فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمَنۡ أَحۡسَنُ دِينٗا مِّمَّنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ وَٱتَّبَعَ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۗ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَٰهِيمَ خَلِيلٗا} (125)

{ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا ( 125 ) ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا ( 126 ) }

{ ومن } أي لا أحد فهو استفهام إنكاري { أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن } أي أخلص نفسه له حال كونه محسنا أي عاملا للحسنات ، وقيل معنى أسلم فوض أمره إلى الله ، وقال ابن عباس : هو محسن يريد هو موحد لله عز وجل لا يشرك به شيئا ، وإنما خص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء فإذا انقاد لله فقد انقاد له جميع الأعضاء لأنها تابعة له .

{ واتبع ملة إبراهيم حنيفا } أي اتبع دين إبراهيم حال كون المتبع مائلا عن الأديان الباطلة إلى دين الحق وهو الإسلام ، وخص إبراهيم للإتفاق على مدحه حتى من اليهود والنصارى { واتخذ الله إبراهيم خليلا } أي جعله صفوة له وخصه بكرامته ، وفيه إظهار في مقام الإضمار لتفخيم شأنه ، والتنصيص على أنه متفق على مدحه .

وفائدة هذه الجملة تأكيد وجوب إتباع ملته لأن من بلغ الزلفى عند الله أن اتخذه خليلا كان جديرا بأن يتبع ملته ، قال ثعلب إنما سمي الخليل خليلا لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللا إلا ملأته ، وخليل فعيل بمعنى فاعل كالعليم بمعنى العالم ، وقيل هو بمعنى المفعول كالحبيب بمعنى المحبوب ، وقد كان إبراهيم عليه السلام محبوبا لله ومحبا له ، وقيل الخليل من الاختصاص ، فالله سبحانه اختص إبراهيم برسالته في ذلك الوقت واختاره لها ، واختار هذا النحاس .

قال الزجاج : معنى الخليل الذي ليس في محبته خلل ، أخرج الحاكم وصححه عن جندب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يتوفى : ( إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا{[545]} ) وأخرج الحاكم أيضا وصححه عن ابن عباس قال : أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم{[546]} ، وفي تعريف الخلة والسبب الذي من أجله اتخذ الله إبراهيم خليلا أقوال ذكرها أهل التفسير{[547]} .


[545]:المستدرك 550/2.
[546]:المستدرك 469/2.
[547]:روى عبد الله ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا جبريل لم أتخذ الله إبراهيم خليلا؟ قال: "لإطعامه الطعام" رواه السيوطي في الدر20/230 ونسبه للبيهقي في شعب الإيمان. وفي رواية أن الناس أصابتهم سنة فأقبلوا إلى باب إبراهيم عليه السلام يطلبون الطعام، وكانت له ميرة من صديق له بمصر في كل سنة. فبعث غلمانه بالإبل إلى صديقه فلم يعطهم شيئا، فقالوا: لو احتملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة فملؤوا الغرائر رملا، ثم أتوا إبراهيم عليه السلام فاعلموه، فاهتم إبراهيم لأجل الخلق، فنام وجاءت سارة وهي لا تعلم ما كان ففتحت الغرائر فإذا دقيق حواري فأمرت الخبازين فخبزوا، وأطعموا الناس، فاستيقظ إبراهيم فقال من أين هذا الطعام فقالت: من عند خليلك المصري فقال: لا بل من عند خليلي الله عز وجل فيومئذ أتخذ الله خليلا انتهى. قال ابن كثير في صحيحه هذا ووقوعه نظر وغايته أن يكون خبرا إسرائيليا لا يصدق ولا يكذب.