125- وإن أساس عمل الخير منبعث من الاعتقاد السليم ، وأحسن الدين أن يخلص لله - تعالى - فيجعل وجهه وعقله ونفسه لله لا يطلب سوى رضا الله سبحانه ، وبذلك تستقيم مداركه فيدرك رسالة الرسل ، وأن يقوموا بصفة مستمرة بأحسن الأعمال ، ويتبعوا في ذلك أبا الأنبياء إبراهيم - عليه السلام - فدينه هو دين الله ، وهو الدين الذي يتجه إلى طلب الحق دائماً . وأن إبراهيم هو الذي تلتقي عنده الوحدة الدينية للمسلمين واليهود والنصارى ، فاتبعوا طريقه ، وأن الله أكرم إبراهيم فسماه خليلا .
قوله تعالى : { ومن أحسن ديناً } ، أحكم ديناً .
قوله تعالى : { ممن أسلم وجهه لله } أي : أخلص عمله لله ، وقيل : فوض أمره إلى الله .
قوله تعالى :{ وهو محسن } أي : موحد .
قوله تعالى : { واتبع ملة إبراهيم } ، يعني : دين إبراهيم عليه السلام .
قوله تعالى : { حنيفاً } أي : مسلماً مخلصاً ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ومن دين إبراهيم الصلاة إلى الكعبة ، والطواف بها ، ومناسك الحج ، وإنما خص إبراهيم لأنه كان مقبولاً عند الأمم أجمع ، وقيل : لأنه بعث على ملة إبراهيم وزيد له أشياء . قوله تعالى : { واتخذ الله إبراهيم خليلاً } صفياً ، والخلة : صفاء المودة ، وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان إبراهيم عليه السلام أبا الضيفان ، وكان منزله على ظهر الطريق ، يضيف من مر به من الناس ، فأصاب الناس سنة فحشروا إلى باب إبراهيم عليه السلام يطلبون الطعام ، وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر ، فبعث غلمانه بالإبل إلى الخليل الذي له بمصر ، فقال خليله لغلمانه : لو كان إبراهيم عليه السلام إنما يريده لنفسه احتملنا ذلك له ، فقد دخل علينا ما دخل على الناس من الشدة ، فرجع رسل إبراهيم عليه السلام ، فمروا ببطحاء فقالوا فيما بينهم : لو إنا أنا حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة ، فإنا نستحي أن نمر بهم إبلنا فارغة ، فملأوا تلك الغرائر سهلة ، ثم أتوا إبراهيم فأعلموه وسارة نائمة ، فاهتم إبراهيم لمكان الناس ببابه ، فغلبته عيناه فنام ، واستيقظت سارة وقد ارتفع النهار ، فقالت : سبحان الله ! ما جاء الغلمان ؟ قالوا : بلى ، قالت : فما جاؤوا بشيء ؟ قالوا : بلى ، فقامت إلى الغرائر ففتحتها فإذا هي ملأى بأجود دقيق حواري يكون ، فأمرت الخبازين فخبزوا وأطعموا الناس ، فاستيقظ إبراهيم فوجد ريح الطعام ، فقال : يا سارة من أين هذا ؟ قالت : من عند خليلك المصري ، فقال : هذا من عند خليلي الله ، قال : فيومئذ اتخذه الله إبراهيم خليلاً .
قال الزجاج : معنى الخليل الذي ليس في محبته خلل ، والخلة : الصداقة ، فسمي خليلاً لأن الله أحبه واصطفاه . وقيل : هو من الخلة وهي الحاجة ، سمي خليلاً ، أي : فقيراً إلى الله ، لأنه لم يجعل فقره وفاقته إلا إلى الله عز وجل ، والأول أصح ، لأن قوله { واتخذ الله إبراهيم خليلاً } يقتضي الخلة من الجانبين ، ولا يتصور الحاجة من الجانبين .
حدثنا أبو المظفر بن أحمد التيمي ، ثنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم ، ثنا خيثمة بن سليمان بن حيضرة الأطرابلسي ، ثنا أبو قلابة الرقاشي ، ثنا بشر بن عمر ، ثنا شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكنه أخي وصاحبي ، ولقد اتخذ الله صاحبكم خليلاً " .
{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًاْ }
أي : لا أحد أحسن من دين من جمع بين الإخلاص للمعبود ، وهو إسلام الوجه لله الدال على استسلام القلب وتوجهه وإنابته وإخلاصه ، وتوجه الوجه وسائر الأعضاء لله .
{ وَهُوَ ْ } مع هذا الإخلاص والاستسلام { مُحْسِنٌ ْ } أي : متبع لشريعة الله التي أرسل بها رسله ، وأنزل كتبه ، وجعلها طريقا لخواص خلقه وأتباعهم .
{ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ْ } أي : دينه وشرعه { حَنِيفًا ْ } أي : مائلا عن الشرك إلى التوحيد ، وعن التوجه للخلق إلى الإقبال على الخالق ، { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ْ } والخُلة أعلى أنواع المحبة ، وهذه المرتبة حصلت للخليلين محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام ، وأما المحبة من الله فهي لعموم المؤمنين ، وإنما اتخذ الله إبراهيم خليلا لأنه وفَّى بما أُمر به وقام بما ابْتُلي به ، فجعله الله إماما للناس ، واتخذه خليلا ، ونوه بذكره في العالمين .
( وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً )
فجاء هذا النص يرد هؤلاء وهؤلاء إلى العمل ، والعمل وحده . ويرد الناس كلهم إلى ميزان واحد . هو إسلام الوجه لله - مع الإحسان - واتباع ملة إبراهيم وهي الإسلام . إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا . .
فأحسن الدين هو هذا الإسلام - ملة إبراهيم - وأحسن العمل هو " الإحسان " . . والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . وقد كتب الإحسان في كل شيء حتى في إراحة الذبيحة عند ذبحها ، وحد الشفرة ، حتى لا تعذب وهي تذبح !
ثم قال تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } أخلص العمل لربه ، عز وجل ، فعمل إيمانًا واحتساباً { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي : اتبع في عمله ما شرعه الله له ، وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق ، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما ، أي : يكون خالصًا صوابًا ، والخالص أن يكون لله ، والصواب أن يكون متبعًا للشريعة فيصح ظاهره بالمتابعة ، وباطنه بالإخلاص ، فمن فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد . فمن فقد الإخلاص كان منافقًا ، وهم الذين يراءون الناس ، ومن فقد المتابعة كان ضالا جاهلا . ومتى جمعهما فهو عمل المؤمنين : { الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ [ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ]{[8390]} } [ الأحقاف : 16 ] ؛ ولهذا قال تعالى : { وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } وهم محمد وأتباعه إلى يوم القيامة ، كما قال تعالى : { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ [ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ]{[8391]} } [ آل عمران : 68 ] وقال تعالى : { [ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ]{[8392]} } [ الأنعام : 161 ] و { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 123 ] والحنيف : هو المائل عن الشرك قصدا ، أي تاركًا له عن بصيرة ، ومقبل على الحق بكليته ، لا يصده عنه صاد ، ولا يرده عنه راد .
وقوله : { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا } وهذا من باب الترغيب في اتباعه ؛ لأنه إمام يقتدى به ، حيث وصل إلى غاية ما يتقرب به العباد له ، فإنه انتهى إلى درجة الخُلَّة التي هي أرفع مقامات المحبة ، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه ، كما وصفه به في قوله : { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ النجم : 37 ] قال كثيرون{[8393]} من السلف : أي قام بجميع ما أمر به ووفَّى{[8394]} كل مقام من مقامات العبادة ، فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير ، ولا كبير عن صغير . وقال تعالى : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ]{[8395]} } الآية [ البقرة : 124 ] . وقال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ]{[8396]} } [ النحل : 120 - 122 ] .
وقال البخاري : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا شعبة ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن عمرو بن ميمون قال : إن معاذًا لما قدم اليمن صلى الصبح بهم : فقرأ : { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا } فقال رجل من القوم : لقد قَرّت عينُ أم إبراهيم .
وقد ذكر ابن جرير في تفسيره ، عن بعضهم أنه إنما سماه الله خليلا من أجل أنه أصاب أهل ناحيته جَدْب ، فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل - وقال بعضهم : من أهل مصر - ليمتار طعامًا لأهله من قِبَله ، فلم يصب عنده حاجته . فلما قَرُب من أهله مَرَّ بمفازة ذات رمل ، فقال : لو ملأت غَرَائري من هذا الرمل ، لئلا أغُمّ أهلي برجوعي إليهم بغير ميرة ، وليظنوا أني أتيتهم بما يحبون . ففعل ذلك ، فتحول ما في غرائره من الرمل دقيقًا ، فلما صار إلى منزله نام وقام أهله ففتحوا الغرائر ، فوجدوا دقيقًا فعجنوا وخبزوا منه فاستيقظ ، فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا ، فقالوا : من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك فقال : نعم ، هو من خليلي الله . فسماه الله بذلك خليلا .
وفي صحة هذا ووقوعه نظر ، وغايته أن يكون خبرا إسرائيليا لا يُصدَّق ولا يُكذَّب ، وإنما سُمّي خليل الله لشدة محبة ربه ، عز وجل ، له ، لما قام له{[8397]} من الطاعة التي يحبها ويرضاها ؛ ولهذا ثبت في الصحيحين ، من حديث{[8398]} أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها قال : " أما بعد ، أيها الناس ، فلو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلا ولكن صاحبكم خليل الله " {[8399]} .
وجاء من طريق جُنْدُب بن عبد الله البَجَلي ، وعبد الله بن عَمرو بن العاص ، وعبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا " {[8400]} .
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم ، حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أُسَيْد ، حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجَوْزجاني بمكة ، حدثنا عُبَيد الله{[8401]} الحَنَفي ، حدثنا زَمْعة بن صالح ، عن سلمة بن وَهْرَام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه ، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون ، فسمع حديثهم ، وإذا بعضهم يقول : عجبًا إن الله اتخذ من خلقه خليلا فإبراهيم خليله ! وقال آخر : ماذا بأعجب من أن الله كلم موسى تكليما ! وقال آخر : فعيسى روح الله وكلمته ! وقال آخر : آدم اصطفاه الله ! فخرج عليهم فسلم وقال : " قد سمعت كلامكم وتعجبكم{[8402]} أن إبراهيم خليل الله ، وهو كذلك ، وموسى كليمه ، وعيسى روحه وكلمته ، وآدم اصطفاه الله ، وهو كذلك ألا وإني حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول شافع ، وأول مشَفع ولا فخر ، وأنا أول من يحرك حِلَق الجنة ، فيفتح الله فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر " .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، ولبعضه شواهد في الصحاح{[8403]} وغيرها .
وقال قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : أتعجبون من أن تكون الخُلَّة لإبراهيم ، والكلام لموسى ، والرؤية لمحمد ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
رواه الحاكم في مستدركه وقال : صحيح على شرط البخاري ، ولم يخرجاه . وكذا روى عن أنس بن مالك ، وغير واحد من الصحابة والتابعين ، والأئمة من السلف والخلف .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يحيى بن عبدك القزويني ، حدثنا محمد - يعني ابن سعيد بن سابق - حدثنا عمرو - يعني ابن أبي قيس - عن عاصم ، عن أبي راشد ، عن عُبَيْد بن عُمَير قال : كان إبراهيم عليه السلام يضيف الناس ، فخرج يومًا يلتمس إنسانًا يضيفه ، فلم يجد أحدًا يضيفه ، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلا قائمًا ، فقال : يا عبد الله ، ما أدخلك داري بغير إذني ؟ قال : دخلتها بإذن ربها . قال : ومن أنت ؟ قال : أنا ملك الموت ، أرسلني ربي إلى عبد من عباده أبشره أن الله قد اتخذه خليلا . قال : من هو ؟ فوالله إن أخبرتني به ثم كان بأقصى البلاد لآتينّه{[8404]} ثم{[8405]} لا أبرح له جارًا حتى يفرق بيننا الموت . قال : ذلك العبد أنت . قال : أنا ؟ قال : نعم . قال : فيم اتخذني الله خليلا ؟ قال : إنك تعطي الناس ولا تسألهم{[8406]} .
وحدثنا أبي ، حدثنا محمود بن خالد السلمي ، حدثنا الوليد ، عن إسحاق بن يسار قال : لما اتخذ الله إبراهيم خليلا ألقى في قلبه الوَجَل ، حتى إن كان خفقانُ قلبه ليسمع من بعيد{[8407]} كما يسمع خفقان الطير في الهواء . وهكذا جاء في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه كان يسمع لصدره أَزِيزٌ كأزيز المرْجل من البكاء .
{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتّبَعَ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } . .
وهذا قضاء من الله جلّ ثناؤه للإسلام وأهله بالفضل على سائر الملل غيره وأهلها ، يقول الله : { وَمَنْ أحْسَنُ دِينا } أيها الناس ، وأصوب طريقا وأهدى سبيلاً¹ { مِمّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ } يقول : ممن استسلم وجهه لله ، فانقاد له بالطاعهة ، مصدّقا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند ربه . { وَهُوَ مُحْسِنٌ } يعني : وهو عامل بما أمره به ربه ، محرّم حرامه ، ومحلل حلاله . { وَاتّبَعَ مِلّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفا } يعني بذلك : واتبع الدين الذي كان عليه إبراهيم خليل الرحمن ، وأمر به نبيه من بعده وأوصاهم به¹ حنيفا ، يعني : مستقيما على منهاجه وسبيله . وقد بينا اختلاف المختلفين فيما مضى قبل في معنى الحنيف والدليل على الصحيح من القول في ذلك بما أغنى عن إعادته .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . وممن قال ذلك أيضا الضحاك .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا جويبر عن الضحاك ، قال : فضل الله الإسلام على كلّ دين ، فقال : { وَمَنْ أحْسَنُ دِينا مِمّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } . . . إلى قوله : { وَاتّخَذَ اللّهُ إبْرَاهيمَ خَليلاً } وليس يقبل فيه عمل غير الإسلام ، وهي الحنيفية .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتّخَذَ اللّهُ إبْرَاهيمَ خَليلاً } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : واتخذ الله إبراهيم وليّا .
فإن قال قائل : وما معنى الخُلة التي أعطيها إبراهيم ؟ قيل : ذلك من إبراهيم عليه السلام العداوة في الله والبغض فيه ، والولاية في الله والحبّ فيه ، على ما يُعرف من معاني الخلة . وأما من الله لإبراهيم ، فنصرته على من حاوله بسوء ، كالذي فعل به إذا أراده نمروذ بما أراده به من الإحراق بالنار ، فأنقذه منها ، وأعلى حجته عليه إذ حاجه ، وكما فعل ملك مصر إذ أراده عن أهله ، وتمكينه مما أحبّ ، وتصييره إماما لمن بعده من عباده وقدوة لمن خلقه في طاعته وعبادته ، فذلك معنى مخالّته إياه . وقد قيل : سماه الله خليلاً من أجل أنه أصاب أهل ناحيته جدب ، فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل وقال بعضهم : من أهل مصر في امتيار طعام لأهله من قبلَه فلم يصب عنده حاجته ، فلما قرب من أهله مرّ بمفازة ذات رمل ، فقال : لو ملأت غرائري من هذا الرمل لئلا أغمّ أهلي برجوعي إليهم بغير ميرة ، وليظنوا أني قد أتيتهم بما يحبون ! ففعل ذلك ، فتحوّل ما في غرائره من الرمل دقيقا ، فلما صار إلى منزله نام وقام أهله ، ففتحوا الغرائر فوجدوا دقيقا ، فعجنوا منه وخبزوا ، فاستيقظ فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا ، فقالوا : من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك ، فعلم ، فقال : نعم هو من خليلي الله . قالوا : فسماه الله بذلك خليلاً .
ثم أخبر تعالى إخباراً موقفاً على أنه لا أحسن ديناً ممن { أسلم وجهه لله } ، أي أخلص مقصده وتوجهه . وأحسن في أعماله ، واتبع الحنفية التي هي { ملة إبراهيم } ، إمام العالم وقدوة أهل الأديان ، ثم لما ذكر الله تعالى إبراهيم بأنه الذي يجب اتباعه ، شرفه بذكر الخلة ، وإبراهيم صلى الله عليه وسلم سماه الله خليلاً ، إذ كان خلوصه وعبادته واجتهاده على الغاية التي يجري إليها المحب المبالغ ، وكان لطف الله به ورحمته ونصرته له بحسب ذلك ، وذهب قوم إلى أن إبراهيم سمي خليلاً من الخلة بفتح الخاء ، أي لأنه خلته وفاقته بالله تعالى ، وقال قوم : سمي خليلاً لأنه فيما روي في الحديث جاء من عند خليل كان له بمصر وقد حرمه الميرة التي قصد لها ، فلما قرب من منزله ملأ غرارتيه رملاً ليتأنس بذلك صبيته ، فلما دخل منزله نام كلالاً وهماً ، فقامت امرأته وفتحت الغرارة ، فوجدت أحسن ما يكون من الحواري ، فعجنت منه ، فلما انتبه قال : ما هذا ؟ قالت من الدقيق الذي سقت من عند خليلك المصري فقال : بل هو من عند خليلي الله تعالى ، فسمي بذلك خليلاً . قال القاضي أبو محمد رحمه الله - : وفي هذا ضعف ، ولا تقتضي هذه القصة أن يسمى بذلك اسماً غالباً ، وإنما هو شيء شرفه الله به{[4302]} كما شرف محمداً صلى الله عليه وسلم ، فقد صح في كتاب مسلم وغيره : أن الله اتخذه خليلاً .
الأظهر أنّ الواو للحال من ضمير { يدخلون الجنّة } [ النساء : 124 ] الذي ما صْدَقُه المؤمنون الصالحون ، فلما ذكر ثواب المؤمنين أعقبه بتفضيل دينهم . والاستفهامُ إنكاري . وانتصب { دينا } على التمييز . وإسلام الوجه كناية عن تمام الطاعة والاعتراف بالعبودية ، وهو أحسن الكنايات ، لأنّ الوجه أشرف الأعضاء ، وفيه ما كان به الإنسان إنساناً ، وفي القرآن { فقُل أسلمت وجهي لله ومن اتّبعني } [ آل عمران : 20 ] . والعرب تذكر أشياء من هذا القبيل كقوله : { لنسفعن بالناصية } [ العلق : 15 ] ، ويقولون : أخذ بساقه ، أي تمكن منه ، وكأنّه تمثيل لإمساك الرعاة الأنعام . وفي الحديث " الطلاق لمن أخذ بالساق " . ويقولون : ألقى إليه القياد ، وألقى إليه الزمام ، وقال زيد بن عمرو بن نفيل :
ويقولون : يدي رهن لفلان . وأراد بإسلام الوجه الاعتراف بوجود الله ووحدانيته . وقد تقدّم ما فيه بيان لهذا عنا ، قوله تعالى : { إنّ الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] وقوله : { وأوصى بها إبراهيم بنيه } [ البقرة : 132 ] .
وجملة « وهو محسن » حال قصد منها اتّصافه بالإحسان حين إسلامه وجهَه لله ، أي خلع الشرك قاصداً الإحسان ، أي راغباً في الإسلام لِمَا رأى فيه من الدعوة إلى الإحسان . ومعنى { واتبع ملة إبراهيم حنيفاً } أنه اتّبع شريعة الإسلام التي هي على أُسس ملّة إبراهيم . فهذه ثلاثة أوصاف بها يكمل معنى الدخول في الإسلام ، ولعلّها هي : الإيمان ، والإحسان ، والإسلام . ولك أن تجعل معنى { أسلم وجهه لله } أنّه دخل في الإسلام ، وأنّ قوله : { وهو محسن } مخلص راغب في الخير ، وأنّ اتّباع ملّة إبراهيم عني به التوحيد . وتقدّم أنّ { حنيفاً } معناه مائلاً عن الشرك أو متعبّداً . وإذا جعلت معنى قوله : { وهو محسن } أي عامل الصالحات كان قوله : { واتبع ملة إبراهيم حنيفاً } بمنزلة عطف المرادف وهو بعيد .
وقوله : { واتخذ الله إبراهيم خليلاً } عطف ثناء إبراهيم على مدح من اتّبع دينه زيادة تنويه بدين إبراهيم ، فأخبر أنّ الله اتّخذ إبراهيم خليلاً . والخليل في كلام العرب الصاحب الملازم الذي لا يخفى عنه شيء من أمور صاحبه ، مشتقّ من الخِلال ، وهو النواحي المتخلّلة للمكان { فترى الودق يخرج من خلاله } [ النور : 43 ] { فجّرنا خلالهما نهرا } [ الكهف : 33 ] . هذا أظهر الوجوه في اشتقاق الخليل . ويقال : خِلّ وخُلّ بكسر الخاء وضمّها ومؤنّثهُ : خُلّة بضمّ الخاء ، ولا يقال بكسر الخاء ، قال كعب :
أكرم بها خُلَّةً لو أنَّها صدقت
وجمعها خلائل . وتطلق الخلّة بضمّ الخاء على الصحبة الخالصة { لا بيع فيه ولا خُلّة ولا شفاعة } [ البقرة : 254 ] ، وجمعها خِلال { مِنْ قَبْلِ أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال } [ إبراهيم : 31 ] . ومعنى اتُخاذ الله إبراهيم خليلاً شدّة رِضَى اللَّهِ عنه ، إذ قد علم كلّ أحد أنّ الخلّة الحقيقية تستحِيل على الله فأريد لوازمها وهي الرضى ، واستجابة الدعوة ، وذكره بخير ، ونحو ذلك .