نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَمَنۡ أَحۡسَنُ دِينٗا مِّمَّنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ وَٱتَّبَعَ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۗ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَٰهِيمَ خَلِيلٗا} (125)

ولما كشف سبحانه زورهم وبيَّن فجورهم ، أنكر أن يكون أحد أحسن ديناً ممن اتبع ملة إبراهيم الذي{[22806]} يزعمون أنه كان على دينهم زعماًَ تقدم كشف عواره وهتك أستاره في آل عمران ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فمن أحسن دائناً ومجازياً وحاكماً منه سبحانه وتعالى : { ومن أحسن ديناً } أو يكون التقدير : لأنهم{[22807]} أحسنوا في دينهم ومن أحسن ديناً منهم ! لكنه أظهر الوصف تعميماً وتعليقاً للحكم به وتعليماً لما{[22808]} يفعل يفعل المؤمن وحثاً عليه فقال : { ممن أسلم } أي أعطى .

ولما كان المراد الإخلاص الذي هو أشرف الأشياء ، عبر عنه بالوجه الذي هو أشرف الأعضاء فقال : { وجهه } أي قياده{[22809]} ، أي الجهة التي يتوجه إليها بوجهه ، أي قصده كله الملازم للإسلام نفسه كلها { لله } فلا حركة له سكنة إلا فيما يرضاه ، لكونه الواحد الذي لا مثل له ، فهو حصر بغير صيغة الحصر ، فأفاد فساد طريق{[22810]} من لفت وجهه نحو سواه{[22811]} باستعانة أو غيرها ولا سيما المعتزلة الذين يرون{[22812]} الطاعة من أنفسهم ، ويرون أنها موجبة لثوابهم ، والمعصية كذلك وأنها موجبة{[22813]} لعقابهم ، في الحقيقة لا يرجون إلا أنفسهم ، ولا يخافون غيرها ؛ وأهل السنة فوّضوا التدبير والتكوين والخلق إلى الحق ، فهم المسلمون .

ولما عبر تعالى عن كمال الاعتقاد بالماضي ، شرط فيه الدوام والأعمال الظاهرة بقوله : { وهو } أي والحال أنه { محسن } أي مؤمن مراقب ، لا غفلة عنده أصلاً ، بل الإحسان صفة له{[22814]} راسخة ، لأنه يعبد الله كأنه يراه ، فقد اشتملت هذه الكلمات العشر على الدين كله أصلاً وفرعاً مع الترغيب بالمدح الكامل لمتبعه وإفهام الذم{[22815]} الكامل لغيره .

ولما كان هذا{[22816]} ينتظم مَنَ كان على دين أي نبي كان قبل{[22817]} نسخه ، قيده بقوله : { واتبع } أي بجهد منه { ملة إبراهيم } الذي اشتهر عند جميع الطوائف أنه ما دعا إلا إلى الله سبحانه وتعالى وحده ، وتبرأ مما سواه من فلك وكوكب وصنم وطبيعة وغيرها حال كون ذلك المتبع { حنيفاً } أي ليناً سهلاً ميّالاً مع{[22818]} الدليل ، والملة : ما دعت إليه الفطرة الأولى بمساعدة العقل السليم من كمال الإسلام بالتوحيد .

ولما كان التقدير ترغيباً في هذا الاتباع : فقد جعل الله سبحانه وتعالى ملة إبراهيم أحسن الملل ، وخلقه يوم خلقه حنيفاً ، عطف عليه قوله : { واتخذ الله } أي الملك الأعظم أخذ من معين بذلك مجتهد فيه { إبراهيم خليلاً * } لكونه كان حنيفاً ، وذلك عبارة عن اختصاصه بكرامة تشبه{[22819]} كرامة الخليل عند خليله من ترديد{[22820]} الرسل بالوحي{[22821]} بينه وبينه ، وإجابة الدعوة ، وإظهار الخوارق عليه وعلى آله ، والنصرة على الأعداء وغير ذلك من الألطاف ، وأظهر اسمه في موضع الإضمار تصريحاً بالمقصود احتراساً من الإبهام وإعلاءً لقدره تنويهاً بذكره .


[22806]:في ظ: الذين.
[22807]:في ظ: لهم.
[22808]:في ظ: بما.
[22809]:في ظ: قاده ـ كذا.
[22810]:سقط من ظ.
[22811]:من ظ ومد، وفي الأصل: سوا.
[22812]:من ظ ومد، وفي الأصل: يريدون.
[22813]:في ظ: موجبهم.
[22814]:سقط من ظ.
[22815]:من ظ ومد، وفي الأصل: الذل.
[22816]:سقط من ظ.
[22817]:سقط من ظ.
[22818]:في ظ: عن.
[22819]:من ظ ومد، وفي الأصل: تشبيه.
[22820]:في ظ: يريد ـ كذا.
[22821]:في ظ: بالوجه.