اللام لام القسم ، والنون تأكيد للقسم ، تقديره : والله لتجدنهم يا محمد ، يعني اليهود .
قوله تعالى : { أحرص الناس على حياة } . وقيل هو متصل بالأول ، أي وأحرص ومن الذين أشركوا . وقيل : تم الكلام بقوله على حياة ثم ابتدأ ومن الذين أشركوا ، وأراد بالذين أشركوا المجوس قال أبو العالية والربيع سموا مشركين لأنهم يقولون بالنور والظلمة .
قوله تعالى : { يود } . يريد ويتمنى .
قوله تعالى : { أحدهم لو يعمر ألف سنة } . يعني تعمير ألف سنة ، وهي تحية المجوس فيما بينهم يقولون عش ألف سنة وكل ألف نيروز ومهرجان ، وقد يكون الكلام الآتي هو المراد من كلام الله تعالى : اليهود أحرص على الحياة من المجوس الذين يقولون ذلك .
قوله تعالى : { وما هو بمزحزحه } مباعده .
قوله تعالى : { من العذاب } . من النار .
قوله تعالى : { أن يعمر } . أي طول عمره لا يبعده من العذاب وزحزح لازم ومتعد زحزحته فتزحزح وزحزحته فزحزح .
قوله تعالى : { والله بصير بما يعملون } . قرأ يعقوب بالتاء والباقون بالياء .
وليس هذا فحسب . ولكنها خصلة أخرى في يهود ، خصلة يصورها القرآن صورة تفيض بالزراية وتنضح بالتحقير والمهانة : ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) . . أية حياة ، لا يهم أن تكون حياة كريمة ولا حياة مميزة على الإطلاق ! حياة فقط ! حياة بهذا التنكير والتحقير ! حياة ديدان أو حشرات ! حياة والسلام ! إنها يهود ، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها سواء . وما ترفع رأسها إلا حين تغيب المطرقة . فإذا وجدت المطرقة نكست الرؤوس ، وعنت الجباه جبنا وحرصا على الحياة . . أي حياة !
( ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ، وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ، والله بصير بما يعملون ) . .
يود أحدهم لو يعمر ألف سنة . ذلك أنهم لا يرجون لقاء الله ، ولا يحسون أن لهم حياة غير هذه الحياة . وما أقصر الحياة الدنيا وما أضيقها حين تحس النفس الإنسانية أنها لا تتصل بحياة سواها ، ولا تطمع في غير أنفاس وساعات على الأرض معدودة . . إن الإيمان بالحياة الآخرة نعمة . نعمة يفيضها الإيمان على القلب . نعمة يهبها الله للفرد الفاني العاني . المحدود الأجل الواسع الأمل وما يغلق أحد على نفسه هذا المنفذ إلى الخلود ، إلا وحقيقة الحياة في روحه ناقصة أو مطموسة . فالإيمان بالآخرة - فوق أنه إيمان بعدل الله المطلق ، وجزائه الأوفى - هو ذاته دلالة على فيض النفس بالحيوية ، وعلى امتلاء بالحياة لا يقف عند حدود الأرض ؛ إنما يتجاوزها إلى البقاء الطليق ، الذي لا يعلم إلا الله مداه ، وإلى المرتقى السامي الذي يتجه صعدا إلى جوار الله .
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } : أي : [ أحرص الخلق على حياة أي ]{[2209]} : على طول عُمْر ، لما يعلمون من مآلهم السيئ وعاقبتهم عند الله الخاسرة ؛ لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم . وما يحذرون{[2210]} واقع بهم لا محالة ، حتى وهم أحرص [ الناس ] {[2211]}من المشركين الذين لا كتاب لهم . وهذا من باب عطف الخاص على العام .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } قال : الأعاجم .
ورواه الحاكم في مستدركه من حديث الثوري ، وقال : صحيح على شرطهما ، ولم يخرجاه . قال : وقد اتفقا على سند تفسير الصحابي{[2212]} . وقال الحسن البصري : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } قال : المنافق أحرص الناس على حياة ، وهو أحرص على الحياة من المشرك { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } أي : أحد اليهود كما يدل عليه نظم السياق .
وقال أبو العالية : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } يعني : المجوس ، وهو يرجع إلى الأول .
{ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : هو كقول الفارسي : " زه هزارسال " يقول : عشرة آلاف سنة . وكذا روي عن سعيد بن جبير نفسه أيضًا .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال : سمعت أبي يقول : حدثنا أبو حمزة ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : هو الأعاجم : " هزارسال نوروزر مهرجان " .
وقال مجاهد : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : حببت إليهم الخطيئة طول العمر .
قال محمد بن إسحاق ، عن محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ } أي : ما هو بمنجيه من العذاب . وذلك أن المشرك لا يرجو بعثًا بعد الموت ، فهو يحب طول الحياة{[2213]} وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي بما صنع{[2214]} بما عنده من العلم .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ } قال : هم الذين عادوا جبريل .
وقال أبو العالية وابن عمر{[2215]} فما ذاك بمغيثه{[2216]} من العذاب ولا منجيه منه .
وقال عبد الرحمن بن زيد{[2217]} بن أسلم [ في هذه الآية ]{[2218]} يهود أحرص على [ هذه ]{[2219]} الحياة من هؤلاء ، وقد ود هؤلاء أن{[2220]} يعمر أحدهم ألف سنة ، وليس ذلك بمزحزحه من العذاب لو عمر ، كما عمر إبليس لم ينفعه إذ كان كافرًا .
{ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي : خبير بما يعمل عباده من خير وشر ، وسيجازي كل عامل بعمله .
{ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } من وجد بعقله الجاري مجرى علم ، ومفعولاه هم وأحرص الناس ، وتنكير حياة لأنه أريد بها فرد من أفرادها وهي : الحياة المتطاولة ، وقرئ باللام . { ومن الذين أشركوا } محمول على المعنى وكأنه قال : أحرص من الناس على الحياة ومن الذين أشركوا . وإفراده بالذكر للمبالغة ، فإن حرصهم شديد إذ لم يعرفوا إلا الحياة العاجلة ، والزيادة في التوبيخ والتقريع ، فإنهم لما زاد حرصهم -وهم مقرون بالجزاء على حرص المنكرين- دل ذلك على علمهم بأنهم صائرون إلى النار ، ويجوز أن يراد وأحرص من الذين أشركوا ، فحذف أحرص لدلالة الأول عليه ، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف صفته { يود أحدهم } على أنه أريد بالذين أشركوا اليهود لأنهم قالوا : { عزير ابن الله } أي : ومنهم ناس يود أحدهم ، وهو على الأولين بيان لزيادة حرصهم على طريق الاستئناف . { لو يعمر ألف سنة } حكاية لودادتهم ، ولو بمعنى ليت وكان أصله : لو أعمر ، فأجرى على الغيبة لقوله : يود ، كقولك حلف بالله ليفعلن { وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر } الضمير لأحدهم ، وأن يعمر فاعل مزحزحه ، أي وما أحدهم بمن يزحزحه من العذاب تعميره ، أو لما دل عليه يعمر . وأن يعمر بدل منه . أو منهم ، وأن يعمر موضحه وأصل سنة سنوة لقولهم سنوات . وقيل سنهة كجبهة لقولهم سانهته وتسنهت النخلة إذا أتت عليها السنون ، والزحزحة التبعيد { والله بصير بما يعملون } فيجازيهم .