غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَمَنۡ أَحۡسَنُ دِينٗا مِّمَّنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ وَٱتَّبَعَ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۗ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَٰهِيمَ خَلِيلٗا} (125)

114

ثم بين فضل الإيمان المشروط به الفوز بالجنة فقال : { ومن أحسن ديناً } وبيان الفضل من وجهين :

الأول أنه الدين المشتمل على إظهار كمال العبودية والانقياد لله وإليه الإشارة بقوله : { أسلم وجهه لله } وهو راجع إلى الاعتقاد الحق وعلى إظهار كمال الطاعة وحسن العمل والإخلاص وإليه الإشارة بقوله : { وهو محسن } وهو عائد إلى فعل الخيرات وترك المنكرات بصفاء النيات وخلوص الطويات . وفيه تنبيه على أن كمال الإيمان لا يحصل إلاّ عند تفويض جميع الأمور إلى الخالق ، وإظهار التبري من الحول والقوة ، ومن الاستعانة بغير المعبود الحق من الأفلاك والكواكب والطبائع وغيرها كائناً من كان الوجه الثاني أن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما دعا الخلق إلى ما يشبه دين أبيه إبراهيم عليه السلام ، ومن المشهور فيما بين أهل الأديان أنه ما كان يدعو إلى عباده فلك ولا طاعة كوكب ولا سجدة صنم ولا استعانة بطبيعة ، بل كان مائلاً عن الملل الباطلة بعيداً عنها بعد المركز عن جميع أجزاء الدائرة ولهذا شرف بقوله : { واتخذ الله إبراهيم خليلاً } وهذه جملة معترضة والسبب في إيرادها أن يعلم أن من كان في علو الدرجة بهذه الحيثية كان جديراً بأن تتبع طريقته .

قال العلماء : إن خليل الإنسان هو الذي يدخل في خلال أموره وأسراره وقد دخل حبه في خلال قلبه ، ولما أطلع الله تعالى إبراهيم عليه السلام على الملكوت الأعلى والأسفل ودعا القوم مرة بعد أخرى إلى توحيد الله ومنعهم عن عبادة النجوم والقمر والشمس وعن عبادة الأوثان ، ثم سلم نفسه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان ، ثم جعله الله إماماً للناس ورسولاً إليهم وبشره بأن الملك والنبوة في ذريته إلى يوم الدين كان خليلاً لله ، لأن خلته عبارة عن إرادة إيصال الخيرات والمنافع . وقيل : الخليل ، هو الذي يوافقك في خلالك وقد قال صلى الله عليه وسلم : " تخلقوا بأخلاق الله " فلما بلغ إبراهيم عليه السلام في مكارم الأخلاق مبلغاً لم يبلغه من تقدمه فلا جرم استحق اسم الخليل . وقيل : الخليل الذي يسايرك في طريقك من الخل وهو الطريق في الرمل ، فلما كان إبراهيم منقاداً لكل ما أمر به مجتنباً عن كل ما نهى عنه فكأنه ساير ووافق أوامر الله تعالى ونواهيه فاستحق اسم الخليل لذلك . هذا من جهة الاشتقاق ، وأما من قبل أسباب النزول فعن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا جبريل بم اتخذ الله إبراهيم خليلاً ؟ قال : لإطعامه الطعام يا محمد " . وقال عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي : دخل إبراهيم فجأة فرأى ملك الموت في صورة شاب لا يعرفه ، فقال إبراهيم عليه السلام : بإذن من دخلت ؟ فقال : بإذن رب المنزل . فعرفه إبراهيم عليه السلام . فقال له ملك الموت : إن ربك اتخذ من عباده خليلاً . قال إبراهيم : ومن ذلك ؟ قال : وما تصنع به ؟ قال : أكون خادماً له حتى أموت . قال : فإنه أنت . وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : أصاب الناس سنة جهدوا فيها فحشدوا إلى باب إبراهيم يطلبون الطعام ، وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر ، فبعث غلمانه بالإبل إلى خليله بمصر يسأله الميرة ، فقال خليله : لو كان إبراهيم إنما يريده لنفسه احتملنا ذلك له ولكنه يريد للأضياف وقد دخل علينا ما دخل على الناس من الشدة ، فرجع رسل إبراهيم فمروا ببطحاء فقالوا : لو أنا احتملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة إنا لنستحي أن نمرّ بهم وإبلنا فارغة ، فملؤا تلك الغرائر . ثم إنهم أتوا إبراهيم وسارة نائمة فأعلموه ذلك فاهتم إبراهيم لمكان الناس فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة فقامت إلى تلك الغرائر ففتحتها فإذا هي أجود حوّاري تكون فأمرت الخبازين فخبزوا وأطعموا الناس واستيقظ إبراهيم فوجد ريح الطعام فقال : يا سارة من أين هذا الطعام ؟ فقالت : من عند خليلك المصري . فقال : هذا من عند خليلي الله فيومئذٍ اتخذه الله خليلاً .

وقال شهر بن حوشب : هبط ملك في صورة رجل وذكر اسم الله بصوت رخيم شج . فقال إبراهيم : اذكره مرة أخرى . فقال : لا أذكره مجاناً . فقال : لك مالي كله . فذكره الملك بصوت أشجى من الأول . فقال : اذكره مرة ثالثة ولك أولادي . فقال الملك : أبشر فإني ملك لا أحتاج إلى مالك وولدك وإنما كان المقصود امتحانك . فلما بذل المال والأولاد على سماع ذكر الله فلا جرم اتخذه الله خليلاً . وروى طاوس عن ابن عباس أن جبريل والملائكة لما دخلوا على إبراهيم في صورة غلمان حسان الوجوه ، فظن الخليل أنهم أضيافه وذبح لهم عجلاً سميناً وقربه إليهم وقال : كلوا على شرط أن تسموا الله في أوله وتحمدوه في آخره . فقال جبريل : أنت خليل الله . عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتخذ الله إبراهيم خليلاً وموسى نجياً واتخذني حبيباً . ثم قال : وعزتي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي " . قلت : ذكرت الفرق بين الخليل والحبيب في سورة البقرة في تفسير قوله :{ إذ قال له ربه أسلم }[ البقرة : 131 ] فتذكر ، قال في التفسير الكبير : إذا استنار جوهر الروح بالمعارف القدسية والجلايا الإلهية صار الإنسان متوغلاً في عالم القدس فلا يرى إلا الله ، ولا يسمع إلا الله ، ولا يتحرك إلا لله ، ولا يسكن إلا لله ، فهذا الشخص يستحق أن يسمى خليل الله لما أن محبة الله ونوره تخللت في جميع قواه . قال بعض النصارى : إذا جاز إطلاق الخليل على إنسان تشريفاً فلم له يجز إطلاق الابن على آخر لمثل ذلك ؟ والجواب أن الخلة لا تقتضي الجنسية بخلاف النبوة وإنه سبحانه متعال عن مجانسة المحدثات .

/خ126