل النار ولا نعيم أهل الجنة، كما قال تعالى في هؤلاء: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17] فليست نار الآخرة كنار الدنيا وإنما هي شيء آخر. وليست ثمرات الجنة ولبنها وعسلها من جنس المعهود لنا في هذا العالم، وإنما هو شيء آخر يليق بذلك العالم ويناسبه، وإننا نبين ذلك بالإطناب الذي يحتمله المقام مستمدين من كلام هذا الحبر العظيم، ناقلين بعض ما كتبه فنقول:
إنما غلط المفسرون في تفسير التأويل في الآية لأنهم جعلوه بالمعنى الاصطلاحي، وإن تفسير كلمات القرآن بالمواصفات الاصطلاحية قد كان منشأ غلط يصعب حصره. ذكر التأويل في سبع سور من القرآن هذه السورة أولاها والثانية: (سورة النساء 94) وليس فيها إلا قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء: 59] فسر التأويل ههنا مجاهد وقتادة بالثواب والجزاء، والسدي وابن زيد وابن قتيبة والزجاج بالعاقبة، وكلاهما بمعنى المآل، لكن الثاني أعم فهو يشمل حسن المآل في الدنيا. وقد يكون التنازع في الأمور الدنيوية أكثر والرجوع فيه إلى كتاب الله ورسوله في حياته وسنته من بعده يكون مآل الوفاق والسلامة من البغضاء، ولا يحتمل بحال أن يكون معنى التأويل هنا التفسير أو صرف الكلام عن ظاهره إلى غيره، لأن الكلام في التنازع وحسن عاقبة رده إلى الله ورسوله.
والثالثة: (سورة الأعراف) وفيها قوله تعالى: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوله لقوم يؤمنون * هل ينظرون إلا تأويله؟ يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق، فهل لنا من شفعاء أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون} [الأعراف: 52 53]. فسر ابن عباس (تأويله) هنا بتصديق وعده ووعيده أي يوم يظهر صدق ما أخبر به من أمر الآخرة. وقال قتادة تأويله ثوابه ومجاهد جزاؤه والسدي عاقبته وابن زيد حقيقته. وكل هذه الألفاظ متقاربة المعنى والمراد ما يؤول إليه الأمر من وقوع ما أخبر به القرآن من أمر الآخرة ولا يحتمل أن يراد به تفسيره.
الرابعة: (سورة يونس 10) قال تعالى بعد ذكر القرآن تصديقا لما بين يديه ومنزها عن الافتراء والريب ودعواهم الباطلة فيه وبعد تعجيزهم بطلب الإتيان بسورة من مثله: {بل كذبوا بما لا يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} فسر أهل الأثر تأويله هنا بنحو ما تقدم، أي ما يؤول إليه الأمر من ظهور صدقه ووقوع ما أخبر به. ولما كانت عاقبة المكذبين قبلهم الهلاك كان تأويله أن تكون عاقبتهم كعاقبة من قبلهم.
الخامسة: (سورة يوسف 12) جاء فيها قوله تعالى: {وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث} [يوسف: 6] وقوله حكاية عن الفتيين اللذين كانا مع يوسف في السجن: {نبئنا بتأويله} [يوسف: 36] أي ما رأياه في المنام. وقوله حكاية عنه: {قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما} [يوسف: 37] وقوله حكاية عن ملأ فرعون: {وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين} [يوسف: 44] وقوله حكاية عن الذي نجا من ذينك الفتيين: {أنا أنبئكم بتأويله} [يوسف: 45] وقوله حكاية لخطاب يوسف لأبيه: {يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا} [يوسف: 100] وقوله حكاية عنه: {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث} [يوسف: 101] فتأويل الأحاديث والأحلام هو الأمر الوجودي الذي تدل عليه، وهو فعل لا قول كما هو صريح في مثل قوله: {نباتكما بتأويله قبل أن يأتيكما} [يوسف: 37]. فإخباره بالتأويل هو إخباره بالأمر الذي سيقع في المآل وفي قوله: {هذا تأويل رؤياي من قبل} [يوسف: 100] أي هذا الذي وقع من سجود أبويه وإخوته الأحد عشر له هو الأمر الواقعي الذي آلت إليه رؤياه المذكورة في أول السورة بقوله تعالى: {إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} [يوسف: 4].
السادسة: (سورة الإسراء 17) وفيها قوله: {وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا} [الإسراء: 35] أي مآلا.
السابعة: (سورة الكهف 18) وفيها قوله تعالى حكاية عن البعد الذي آتاه الله رحمه وعلما من لدنه في خطاب موسى: {سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا} [الكهف: 78] وقوله بعد أن نبأه بما تؤول إليه تلك الأعمال التي أنكرها موسى: {ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا} [الكهف: 82] فالإنباء بالتأويل إنباء بأمور عملية ستقع في المآل لا بالأقوال.
فتبين من هذه الآيات أن لفظ التأويل لم يرد في القرآن إلا بمعنى الأمر العملي الذي يقع في المآل تصديقا لخبر أو رؤيا أو لعمل غامض يقصد به شيء في المستقبل، فيجب أن تفسر آية آل عمران بذلك، ولا يجوز أن يحمل التأويل فيها على المعنى الذي اصطلح عليه قدماء المفسرين، وهو جعله بمعنى التفسير كما يقول ابن جرير: القول في تأويل هذه الآية كذا، ولا على ما اصطلح عليه متأخروهم من جعل التأويل عبارة عن نقل الكلام عن موضعه إلى ما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ ومثله قول أهل الأصول: التأويل صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل.
بحمل التأويل في القرآن على المعنى الاصطلاحي تمسكت الباطنية في دعواهم إذ قالوا: إن أحدا لم يفهم القرآن في زمن التنزيل ولا بعده، وأن الله وعد بتأويله فلا بد من انتظار من يبعثه الله تعالى بهذا التأويل. والبابية وهم آخر فرقة ظهرت من الباطنية تدعي أن الباب هو ذلك الموعود به، والبهائية منهم يقولون بل هو البهاء. وقد سمعت من دعاتهم من يحتج بقوله تعالى: {هل ينظرون إلا تأويله} [الأعراف: 53] الآية. وقد ذكرت آنفا فقلت له تأويله ما وعد به كقوله: {فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة} [الزخرف: 66] وقوله {ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون} [يس: 49] فهذا وأمثاله هو تأويله. والقرآن كله مفهوم إن اشتبه منه على بعض الناس علمه غيرهم.
قال ابن تيمية في تفسير سورة الإخلاص بعد كلام في ذلك ما نصه:
« والمقصود هنا أنه لا يجوز أن يكون الله أنزل كلاما لا معنى له، ولا يجوز أن يكون الرسول وجميع الأمة لا يعلمون معناه كما يقول ذلك من يقوله من المتأخرين. وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ سواء كان من هذا تأويل القرآن لا يعلمه الراسخون أو كان للتأويل معنيان يعلمون أحدهما ولا يعلمون الآخر. وإذا دار الأمر بين القول بأن الرسول كان لا يعلم معنى المتشابه من القرآن وبين أن يقال الراسخون في العلم يعلمون، كان هذا الإثبات خيرا من ذلك النفي. فإن معنى الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنة وأقوال السلف على أن جميع القرآن مما يمكن علمه وفهمه وتدبره. وهذا مما يجب القطع به وليس معنا قاطع على ان الراسخين في العلم لا يعلمون تفسير المتشابه، فإن السلف قد قال كثير منهم إنهم يعلمون تأويله، منهم مجاهد مع جلالة قدره والربيع بن أنس ومحمد بن جعفر بن الزبير ونقلوا ذلك عن ابن عباس وأنه قال "أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله" وقول أحمد فيما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية، فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، وقوله عن الجهمية أنها تأولت ثلاث آيات من المتشابه ثم تكلم على معناها، دليل على أن المتشابه عنده تعرف العلماء معناه، وان المذموم تأويله على غير تأويله. فأما تفسيره المطابق لمعناه فهذا محمود ليس بمذموم وهذا يقتضي أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل الصحيح للمتشابه عنده وهو التفسير في لغة السلف. ولهذا لم يقل أحمد ولا غيره من السلف إن في القرآن آيات لا يعرف الرسول ولا غيره معناها بل يتلون لفظا لا يعرفون معناه.
وهذا القول اختيار كثير من أهل السنة، منهم ابن قتيبة وأبو سليمان الدمشقي وغيرهما. وابن قتيبة من المنتسبين إلى احمد وإسحاق والمنتصرين لمذاهب السنة المشهورة، وله في ذلك مصنفات متعددة، قال فيه صاحب كتاب التحديث بمناقب أهل الحديث: وهو أحد أعلام الأئمة والعلماء والفضلاء وأجودهم تصنيفا وأحسنهم ترصيفا له زهاء ثلاثمائة مصنف وكان يميل إلى مذهب أحمد وإسحاق وكان معاصرا لإبراهيم الحربي ومحمد بن نصر المروزي وكان أهل المغرب يعظمونه ويقولون: من استجاز الوقيعة في ابن قتيبة يتهم بالزندقة، ويقولون كل بيت ليس فيه شيء من تصنيفه لا خير فيه.
قلت: ويقال هو لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة فإنه خطيب السنة، كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة، وقد نقل عن ابن عباس أيضا القول الآخر ونقل ذلك عن غيره من الصحابة وطائفة من التابعين، ولم يذكر هؤلاء على قولهم نصا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت مسألة نزاع فترد إلى الله والرسول، وأولئك احتجوا بأنه قرن ابتغاء الفتنة بابتغاء تأويله وبأن النبي صلى الله عليه وسلم ذم مبتغي المتشابه وقال "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاحذروهم" 931 ولهذا ضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه صبيغ بن عسل لما سأله عن المتشابه ولأنه قال (والراسخون في العلم يقولون) ولو كانت الواو واو عطف مفرد على مفرد لا واو الاستئناف التي تعطف جملة على جملة لقال: ويقولون.
فأجاب الآخرون عن هذا بأن الله قال: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا} [الحشر: 8] ثم قال: {والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون} [الحشر: 9] ثم قال: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} [الحشر: 10] قالوا: فهذا عطف مفرد على مفرد والفعل حال من المعطوف فقط. وهو نظير قوله: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا}.
" قالوا: ولأنه لو كان المراد مجرد الوصف بالإيمان لم يخص الراسخين بل قال والمؤمنون يقولون آمنا به، فإن كل مؤمن يجب عليه أن يؤمن به فلما خص الراسخين في العلم بالذكر علم أنهم امتازوا بعلم تأويله فعلموه لأنهم عالمون، وآمنوا به لأنهم يؤمنون. وكان إيمانهم به مع العلم أكمل في الوصف، وقد قال عقب ذلك {وما يذكر إلا أولو الألباب}. وهذا يدل على أن هنا تذكرا يختص به أولو الألباب، فإنه ما ما ثم إلا إيمان بالألفاظ، فلا يذكر لما يدلهم على ما أريد بالتشابه. ونظير هذا قوله في الآية الأخرى {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} [النساء: 162]. فلما وصفهم بالرسوخ في العلم وأنهم يؤمنون قرن بهم المؤمنين فلو أريد هنا مجرد الإيمان لقال: والراسخون في العلم والمؤمنون يقولون آمنا به، كما قال في تلك الآية لما كان مراده مجرد الاختيار بالإيمان جمع بين الطائفتين.
" قالوا: وأما الذم فإنما وقع على من يتبع المتشابه لابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وهو حال أهل القصد الفاسد الذين يريدون القدح في القرآن، فلا يطلب إلا المتشابه لإفساد القلوب وهي فتنتنا به ويطلبون تأويله. وليس طلبهم لتأويله لأجل العلم والاهتداء بل لأجل الفتنة. وكذلك صبيغ بن عسل ضربه عمر لأن قصده بالسؤال عن المتشابه كان لابتغاء الفتنة. وهذا كمن يورد أسئلة إشكالات على كلام الغير ويقول ماذا أريد بكذا؟ وغرضه التشكيك والطعن فيه ليس غرضه معرفة الحق وهؤلاء هم الذين عناهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه" 932 ولهذا يتبعون أي يطلبون المتشابه ويقصدونه دون المحكم مثل المستتبع للشيء الذي يتحراه ويقصده وهذا فعل من قصده الفتنة وأما من سأل عن معنى المتشابه ليعرفه ويزيل ما عرض له من الشبهة وهو عالم بالمحكم متتبع له مؤمن بالمتشابه لا يقصد فتنة، فهذا لم يذمه الله.
وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم يقولون مثل الأثر المعروف الذي رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: حدثنا يزيد بن عبد ربه ثنا بقية ثنا عتبة بن أبي حكيم ثني عمرة بن راشد الكناني عن زياد عن معاذ بن جبل قال "يقرأ القرآن رجلان فرجل له فيه هوى ونية يفليه فلي الرأس يلتمس أن يجد فيه أمرا يخرج به على الناس. أولئك شرار أمتهم. أولئك يعمى الله عليهم سبل الهدى، ورجل يقرؤه ليس له فيه هوى ولا نية يفليه فلي الرأس، فما تبين له منه عمل به وما اشتبه عليه وكله إلى الله، ليتفقهن أولئك فقها ما فقهه قوم قط، حتى لو أن أحدهم مكث عشرين سنة فليبعثن الله له من يبين له الآية التي أشكلت عليه أو يفهمه إياها من قبل نفسه" قال بقية استهدى ابن عيينة حديث عتبة هذا. فهذا معاذ يذم من اتبع المتشابه لقصد الفتنة. وأما من قصده الفقه فقد أخبر أن الله لا بد أن يفقهه المتشابه فقها ما فقهه قوم قط.
" قالوا والدليل على أن الصحابة كانوا إذا عرض لأحدهم شبهة في آية أو حديث سأل عن ذلك كما سأل عمر فقال "ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به" وسأله عمر أيضا "ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمنا" ولما نزل قوله: {ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} [الأنعام: 82] شق عليهم وقالوا أينا لم يظلم نفسه؟ حتى بين لهم ولما نزل قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبك به الله} [البقرة: 284] شق عليهم حتى بين لهم الحكمة في ذلك ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم "ومن نوقش الحساب عذب" قالت عائشة "ألم يقل الله {فسوف يحاسب حسابا يسيرا}؟ قال إنما ذلك العرض" 933 قالوا والدليل على ما قلناه إجماع السلف فإنهم فسروا جميع القرآن. وقال مجاهد "عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عندها" وتلقوا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرؤوننا القرآن عن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا.
وكلام أهل التفسير من الصحابة والتابعين شامل لجميع القرآن إلا ما قد يشكل على بعضهم فيقف فيه لا لأن أحدا من الناس لا يعلمه، لكن لأنه هو لم يعلمه: وأيضا فإن الله قد أمر بتدبر القرآن مطلقا ولم يستثن منه شيئا لا يتدبر، ولا قال: لا تدبروا المتشابه. والتدبر بدون الفهم ممتنع، ولو كان من القرآن ما لا يتدبر لم يعرف. فإن الله لم يميز المتشابه بحد ظاهر حتى يجتنب تدبره. وهذا أيضا مما يحتجون به ويقولون المتشابه أمر نسبي إضافي، فقد يشتبه على هذا ما لا يشتبه على غيره قال لأن الله أخبر أن القرآن بيان وهدى وشفاء ونور ولم يستثن منه شيئا عن هذا الوصف وهذا ممتنع بدون فهم المعنى.
" قالوا: ولأن من العظيم أن يقال إن الله أنزل على نبيه كلاما لم يكن يفهم معناه لا هو ولا جبريل، بل وعلى قول هؤلاء كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث بأحاديث الصفات والقدر والمعاد ونحو ذلك ما هو نظير متشابه القرآن عندهم ولم يكن يعرف معنى ما يقوله. وهذا لا يظن بأقل الناس. وأيضا فالكلام إنما المقصود به الإفهام فإذا لم يقصد به ذلك كان عبثا وباطلا والله تعالى قد نزه نفسه عن فعل الباطل والعبث، فكيف يقول الباطل والعبث ويتكلم بكلام نزله على خلقه لا يريد به إفهامهم؟ وهذا من أقوى حجج الملحدين. وأيضا فما في القرآن آية إلا وقد تكلم الصحابة والتابعون لهم في معناها وبينوا ذلك. وإذا قيل فقد يختلفون في بعض ذلك. قيل كما قد يختلفون في آيات الأمر والنهي مما اتفق المسلمون على أن الراسخين في العلم يعلمون معناها. وهذا أيضا مما يدل على أن الراسخين في العلم يعلمون تفسير المتشابه فإن المتشابه قد يكون في آيات الأمر والنهي كما يكون في آيات الخبر وتلك مما اتفق العلماء على معرفة الراسخين لمعناها فكذلك الأخرى. فإنه على قول النفاة لم يعلم معنى للمتشابه إلا الله لا ملك ولا رسول ولا عالم. وهذا خلاف إجماع المسلمين في متشابه الأمر والنهي.
وأيضا فلفظ التأويل يكون للمحكم كما يكون للمتشابه كما دل القرآن والسنة وأقوال الصحابة على ذلك وهم يعلمون معنى المحكم فكذلك معنى المتشابه وأي فضيلة في المتشابه حتى ينفرد الله بعلم معناه والمحكم أفضل منه. وقد بين معناه لعباده، فأي فضيله في المتشابه حتى يستأثر الله بعلمه كوقت الساعة لم ينزل خطابا ولم يذكر في القرآن آية تدل على وقت الساعة. ونحن نعلم ان الله استأثر بأشياء لم يطلع عباده عليها وإنما النزاع في كلام أنزله وأخبر أنه هدى وبيان وشفاء، وأمر بتدبره. ثم قال: إن منه ما لا يعرف معناه إلا الله ولم يبين الله ولا رسوله ذلك القدر الذي لا يعرف أحد معناه؟ ولهذا صار كل من أعرض عن آيات لا يؤمن بمعناها يجعلها من المتشابه بمجرد دعواه. ثم سبب نزول الآية قصة أهل نجران وقد احتجوا بقوله "إنا". و" نحن "وبقوله" كلمة منه، وروح منه "وهذا قد اتفق المسلمون على معرفة معناه، فكيف يقال إن المتشابه لا يعرف معناه لا الملائكة ولا الأنبياء ولا أحد من السلف وهو من كلام الله الذي أنزله إلينا وأمرنا أن نتدبره ونعقله، وأخبر أنه بيان وهدى وشفاء ونور؟ وليس المراد من الكلام إلا معانيه ولولا المعنى لم يجز التكلم بلفظ لا معنى له وقد قال الحسن" ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا أنزلت وماذا عنى بها".
ومن قال إن سبب نزول الآية سؤال اليهود عن حروف المعجم في آلم بحساب الجمل. فهذا نقل باطل. أما أولا: فلأنه من رواية الكلبي. وأما ثانيا: فهذا قد قيل إنهم قالوه في أول مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وسورة آل عمران إنما نزل صدرها متأخرا لما قدم وفد نجران بالنقل المستفيض المتواتر، وفيها فرض الحج وإنما فرض سنة تسع أو عشر لم يفرض في أول الهجرة باتفاق المسلمين، وأما ثالثا فلأن حروف المعجم ودلالة الحرف على بقاء هذه الأمة ليس هو من تأويل القرآن الذي استأثر الله بعلمه بل إما أن يقال إنه ليس مما أراده الله بكلامه فلا يقال إنه انفرد بعلمه، بل دعوى دلالة الحروف على ذلك باطل، وإما أن يقال بل يدل عليه وقد علم بعض الناس ما يدل عليه، وحينئذ فقد علم الناس ذلك أما دعوى دلالة القرآن على ذلك وأن أحدا لا يعلمه فهذا هو الباطل وأيضا فإذا كانت الأمور العلمية التي أخبر الله بها في القرآن لا يعرفها الرسول كان هذا من أعظم قدح الملاحدة فيه وكان حجة لما يقولونه من أنه كان لا يعرف الأمور العلمية أو أنه كان يعرفها ولم يبينها، بل هذا القول يقتضي أنه لم يكن يعلمها فإن ما لا يعلمه إلا الله لا يعلمه النبي ولا غيره.
{وبالجملة فالدلائل الكثيرة توجب القطع ببطلان قول من يقول إن في القرآن آيات لا يعلم معناها الرسول ولا غيره. نعم قد يكون في القرآن آيات لا يعلم معناها كثير من العلماء فضلا عن غيرهم وليس ذلك في آية معينة بل قد يشكل على هذا ما يعرفه هذا وذلك تارة يكون لغرابة اللفظ وتارة لاشتباه المعنى بغيره وتارة لشبهة في نفس الإنسان تمنعه من معرفة الحق وتارة لعدم التدبر التام وتارة لغير ذلك من الأسباب فيجب القطع بأن قوله: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به} أن الصواب قول من يجعله معطوفا ويجعل الواو لعطف مفرد على مفرد أو يكون كلا القولين حقا وهي قراءتان والتأويل المنفي علمه عن غير الله هو الكيفيات التي لا يعلمها غيره. وهذا فيه نظر وابن عباس جاء عنه أنه قال "أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله" وجاء عنه أن الراسخين لا يعلمون تأويله، وجاء عنه أنه قال "التفسير على أربعة أوجه، تفسير تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر احد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله ومن ادعى عله فهو كاذب" وهذا القول يجمع القولين ويبين أن العلماء يعلمون من تفسيره ما لا يعلمه غيرهم وان فيه ما لا يعلمه إلا الله.
" فأما من جعل الصواب قول من جعل الوقف عند قوله "إلا الله" وجعل التأويل بمعنى التفسير فهذا خطأ قطعا وأما التأويل بالمعنى الثالث وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح فهذا الاصطلاح لم يكن بعد عرف في عهد الصحابة بل ولا التابعين بل ولا الأئمة الأربعة ولا كان التكلم بهذا الاصطلاح معروفا في القرون الثلاثة بل ولا علمت أحدا فيهم خص لفظ التأويل بهذا، ولكن لما صار تخصيص لفظ التأويل بهذا شائعا في عرف كثير من المتأخرين فظنوا أن التأويل في الآية هذا معناه صاروا يعتقدون أن لمتشابه القرآن معاني تخالف ما يفهم منه؛ وفرقوا دينهم بعد ذلك وصاروا شيعا، والمتشابه المذكور الذي كان سبب نزول الآية لا يدل ظاهره على معنى فاسد وإنما الخطأ في فهم السامع.
نعم قد يقال إن مجرد هذا الخطاب لا يبين كمال المطلوب ولكن فرق بين عدم دلالته على المطلوب وبين دلالته على نقيض المطلوب. فهذا الثاني هو المنفي بل وليس في القرآن ما يدل على الباطل ألبتة كما قد بسط في موضعه ولكن كثيرا من الناس يزعم أن لظاهر الآية معنى، إما معنى يعتقده وإما معنى باطلا فيحتاج إلى تأويله ويكون ما قاله باطلا لا تدل الآية على معتقده ولا على المعنى الباطل. وهذا كثير جدا وهؤلاء هم الذين يجعلون القرآن كثيرا ما يحتاج إلى التأويل المحدث وهو صرف اللفظ عن مدلوله إلى خلاف مدلوله.
" ومما يحتج به من قال الراسخون في العلم يعلمون التأويل ما ثبت في صحيح البخاري وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له وقال "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" 934 فقد دعا له بعلم التأويل مطلقا وابن عباس فسر القرآن كله. قال مجاهد "عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره أقفه عند كل آية وأسأله عنها وكان يقول: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله" وأيضا فالنقول متواترة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه تكلم في جميع معاني القرآن من الأمر والخبر. فله من الكلام في الأسماء والصفات والوعد والوعيد والقصص ومن الكلام في الأمر والنهي والأحكام ما بين أنه كان يتكلم في جميع معاني القرآن وأيضا فقد قال ابن مسعود "ما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم في ماذا أنزلت" وأيضا فإنهم متفقون على أن آيات الأحكام يعلم تأويلها وهي نحو خمسمائة آية وسائر القرآن خبر عن الله وأسمائه وصفاته أو عن اليوم الآخر والجنة والنار أو عن القصص وعاقبة أهل الإيمان وعاقبة أهل الكفر فإن كان هذا هو المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله فجمهور القرآن لا يعرف أحد معناه لا الرسول ولا أحد من الأمة. ومعلوم أن هذا مكابرة ظاهرة.
وأيضا فمعلوم أن العلم بتأويل الرؤيا أصعب من العلم بتأويل الكلام الذي يخبر به فإن دلالة الرؤيا على تأويلها دلالة خفية غامضة لا يهتدي لها جمهور الناس بخلاف دلالة لفظ الكلام على معناه فإذا كان الله قد علم عباده تأويل الأحاديث التي يرونها في المنام فلأن يعلمهم تأويل الكلام العربي المبين الذي ينزله على أنبيائه بطريق الأولى والأحرى. قال يعقوب ليوسف {وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث} [يوسف: 6] وقال يوسف {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث} [يوسف: 101] وقال {لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نباتكما بتأويله قبل ان يأتيكما} [يوسف: 37].
" وأيضا فقد ذم الله الكفار بقوله: {أم يقولون افتراه قل فائتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله} [يونس: 38،39] وقال {ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون * حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما؛ أم ماذا كنتم تعلمون} [النمل: 84] وهذا ذم لمن كذب بما لم يحط بعمله فما قاله الناس من الأقوال المختلفة في تفسير القرآن وتأويله ليس لأحد أن يصدق بقول دون قول بلا علم ولا يكذب بشيء منها إلا أن يحيط بعلمه. وهذا لا يمكن إلا إذا عرف الحق الذي أريد بالآية، فعلم أن ما سواه باطل، فيكذب بالباطل الذي أحاط بعلمه. وأما إذا لم يعرف معناها ولم يحط بشيء منها علما فلا يجوز له التكذيب بشيء منها مع أن الأقوال المتناقضة بعضها باطل قطعا ويكون حينئذ المكذب بالقرآن كالمكذب بالأقوال المتناقضة والمكذب بالحق كالمكذب بالباطل وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم.
" وأيضا فإنه إن بنى على ما يعتقده من أنه لا يعلم معاني الآيات الخبرية إلا الله لزمه أن يكذب كل من احتج بآية من القرآن خبرية على شيء من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر ومن تكلم في تفسير ذلك. وكذلك يلزم مثل ذلك في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وإن قال المتشابه هو بعض الخبريات لزمه أن يتبين فصلا يبين به ما يجوز أن يعلم معناه من آيات القرآن وما لا يجوز أن يعلم معناه بحيث لا يجوز أن يعلم معناه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا أحد من الصحابة ولا غيرهم. ومعلوم انه لا يمكن أحدا ذكر حد فاصل بين ما يجوز أن يعلم معناه بعض الناس وبين ما لا يجوز أن يعلم معناه أحد ولو ذكر ما ذكر انتقض عليه فعلم ان المتشابه ليس هو الذي لا يمكن أحدا معرفة معناه وهذا دليل مستقل في المسألة.
" وأيضا فقوله {لم يحيطوا بعلمه} [يونس: 10] {أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما} [النمل: 84] ذم لهم على عدم الإحاطة مع التكذيب، ولو كان الناس كلهم مشتركين في عدم الإحاطة بعلم المتشابه لم يكن في ذمهم بهذا الوصف فائدة ولكان الذم على مجرد التكذيب فإن هذا بمنزلة أن يقال أكذبتم بما لم تحيطوا به علما ولا يحيط به علما إلا الله؟ ومن كذب بما لا يعلمه إلا الله كان أقرب إلى العذر من أن يكذب بما يعلمه الناس فلو لم يحط به علما الراسخون كان ترك هذا الوصف أقرب في ذمهم من ذكره.
" ويتبين هذا بوجه آخر هو دليل في المسألة، وهو أن الله ذم الزائغين بالجهل وسوء القصد، فإنهم يقصدون المتشابه يبتغون تأويله ولا يعلم تأويله إلا الراسخون في العلم وليسوا منهم. وهم يقصدون الفتنة لا يقصدون العلم والحق. وهذا كقوله تعالى: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} [الأنفال: 23] فإن المعنى بقوله "أسمعهم" أفهمهم القرآن يقول: لو علم الله فيهم حسن قصد وقبول للحق لأفهمهم القرآن لكن لو أفهمهم لتولوا عن الإيمان وقبول الحق لسوء قصدهم. فهم جاهلون ظالمون. كذلك الذين في قلوبهم زيغ هم مذمومون بسوء القصد مع طلب علم ما ليسوا من أهله. وليس إذا عيب هؤلاء على العلم ومنعوه يعاب من حسن قصده وجعله الله من الراسخين في العلم.
" فإن قيل: فأكثر السلف على أن الراسخين في العلم لا يعلمون التأويل وكذلك أكثر أهل اللغة يروى هذا عن ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وعروة وقتادة وعمر بن عبد العزيز والفراء وأبي عبيد وثعلب وابن الأنباري قال ابن الأنباري في قراءة عبد الله: إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم. وفي قراءة أبي وابن عباس: ويقول الراسخون في العلم. قال وقد أنزل الله في كتابه أشياء استأثر بعلمها كقوله تعالى: {قل إنما علمها عند الله} [الأعراف: 187] وقوله {وقرونا بين ذلك كثيرا} [الفرقان: 38] فأنزل المحكم ليؤمن به المؤمن فيسعد ويكفر به الكافر فيشقى. قال ابن الأنباري والذي يروي القول الآخر عن مجاهد هو ابن أبي نجيح ولا تصح روايته التفسير عن مجاهد، فيقال: قول القائل إن أكثر السلف على هذا قول بلا علم فإنه لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه قال إن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه يعلمه الراسخون، وما ذكر من قراءة ابن مسعود أنه كان يقول "ما في كتاب الله آية إلا وأنا أعلم في ماذا أنزلت" وقال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرؤننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما "أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل" وهذا أمر مشهور رواه الناس عامة: أهل الحديث والتفسير وله إسناد معروف بخلاف ما ذكر من قراءتهما وكذلك ابن عباس قد عرف عنه أنه كان يقول "أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله" وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا له بعلم تأويل الكتاب، فكيف لا يعلم التأويل؟ مع أن قراءة عبد الله "إن تأويله إلا عند الله" لا تناقض هذا القول فإن نفس التأويل لا يأتي به إلا الله كما قال تعالى: {هل ينظرون إلا تأويله} [الأعراف: 53] وقال: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله} [يونس: 39] وقد اشتهر عن عامة السلف أن الوعد والوعيد من المتشابه وتأويل ذلك هو مجيء الموعود به، وذلك عند الله لا يأتي به إلا هو، وليس في القرآن أن علم تأويله إلا عند الله، كما قال في الساعة {يسألونك عن الساعة أيان مرساها؟ قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو. ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة. يسألونك كأنك حفي عنها. قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون * قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء} [الأعراف: 187،188] وكذلك لما قال فرعون لموسى (فما بال القرون الأولى؟ قل علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى) فلو كانت قراءة ابن مسعود نفي العلم عن الراسخين لكانت: إن علم تأويله إلا عند الله. لم يقرأ إن تأويله إلا عند الله. فإن هذا حق بلا نزاع.
وأما القراءة الأخرى المروية عن أبي وابن عباس فقد نقل عن ابن عباس ما يناقضها وأخص أصحابه بالتفسير مجاهد وعلى تفسير مجاهد يعتمد أكثر الأئمة كالثوري والشافعي وأحمد بن حنبل والبخاري قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، والشافعي في كتبه أكثر الذي ينقله عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وكذلك البخاري في صحيحه يعتمد على هذا التفسير. وقول القائل لا تصح رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد: جوابه أن تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد من أصح التفاسير بل ليس بأيدي أهل التفسير كتاب في التفسير أصح من تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد، إلا أن يكون نظيره في الصحة، ثم معه ما يصدقه وهو قوله: عرضت المصحف على ابن عباس أقفه عند كل آية وأسأله عنها. وأيضا فأبي بن كعب رضي الله عنه عرف أنه كان يفسر ما تشابه من القرآن كما فسر قوله: {فأرسلنا إليها روحنا} [مريم:19] وفسر قوله: {الله نور السموات والأرض} [النور: 35] وقوله: {وإذا أخذ ربك} [الأعراف: 172] ونقل ذلك معروف عنه بالإسناد أثبت من نقل هذه القراءة التي لا يعرف لها إسناد وقد كان يسأل عن المتشابه من معنى القرآن فيجيب عنه كما سأله عمر. وسئل عن ليلة القدر (كذا).
وأما قوله: إن الله أنزل المجمل ليؤمن به المؤمن فيقال: هذا حق لكن هل في الكتاب والسنة أو قول أحد من السلف أن الأنبياء والملائكة والصحابة لا يفهمون ذلك الكلام المجمل، أم العلماء متفقون على أن المجمل في القرآن يفهم معناه ويعرف ما فيه من الإجمال كما مثل به من وقت الساعة؟ فقد علم المسلمون كلهم معنى الكلام الذي اخبر الله به عن الساعة وأنها آتية لا محالة وان الله انفرد بعلم وقتها فلم يطلع على ذلك أحدا. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله السائل عن الساعة وهو في الظاهر أعرابي لا يعرف قال له: متى الساعة؟ "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" ولم يقل إن الكلام الذي نزل في ذكرها لا يفهمه أحد بل هذا خلاف إجماع المسلمين بل والعقلاء. فإن إخبار الله عن الساعة وأشراطها كلام بين واضح يفهم معناه، وكذلك قوله: {وقرونا بين ذلك كثيرا} [الفرقان: 38] قد علم المراد بهذا الخطاب وأن الله خلق قرونا كثيرة لا يعلم عددهم إلا الله كما قال: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} [المدثر: 31] فأي شيء من هذا مما يدل على أن ما أخبر به من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر لا يفهم معناه أحد لا من الملائكة والأنبياء ولا الصحابة ولا غيرهم؟ وأما ما ذكر عن عروة فعروة قد عرف من طريقه أنه كان لا يفسر عامة آي القرآن إلا آيات قليلة رواها عن عائشة. ومعلوم أنه إذا لم يعرف عروة التفسير لم يلزم أنه لا يعرفه من الخلفاء الراشدين وعلماء الصحابة كابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وغيرهم.
وأما اللغويين الذين يقولون: إن الراسخين لا يعلمون معنى التشابه فهم متناقضون في ذلك، فإن هؤلاء كلهم يتكلمون في تفسير كل شيء في القرآن ويتوسعون في القول في ذلك حتى ما منهم أحد إلا وقد قال في ذلك أقوالا لم يسبق إليها وهي خطأ، وابن الأنباري الذي بالغ في نصر ذلك القول هو من أكثر الناس كلاما في معاني الآي المتشابهات يذكر فيها من الأقوال ما لم ينقل عن أحد من السلف ويحتج لما يقوله في القرآن بالشاذ من اللغة، وهو قصده بذلك الإنكار على ابن قتيبة وليس هو أعلم بمعاني القرآن والحديث وأتبع للسنة من ابن قتيبة ولا أفقه في ذلك، وإن كان ابن الأنباري من أحفظ الناس للغة لكن باب فقه النصوص غير باب حفظ ألفاظ اللغة وقد نقم هو وغيره على ابن قتيبة كونه رد على أبي عبيد أشياء من تفسير غريب الحديث وابن قتيبة قد اعتذر عن ذلك وسلك في ذلك مسلك أمثاله من أهل العلم وهو وأمثاله يصيبون تارة ويخطئون أخرى.
فإن كان المتشابه لا يعلم معناه إلا الله فهم كلهم يجترئون على الله يتكلمون في شيء لا سبيل إلى معرفته، وإن كان ما بينوه من معاني المتشابه قد أصابوا ولو في كلمة واحدة ظهر خطؤهم في قولهم إن المتشابه لا يعلم معناه إلا الله ولا يعلمه أحد من المخلوقين فليختبر من ينصر قولهم هذا أو هذا، ومعلوم أنهم أصابوا في شيء كثير مما يفسرون به المتشابه وأخطؤوا في بعض ذلك، فيكون تفسيرهم لهذه الآية مما أخطؤوا فيه العلم اليقيني فإنهم أصابوا في كثير من تفسير المتشابه وكذلك ما نقل عن قتادة من أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه فكتابه في التفسير من أشهر الكتب ونقله ثابت عنه من رواية معمر عنه ومن رواية سعيد بن أبي عروبة عنه ولهذا كان المصنفون في التفسير عامتهم يذكرون قوله لصحة النقل. ومع هذا يفسر القرآن كله محكمه ومتشابهه.
والذي اقتضى شهرة القول عن أهل السنة بأن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله ظهور التأويلات من أهل البدع والجهمية والقدرية من المعتزلة وغيرهم، فصار أولئك يتكلمون في تأويل القرآن برأيهم الفاسد وهذا أصل معروف لأهل البدع أنهم يفسرون القرآن برأيهم العقلي وتأويله اللغوي فتفاسير المعتزلة مملوءة بتأويل النصوص المثبتة للصفات والقدر على غير ما أراد الله ورسوله فإنكار السلف والأئمة لهذه التأويلات الفاسدة كما قال الإمام أحمد فيما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن على غير تأويله.
فهذا الذي أنكره السلف والأئمة من التأويل فجاء بعدهم قوم انتسبوا إلى السنة بغير خبرة تامة وبما يخالفها وظنوا أن المتشابه لا يعلم معناه إلا الله تعالى فظنوا أن معنى التأويل هو معناه في اصطلاح المتأخرين وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى المرجوح فصاروا في موضع يقولون وينصرون أن المتشابه لا يعلم معناه إلا الله ثم يتناقضون في ذلك من وجوه أحدها: أنهم يقولون النصوص تجري على ظواهرها ولا يزيدون على المعنى الظاهر ويقولون مع هذا إن له تأويلا لا يعلمه إلا الله تعالى، والتأويل عندهم ما يناقض المعنى الظاهر، فكيف يكون له تأويل يخالف الظاهر وقد قرر معناه الظاهر؟ وهذا مما أنكره عليهم مناظروهم حتى أنكر ابن عقيل على شيخه القاضي أبي يعلى.
ومنها: أنا وجدنا هؤلاء كلهم لا يحتج عليهم بنص يخالف قوله لا في مسألة أصلية ولا فرعية إلا تأولوا ذلك النص بتأويلات متكلفة مستخرجة من جنس تحريف الكلم عن مواضعه من جنس تأويلات الجهمية والقدرية التي تخالفهم، فأين هذا من قولهم لا يعلم معاني النصوص المتشابهة إلا الله؟ واعتبر هذا بما تجده في كتبهم من مناظرتهم المعتزلة على قولهم بالآيات التي تناقض قول هؤلاء، مثل أن يحتجوا بقوله: {والله لا يحب الفساد} [البقرة: 205] {ولا يرضى لعباده الكفر} [الزمر: 7] {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] {ولا تدركه الأبصار} [الأنعام: 103] {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول كن فيكون} [يس: 82] {وإذ قال ربك للملائكة} [البقرة: 30] ونحو ذلك كيف تجدهم يتأولون هده النصوص بتأويلات غالبها فاسد؟ وإن كان في بعضها حق. فإن كان ما تأولوه حقا دل أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه. فظهر تناقضهم. وإن كان باطلا فذلك أبعد لهم.
وهذا أحمد بن حنبل إمام أهل السنة الصابر في المحنة الذي قد صار للمسلمين معيارا يفرقون به بين أهل السنة والبدعة، لما صنف كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، تكلم في معاني المتشابه الذي أتبعه الزائغون ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله آية آية وبين معناها وفسرها ليبين فساد تأويل الزائغين، واحتج على أن الله يرى وأن القرآن غير مخلوق وأن الله فوق العرش بالحجج العقلية والسمعية، ورد ما احتج به النفاة من الحجج العقلية والسمعية وبين معاني الآيات التي سماها هو متشابهة وفسرها آية آية. وكذلك لما ناظروه واحتجوا عليه بالنصوص جعل يفسرها آية آية وحديثا حديثا، ويبين فساد ما تأولها عليه الزائغون ويبين هو معناها ولم يقل أحمد إن هذه الآيات والأحاديث لا يفهم معناها إلا الله ولا قال أحد له ذلك، بل الطوائف كلها مجتمعة على إمكان معرفة معناها، لكن يتنازعون في المراد كما يتنازعون في آيات الأمر والنهي. وكذلك تفسير المتشابه من الآيات والأحاديث التي يحتج بها الزائغون من الخوارج وغيرهم كقوله: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الشارب الخمر حين يشرب وهو مؤمن" 935 وأمثال ذلك ويبطل قول المرجئة والجهمية وقول الخوارج والمعتزلة وكل هذه الطوائف تحتج بنصوص المتشابه على قولها ولم يقل أحد لا من أهل السنة ولا من هؤلاء لما يستدل به هو أو يستدل به عليه منازعه: هذه آيات وأحاديث لا يعلم معناها أحد من البشر فأمسكوا عن الاستدلال بها.
وكان الإمام أحمد ينكر طريقة أهل البدع الذين يفسرون القرآن برأيهم وتأويلهم من غير استدلال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والتابعين الذين بلغهم الصحابة معاني القرآن كما بلغوهم ألفاظه ونقلوا هذا كما نقلوا هذا، ولكن أهل البدع يتأولون النصوص بتأويلات تخالف مراد الله ورسوله ويدعون أن هذا هو التأويل الذي يعلمه الراسخون وهم المبطلون في ذلك لاسيما تأويلات القرامطة والباطنية والملاحدة وكذلك أهل الكلام المحدث من الجهمية والقدرية وغيرهم، ولكن هؤلاء يعترفون بأنهم لا يعلمون التأويل وإنما غايتهم أن يقولوا ظاهر هذه الآية غير مراد ولكن يحتمل أن يراد كذا وأن يراد كذا، ولو تأولها الواحد منهم بتأويل معين فهو لا يعلم أنه مراد الله ورسوله، بل يجوز أن يكون مراد الله ورسوله عندهم غير ذلك كالتأويلات التي يذكرونها في نصوص الكتاب كما يذكرونه في قوله: {وجاء ربك والملك صفا صفا} [الفجر: 22] "وينزل ربنا" و {الرحمن على العرش استوى} [طه: 164] {وكلم الله موسى تكليما} [النساء: 164] {غضب الله عليهم} [المجادلة: 14] و {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] وأمثال ذلك من النصوص فإن غاية ما عندهم يحتمل أن يراد به كذا ويجوز كذا ونحو ذلك وليس هذا علما بالتأويل.
وكذلك كل من ذكر في نص أقوالا واحتمالات ولم يعرف المراد فإنه لم يعرف تفسير ذلك وتأويله. وإنما يعرف ذلك من عرف المراد.
ومن زعم من الملاحدة أن الأدلة السمعية لا تفيد العلم فمضمون مدلولاته: لا يعلم أحد تفسير المحكم ولا تفسير المتشابه ولا تأويل ذلك. وهذا إقرار منه على نفسه بأنه ليس من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويل ذلك. وهذا إقرار عن تأويل المحكم. فإذا انضم إلى ذلك أن يكون كلامهم في العقليات فيه من السفسطة والتلبيس ما لا يكون معه دليل على الحق لم يكن عند هؤلاء لا معرفة بالسمعيات ولا بالعقليات. وقد أخبر الله عن أهل النار أنهم قالوا {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [الملك: 10] ومدح الذين إذا ذكروا بآياته لم يخروا عليها صما وعميانا: والذين يفقهون ويعقلون. وذم الذين لا يفهمون ولا يعقلون في غير موضع من كتابه، وأهل البدع المخالفون للكتاب والسنة يدعون العلم والعرفان والتحقيق، وهم من أجهل الناس بالسمعيات والعقليات، وهم يجعلون ألفاظا لهم مجملة متشابهة تتضمن حقا وباطلا يجعلونها هي الأصول المحكمة، ويجعلون ما عارضها من نصوص الكتاب والسنة من المتشابه الذي لا يعلم معناه عندهم إلا الله وما يتأولونه بالاحتمالات لا يفيد فيجعلون البراهين شبهات والشبهات براهين كما قد بسط ذلك في موضع آخر.
وقد نقل القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد أنه قال: المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان والمتشابه ما احتاج إلى بيان. وكذلك قال الإمام أحمد في رواية. وعن الشافعي قال: المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا، والمتشابه ما احتمل من التأويل وجوها. وكذلك قال الإمام احمد وكذلك قال ابن الأنباري: المحكم ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا والمتشابه الذي تعتروه التأويلات. فيقال حينئذ: فجميع الأمة سلفها وخلفها يتكلمون في معاني القرآن التي تحتمل التأويلات، وهؤلاء الذين يفسرون أن الراسخين في العلم لا يعلمون معنى المتشابه هم من أكثر الناس كلاما فيه. والأئمة كالشافعي وأحمد ومن قبلهم كلهم يتكلمون فيما يحتمل معاني، ويرجحون بعضها على بعض بالأدلة في جميع مسائل العلم الأصولية والفروعية، لا يعرف عن عالم من علماء المسلمين أنه قال عن نص احتج به محتج في مسألة: إن هذا لا يعرف أحد معناه فلا يحتج به. ولو قال أحد ذلك لقيل له مثل ذلك، وإذا ادعى في مسائل النزاع المشهورة بين الأئمة أن نصه محكم يعلم معناه وأن النص الآخر متشابه لا يعلم أحد معناه، قوبل بمثل هذه الدعوى.
وهذا بخلاف قول القائل: إن من المنصوص ما معناه جلي واضح ظاهر لا يحتمل إلا وجها واحدا لا يقع فيه اشتباه، ومنها ما فيه خفاء واشتباه يعرف معناه الراسخون في العلم، فإن هذا مستقيم صحيح. وحينئذ فالخلف في المتشابه يدل على أنه كله يعرف معناه. فمن قال إنه يعرف معناه يبين حجة على ذلك. وأيضا فما ذكره السلف والخلف في المتشابه يدل على أنه كله يعرف معناه.
فمن قال إن المتشابه هو المنسوخ فمعنى المنسوخ معروف. وهذا القول مأثور عن ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم. وابن مسعود وان عباس وقتادة هم الذين نقل عنهم أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله. ومعلوم قطعا باتفاق المسلمين ان الراسخين يعلمون معنى المنسوخ. فكان هذا النقل عنهم يناقض ذلك النقل. ويدل على أنه كذب إن كان هذا صدقا وإلا تعارض النقلان عنهم. والمتواتر عنهم أن الراسخين يعلمون معنى المتشابه.
القول الثاني: مأثور عن جابر بن عبد الله أنه قال: المحكم ما علم العلماء تأويله والمتشابه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل كقيام الساعة. ومعلوم أن وقت قيام الساعة مما اتفق المسلمون على أنه لا يعلمه إلا الله. فإذا أريد بلفظ التأويل هذا كان المراد به لا يعلم وقت تأويله إلا الله. وهذا حق. ولا يدل ذلك على انه لا يعرف معنى الخطاب بذلك. وكذلك إن أريد بالتأويل حقائق ما يوجد وقيل: لا يعلم كيفية ذلك إلا الله، فهذا قد قدمناه، وذكر أنه على قول هؤلاء من وقف عند قوله: {وما يعلم تأويله إلا الله} هو الذي يجب أن يراد بالتأويل. وأما أن يراد بالتأويل التفسير ومعرفة المعنى ويقف على قوله: "إلا الله" فهذا خطأ قطعا، مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين. ومن قال ذلك من المتأخرين فإنه متناقض، يقول ذلك ويقول ما يناقضه. وهذا القول يناقض الإيمان بالله ورسوله من وجوه كثيرة، ويوجب القدح في الرسالة. ولا ريب في أن الذين قالوه لم يتدبروا لوازمه وحقيقة ما أطلقوه. وكان أكبر قصدهم دفع تأويلات أهل البدع المتشابهة. وهذا الذي قصدوه حق وكل مسلم يوافقهم عليه، لكن لا ندفع باطلا بباطل آخر ولا نرد بدعة ببدعة، ولا يرد تفسير أهل الباطل للقرآن بأن يقال: الرسول والصحابة كانوا لا يعرفون تفسير ما تشابه من القرآن. ففي هذا من الظن في الرسول وسلف الأمة ما قد يكون أعظم من خطأ طائفة في تفسير بعض الآيات، والعاقل لا يبني قصرا ويهدم مصرا.
والقول الثالث: أن المتشابه الحروف المقطعة في أوائل السور. يروى هذا عن ابن عباس. وعلى هذا القول فالحروف المقطعة ليست كلاما تاما من الجمل الاسمية والفعلية وإنما هب أسماء موقوفة، ولهذا لم تعرب؛ فإن الإعراب إنما يكون بعد العقد والتركيب، وإنما نطق بها موقوفة، كما يقال أ ب ت. ولهذا تكتب بصورة الحرف لا بصورة الاسم الذي ينطق به، فإنها في النطق أسماء. ولهذا لما سأل الخليل أصحابه عن النطق بالزاي من زيد قالوا: زا، قال نطقتم بالاسم، وإنما النطق بالحرف: زه. فهي في اللفظ أسماء وفي الخط حروف مقطعة. ألم لا تكتب: ألف لا ميم كما يكتب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول ألم حرف ولكن: ألف حرف ولام حرف وميم حرف". والحرف في لغة الرسول وأصحابه يتناول الذي يسميه النحاة اسما وفعلا وحرفا. لهذا قال سيبويه في تقسيم الكلام: اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا بفعل. فإنه لما كان معروفا من اللغة أن الاسم حرف والفعل حرف خص هذا القسم الثالث الذي يطلق النحاة عليه الحرف أنه جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل. وهذه حروف المعاني التي يتألف منها الكلام. وأما حروف الهجاء فتلك إنما تكتب في صورة الحرف المجرد وينطق بها غير معربة. ولا يقال فيها معرب ولا مبنى، لأن ذلك إنما يقال في المؤلف، فإذا كان على هذا القول كل ما سوى هذه محكم حصل المقصود فإنه ليس المقصود إلا معرفة كلام الله وكلام رسوله.
ثم يقال: هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس. فإن كان معناها معروفا، فقد عرف معنى المتشابه، وإن لم يكن معروفا، وهو المتشابه، كان ما سواها معلوم المعنى، وهذا المطلوب. وأيضا فإن الله تعالى قال: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} وهذه الحروف ليست آيات عند جمهور العلماء، وإنما يعدها آيات الكوفيون. وسبب نزول هذه الآية الصحيح يدل على أن غيرها أيضا متشابه. ولكن هذا القول يوافق ما نقل عن اليهود من طلب علم المدد من حروف الهجاء.
والرابع: أن المتشابه ما اشتبهت معانيه. قاله مجاهد. وهذا يوافق قول أكثر العلماء وكلهم يتكلم في تفسير هذا المتشابه ويبين معناه.
والخامس: أن المتشابه ما تكررت ألفاظه. قاله عبد الرحمان بن زيد بن أسلم. قال: المحكم ما ذكر الله في كتابه من قصص الأنبياء ففصله وبينه، والمتشابه هو ما اختلفت ألفاظه في قصصهم عند التكرير كما قال في موضع من قصة نوح: {احمل فيها} [هود: 40] وقال في موضع آخر {أسلك فيها} [المؤمنون: 27] وقال في عصا موسى {فإذا هي حية تسعى} [طه: 20] وفي موضع {فإذا هي ثعبان مبين} [العراف: 107] وصاحب هذا القول جعل المتشابه اختلاف اللفظ مع اتفاق المعنى كما يشتبه على حافظ القرآن هذا اللفظ بذاك اللفظ وقد صنف بعضهم في هذا المتشابه لأن القصة الواحدة يتشابه معناها في الموضعين فاشتبه على القارئ أحد اللفظين بالآخر وهذا المتشابه لا ينفي معرفة المعاني بلا ريب، ولا يقال في مثل هذا إن الراسخين يختصون بعلم تأويله. فهذا القول إن كان صحيحا كان حجة لنا وإن كان ضعيفا لم يضرنا.
السادس: أنه ما احتاج إلى بيان كما نقل عن أحمد.
والسابع: أنه ما احتمل وجوها كما نقل عن الشافعي وأحمد، وقد نقل عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال:"إنك لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوها". وقد صنف الناس كتب الوجوه والنظائر. فالنظائر اللفظ الذي اتفق معناه في الموضعين وأكثر، والوجوه الذي اختلف معناه، كما يقال الأسماء المتواطئة والمشتركة وإن كان بينهما فرق لبسطه موضع آخر. وقد قيل هي نظائر في اللفظ ومعانيها مختلفة، فتكون كالمشتركة وليس كذلك، بل الصواب أن المراد بالوجوه والنظائر هو الأول. وقد تكلم المسلمون سلفهم وخلفهم في معاني الوجوه وفيما يحتاج إلى بيان وما يحتمل وجوها، فعلم يقينا أن المسلمين متفقون على أن جميع القرآن مما يمكن العلماء معرفة معانيه.
واعلم ان من قال إن من القرآن كلاما لا يفهم أحد معناه ولا يعرف معناه إلا الله فإنه مخالف لإجماع الأمة مع مخالفته للكتاب والسنة.
والثامن: أن المتشابه هو القصص والأمثال وهذا أيضا يعرف معناه.
والتاسع: أنه ما يؤمن به ولا يعمل به.
والعاشر: قول بعض المتأخرين إن المتشابه آيات الصفات وأحاديث الصفات. وهذا أيضا مما يعلم معناه، فإن أكثر آيات الصفات اتفق المسلمون على أنه يعرف معناها، والبعض الذي تنازع الناس في معناها إنما ذم السلف منه تأويلات الجهمية ونفوا علم الناس بكيفيته، كقول مالك "الاستواء معلوم والكيف المجهول". وكذلك قال سائر أئمة السنة. وحينئذ ففرق بين المعنى المعلوم وبين الكيف المجهول فإن سمي الكيف تأويلا ساغ أن يقال هذا التأويل لا يعلمه إلى الله كما قدمناه أولا.
وأما إذا جعل معرفة المعنى وتفسيره تأويلا، كما يجعل معرفة سائر آيات القرآن تأويلا، وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل والصحابة والتابعين ما كانوا يعرفون معنى قوله: {الرحمن على العرش استوى} [طه:5] ولا يعرفون معنى قوله: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} [ص: 75] ولا معنى قوله: {غضب الله عليهم} [المجادلة: 14] بل هذا عندهم بمنزلة الكلام العجمي الذي لا يفهمه العربي، وكذلك إذا قيل كان عندهم قوله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه} [الزمر: 67] وقوله: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103] وقوله: {وكان سميعا بصيرا} [النساء: 58] وقوله: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} [المائدة: 119] وقوله: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه} [محمد: 47] وقوله: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} [البقرة: 195] وقوله: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} [التوبة: 105] وقوله: {إنا جعلناه قرآنا عربيا} [الزخرف: 3] وقوله: {فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6] وقوله {فلما أتاها نودي أن بورك من النار ومن حولها} [النمل: 8] وقوله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} [البقرة: 210] وقوله: {وجاء ربك والملك صفا صفا} [الفجر: 89] {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك} [الأنعام: 158] {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} [فصلت: 11] {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] إلى أمثال هذه الآيات، فمن قال 936 عن جبريل ومحمد صلوات الله عليهما وعن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين والجماعة أنهم كانوا لا يعرفون شيئا من معاني هذه الآيات بل استأثر الله بعلم معناها كما استأثر بعلم وقت الساعة، وإنما كانوا يقرؤون ألفاظا لا يفهمون لها معنى كما يقرأ الإنسان كلاما لا يفهم منه شيئا، فقد كذب على القوم. والنقول المتواترة عنهم تدل على نقيض هذا وأنهم كانوا يفهمون هذا كما يفهمون غيره من القرآن، وإن كان كنه الرب عز وجل لا يحيط به العباد ولا يحصون ثناء عليه فذاك لا يمنع ان يعلموا من أسمائه وصفاته ما علمهم سبحانه وتعالى، كما أنهم إذا علموا أنه بكل شيء عليم وأنه على كل شيء قدير لم يلزم ان يعرفوا كيفية علمه وقدرته، وإذا عرفوا انه حق موجود لم يلزم أن يعرفوا كيفية ذاته. وهذا مما يستدل به على ان الراسخين يعلمون التأويل، فإن الناس متفقون على أنهم يعرفون تأويل المحكم ومعلوم أنهم لا يعرفون كيفية ما أخبر الله به عن نفسه في الآيات المحكمات، فدل ذلك على أن عدم العلم بالكيفية لا ينفي العلم بالتأويل الذي هو تفسير الكلام وبيان معناه، بل يعلمون تأويل المحكم والمتشابه ولا يعرفون كيفية الرب لا في هذا ولا في هذا.
فإن قيل:هذا يقدح فيما ذكرتم من الفرق بين التأويل الذي يراد به التفسير وبين التأويل الذي في كتاب الله تعالى. قيل لا يقدح في ذلك، فإن معرفة تفسير اللفظ ومعناه وتصور ذلك في القلب غير معرفة الحقيقة الموجودة في الخارج المرادة بذلك الكلام، فإن الشيء له وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في اللسان ووجود في البيان. فالكلام لفظ له معنى في القلب ويكتب ذلك اللفظ بالخط فإذا عرف الكلام وتصور معناه في القلب وعبر عنه باللسان فهذا غير الحقيقة الموجودة في الخارج وليس كل من عرف الأول عرف عين الثاني.
مثال ذلك: أن أهل الكتاب يعلمون ما في كتبهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وخبره ونعمته وهذا معرفة الكلام ومعناه وتفسيره، وتأويل ذلك هو نفس محمد المبعوث. فالمعرفة بعينه معرفة تأويل ذلك الكلام. وكذلك الإنسان قد يعرف الحج والمشاعر كالبيت والمساجد ومنى وعرفة ومزدلفة ويفقه معنى ذلك ولا يعرف الأمكنة حتى يشاهدها فيعرف ان الكعبة المشاهدة هي المذكورة في قوله: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97] وكذلك أرض عرفات هي المذكورة في قوله: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله} [البقرة: 198] وكذلك المشعر الحرام هي المزدلفة التي بين مأزمي عرفة ووادي محسر يعرف أنها المذكورة في قوله: {فاذكروا الله عند المشعر الحرام} [البقرة: 198]. وكذلك الرؤيا يراها الرجل ويذكر له العابر تأويلها فيفهمه ويتصوره، مثل أن يقول: هذا يدل على أنه كان كذا ويكون كذا وكذ، ثم إذا كان ذلك فهو تأويل الرؤيا. ليس تأويلها نفس علمه وتصوره وكلامه. ولهذا قال يوسف الصديق: {هذا تأويل رؤياي من قبل} [يوسف: 100] وقال: {لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نباتكما بتأويله قبل أن يأتيكما} [يوسف: 37] فقد أنبأهما بالتأويل قبل ان يأتي التأويل، وإن كان التأويل لم يقع بعد وإن كان لا يعرف متى يقع. فنحن نعلم تأويل ما ذكر الله في القرآن من الوعد الوعيد وإن كنا لا نعرف متى يقع هذا التأويل المذكور في قوله سبحانه وتعالى: {هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله} [الأعراف: 53]».
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعدئذ يكشف الذين في قلوبهم زيغ، الذين يتركون الحقائق القاطعة في آيات القرآن المحكمة، ويتبعون النصوص التي تحتمل التأويل، ليصوغوا حولها الشبهات؛ ويصور سمات المؤمنين حقا وإيمانهم الخالص وتسليمهم لله في كل ما يأتيهم من عنده بلا جدال: (هو الذي أنزل عليك الكتاب. منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات. فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. وما يعلم تأويله إلا الله. والراسخون في العلم يقولون: آمنا به. كل من عند ربنا -وما يذكر إلا أولوا الألباب- ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة. إنك أنت الوهاب. ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه. إن الله لا يخلف الميعاد). وقد روى أن نصارى نجران قالوا للرسول [ص] ألست تقول عن المسيح: إنه كلمة الله وروحه؟ يريدون أن يتخذوا من هذا التعبير أداة لتثبيت معتقداتهم عن عيسى -عليه السلام- وأنه ليس من البشر، إنما هو روح الله -على ما يفهمون هم من هذا التعبير- بينما هم يتركون الآيات القاطعة المحكمة التي تقرر وحدانية الله المطلقة، وتنفي عنه الشريك والولد في كل صورة من الصور.. فنزلت فيهم هذه الآية، تكشف محاولتهم هذه في استغلال النصوص المجازية المصورة، وترك النصوص التجريدية القاطعة. على أن نص الآية اعم من هذه المناسبة؛ فهي تصور موقف الناس على اختلافهم من هذا الكتاب الذي أنزله الله على نبيه [ص] متضمنا حقائق التصور الإيماني، ومنهاج الحياة الإسلامية؛ ومتضمنا كذلك أمورا غيبية لا سبيل للعقل البشري أن يدركها بوسائله الخاصة، ولا مجال له لأن يدرك منها أكثر مما تعطيه النصوص بذاتها. فأما الأصول الدقيقة للعقيدة والشريعة فهي مفهومة المدلولات قاطعة الدلالة، مدركة المقاصد -وهي أصل هذا الكتاب- وأما السمعيات والغيبيات -ومنها نشأة عيسى عليه السلام ومولده- فقد جاءت للوقوف عند مدلولاتها القريبة والتصديق بها لأنها صادرة من هذا المصدر "الحق "ويصعب إدراك ماهياتها وكيفياتها، لأنها بطبيعتها فوق وسائل الإدراك الإنساني المحدود. وهنا يختلف الناس -حسب استقامة فطرتهم أو زيغها- في استقبال هذه الآيات وتلك. فأما الذين في قلوبهم زيغ وانحراف وضلال عن سواء الفطرة، فيتركون الأصول الواضحة الدقيقة التي تقوم عليها العقيدة والشريعة والمنهاج العملي للحياة، ويجرون وراء المتشابه الذي يعول في تصديقه على الإيمان بصدق مصدره، والتسليم بأنه هو الذي يعلم "الحق" كله، بينما الإدراك البشري نسبي محدود المجال. كما يعول فيه على استقامة الفطرة التي تدرك بالإلهام المباشر صدق هذا الكتاب كله، وأنه نزل بالحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. يجرون وراء المتشابه لأنهم يجدون فيه مجالا لإيقاع الفتنة بالتأويلات المزلزلة للعقيدة، والاختلافات التي تنشأ عن بلبلة الفكر، نتيجة إقحامه فيما لا مجال للفكر في تأويله.. (وما يعلم تأويله إلا الله).. وأما الراسخون في العلم، الذين بلغ من علمهم أن يعرفوا مجال العقل وطبيعة التفكير البشري، وحدود المجال الذي يملك العمل فيه بوسائله الممنوحة له.. أما هؤلاء فيقولون في طمأنينة وثقة: (آمنا به، كل من عند ربنا).. يدفعهم إلى هذه الطمأنينة، أنه من عند ربهم. فهو إذن حق وصدق. وما يقرره الله صادق بذاته. وليس من وظيفة العقل البشري ولا في طوقه أن يبحث عن أسبابه وعلله، كما أنه ليس في طوقه أن يدرك ماهيته وطبيعة العلل الكامنة وراءه. والراسخون في العلم يطمئنون ابتداء إلى صدق ما يأتيهم من عند الله. يطمئنون إليه بفطرتهم الصادقة الواصلة.. ثم لا يجدون من عقولهم شكا فيه كذلك؛ لأنهم يدركون أن من العلم ألا يخوض العقل فيما لا مجال فيه للعلم، وفيما لا تؤهله وسائله وأدواته الإنسانية لعلمه.. وهذا تصوير صحيح للراسخين في العلم.. فما يتبجح وينكر إلا السطحيون الذين تخدعهم قشور العلم، فيتوهمون أنهم أدركوا كل شيء، وأن ما لم يدركوه لا وجود له؛ أو يفرضون إدراكهم على الحقائق، فلا يسمحون لها بالوجود إلا على الصورة التي أدركوها. ومن ثم يقابلون كلام الله المطلق بمقررات عقلية لهم! صاغتها عقولهم المحدودة! أما العلماء حقا فهم أكثر تواضعا، وأقرب إلى التسليم بعجز العقل البشري عن إدراك حقائق كثيرة تكبر طاقته وترتفع عليها. كما أنهم أصدق فطرة فما تلبث فطرتهم الصادقة أن تتصل بالحق وتطمئن إليه. (وما يذكر إلا أولوا الألباب).. وكأنه ليس بين أولي الألباب وإدراك الحق إلا أن يتذكروا.. فإذا الحق المستقر في فطرتهم الموصولة بالله، ينبض ويبرز ويتقرر في الألباب...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{هو الذي أنزل عليك الكتاب منه ءايات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} استئناف ثالث بإخبار عن شأن من شؤون الله تعالى، متعلّق بالغرض المسوق له الكلام: وهو تحقيق إنزاله القرآنَ والكتابينِ من قبله، فهذا الاستئناف مؤكّد لمضمون قوله: {نزل عليك الكتاب بالحق} [آل عمران: 3] هُوَ الذى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيات محكمات هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ متشابهات} وتمهيد لقوله: {منه آيات محكمات} لأنّ الآيات نزلت في مجادلة وفد نجران، وصُدّرت بإبطال عقيدتهم في إلاهية المسيح: والإشارة إلى أوصاف الإله الحقّة، تَوَجَّه الكلام هنا إلى إزالة شبهتهم في شأن زعمهم اعترافَ نصوص القرآن بإلهية المسيح؛ إذ وُصف فيها بأنّه روح الله؛ وأنّه يُحي الموتى وأنّه كلمة الله، وغير ذلك فنودي عليهم بأن ما تعلّقوا به تعلّق اشتباه وسوء تأويل...
وفي قوله: {هو الذي أنزل الكتاب} قصر صفة إنزال القرآن على الله تعالى: لتكون الجملة، مع كونها تأكيداً وتمهيداً، إبطالاً أيضاً لقول المشركين: {إنّما يعلّمه بَشَر} [النحل: 103] وقولهم: {أساطير الأوّلين اكتَتبها فهي تُمْلَى عليه بُكْرَةً وأصيلا} [الفرقان: 5]. وكقوله: {وما تنزلت به الشياطين وما ينبغِي لهم وما يستطيعون إنّهم عن السمع لمعزولون} [الشعراء: 210 212] ذلك أنّهم قالوا: هو قول كاهن، وقول شاعر، واعتقدوا أنّ أقوال الكهّان وأقوال الشعراء من إملاء الأرْئِياء (جمعَ رئي). ومن بدائع البلاغة أن ذكر في القصر فعل أنزل، الذي هو مختصّ بالله تعالى ولو بدون صيغة القصر، إذ الإنزال يرادف الوحي ولا يكون إلاّ من الله بخلاف ما لو قال هو الذي آتاك الكتاب...
وقوله: {أم الكتاب} أمّ الشيء أصله وما ينضمّ إليه كثيره وتتفرّع عنه فروعه، ومنه سمّيت خريطة الرأس، الجامعة له: أمّ الرأس وهي الدمَاغ، وسمّيت الراية الأمّ لأنّ الجيْش ينضوي إليها، وسمّيت المدينة العظيمة أمّ القرى، وأصل ذلك أنّ الأمّ حقيقة في الوالدة، وهي أصل للمولود وجامع للأولاد في الحضانة، فباعتبار هذين المعنيين، أطلق اسم الأمّ على ما ذكرنا، على وجه التشبيه البليغ. ثم شاع ذلك الإطلاق حتى ساوى الحقيقة، وتقدّم ذلك في تسمية الفاتحة أمّ القرآن...
والكتاب: القرآن لا محالة؛ لأنّه المتحدّث عنه بقوله: {هو الذي أنزل عليك الكتاب} فليس قوله: {أم الكتاب} هنا بمثلِ قوله: {وعنده أم الكتاب} [الرعد: 39]. وقوله: {وأُخر متشابهات} المتشابهات المتماثلات، والتماثل يكون في صفات كثيرة فيبين بما يدل على وجه التماثل، وقد يترك بيانه إذا كان وجه التماثل ظاهراً، كما في قوله تعالى: {إن البقر تشابه علينا} [البقرة: 70] ولم يذكر في هذه الآية جهة التشابه. وقد أشارت الآية: إلى أنّ آيات القرآن صنفان: محكمات وأضدادها، التي سميت متشابهات، ثم بيّن أنّ المحكمات هي أمّ الكتاب، فعلمنا أنّ المتشابهات هي أضداد المحكمات، ثم أعقب ذلك بقوله: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} [آل عمران: 7] أي تأويله الذي لا قبل لأمثالهم به فعلمنا أنّ المتشابهات هي التي لم يتّضح المقصود من معانيها، فعلمنا أنّ صفة المحكمات، والمتشابهات، راجعة إلى ألفاظ الآيات. ووصف المحكمات بأنّها أمُّ الكتاب فاحتمل أن يكون المراد من الأمّ الأصل، أو المرجع، وهما متقاربان: أي هنّ أصل القرآن أو مرجعه، وليس يناسب هذين المعنيين إلاّ دلالةُ القرآن؛ إذ القرآن أنزل للإرشاد والهدي، فالمحكمات هي أصول الاعتقاد والتشريع والآداب والمواعظ، وكانت أصولاً لذلك: باتّضاح دلالتها، بحيث تدل على معانٍ لا تحتمل غيرها أو تحتمله احتمالاً ضعيفاً غير معتدَ به، وذلك كقوله: {ليس كمثله شي} [الشورة: 11] {لا يُسأل عمّا يفعل} [الأنبياء: 23] {يريد اللَّه بكم اليسر} [البقرة: 185] {واللَّه لا يحبّ الفساد} [البقرة: 205] {وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى فإنّ الجنة هي المأوى} [النازعات: 40]. وباتّضاح معانيها بحيث تتناولها أفهام معظم المخاطبين بها وتتأهّل لفهمها فهي أصل القرآن المرجوعُ إليه في حمل معاني غيرها عليها للبيان أو التفريع. والمتشابهات مقابل المحكمات، فهي التي دلّت على معانٍ تشابهت في أن يكون كلُّ منها هو المرادَ. ومعنى تشابهها: أنّها تشابهت في صحة القصد إليها، أي لم يكن بعضها أرجح من بعض. أو يكون معناها صادقاً بصور كثيرة متناقضة أو غير مناسبة لأن تكون مراداً، فلا يتبيّن الغرض منها، فهذا وجه تفسير الآية فيما أرى...
على أنّ من مقاصد القرآن أمرين آخرين: أحدَهما كونه شريعة دائمة، وذلك يقتضي فتح أبواب عباراته لِمختلِف استنباط المستنبطين، حتى تؤخذ منه أحكام الأولين والآخرين، وثانيهما تعويد حَمَلة هذه الشريعة، وعلماء هذه الأمة، بالتنقيب، والبحث، واستخراج المقاصد من عويصات الأدلة، حتى تكون طبقات علماء الأمة صالحة في كلّ زمان لفهم تشريع الشارع ومقصده من التشريع، فيكونوا قادرين على استنباط الأحكام التشريعية، ولو صيغ لهم التشريع في أسلوب سهل التناول لاعتادوا العكوف على ما بينَ أنظارهم في المطالعة الواحدة. من أجل هذا كانت صلوحية عباراته لاختلاف منازع المجتهدين، قائمة مقام تلاحق المؤلّفين في تدوين كتب العلوم، تبعاً لاختلاف مراتب العصور. فإذا علمت هذا علمت أصل السبب في وجود ما يسمّى بالمتشابه في القرآن. وبقي أن نذكر لك مراتب التشابه وتفاوت أسبابها. وأنّها فيما انتهى إليه استقراؤنا الآن عشر مراتب: أولاها: معانٍ قُصِد إيداعها في القرآن، وقُصد إجمالها: إمّا لعدم قابلية البشر لفهمها، ولو في الجملة، إن قلنا بوجود المجمل، الذي استأثر الله بعلمه، على ما سيأتي، ونحن لا نختاره. وإمّا لعدم قابليتهم لكنه فهمها، فألقيت إليهم على وجه الجملة أو لعدم قابلية بعضهم في عصر، أو جهةٍ، لفهمها بالكنه ومن هذا أحوال القيامة، وبعضُ شؤون الربوبية كالإتيان في ظُلل من الغمام، والرؤية، والكلامِ، ونحو ذلك. وثانيتها: معانٍ قصد إشعار المسلمين بها، وتَعيّن إجمالها، مع إمكان حملها على معانٍ معلومةٍ لكن بتأويلات: كحُروف أوائل السور، ونحوِ {الرحمانُ على العرش استوى} [طه: 5] {ثم استوى إلى السماء} [البقرة: 29]. ثالثتها: معانٍ عاليةً ضاقت عن إيفاء كنهها اللغةُ الموضوعةُ لأقصى ما هو متعارَف أهلها، فعبّر عن تلك المعاني بأقصى ما يقرِّب معانيَها إلى الأفهام، وهذا مثل أكثر صفات الله نحو الرحمان، الرؤوف، المتكبّر، نورُ السموات والأرض. رابعتها: معانٍ قَصُرت عنها الأفهام في بعض أحوال العصور، وأودعت في القرآن ليكون وجودها معجزة قُرآنيَّة عند أهل العلم في عصور قد يضعف فيها إدراك الإعجاز النظمي، نحو قوله: {والشمس تجري لمستقر لها} [يس: 38] {وأرسلنا الرياح لواقح} [الحجر: 22] {يكور الليل على النهار} [الزمر: 5] {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب} [النمل: 88] {تنبت بالدهن} [المؤمنون: 20] {زيتونة لا شرقية ولا غربية} [النور: 35] {وكان عرشه على الماء} [هود: 7] {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} [فصلت: 11] وذكرِ سُدِّ يأجوج ومأجوج. خامستها: مَجازات وكنايات مستعملة في لغة العرب، إلاّ أنّ ظاهرها أوهم معاني لا يليق الحمل عليها في جانب الله تعالى: لإشعارها بصفات تخالف كمال الإلهية، وتوقّف فريق في محملها تنزيهاً، نحو: {فإنّك بأعيننا} [الطور: 48] {والسماء بنيناها بأيدٍ} [الذاريات: 47] {ويبقى وجه ربّك} [الرحمن: 27]. وسادستها: ألفاظ من لغات العرب لم تُعرف لدى الذين نزل القرآن بينهم: قريش والأنصار مثل: {وفاكهة وأبّا} [عبس: 31] ومثل {أو يأخذهم على تخوف} [النحل: 47] {إنّ إبراهيم لأوّاه حليم} [التوبة: 114] {ولا طعامٌ إلاّ مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36]. سابعتها: مصطلحات شرعية لم يكن للعرب علم بخصوصها، فما اشتهر منها بين المسلمين معناه، صار حقيقة عرفية: كالتيمّم، والزكاة، وما لم يشتهر بقي فيه إجمال: كالربا قال عمر: « نزلت آيات الربا فِي آخر ما أنزل فتوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبيّنها» وقد تقدم في سورة البقرة.
ثامنتها: أساليب عربية خفيت على أقوام فظنّوا الكلام بها متشابهاً، وهذا مثل زيادة الكاف في قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] ومثل المشاكلة في قوله: {يخادعون اللَّه وهو خادعهم} [النساء: 142] فيعلم السامع أنّ إسناد خادع إلى ضمير الجلالة إسناد بمعنى مجازي اقتضته المشاكلة. وتاسعتها: آيات جاءت على عادات العرب، ففهمها المخاطبون، وجاء مَن بعدهم فلم يفهموها، فظنّوها من المتشابه، مثل قوله: {فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أَنْ يَطَّوّفَ بهما} [البقرة: 158]، في « الموطأ» قال ابن الزبير: « قلت لعائشة وكنت يومئذ حدثاً لم أتفقّه لا أرى بأساً على أحدٍ ألاّ يطوف بالصفا والمروة» فقالت له: « ليس كما قلت إنّما كان الأنصار يهلون لمناةَ الطاغية» إلخ. ومنه: {عَلِم اللَّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم} [البقرة: 187] {ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتّقوا وءامنوا} [المائدة: 93] الآية فإنّ المراد فيما شربوا من الخمر قبل تحريمها. عاشرتها: أفهام ضعيفة عَدت كثيراً من المتشابه وما هو منه، وذلك أفهام الباطنية، وأفهام المشبِّهة، كقوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق} [القلم: 42]...
وليس من المتشابه ما صرّح فيه بأنّا لا نصل إلى علمه كقوله: {قل الروح من أمر ربي} [الإسراء: 85] ولا ما صرّح فيه بجهل وقته كقوله: {لا تأتيكم إلاّ بغتة} [الأعراف: 187]. وليس من المتشابه ما دلّ على معنى يعارض الحملَ عليه دليل آخر، منفصل عنه؛ لأنّ ذلك يرجع إلى قاعدة الجمع بين الدليلين المتعارضين، أو ترجيح أحدهما على الآخر، مثل قوله تعالى خطاباً لإبليس: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك} الآية في سورة [الإسراء: 64] مع ما في الآيات المقتضية {فإنّ الله غني عنكم ولا يرضَى لعباده الكفر} [الزمر: 7] إنه لا يحبّ الفساد. وقد علمتم من هذا أنّ مِلاك التشابه هو عدم التواطؤ بين المعاني واللغة: إمّا لضيقها عن المعاني، وإمّا لضيق الأفهام عن استعمال اللغة في المعنى، وإمّا لتناسي بعض اللغة، فيتبيّن لك أنّ الإحكام والتشابه: صفتان للألفاظ، باعتبار فهم المعاني. وإنّما أخبر عن ضمير آياتٍ محكمات، وهو ضمير جمع، باسم مفرد ليس دالاً على أجزاءٍ وهو {أمّ}، لأنّ المراد أنّ صنف الآيات المحكمات يتنزّل من الكتابِ منزلة أمّه أي أصله ومرجِعه الذي يُرجّع إليه في فهم الكتاب ومقاصده. والمعنى: هنّ كأمِّ للكتاب. ويعلم منه أنّ كل آية من المحكمات أم للكتاب في ما تتضمّنه من المعنى. وهذا كقول النابغة يَذْكُر بني أسد:
* فَهُمْ دِرْعِي التِي استلأمْتُ فيها *
أي مجموعهم كالدِّرع لي، ويعلم منه أنّ كلّ أحد من بني أسد بمنزلة حلقة من حلق الدرع. ومن هذا المعنى قوله تعالى: {واجعلنا للمتقين إماما} [الفرقان: 74]...
{فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ ابتغآء الفتنة وابتغآء تَأْوِيلِهِ}. تفصيل لإجمال اقتضاه الكلام السابق؛ لأنّه لما قسّم الكتاب إلى محكم ومتشابه، وكان ذلك التقسيم باعتبار دلالة الألفاظ على المعاني، تشوّفت النفس إلى معرفة تلقّي الناس للمتشابه. أمّا المحكم فتلقّي الناس له على طريقة واحدة، فلا حاجة إلى تفصيل فيه، واقتصر في التفصيل على ذكر قسم من أقسامه: وهو حال الذين في قلوبهم زيغ كيف تلقّيهم للمتشابهات؛ لأنّ بيان هذا هو الأهمّ في الغرض المسوق له الكلام، وهو كشف شبهة الذين غرّتهم المتشابهات ولم يهتدوا إلى حقّ تأويلها، ويعرف حال قسيمهم وهم الذين لا زيغ في قلوبهم بطريق المقابلة ثم سيُصرّح بإجمال حال المهتدين في تلقّي ومتَشبهات القرآن...
والقلوب محالُّ الإدراك، وهي العقول، وتقدّم ذلك عند قوله تعالى: {ومن يكتمها فإنّه آثم قلبه} في سورة [البقرة: 283]. والزيغ: الميل والانحراف عن المقصود: {ما زاغ البصر} [النجم: 17] ويقال: زاغت الشمس. فالزيغ أخصّ من الميل؛ لأنّه ميل عن الصواب والمقصودِ...
والاتّباع هنا مجاز عن الملازمة والمعاودة، أي يعكفون على الخوض في المتشابه، يحصونه، شبهت تلك الملازمة بملازمة التابع متبوعَهُ. وقد ذكر علة الاتّباع، وهو طلب الفتنة، وطَلبُ أن يؤوّلوه، وليس طلبُ تأويله في ذاته بمذمّة، بدليل قوله: {وما يعلم تأويله إلاّ اللَّهُ والراسخون في العلم} كما سنبيِّنه وإنّما محلّ الذم أنّهم يطلبون تأويلاً ليسوا أهلاً له فيؤوّلونه بما يُوافق أهواءهم. وهذا ديدن الملاحِدة وأهلِ الأهواء: الذين يتعمّدون حمل الناس على متابعتهم تكثيراً لسوادهم...
ومن هنا أمسك السلف عن تأويل المتشابهات، غير الراجعة إلى التشريع، فقال أبو بكر رضي الله عنه: « أيُّ أرضٍ تُقِلّنِي وأيُّ سماء تُظِلُّنِي إن قلتُ في كتاب الله بما لا أعلم». وجاء في زمن عمر رضي الله عنه رجل إلى المدينة من البصرة، يقال له صَبِيغ بن شريك أو ابن عِسْل التميمي فجعل يسأل الناس عن متشابه القرآن، وعن أشياء فأحضره عمر، وضربه ضرباً موجعاً، وكرّر ذلك أياماً، فقال: « حسبُك يا أمير المؤمنين فقد ذهب ما كنتُ أجد في رأسي» ثم أرجعه إلى البصرة وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن يمنع الناس من مخالطته. ومن السلف من تأوّل عند عروض الشبهة لبعض الناس، كما فعل ابن عباس فيما ذكرناه آنفا...
والمراد بالراسخين في العلم: الذين تمكّنوا في علم الكتاب، ومعرفة محامله، وقام عندهم من الأدلة ما أرشدهم إلى مراد الله تعالى، بحيث لا تروج عليهم الشبه. والرسوخ في كلام العرب: الثبات والتمكن في المكان، يقال: رسخت القدم ترسخ رسوخاً إذا ثبتت عند المشي ولم تتزلزل، واستعير الرسوخ لكمال العقل والعلم بحيث لا تضلّله الشبه، ولا تتطرّقه الأخطاء غالباً، وشاعت هذه الاستعارة حتى صارت كالحقيقة. فالراسخون في العلم: الثابتون فيه العارفون بدقائقه، فهم يحسنون مواقع التأويل، ويعلمونه...
وفي قوله: {وما يذكر إلا أولوا الألباب} إشعار بأنّ الراسخين يعلمون تأويل المتشابه. واحتجّ أصحاب الرأي الثاني، وهو رأي الوقف على اسم الجلالة: بأنّ الظاهر أن يكون جملة (والراسخون) مستأنفة لتكون معادِلاً لجملة: {فأما الذين في قلوبهم زيغ}، والتقدير: وأمّا الراسخون في العلم. وأجاب التفتازاني بأنّ المعادِل لا يلزم أن يكون مذكوراً، بل قد يحذف لدلالة الكلام عليه. واحتجّوا أيضاً بقوله تعالى: {يقولون آمنا به كل من عند ربنا} قال الفخر: لو كانوا عالمين بتأويله لم يكن لهذا الكلام فائدة؛ إذ الإيمان بما ظهر معناه أمر غير غريب وسنجيب عن هذا عند الكلام على هذه الجملة...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} يحتمل أن المراد بالتأويل في هذه الآية الكريمة التفسير وإدراك المعنى، ويحتمل أن المراد به حقيقة أمره التي يؤول إليها وقد قدمنا في مقدمة هذا الكتاب أن من أنواع البيان التي ذكرنا أن كون أحد الاحتمالين هو الغالب في القرآن. يبيّن أن ذلك الاحتمال الغالب هو المراد؛ لأن الحمل على الأغلب أولى من الحمل على غيره. وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الغالب في القرآن إطلاق التأويل على حقيقة الأمر التي يؤول إليها كقوله: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاى مِن قَبْلُ}، وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ}، وقوله: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}، وقوله: {ذلكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}، إلى غير ذلك من الآيات...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا و ما يذكر إلا أولوا الألباب (7)} في الآيات السابقة ذكر سبحانه منزلة القرآن بين الكتب السماوية، و أنه فرقانها و ميزانها، و ذكر أنه سبحانه و تعالى العليم بكل شيء، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء، فهو العليم بخلقه، و العليم بما ينزل عليهم من آيات بينات، و العليم بمداركهم البشرية، و طاقتهم العقلية، يطالبهم بما يدركون ويكلفهم ما يستطيعون، و في هذه الآية يبين أقسام القرآن من حيث قوة إدراكهم له، و تطلعهم لفهمه، و تباين مقاصدهم في طلب حقيقته و معناه، و غايته و مرماه، و فيها بيان أنها قسمان: قسم لا تدركه كل العقول، وقسم تدركه كل العقول المميزة، و أن ما يعلو على الإدراك، أصله ما أدركه كل الناس. و لذا قال سبحانه: {هو الذي أنزل عليك الكتاب} الضمير يعود إلى الذات العلية التي وصفت في الآيات السابقة، إذ قد وصف ذاته – جلت قدرته – بأنه الحي القيوم على كل شيء، و الذي به يقوم كل شيء، و بأنه منزل الكتب من السماء، و جاعل القرآن ميزانها، و أنه سبحانه لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء، و أنه سبحانه الذي يعلم الإنسان منذ يكون نطفة في بطن أمه إلى أن يصير إنسانا مستويا كامل التكوين، و هو الذي يصوره ذلك التصوير، و يكونه ذلك التكوين، و هو العزيز الغالب المسيطر على كل شيء خلقه، و لا شيء في الوجود إلا كان خلقه، الذي يتصرف في هذا الكون بمقتضى حكمته و علمه بكل شيء، فقوله تعالى: {هو الذي أنزل} الضمير يعود إلى المتصف بهذه الصفات. وقوله: {الذي أنزل عليك الكتاب} معناه أن هذا الكتاب العظيم الشأن الذي هو ميزان الكتب السابقة و فرقانها، أنزله الله العلي القدير المتصف بهذه الصفات عليك، و قد اختارك موضع رسالته، و أداء أمانته، و {الله أعلم حيث يجعل رسالته... 124} (الأنعام) و هو أعلم بشأن الكتاب و ما جاء فيه، و تلقي الناس له، و مقدار إدراكهم لما فيه، و قد شاء بحكمته الواسعة أن يجعله قسمين، أحدهما: يدركه كل الناس، و الثاني: فوق مستوى عامة الناس، و لذا قال بعد ذلك:... {منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات}.
... الآيات المتشابهات لم تأتِ من أجل الأحكام، إنما هي قد جاءت من أجل الإيمان فقط، ولذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم ينهي كل خلاف للعلماء حول هذه المسألة بقوله وهو الرسول الخاتم:"إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه منه فآمنوا به". إن المُتشَابه من الآيات قد جاء للإيمان به، والمُحْكَم من الآيات إنما جاء للعمل به، والمؤمن عليه دائما أن يرد المُتشَابِه إلى المُحْكَم. مثال ذلك عندما نسمع قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [الفتح: 10]...
إن الإنسان قد يتساءل: "هل لله يد "؟ على الإنسان أن يرد ذلك إلى نطاق {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. وعندما يسمع المؤمن قول الحق: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]. فهل لله جسم يستقر به على عرش؟ هنا نقول: هذا هو المُتشَابِه الذي يجب على المؤمن الإيمان به، ذلك أن وجودك أيها الإنسان ليس كوجود الله، ويدك ليست كيد الله وأن استواءك أيضا ليس كاستواء الله. ومادام وجوده سبحانه ليس كوجودك وحياته ليست كحياتك فلماذا تريد أن تكون يده كيدك؟ هو كما قال عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. ولماذا أدخلنا الله إلى تلك المجالات؟ لأن الله يريد أن يُلفت خلقه إلى أشياء قد لا تستقيم في العقول؛ فمن يتسع ظنه إلى أن يؤول ويردها إلى المُحْكَم بأن الله ليس كمثله شيء. فله ذلك، ومن يتسع ظنه ويقول: أنا آمنت بأن لله يداً ولكن في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فله ذلك أيضا وهذا أسلم. والحق يقول: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} ومعنى {أُمُّ} أي الأصل الذي يجب أن ينتهي إليه تأويل المُتشَابه إن أوّلت فيه، أو تُرجعه إلى المُحكم فتقول: إن لله يداً، ولكن ليست كأيدي البشر. إنما تدخل في نطاق: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]...
يقول الحق بعد ذلك: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} إن الله لو أراد للمتشابه أن يكون محكما، لجاء به من المُحكَم، إذن فإرادة الله أن تكون هناك آيات المتشابه ومهمتها أن تحرك العقول، وذلك حتى لا تأتي الأمور بمنتهى الرتابة التي يجمد بها عقل الإنسان عن التفكير والإبداع، والله يريد للعقل أن يتحرك وأن يفكر ويستنبط. وعندما يتحرك العقل في الاستنباط تتكون عند الإنسان الرياضة على الابتكار، والرياضة على البحث، وليجرب كل واحد منا أن يستنبط المتشابه إلى المحكم ولسوف يمتلك بالرياضة ناصية الابتكار والبحث، والحاجة هي التي تفتق الحيلة. إن الحق يريد أن يعطي الإنسان دربة حتى لا يأخذ المسألة برتابة بليدة ويتناولها تناول الخامل ويأخذها من الطريق الأسهل، بل عليه أن يستقبلها باستقبالٍ واع وبفكر وتدبر. {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24]. كل ذلك حتى يأخذ العقل القدر الكافي من النشاط ليستقبل العقل العقائد بما يريده الله، ويستقبل الأحكام بما يريده الله، فيريد منك في العقائد أن تؤمن، وفي الأحكام أن تفعل {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ}. والذين في قلوبهم زيغ يحاولون التأويل وتحكمهم أهواؤهم، فلا يصلون إلى الحقيقة. والتأويل الحقيقي لا يعلمه إلا الله. قد رأينا من يريد أن يعيب على واحد بعض تصرفاته فقال له: يا أخي أتَدّعي أنك أحطت بكل علم الله؟ فقال له: لا. قال له: أنا من الذي لا تعلم. وكأنه يرجوه أن ينصرف عنه...
ويقول الراسخون في العلم في نهاية علمهم: آمنا {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}. وهنا تلتقي المسألة، فنحن نعرف أن المحكم نزل للعمل به، والمتشابه نزل للإيمان به لحكمة يريدها الله سبحانه وتعالى، وهي أن نأخذ الأمر من الآمر لا لحكمة الأمر. وعندما نأخذ الأوامر من الحق فلا نسأل عن علتها؛ لأننا نأخذها من خالق محب حكيم عادل. والإنسان إن لم ينفذ الأمر القادم من الله إلا إذا علم علته وحكمته فإننا نقول لهذا الإنسان: أنت لا تؤمن بالله ولكنك تؤمن بالعلة والحكمة، والمؤمن الحق هو من يؤمن بالأمر وإن لم يفهم. والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كل من عند الله، المحكم من عند ربنا والمتشابه من عند ربنا: ويضيف سبحانه: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} و {أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} أي أصحاب العقول المحفوظة من الهوى، لأن آفة الرأي الهوى، والهوى يتمايل به. {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} و "اللب "هو: العقل، يخبرنا الله أن العقل يحكم لُبّ الأشياء لا ظواهر الأشياء وعوارضها، فهناك أحكام تأتي للأمر الظاهر، وأحكام للُبّ.