تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَمَنۡ أَحۡسَنُ دِينٗا مِّمَّنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ وَٱتَّبَعَ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۗ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَٰهِيمَ خَلِيلٗا} (125)

الآية 125

وقوله تعالى : { ومن أحسن دينا ممن أسم وجهه لله وهو محسن } الآية يحتمل وجهين :

أحدهما : {[6573]} من أحسن دينا ( من ){[6574]} المسلمين من{[6575]} يعمل جميع عمله موافقا لدينه( أم من ){[6576]} لم يفعل شيئا ؟ وهو كما روي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لو وزن إيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه بإيمان جميع أمتي لرجح إيمانه " ( ابن عدي في الكامل 5/335 ) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو قوي في دينه ضعيف في بدنه " . ألا ترى أنه خرج لمقاتلة أهل الردة وحده ، وذلك لقوته في الدين وصلابته فيه لا لزيادة الإيمان ولا لنقصان إيمان في غيره ؟ والله أعلم .

والثاني : مقابلة سائر الأديان ؛ أي { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله } ممن لم يسلم وجهه لله إلى آخر ما ذكر ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { أسلم وجهه لله وهو محسن } عن الحسن ( أنه قال ){[6577]} ( جميع جهة أمره إلى الله ، جميع ما يعمل إنما يعمل لله لا يعمل لغير الله ) . وقيل : { أسلم وجهه لله } أي أخلص نفسه لله ، ولا يجعل لأحد فيها شركا كقوله تعالى : { ورجلا سلما لرجل } الآية ( الزمر : 29 ) أي يسلم نفسه له ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { أسلم وجهه لله وهو محسن } يحتمل وجهين : يحتمل قوله{ أسلم وجهه لله } يحسن ما يعلم أن جميع ما يعمل لعلم ( له ){[6578]} فيه ، ويحتمل قوله{ أسلم وجهه لله } من الإحسان ، وهو أن يريد العمل على المفروض عليه ؛ يؤدي المفروض عليه ، ويزيد على ذلك أيضا .

وقوله تعالى : { واتبع ملة إبراهيم حنيفا } الملة : قيل : هي الدين ، وقيل : الملة السنة أقرب لأن دين الأنباء عليه السلام /115-أ/ كلهم واحد ؛ لا يختلف دين إبراهيم عليه السلام ودين غيره من الأنبياء عليهم السلام .

وأما السنن والشرائع فيجوز أن تختلف . ألا ترى أنه روي في الخبر : " ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفي( بعض الأخبار ){[6579]} . " سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم " جعل السنة تفسير الملة ، فالملة بالسنة أسبه ، ثم خص ملة إبراهيم عليه السلام ، لأن سنته كانت توافق سنن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؟

وقوله تعالى : { حنيفا } قيل : مخلصا ، وقيل : سمي{ حنيفا } أي مائلا إلى الحق ؛ ولذلك سمي الأحنف أحنف لميل أحدى {[6580]} قدميه إلى الأخرى ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { واتخذ الله إبراهيم حنيفا } ذكر في بعض الأخبار أن الله عز وجل أوحي إلى إبراهيم : أن لي خليلا في الأرض ، فقال : يا رب من هو ؟ قال : فأوحى الله تعالى إليه : لم ؟ أي لم تسألني عنه ؟ قال : حتى{[6581]} أحبه ، وأتخذه كما اتخذته خليلا ، أو كلام نحو هذا ، فقال : أنت يا إبراهيم .

وأصل الخلة : المنزلة والرفعة والكرامة ؛ يقول : { واتخذ الله إبراهيم خليلا } أي جعل له عنده منزلة وكرامة لم يجعل مثلها{[6582]} لأحد من الخلائق لما ابتلاه الله ببلايا ، وامتحنه بمحن لم يبتل ( أحد بمثلها ){[6583]} ، فصبر عليها ؛ من ذلك ما ألقي في النار ، فصبر ، ولم يستعن بأحد سواه ، وما أتلي بذبح ولده ، فما أفجعه ، وما أمر بترك أهله وولده الطفل في جبال مكة ؛ لا ماء هنالك ، ولا زرع ، ولا نبات ، ففعل ، ومن ذلك أمر المهاجرة مما يكثر ذلك ، فجائز تخصيصه بالخلة لذلك ، والله أعلم .

وجائز أن يكون ذلك كرامة أكرمه الله بها لأن أهل الأديان كلهم ينتسبون إليه ، ويدعون أنهم على دينه . وعلى ذلك يخرج قولنا{[6584]} : اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ( البخاري : 3370 ) . قيل : خص هو بهذين الوجهين اللذين ذكرتهما في الخلة ( والملة ){[6585]} . وقيل : إنه اتخذه خليلا لأنه كان يعطي ، ولا يأخذ ، وكان يجب الضيف ، وكان لا يأكل وحده ، وإن بقي طويلا ، والله أعلم بذلك .

وأصل الخلة ما ذكرنا من الكرامة والمنزلة لأن من يحب آخر يبره ، ويكرمه . ومن لا يحبه يعاديه ، ويظهر له الجفاء ، ولا قوة إلا بالله .

واختلف في المعنى الذي وصف عليه السلام بالخلة أنه خليل الله ؛ فقد قيل : بما سخت نفسه في بذل كل لذة من لذات الدنيا لله ؛ ( إذ يبيت ){[6586]} في مكان إتيان الأضياف وأبناء السبيل ، وكان لا يأكل وحده ، وكانت عادته التقديم بكل ما يتهيأ به عند نزول الأضياف عليه ، والابتداء بذلك قبل كل أمر ، والقيام للأضياف مع عظم منزلته . أيد ذلك أمر الملائكة الذين{[6587]} جاؤوه بالبشارة ، والله أعلم .

وقيل : إنما امتحنه الله بأمور ، فصبر عليها ، نحو النار : ألقي فيها{[6588]} ، وذبح الولد وبذل الأهل والولد لله ، حيث لا ضرع ولا زرع ، ولا ماء ، وغير ذلك مما أكرمه الله تعالى بالثناء عليه بوفاء ما امتحن ( به وإتمام ){[6589]} ما ابتلي : في {[6590]} قوله تعالى : { وإبراهيم الذي وفى } ( النجم : 37 ) ، وفي قوله تعالى : { وإذا تتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن } ( البقرة : 124 ) . وفي ما حاج فرعون وجميع قومه ، ( وجادلهم في ما ){[6591]} يعبدون ، فغلهم ، وألزمهم حجة الله ، وغير ذلك من وجوه المحن .

وقيل : بما به كان بدء البيت الذي جعله الله{ قياما للناس } ( المائدة : 97 ) ومأمنا للخلق ومثابا لهم {[6592]} ومنسكا ، فعظم شأنه في ما بالخلق إليه حاجة في أمر الدين . وعلى ذلك أكرمه الله تعالى بميل القلوب وإظهار التدين بدينه من جميع أصناف أهل الأديان ، والله أعلم .

وقيل : إنما هي خصائص في أهل من الرسل وأولي{[6593]} العزم منهم ؛ اختصم بأسماء عرفن من الفضائل والكرامات نحو القول بكليم الله وروح الله وذبيح الله وحبيب الله . فعلى ذلك كان لإبراهيم عليه السلام خصوصية في الاسم ، فسماه خليلا .

فنحن نقول ، وبالله التوفيق : ونحن نعلم بأن الله تعالى : ( لم يسمه ){[6594]} بالذي ذكر عبثا باطلا ، ولكنه سماه به تعظيمات لقدره وإظهارا لكرامته وبيانا لمنزلته عنده لمن شاء من الوجوه التي لعلها لم يطلع عليها ( أحد ){[6595]} من الخلق ، ولا يحتمل أن يدرك ذلك إلا بالوحي . فحق ذلك علينا تعظيمه ومعرفته بالذي اختصه الله ، واصطفاه دون تكلف المعنى الذي له كان ذلك مع لا وجه ، ولا معنى ، صار حقيقة ذلك وأكرم إلا بمعنى أكرمه الله . وأكرمه( الله بفضله ){[6596]} ورحمته . والله أن يبتديه بالخلة ، ثم يكرمه بأنواع الكرامات التي لديها تقع كرامة الخلة ، وتصلح . ولله المن في ذلك والفضل ، وعلينا الحمد لله والشكر بما ( أنعمن علينا ){[6597]} من معرفة كرام خلقه ، وجعل في قلوبنا مودتهم ، حتى صاروا بفضل الله ورحمته أحب إلينا من أمس الخلق بنا بل من أنفسنا ، ولا قوة إلا بالله .

ثم ليس للنصارى ادعاء النبوة لله من حيث الكرامة على الاعتبار بالخلة لأن الله سبحانه وتعالى عظم أمر الأولاد حتى جعله كالشرك ، ولا كذلك أمر الخلة ، ولأن أمر الأولاد ، حفه المجانسة ، وللخلة حق الموافقة .

ثم ( الأصل : في ){[6598]} الأولاد الشهوة والحاجة( وفي الخلة ){[6599]} الطاعة والتعظيم ، مما رجع أحد الوجهين إلى شهوة الولد وحاجته ، والآخر إلى تعظيم يكون من ذلك العبد وتبجيله والطاعة له والخضوع .

ثم الأصل أن المعنى الذي يقتضيه الخلة قد يجوز أن يظفر كل بالطاعة ، وإن كان الاسم له في حق النهاية ، نحو قوله تعالى : { إن الله يحب التوابين } الآية ( البقرة : 222 ) وقوله تعالى : { فاتبعوني يحبكم الله }( آل عمران : 31 ) والمحبة قريبة من الخلة . ومحال أن يحق معنى الأولاد والنبوة بشيء من الطاعة ، لذلك اختلف الأمران ، والله أعلم .


[6573]:في الأصل وم: يحتمل.
[6574]:ساقطة من الأصل وم.
[6575]:في الأصل وم: ممن.
[6576]:في الأصل وم: ممن يعمل بل الذي عمل بجميع عمله موافقا لدينه أحسن دينا من الذي.
[6577]:ساقطة من الأصل وم.
[6578]:من م، ساقطة من الأصل.
[6579]:في الأصل وم: بعضها.
[6580]:في الأصل وم: أحد.
[6581]:في الأصل وم:من.
[6582]:في الأصل وم: مثله.
[6583]:في الأصل وم: بمثله.
[6584]:في الأصل وم: قوله.
[6585]:ساقطة من الأصل وم.
[6586]:في الأصل وم: بيتوا.
[6587]:من م، في الأصل: الذي.
[6588]:من م، في الأصل: الله.
[6589]:في الأصل وم: إتمام.
[6590]:في الأصل وم: من.
[6591]:في الأصل وم: ويجادلهم في من، وهو إشارة إلى قوله تعالى:{وحاجه قومه قال}(الأنعام:80).
[6592]:إشارة إلى قوله تعالى:{وإذا جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا}(البقرة: 125).
[6593]:في الأصل وم: وأولوا، والإشارة إلى قوله تعالى:{أولوا العزم من الرسل}(الأحقاف:35)
[6594]:في الأصل وم: لا يسميه.
[6595]:ساقطة من الأصل وم.
[6596]:في الأصل وم: بفضل الله.
[6597]:في الأصل ومن: أنعمنا.
[6598]:في الأصل وم: أصل، في م: الأصل.
[6599]:في الأصل وم: والخلة.