سورة مدنية إلا الآيات 52 ، 54 ، 55 ، وآياتها ثمان وسبعون آية .
بدأت بالتخويف من الله ، والتذكير بأهوال القيامة ، والتعريف بالمجادلين بالباطل والجهل . وعقبت ذلك بسوق دليل البعث مصورا في تطور خلق الإنسان وخروج النبات ، وتعرضت للمخاصمة في الله ونتيجتها . وذكرت الحج وتعظيم الشعائر . وبعد ذلك أذن الله فيها للمؤمنين بالقتال الدفاعي . وأتبع ذلك بمواساة الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه بذكر ما أصاب الرسل قبله من عنت واضطهاد . وبين آيات السورة على قدرته تعالى ووحدانيته ، وتحديد لوظيفة الرسل . وأنها الإنذار دون الإكراه . وفي ختام السورة تحدث الشركاء المزعومين تسفيها لعقول المشركين بأنهم عاجزون عن خلق أضعف مخلوق وهو الذباب ، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستخلصونه منه . ودعت إلى الصلاة ، والزكاة ، والعبادة ، والجهاد في غير حرج يقصد فهو دين أبيكم إبراهيم والد إسماعيل الذي توالدت منه العدنانية ، وعاقبة أمركم أن يشهد عليكم رسولكم بالتبليغ ، وتشهدون على الأمم السابقة أن رسلها بلغتها كما جاءكم به القرآن . وختمت السورة بطلب الاعتصام بالله ، فهو نعم المولى ونعم النصير .
1- يا أيها الناس : احذروا عقاب ربكم ، وتذكروا دائماً يوم القيامة ، لأن الاضطراب الذي يحدث فيه شديد مزعج ترتجف منه الخلائق .
سورة الحج مدنية إلا ( ومن الناس من يعبد الله ) الآيتين أو ( إلا هذان خصمان ) الست آيات فمدنيات وهي أربع أو خمس أو ست أو سبع أو ثمان وسبعون آية .
قوله تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم } أي : احذروا عقابه بطاعته { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } والزلزلة والزلزال شدة الحركة على الحال الهائلة ، واختلفوا في هذه الزلزلة : فقال علقمة والشعبي : هي من أشراط الساعة . وقيل : قيام الساعة . وقال الحسن و السدي : هذه الزلزلة تكون يوم القيامة . وقال ابن عباس : زلزلة الساعة قيامها فتكون معها .
{ 1 - 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ }
يخاطب الله الناس كافة ، بأن يتقوا ربهم ، الذي رباهم بالنعم الظاهرة والباطنة ، فحقيق بهم أن يتقوه ، بترك الشرك والفسوق والعصيان ، ويمتثلوا أوامره ، مهما استطاعوا .
ثم ذكر ما يعينهم على التقوى ، ويحذرهم من تركها ، وهو الإخبار بأهوال القيامة ، فقال :
{ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } لا يقدر قدره ، ولا يبلغ كنهه ، ذلك بأنها إذا وقعت الساعة ، رجفت الأرض وارتجت ، وزلزلت زلزالها ، وتصدعت الجبال ، واندكت ، وكانت كثيبا مهيلا ، ثم كانت هباء منبثا ، ثم انقسم الناس ثلاثة أزواج .
فهناك تنفطر السماء ، وتكور الشمس والقمر ، وتنتثر النجوم ، ويكون من القلاقل والبلابل ما تنصدع له القلوب ، وتجل منه الأفئدة ، وتشيب منه الولدان ، وتذوب له الصم الصلاب ، ولهذا قال : { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ } .
تعريف بالحج هذه السورة مشتركة بين مكية ومدنية كما يبدو من دلالة آياتها . وعلى الأخص آيات الأذن بالقتال . وآيات العقاب بالمثل ، فهي مدنية قطعا . فالمسلمون لم يؤذن لهم في القتال والقصاص إلا بعد الهجرة . وبعد قيام الدولة الإسلامية في المدينة . أما قبل ذلك فقد قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حين بايعه أهل يثرب ، وعرضوا عليه أن يميلوا على أهل منى من الكفار فيقتلوهم " إني لم أومر بهذا " . حتى إذا صارت المدينة دار إسلام شرع الله القتال لرد أذى المشركين عن المسلمين والدفاع عن حرية العقيدة ، وحرية العبادة للمؤمنين .
والذي يغلب على السورة هو موضوعات السور المكية ، وجو السور المكية . فموضوعات التوحيد والتخويف من الساعة ، وإثبات البعث ، وإنكار الشرك . ومشاهد القيامة ، وآيات الله المبثوثة في صفحات الكون . . بارزة في السورة وإلى جوارها الموضوعات المدنية من الإذن بالقتال ، وحماية الشعائر ، والوعد بنصر الله لمن يقع عليه البغي وهو يرد العدوان ، والأمر بالجهاد في سبيل الله .
والظلال الواضحة في جو السورة كلها هي ظلال القوة والشدة والعنف والرهبة . والتحذير والترهيب واستجاشة مشاعر التقوى والوجل والاستسلام .
تبدو هذه الظلال في المشاهد والأمثال . .
فمشهد البعث مزلزل عنيف رهيب : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم . يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ) . .
وكذلك مشهد العذاب : ( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ، يصب من فوق رؤوسهم الحميم ، يصهر به ما في بطونهم والجلود ، ولهم مقامع من حديد ، كلما أرادوا أن يخرجوا منها - من غم - أعيدوا فيها ، وذوقوا عذاب الحريق ) . .
ومثل الذي يشرك بالله : ( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ) . .
وحركة من ييأس من نصر الله : ( من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ، ثم ليقطع ، فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ) . .
ومشهد القرى المدمرة بظلمها : ( فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة ، فهي خاوية على عروشها ، وبئر معطلة وقصر مشيد ) . .
تجتمع هذه المشاهد العنيفة المرهوبة إلى قوة الأوامر والتكاليف ، وتبرير الدفع بالقوة ، وتأكيد الوعد بالنصر والتمكين . إلى عرض الحديث عن قوة الله وضعف الشركاء المزعومين . .
ففي الأولى : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، وإن الله على نصرهم لقدير ، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا : ربنا الله . ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا . ولينصرن الله من ينصره . إن الله لقوي عزيز . الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر . ولله عاقبة الأمور ) . .
وفي الثانية : ( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له . إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه . ضعف الطالب والمطلوب . ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ) . .
ووراء هذا وذلك ، الدعوة إلى التقوى والوجل واستجاشة مشاعر الرهبة والاستسلام .
تبدأ بها السورة وتتناثر في ثناياها : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) . . ( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) . . ( فإلهكم إله واحد ، فله أسلموا وبشر المخبتين . الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) . . ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) . .
ذلك إلى استعراض مشاهد الكون ، ومشاهد القيامة ، ومصارع الغابرين . والأمثلة والعبر والصور والتأملات لاستجاشة مشاعر الإيمان والتقوى والإخبات والاستسلام . . وهذا هو الظل الشائع في جو السورة كلها ، والذي يطبعها ويميزها .
ويجري سياق السورة في أربعة أشواط :
يبدأ الشوط الأول بالنداء العام . نداء الناس جميعا إلى تقوى الله ، وتخويفهم من زلزلة الساعة ، ووصف الهول المصاحب لها ، وهو هول عنيف مرهوب . ويعقب في ظل هذا الهول باستنكار الجدل في الله بغير علم ، واتباع كل شيطان محتوم على من يتبعه الضلال . ثم يعرض دلائل البعث من أطوار الحياة في جنين الإنسان ، وحياة النبات ؛ مسجلا تلك القربى بين أبناء الحياة ، ويربط بين تلك الأطوار المطردة الثابتة وبين أن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور . . وكلها سنن مطردة وحقائق ثابتة متصلة بناموس الوجود . . ثم يعود إلى استنكار الجدل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير بعد هذه الدلائل المستقرة في صلب الكون وفي نظام الوجود . وإلى استنكار بناء العقيدة على حساب الربح والخسارة ، والانحراف عن الاتجاه إلى الله عند وقوع الضراء ، والالتجاء إلى غير حماه ؛ واليأس من نصرة الله وعقباه . وينتهي هذا الشوط بتقرير أن الهدى والضلال بيد الله ، وأنه سيحكم بين أصحاب العقائد المختلفة يوم الحساب . . وهنا يعرض ذلك المشهد العنيف من مشاهد العذاب للكافرين ، وإلى جواره مشهد النعيم للمؤمنين .
ويتصل الشوط الثاني بنهاية الشوط الأول بالحديث عن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام . ويستنكر هذا الصد عن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس جميعا . يستوي في ذلك المقيمون به والطارئون عليه . . وبهذه المناسبة يذكر طرفا من قصة بناء البيت ، وتكليف إبراهيم - عليه السلام - أن يقيمه على التوحيد ، وأن يطهره من رجس الشرك . ويستطرد إلى بعض شعائر الحج وما وراءها من استجاشة مشاعر التقوى في القلوب ، وهي الهدف المقصود . وينتهي هذا الشوط بالإذن للمؤمنين بالقتال لحماية الشعائر والعبادات من العدوان الذي يقع على المؤمنين ولا جريرة لهم إلا أن يقولوا : ربنا الله !
والشوط الثالث يتضمن عرض نماذج من تكذيب المكذبين من قبل ، ومن مصارع المكذبين ومشاهد القرى المدمرة على الظالمين . وذلك لبيان سنة الله في الدعوات ، وتسلية الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عما يلقاه من صد وإعراض ، وتطمين المسلمين ، بالعاقبة التي لا بد أن تكون . كذلك يتضمن عرض طرف من كيد الشيطان للرسل والنبيين في دعوتهم ، وتثبيت الله لدعوته ، وإحكامه لآياته ، حتى يستيقن بها المؤمنون ، ويفتن بها الضعاف والمستكبرون !
أما الشوط الأخير فيتضمن وعد الله بنصرة من يقع عليه البغي وهو يدفع عنه العدوان ويتبع هذا الوعد بعرض دلائل القدرة في صفحات الكون ، وإلى جوارها يعرض صورة زرية لضعف الآلهة التي يركن إليها المشركون . . وينتهي الشوط وتنتهي السورة معه بنداء الذين آمنوا ليعبدوا ربهم ، ويجاهدوا في الله حق جهاده ، ويعتصموا بالله وحده ، وهم ينهضون بتكاليف عقيدتهم العريقة منذ أيام إبراهيم الخليل . .
( يا أيها الناس اتقوا ربكم ، إن زلزلة الساعة شيء عظيم . يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها ؛ وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى ، ولكن عذاب الله شديد ) . .
مطلع عنيف رعيب ، ومشهد ترتجف لهوله القلوب . يبدأ بالنداء الشامل للناس جميعا : ( يا أيها الناس )يدعوهم إلى الخوف من الله : ( اتقوا ربكم )ويخوفهم ذلك اليوم العصيب : ( إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) .
وهكذا يبدأ بالتهويل المجمل ، وبالتجهيل الذي يلقي ظل الهول يقصر عن تعريفه التعبير ، فيقال : إنه زلزلة . وإن الزلزلة ( شيء عظيم ) ، من غير تحديد ولا تعريف .
[ وهي مكية ]{[1]} .
يقول تعالى آمرا عباده بتقواه ، ومخبرا لهم بما يستقبلون من أهوال يوم القيامة وزلازلها وأحوالها . وقد اختلف المفسرون في زلزلة الساعة : هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عَرصَات القيامة ؟ أو ذلك عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من أجداثهم ؟ كما قال تعالى : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا . وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا } [ الزلزلة : 1 ، 2 ] ، وقال تعالى : { وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً * وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } [ الحاقة : 14 ، 15 ] ، وقال تعالى : { إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا . وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا . فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا } [ الواقعة : 4 - 6 ] .
فقال قائلون : هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا ، وأول أحوال الساعة .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بَشَّار ، حدثنا يحيى ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عَلْقَمَة في قوله : { إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } ، قال : قبل الساعة .
ورواه ابن أبي حاتم من حديث الثوري ، عن منصور والأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، فذكره . قال : وروي عن الشعبي ، وإبراهيم ، وعُبَيْد بن عُمَيْر ، نحو ذلك .
وقال أبو كُدَيْنَةَ ، عن عطاء ، عن عامر الشعبي : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ } الآية ، قال : هذا في الدنيا قبل يوم القيامة .
وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مُسْتَنَدَ مَنْ قال ذلك في حديث الصُّور ، من رواية إسماعيل ابن رافع قاضي أهل المدينة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن رجل من الأنصار ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن رجل ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصُّور ، فأعطاه إسرافيل ، فهو واضعه على فِيه ، شاخص ببصره إلى العَرش ، ينتظر متى يؤمر " . قال أبو هريرة : يا رسول الله ، وما الصور ؟
قال : " قرن " قال : فكيف هو ؟ قال : " قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات ، الأولى نفخة الفزع ، والثانية نفخة الصَّعْق ، والثالثة نفخة{[19958]} القيام لرب العالمين ، يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول : انفخ نفخة الفزع . فيفزعُ أهل السموات وأهل الأرض ، إلا من شاء الله ، ويأمره فيمدها ويطولها ولا يفتر ، وهي التي يقول الله تعالى : { وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ } [ ص : 15 ] فَيُسير الله الجبال ، فتكون سرابا وتُرج الأرض بأهلها رجا ، وهي التي يقول الله تعالى : { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ . تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ . قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } [ النازعات : 6 - 8 ] ، فتكون الأرض ، كالسفينة الموبقة{[19959]} في البحر ، تضربها الأمواج تكفؤها بأهلها ، وكالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الأرواح .
فيمتد الناس على ظهرها ، فتذهل المراضع ، وتضع الحوامل . ويشيب{[19960]} الولدان ، وتطير الشياطين هاربة ، حتى تأتي الأقطار ، فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها ، فترجع ، ويولي{[19961]} الناس مدبرين ، ينادي بعضهم بعضا ، وهو الذي يقول الله تعالى : { يَوْمَ التَّنَادِ{[19962]} يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ غافر : 32 ، 33 ] فبينما هم على ذلك إذ انصدعت الأرض من قطر إلى قطر ، فَرَأوا أمرا عظيما ، فأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به ، ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل ، ثم خسف شمسها وخُسفَ قمرها ، وانتثرت نجومها ، ثم كُشِطت عنهم " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك " قال أبو هريرة : فمن استثنى الله حين يقول : { فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ{[19963]} شَاءَ اللَّهُ } [ النمل : 87 ] ؟ قال : أولئك الشهداء ، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء ، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون ، وقاهم الله شر ذلك اليوم وآمنهم ، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه ، وهو الذي يقول الله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ }{[19964]} .
وهذا الحديث قد رواه الطبراني ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وغير واحد{[19965]} مطولا جدًا .
والغرض منه أنه دل على أن هذه الزلزلة{[19966]} كائنة قبل يوم الساعة ، وأضيفت إلى الساعة لقربها منها ، كما يقال : أشراط الساعة ، ونحو ذلك ، والله أعلم .
وقال آخرون : بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال ، كائن يوم القيامة في العرصات ، بعد القيامة من القبور . واختار ذلك ابن جرير . واحتجوا بأحاديث :
الأول : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، عن هشام ، حدثنا{[19967]} قتادة ، عن الحسن ، عن عمران [ ابن ]{[19968]} حُصَين ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في بعض أسفاره ، وقد تفاوت بين أصحابه السير ، رفع بهاتين الآيتين صوته : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ }
فلما سمع أصحابه بذلك حَثوا المُطي ، وعرفوا أنه عند قول يقوله ، فلما تأشبوا حوله قال : " أتدرون أي يوم ذاك ؟ يوم ينادى آدم ، عليه السلام ، فيناديه ربه عز وجل ، فيقول : يا آدم ، ابعث بعثك إلى النار فيقول : يا رب ، وما بعث النار ؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار ، وواحد في الجنة " . قال فأبلس أصحابه حتى ما أوضحوا بضاحكة ، فلما رأى ذلك قال : " أبشروا واعملوا ، فوالذي نفس محمد بيده ، إنكم لمع{[19969]} خَليقتين ما كانتا مع شيء قط إلا كثرتاه : يأجوج ومأجوج ، ومن هلك من بني آدم وبني إبليس " قال : فسُرّي عنهم ، ثم قال : اعملوا وأبشروا ، فوالذي نفس محمد بيده ، ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير ، أو الرقمة في ذراع الدابة " .
وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما ، عن محمد بن بَشَّار ، عن يحيى - وهو القَطَّان - عن هشام - وهو الدستوائي - عن قتادة ، به{[19970]} بنحوه . وقال الترمذي : حسن صحيح .
طريق أخرى لهذا الحديث : قال{[19971]} الترمذي : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا ابن جُدعان ، عن الحسن ، عن عمران بن حُصَيْن ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لما نزلت : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ{[19972]} اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } إلى قوله : { وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } ، قال : أنزلت عليه هذه ، وهو في سفر ، فقال : " أتدرون أي يوم ذلك ؟ " فقالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " ذلك يوم يقول الله لآدم : ابعث بعث النار . قال : يا رب ، وما بعث النار ؟ قال : تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار ، وواحد إلى الجنة " فأنشأ المسلمون يبكون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قاربوا وسَدِّدوا ، فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية " قال : " فيؤخذ العدد من الجاهلية ، فإن تمت وإلا كُمّلت من المنافقين ، وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرَّقمة في ذراع الدابة ، أو كالشامة{[19973]} في جنب البعير " ثم قال : " إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة " فكبروا ثم قال : " إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة " فكبروا ، ثم قال : " إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة " فكبروا ، قال : ولا أدري أقال الثلثين أم لا ؟
وكذا رواه الإمام أحمد عن سفيان بن عُيَيْنَةَ{[19974]} ، ثم قال الترمذي أيضا : هذا حديث حسن صحيح .
وقد روي عن سعيد بن أبي عَرُوبة عن الحسن ، عن عمران بن الحصين . وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن والعلاء بن زياد العدوي ، عن عمران بن الحصين{[19975]} ، فذكره .
وهكذا روى ابن جرير عن بُنْدَار ، عن غُنْدَر ، عن عوف ، عن الحسن قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة العُسرة ومعه أصحابه بعد ما شارف المدينة قرأ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } وذكر الحديث{[19976]} ، فذكر نحو سياق ابن جُدْعَان ، فالله أعلم .
الحديث الثاني : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن الطَبَّاع ، حدثنا أبو سفيان - [ يعني ]{[19977]} المعمري - عن مَعْمَر ، عن قتادة ، عن أنس قال : نزلت : { إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } وذكر - يعني : نحو سياق الحسن عن عمران - غير أنه قال : " ومن هلك من كفرة الجن والإنس " .
رواه ابن جرير بطوله ، من حديث معمر{[19978]} .
الحديث الثالث : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد - يعني : ابن العوام - حدثنا هلال بن خباب{[19979]} ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : تلا{[19980]} رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فذكر نحوه ، وقال فيه : " إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة " ، ثم قال : " إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة " ثم قال : " إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة " ففرحوا ، وزاد أيضًا : " وإنما أنتم جزء من ألف جزء " {[19981]} .
الحديث الرابع : قال البخاري عند هذه الآية : حدثنا عمر بن حفص ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش ، حدثنا أبو صالح ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى يوم القيامة : يا آدم ، فيقول : لبيك ربنا وسعديك . فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار . قال : يا رب ، وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف - أراه قال - تسعمائة وتسعة وتسعين{[19982]} . فحينئذ تضع الحامل حملها ، ويشيب الوليد ، { وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين{[19983]} ، ومنكم واحد ، ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض ، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود ، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة " . فكبرنا ، ثم قال : " ثلث أهل الجنة " . فكبرنا ، ثم قال : " شطر أهل الجنة " فكبرنا{[19984]} .
وقد رواه البخاري أيضا في غير هذا الموضع ، ومسلم ، والنسائي في تفسيره ، من طرق ، عن الأعمش ، به{[19985]} .
الحديث الخامس : قال الإمام أحمد : حدثنا عمار{[19986]} بن محمد - ابن أخت سفيان الثوري - وعبيدة المعنى ، كلاهما عن إبراهيم بن مسلم ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يبعث يوم القيامة مناديا [ ينادي ]{[19987]} : يا آدم ، إن الله يأمرك أن تبعث بعثًا من ذريتك إلى النار ، فيقول آدم : يا رب ، من هم ؟ فيقال له : من كل مائة تسعة وتسعين " . فقال رجل من القوم : من هذا الناجي منا بعد هذا يا رسول الله ؟ قال{[19988]} : " هل تدرون ما أنتم في الناس إلا كالشامة في صدر البعير " {[19989]} .
انفرد بهذا السند وهذا السياق الإمام أحمد .
الحديث السادس : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، عن حاتم بن أبي صغيرة ، حدثنا ابن أبي مُلَيْكَةَ ؛ أن القاسم بن محمد أخبره ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنكم تحشرون يوم القيامة حُفاة عراة غرلا " . قالت عائشة : يا رسول الله ، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : " يا عائشة ، إن الأمر أشد من أن يهمهم ذاك " . أخرجاه في الصحيحين{[19990]} .
الحديث السابع : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن خالد بن أبي عِمْران ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله ، هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة ؟ قال : " يا عائشة ، أما عند ثلاث فلا أما عند الميزان حتى يثقل أو يخف ، فلا . وأما عند تطاير الكتب فإما يعطى بيمينه أو يعطى بشماله ، فلا . وحين يخرج عُنُق من النار فينطوي عليهم ، ويتغيظ عليهم ، ويقول ذلك العنق : وكلت بثلاثة ، وكلت بثلاثة ، وكلت بثلاثة : وكلت بمن ادعى مع الله إلها آخر ، ووكلت بمن لا يؤمن بيوم الحساب ، ووكلت بكل جبار عنيد " قال : " فينطوي{[19991]} عليهم ، ويرميهم في غمرات ، ولجهنم جسر أدق من الشعر وأحد من السيف ، عليه كلاليب وحسك يأخُذْنَ من شاء الله ، والناس عليه كالطرف وكالبرق وكالريح ، وكأجاويد الخيل والركاب ، والملائكة يقولون : رب ، سَلِّم ، سَلِّم . فناج مسلم ، ومخدوش مسلم ، ومكَوّر{[19992]} في النار على وجهه{[19993]} " {[19994]} .
والأحاديث في أهوال يوم القيامة والآثار كثيرة جدا ، لها موضع آخر ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } أي : أمر كبير ، وخطب جليل ، وطارق مفظع ، وحادث هائل ، وكائن عجيب .
والزلزال{[19995]} : هو ما يحصل للنفوس من الفزع ، والرعب كما قال تعالى : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا } [ الأحزاب : 11 ] .
ثم قال تعالى : { يَوْمَ تَرَوْنَهَا } : هذا من باب ضمير الشأن ؛ ولهذا قال مفسرًا له : { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ } أي : تشتغل لهول ما ترى عن أحب الناس إليها ، والتي هي أشفق الناس عليه ، تدهش عنه في حال إرضاعها له ؛ ولهذا قال : { كُلُّ مُرْضِعَةٍ } ، ولم يقل : " مرضع " وقال : { عَمَّا أَرْضَعَتْ } أي : عن رضيعها قبل فطامه .
وقوله : { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } أي : قبل تمامه لشدة الهول ، { وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى } وقرئ : " سَكْرَى " أي : من شدة الأمر الذي [ قد ]{[19996]} صاروا فيه قد دهشت عقولهم ، وغابت أذهانهم ، فمن رآهم حسب أنهم سُكارى ، { وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } .
{ بسم الله الرحمن الرحيم } { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة } تحريكها للأشياء على الإسناد المجازي ، أو تحريك الأشياء فيها فأضيفت إليها إضافة معنوية بتقدير في أو إضافة المصدر إلى الظرف على إجرائه مجرى المفعول به . وقيل هي زلزلة تكون قبيل طلوع الشمس من مغربها وإضافتها إلى الساعة لأنها من أشراطها . { شيء عظيم } هائل علل أمرهم بالتقوى بفظاعة الساعة ليتصوروها بعقولهم ويعلموا أنه لا يؤمنهم منها سوى التدرع بلباس التقوى فيبقوا على أنفسهم ويتقوها بملازمة التقوى .
هذه السورة مكية سوى ثلاث آيات قوله ' هذان خصمان{[1]} ' إلى تمام ثلاث آيات . قاله ابن عباس ومجاهد وروي أيضا عن ابن عباس أنهن أربع آيات إلى قوله ' عذاب الحريق ' وقال الضحاك هي مدنية وقال قتادة سورة الحج مدنية إلا أربع آيات من قوله ' وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته{[2]} ' إلى قوله ' عذاب يوم عقيم ' فهن مكيات وعد النقاش ما نزل بالمدينة عشر آيات وقال الجمهور مختلطة فيها مكي ومدني وهذا هو الأصح والله أعلم لأن الآيات تقتضي ذلك{[3]} وروي عن أنس بن مالك أنه قال نزل أول السورة في السفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى بها فاجتمع الناس إليه فقال أتدرون أي يوم هذا فبهتوا فقال يوم يقول الله يا آدم أخرج بعث النار فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال فاغتم الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبشروا فمنكم رجل ومن يأجوج ومأجوج ألف رجل الحديث . {[4]}
صدر الآية تحذير بجميع العالم ثم أوجب الخبر وأكده بأمر { زلزلة } القيامة وهي إحدى شرائطها وسماها «شيئاً » إما لأنها حاصلة متيقن وقوعها فيستسهل لذلك أن تسمى شيئاً .
وهي معدومة إذا اليقين بها يشبهها بالموجودات وأما على المآل أي هي أذا وقعت شيء عظيم فكأنه لم يطلق الاسم الآن بل المعنى أنها كانت فهي حينئذ شيء عظيم ، والزلزلة التحريك العنيف{[8291]} وذلك مع نفخة الفزع ومع نفحة الصعق حسبما تضمن حديث أبي هريرة{[8292]} من ثلاث نفخات ومن لفظ الزلزلة قول الشاعر : [ الخفيف ]
يعرف الجاهل المضلل أن . . . الدهر فيه النكراء والزلزال{[8293]}
فيحتمل أن تكون «الزلزلة » في الآية عبارة عن أهوال يوم القيامة كما قال تعالى { مستهم البأساء والضراء وزلزوا }{[8294]} [ البقرة : 214 ] وكما قال عليه السلام «اللهم اهزمهم وزلزلهم »{[8295]} ، والجمهور على أن { زلزلة الساعة } هي كالمعهودة في الدنيا إلا أنها في غاية الشدة ، واختلف المفسرون في «الزلزلة » المذكورة هل هي في الدنيا على القوم الذين تقوم عليهم القيامة ، أم هي في يوم القيامة على جميع العالم ؟ فقال الجمهور هي في الدنيا .
سميت هذه السورة الحج في زمن النبي صلى الله عليه وسلم . أخرج أبو داود ، والترمذي عن عقبة بن عامر قال : قلت : يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين? قال : نعم . وأخرج أبو داود ، وابن ماجه عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل ، وفي سورة الحج سجدتان . وليس لهذه السورة اسم غير هذا .
ووجه تسميتها سورة الحج أن الله ذكر فيها كيف أمر إبراهيم عليه السلام بالدعوة إلى حج البيت الحرام ، وذكر ما شرع للناس يومئذ من النسك تنويها بالحج وما فيه من فضائل ومنافع ، وتقريعا للذين يصدون المؤمنين عن المسجد الحرام وإن كان نزولها قبل أن يفرض الحج على المسلمين بالاتفاق ، وإنما فرض الحج بالآيات التي في سورة البقرة وفي سورة آل عمران .
واختلف في هذه السورة هل هي مكية أو مدنية . أو كثير منها مكي وكثير منها مدني .
فعن ابن عباس ومجاهد وعطاء : هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله { هذان خصمان } إلى { وذوقوا عذاب الحريق } . قال ابن عطية : وعد النقاش ما نزل منها بالمدينة عشر آيات .
وعن ابن عباس أيضا والضحاك وقتادة والحسن : هي مدنية إلا آيات { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي } إلى قوله تعالى { أو يأتيهم عذاب يوم مقيم } فهن مكيات .
وعن مجاهد ، عن ابن الزبير : أنها مدنية . ورواه العوفي عن ابن عباس .
وقال الجمهور هذه السورة بعضها مكي وبعضها مدني وهي مختلطة ، أي لا يعرف المكي بعينه ، والمدني بعينه . قال ابن عطية : وهو الأصح .
وأقول : ليس هذا القول مثل ما يكثر أن يقولوه في بضع آيات من عدة سور : إنها نزلت في غير البلد الذي نزل فيه أكثر السورة المستثنى منها ، بل أرادوا أن كثيرا منها مكي وأن مثله أو يقاربه مدني ، وأنه لا يتعين ما هو مكي منها وما هو مدني ولذلك عبروا بقولهم : هي مختلطة . قال ابن عطية : روي عن أنس ابن مالك أنه قال : نزل أول السورة في السفر فنادى رسول الله بها فاجتمع إليه الناس وساق الحديث الذي سيأتي . يريد ابن عطية أن نزولها في السفر يقتضي أنها نزلت بعد الهجرة .
ويشبه أن يكون أولها نزل بمكة فإن افتتاحها ب{ يا أيها الناس } جار على سنن فواتح السور المكية . وفي أساليب نظم كثير من آياتها ما يلائم أسلوب القرآن النازل بمكة . ومع هذا فليس الافتتاح ب{ يا أيها الناس } بمعين أن تكون مكية ، وإنما قال ابن عباس { يا أيها الناس } يراد به المشركون . ولذا فيجوز أن يوجه الخطاب به إلى المشركين في المدينة في أول مدة حلول النبي صلى الله عليه وسلم بها ، فإن قوله { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام } يناسب أنه نزل بالمدينة حيث صد المشركون النبي والمؤمنين عن البقاء معهم بمكة . وكذلك قوله { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } فإنه صريح في أنه نزل في شان الهجرة .
روى الترمذي بسنده عن ابن عباس قال : لما أخرج النبي من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم ليهلكن فأنزل الله { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله } ، وكذلك قوله { والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا } ففيه ذكر الهجرة وذكر من يقتل من المهاجرين وذلك مؤذن بجهاد متوقع كما سيجيء هنالك .
وأحسب أنه لم تتعين طائفة منها متوالية نزلت بمكة ونزل ما بعدها بالمدينة بل نزلت آياتها متفرقة . ولعل ترتيبها كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ومثل ذلك كثير .
وقد قيل في قوله تعالى { هذان خصمان اختصموا في ربهم } إنه نزل في وقعة بدر ، لما في الصحيح عن علي وأبي ذر : أنها نزلت في مبارزة حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث مع شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر وكان أبو ذر يقسم على ذلك .
ولذلك فأنا أحسب هذه السورة نازلا بعضها آخر مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة كما يقتضيه افتتاحها ب{ يا أيها الناس } فقد تقرر أن ذلك الغالب في أساليب القرآن المكي ، وأن بقيتها نزلت في مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة .
سميت هذه السورة الحج في زمن النبي صلى الله عليه وسلم . أخرج أبو داود ، والترمذي عن عقبة بن عامر قال : قلت : يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين? قال : نعم . وأخرج أبو داود ، وابن ماجه عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل ، وفي سورة الحج سجدتان . وليس لهذه السورة اسم غير هذا .
ووجه تسميتها سورة الحج أن الله ذكر فيها كيف أمر إبراهيم عليه السلام بالدعوة إلى حج البيت الحرام ، وذكر ما شرع للناس يومئذ من النسك تنويها بالحج وما فيه من فضائل ومنافع ، وتقريعا للذين يصدون المؤمنين عن المسجد الحرام وإن كان نزولها قبل أن يفرض الحج على المسلمين بالاتفاق ، وإنما فرض الحج بالآيات التي في سورة البقرة وفي سورة آل عمران .
واختلف في هذه السورة هل هي مكية أو مدنية . أو كثير منها مكي وكثير منها مدني .
فعن ابن عباس ومجاهد وعطاء : هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله { هذان خصمان } إلى { وذوقوا عذاب الحريق } . قال ابن عطية : وعد النقاش ما نزل منها بالمدينة عشر آيات .
وعن ابن عباس أيضا والضحاك وقتادة والحسن : هي مدنية إلا آيات { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي } إلى قوله تعالى { أو يأتيهم عذاب يوم مقيم } فهن مكيات .
وعن مجاهد ، عن ابن الزبير : أنها مدنية . ورواه العوفي عن ابن عباس .
وقال الجمهور هذه السورة بعضها مكي وبعضها مدني وهي مختلطة ، أي لا يعرف المكي بعينه ، والمدني بعينه . قال ابن عطية : وهو الأصح .
وأقول : ليس هذا القول مثل ما يكثر أن يقولوه في بضع آيات من عدة سور : إنها نزلت في غير البلد الذي نزل فيه أكثر السورة المستثنى منها ، بل أرادوا أن كثيرا منها مكي وأن مثله أو يقاربه مدني ، وأنه لا يتعين ما هو مكي منها وما هو مدني ولذلك عبروا بقولهم : هي مختلطة . قال ابن عطية : روي عن أنس ابن مالك أنه قال : نزل أول السورة في السفر فنادى رسول الله بها فاجتمع إليه الناس وساق الحديث الذي سيأتي . يريد ابن عطية أن نزولها في السفر يقتضي أنها نزلت بعد الهجرة .
ويشبه أن يكون أولها نزل بمكة فإن افتتاحها ب{ يا أيها الناس } جار على سنن فواتح السور المكية . وفي أساليب نظم كثير من آياتها ما يلائم أسلوب القرآن النازل بمكة . ومع هذا فليس الافتتاح ب{ يا أيها الناس } بمعين أن تكون مكية ، وإنما قال ابن عباس { يا أيها الناس } يراد به المشركون . ولذا فيجوز أن يوجه الخطاب به إلى المشركين في المدينة في أول مدة حلول النبي صلى الله عليه وسلم بها ، فإن قوله { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام } يناسب أنه نزل بالمدينة حيث صد المشركون النبي والمؤمنين عن البقاء معهم بمكة . وكذلك قوله { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } فإنه صريح في أنه نزل في شان الهجرة .
روى الترمذي بسنده عن ابن عباس قال : لما أخرج النبي من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم ليهلكن فأنزل الله { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله } ، وكذلك قوله { والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا } ففيه ذكر الهجرة وذكر من يقتل من المهاجرين وذلك مؤذن بجهاد متوقع كما سيجيء هنالك .
وأحسب أنه لم تتعين طائفة منها متوالية نزلت بمكة ونزل ما بعدها بالمدينة بل نزلت آياتها متفرقة . ولعل ترتيبها كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ومثل ذلك كثير .
وقد قيل في قوله تعالى { هذان خصمان اختصموا في ربهم } إنه نزل في وقعة بدر ، لما في الصحيح عن علي وأبي ذر : أنها نزلت في مبارزة حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث مع شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر وكان أبو ذر يقسم على ذلك .
ولذلك فأنا أحسب هذه السورة نازلا بعضها آخر مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة كما يقتضيه افتتاحها ب{ يا أيها الناس } فقد تقرر أن ذلك الغالب في أساليب القرآن المكي ، وأن بقيتها نزلت في مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة .
وروى الترمذي وحسنه وصححه عن ابن أبي عمر ، عن سفيان عن ابن جدعان ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين أنه لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } إلى قوله { ولكن عذاب الله شديد } . قال : أنزلت عليه هذه وهو في سفر? فقال : { أتدرون } وساق حديثا طويلا . فاقتضى قوله : أنزلت عليه وهو في سفر? أن هذه السورة أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة فإن أسفاره كانت في الغزوات ونحوها بعد الهجرة .
وفي رواية عنه أن ذلك السفر في غزوة بني المصطلق من خزاعة وتلك الغزوة في سنة أربع أو خمس ، فالظاهر من قوله { أنزلت وهو في سفر } أن عمران بن حصين لم يسمع الآية إلا يومئذ فظنتها أنزلت يومئذ فإن عمران بن حصين ما أسلم إلا عام خيبر وهو عام سبعة ، أو أن أحد رواة الحديث أدرج كلمة أنزلت عليه وهو في سفر في كلام عمران بن حصين ولم يقله عمران . ولذلك لا يوجد هذا اللفظ فيما ما روى الترمذي وحسنه وصححه أيضا عن محمد ابن بشار ، عن يحيى بن سعيد عن هشام بن أبي عبد الله عن قتادة ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين قال : كنا مع النبي في سفر فرفع صوته بهاتين الآيتين { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } إلى قوله { ولكن عذاب الله شديد } إلى آخره . فرواية قتادة عن الحسن أثبت من رواية ابن جدعان عن الحسن ، لأن ابن جدعان واسمه علي بن زيد قال فيه أحمد وأبو زرعة : ليس بالقوي . وقال فيه ابن خزيمة : سيء الحفظ ، وقد كان اختلط فينبغي عدم اعتماد ما انفرد به من الزيادة . وروى ابن عطية عن أنس بن مالك أنه قال : أنزل أول هذه السورة على رسول الله في سفر . ولم يسنده ابن عطية .
وذكر القرطبي عن الغزنوي أنه قال : سورة الحج من أعاجيب السور نزلت ليلا ونهارا ، سفرا وحضرا ، مكيا ومدنيا ، سلميا وحربيا ، ناسخا ومنسوخا ، محكما ومتشابها .
وقد عدت السورة الخامسة والمائة في عداد نزول سورة القرآن في رواية جابر بن زيد ، عن ابن عباس قال : نزلت بعد سورة النور وقبل سورة المنافقين . وهذا يقتضي أنها عنده مدنية كلها لأن سورة النور وسورة المنافقين مدنيتان فينبغي أن يتوقف في اعتماد هذا فيها .
وعدت آياتها عند أهل المدينة ومكة : سبعا وسبعين . وعدها أهل الشام : أربعا وسبعين . وعدها أهل البصرة : خمسا وسبعين : وعدها أهل الكوفة : ثمانا وسبعين .
ومن أغراض هذه السورة : خطاب الناس بأمرهم أن يتقوا الله ويخشوا يوم الجزاء وأهواله .
والاستدلال على نفي الشرك وخطاب المشركين بأن يقلعوا عن المكابرة في الاعتراف بانفراد الله تعالى بالإلهية وعن المجادلة في ذلك اتباعا لوساوس الشياطين ، وأن الشياطين لا تغني عنهم شيئا ولا ينصرونهم في الدنيا وفي والآخرة .
وتفظيع جدال المشركين في الوحدانية بأنهم لا يستندون إلى علم وأنهم يعرضون عن الحجة ليضلوا الناس .
وأنهم يرتابون في البعث وهو ثابت لا ريبة فيه وكيف يرتابون فيه بعلة استحالة الإحياء بعد الإماتة ولا ينظرون أن الله أوجد الإنسان من تراب ثم من نطفة ثم طوره أطورا .
وأن الله ينزل الماء على الأرض الهامدة فتحيا وتخرج من أصناف النبات ، فالله هو القادر على كل ذلك . فهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير .
وأن مجادلتهم بإنكار البعث صادرة عن جهالة وتكبر عن الامتثال لقول الرسول صلى الله عليه وسلم .
ووصف المشركين بأنهم في تردد من أمرهم في اتباع دين الإسلام .
والتعريض بالمشركين بتكبرهم عن سنة إبراهيم عليه السلام الذي ينتمون إليه ويحسبون أنهم حماة دينه وأمناء بيته وهم يخالفونه في أصل الدين .
وتذكير لهم بما من الله عليهم في مشروعية الحج من المنافع فكفروا نعمته .
وتنظيرهم في تلقي دعوة الإسلام بالأمم البائدة الذين تلقوا دعوة الرسل بالإعراض والكفر فحل بهم العذاب .
وأنه يوشك أن يحل بهؤلاء مثله فلا يغرهم تأخير العذاب فإنه إملاء من الله لهم كما أملى للأمم من قبلهم . وفي ذلك تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا ، وبشارة لهم بعاقبة النصر على الذين فتنوهم وأخرجوهم من ديارهم بغير حق .
وأن اختلاف الأمم بين أهل هدى وأهل ضلال أمر به افترق الناس إلى ملل كثيرة .
وأن يوم القيامة هو يوم الفصل بينهم لمشاهدة جزاء أهل الهدى وجزاء أهل الضلال .
وأن المهتدين والضالين خصمان اختصموا في أمر الله فكان لكل فريق جزاؤه .
وسلى الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن الشيطان يفسد في قلوب أهل الضلالة آثار دعوة الرسل ولكن الله يحكم دينه ويبطل ما يلقي الشيطان فلذلك ترى الكافرين يعرضون وينكرون آيات القرآن .
وفيها التنويه بالقرآن والمتلقين له بخشية وصبر . ووصف المفار بكراهيتهم القرآن وبغض المرسل به . والثناء على المؤمنين وأن الله يسر لهم أتباع الحنيفية وسماهم المسلمين .
والإذن للمسلمين بالقتال وضمان النصر والتمكين في الأرض لهم .
وختمت السورة بتذكير الناس بنعم الله عليهم وأن الله اصطفى خلقا من الملائكة ومن الناس فأقبل على المؤمنين بالإرشاد إلى ما يقربهم إلى الله زلفى وأن الله هو مولاهم وناصرهم .
نداء للناس كلهم من المؤمنين وأهل الكتاب والمشركين الذين يسمعون هذه الآية من الموجودين يومَ نزولها ومن يأتون بعدهم إلى يوم القيامة ، ليتلقوا الأمر بتقوى الله وخشيته ، أي خشية مخالفة ما يأمرهم به على لسان رسوله ، فتقوى كل فريق بحسب حالهم من التلبس بما نهى الله عنه والتفريط فيما أمر به ، ليستبدلوا ذلك بضده .
وأول فريق من الناس دخولاً في خطاب { ياأيها الناس } هم المشركون من أهل مكة حتى قيل إن الخطاب بذلك خاص بهم . وهذا يشمل مشركي أهل المدينة قبل صفائها منهم .
وفي التعبير عن الذات العلية بصفة الرب مضافاً إلى ضمير المخاطبين إيماء إلى استحقاقه أن يُتَّقَى لعظمته بالخالقية ، وإلى جدارة الناس بأن يتقوه لأنه بصفة تدبير الربوبية لا يأمر ولا ينهى إلا لمرعي مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم .
وكلا الأمرين لا يفيده غير وصف الرب دون نحو الخالق والسيّد .
وتعليق التقوى بذات الرب يقتضي بدلالة الاقتضاء معنى اتقاء مخالفته أو عقابه أو نحو ذلك لأن التقوى لا تتعلق بالذات بل بشأننٍ لها مناسببٍ للمقام . وأول تقواه هو تنزيهه عن النقائص ، وفي مقدمة ذلك تنزيهه عن الشركاء باعتقاد وحدانيته في الإلهية .
وجملة { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } في موضع العلة للأمر بالتقوى كما يفيده حرف التوكيد الواقع في مقام خطاببٍ لا تردد للسامع فيه .
والتعليل يقتضي أن لزلزلة الساعة أثراً في الأمر بالتقوى وهو أنه وقت لحصول الجزاء على التقوى وعلى العصيان وذلك على وجه الإجمال المفصل بما بعده في قوله : { ولكن عذاب الله شديد } [ الحج : 2 ] .
والزلزلة حقيقتها : تحرك عنيف في جهة من سطح الأرض من أثر ضغط مجاري الهواء الكائن في طبقات الأرض القريبة من ظاهر الأرض . وهي من الظواهر الأرضية المرعبة ينشأ عنها تساقط البناء وقد ينشأ عنها خسف الأشياء في باطن الأرض .
والساعة : عَلَم بالغلبة في اصطلاح القرآن على وقت فناء الدنيا والخلوص إلى عالم الحشر الأخروي ، قال تعالى : { إذا زلزلت الأرض زلزالها } إلى قوله : { يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم } [ الزلزلة : 16 ] .
وإضافة { زلزلة } إلى { الساعة } على معنى ( في ) ، أي الزلزلة التي تحدث وقت حلول الساعة .
فيجوز أن تكون الزلزلة في الدنيا أو في وقت الحشر . والظاهر حمل الزلزلة على الحقيقة ، وهي حاصلة عند إشراف العالم الدنيوي على الفناء وفساد نظامه فإضافتها إلى الساعة إضافة حقيقية فيكون في معنى قوله تعالى : { إذا زلزلت الأرض زلزالها } [ الزلزلة : 1 ] الآية .
ويجوز أن تكون الزلزلة مجازاً عن الأهوال والمفزعات التي تحصل يوم القيامة فإن ذلك تستعار له الزلزلة ، قال تعالى : { وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله } [ البقرة : 214 ] أي أصيبوا بالكوارث والأضرار لقوله قبله : { مستهم البأساء والضراء } [ البقرة : 214 ] . وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على الأحزاب : " اللهم اهزمهم وزلزلهم " . والإتيان بلفظ { شيء } للتهويل بتوغله في التنكير ، أي زلزلة الساعة لا يعرّف كنهها إلاّ بأنها شيء عظيم ، وهذا من المواقع التي يحسن فيها موقع كلمة { شيء } وهي التي نبّه عليها الشيخ عبد القاهر في « دلائل الإعجاز » في فصل في تحقيق القول على البلاغة والفصاحة وقد ذكرناه عند قوله تعالى : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً } في [ سورة البقرة : 229 ] .
والعظيم : الضخم ، وهو هنا استعارة للقوي الشديد ، والمقام يفيد أنه شديد في الشرّ .