( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلا125 )
( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله ) أي : أخلص نفسه له تعالى فلم يتخذ ربا سواه . ( وهو محسن ) أي آت بالحسنات تارك للسيئات . أو آت بالأعمال الصالحة على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي . وقد فسر النبي{[2317]} صلى الله عليه وسلم الاحسان بقوله : " أن تعبد الله كأنك تراه . فإن لم تكن تراه فإنه يراك ( واتبع ملة ابراهيم ) الموافقة لدين الاسلام ، المتفق على صحتها وقبولها ( حنيفا ) أي : مائلا عن الشرك قصدا . أي : تاركا له عن بصيرة ، ومقبل على الحق بكليته ، لا يصده عنه صاد ، ولا يرده عنه راد .
قال الرازي : اعلم أنه تعالى لما شرط حصول النجاة والفوز بالجنة بكون الانسان مؤمنا ، شرح الايمان وبين فضله من وجهين :
أحدهما : أنه الدين المشتمل على اظهار كمال العبودية والخضوع والانقياد لله تعالى .
والثاني : أنه الدين الذي كان عليه ابراهيم عليه السلام . وكل واحد من هذين الوجهين سبب مستقل بالترغيب في دين الاسلام . أما الوجه الأول فاعلم أن دين الاسلام مبني على أمرين : الاعتقاد والعمل . أما الاعتقاد فإليه الإشارة بقوله : ( أسلم وجهه لله ) وذلك لأن الاسلام هو الانقياد والخضوع . والوجه أحسن أعضاء الانسان . فالانسان إذا عرف بقلبه ربه ، وأقر بربوبيته وعبودية نفسه ، فقد أسلم وجهه لله . وأما العمل فإليه الإشارة بقوله ( وهو محسن ) ويدخل فيه فعل الحسنات وترك السيئات . فتأمل في هذه اللفظة / المختصرة واحتوائها على جميع المقاصد والأغراض . وأيضا فقوله : ( أسلم وجهه لله ) يفيد الحصر ، معناه أنه أسلم نفسه لله وما اسلم لغير الله . وهذا تنبيه على أن كمال الايمان لا يحصل الا عند تفويض جميع الأمور إلى الخالق ، وإظهار التبرئ من الحول والقوة . وأيضا ففيه تنبيه على فساد طريقة من استعان بغير الله . فإن المشركين كانوا يستعينون بالأصنام ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله . والدهرية والطبيعيون يستعينون بالأفلاك والكواكب والطبائع وغيرها . واليهود كانوا يقولون في دفع عقاب الآخرة عنهم : انهم من أولاد الأنبياء . والنصارى كانوا يقولون : ثالث ثلاثة . فجميع الفرق استعانوا بغير الله . وأما الوجه الثاني في بيان فضيلة الاسلام فهو أن محمدا صلى الله عليه وسلم انما دعا الخلق إلى دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام . وقد اشتهر عند كل الخلق أن ابراهيم ما كان يدعو إلا إلى الله تعالى كما قال : ( انني بريئ مما تشركون ) {[2318]} وما كان يدعو إلى عبادة فلك ولا طاعة كوكب ولا سجدة لصنم ولا استعانة بطبيعة . بل كان ديدنه الدعوة إلى الله والإعراض عن كل ما سوى الله . وهكذا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم . ثم ان شرع ابراهيم مقبول عند الكل . وذلك لأن العرب لا يفتخرون بشيء كافتخارهم بالانتساب إلى ابراهيم . وأما اليهود والنصارى فلا شك في كونهم مفتخرين به . واذا ثبت هذا لزم أن يكون شرع محمد مقبولا عند الكل ( واتخذ الله ابراهيم خليلا ) أي : صفيا خالص المحبة له . وإظهاره ، عليه السلام ، في موضع الاضمار ، لتفخيم شأنه والتنصيص على أنه الممدوح . وسر هذه الجملة الترغيب في اتباع ملته عليه الصلاة والسلام . فإن من بلغ من الزلفى عند الله تعالى مبلغا مصححا لتسميته خليلا ، / حقيق بأن يكون اتباع طريقته أهم ما يمتد إليه أعناق الهمم ، وأشرف ما يرمق نحوه أحداق الأمم . فإن درجة الخلة أرفع مقامات المحبة . وما ذاك الا لكثرة طاعته لربه . كما وصفه به في قوله : ( وابراهيم الذي وفى ) {[2319]} قال كثير من علماء السلف : أي : قام بجميع ما أمر به ، وفي كل مقام من مقامات العبادة . فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير . ولا كبير عن صغير . وقال تعالى : ( واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن . . . ) {[2320]} الآية . وقال تعالى : ( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ) . والخليل ، لغة ، الصديق المختص . وقال ابن الأعرابي : الخليل الصادق . وقال الزجاج : وهو المحب الذي لا خلل في محبته . وبه فسر الآية . أي : أحبه محبة تامة لا خلل فيها . وقال ابن دريد : الخليل من أصفى المودة وأصحها . قال : ولا أزيد فيه شيئا لأنها في القرآن . انتهى .
قال الرازي : ذكروا في اشتقاق الخليل وجوها : منها أن خليل الانسان هو الذي يدخل في خلال أموره وأسراره . والذي دخل حبه في خلال أجزاء قلبه . ولا شك أن ذلك هو الغاية في المحبة . قيل : لما أطلع الله ابراهيم عليه السلام على الملكوت الأعلى والأسفل ، ودعا القوم مرة بعد أخرى إلى توحيد الله ، ومنعهم عن عبادة النجم والقمر والشمس ، ومنعهم عن عبادة الأوثان ، ثم سلم للنيران ، وولده للقربان ، وماله للضيفان ، جعله الله اماما للخلق ورسولا إليهم ، وبشره بأن الملك والنبوة في ذريته . فلهذه الاختصاصات سماه خليلا ، لأن محبة الله لعبده عبارة عن ارادته لايصال الخيرات والمنافع إليه . انتهى .
وقوله : ( لأن محبة الله لعبده الخ منزع كلامي لا سلفي ) .
/ ثم قال الرازي : وعندي وجه آخر . وهو أن جوهر الروح ، إذا كان مضيئا مشرقا علويا قليل التعلق باللذات الجسمانية والأحوال الجسدانية ، ثم انضاف إلى مثل هذا الجوهر المقدس الشريف ، أعمال تزيده صقالة عن الكدورات الجسمانية ، وأفكار تزيده استنارة بالمعارف القدسية والجلايا الالهية ، صار مثل هذا الانسان متوغلا في عالم القدس والطهارة ، متبرئا عن علائق الجسم والحس . ثم لا يزال هذا الانسان يتزايد في هذه الأحوال الشريفة إلى أن يصير بحيث لا يرى الا الله ، ولا يسمع الا الله ، ولا يتحرك الا بالله ، ولا يسكن الا بالله ، ولا يمشي الا بالله ، فكأن نور جلال الله قد سرى في جميع قواه الجسمانية . وتخلل فيها وغاص في جواهرها . وتوغل في ماهياتها . فمثل هذا الانسان هو الموصوف ، حقا ، بأنه خليل . لما أنه تخللت محبة الله في جميع قواه . واليه الاشارة بقول{[2321]} النبي صلى الله عليه وسلم ، في دعائه : " اللهم ! اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا وفي عصبي نورا " . انتهى .
/ قال الامام العلامة شمس الدين بن القيم في كتابه ( الجواب الكافي ) : الخلة تتضمن كمال المحبة ونهايتها . بحيث لا يبقى في القلب سعة لغير محبوبه . وهي منصب لا يقبل المشاركة بوجه ما . وهذا المنصب خاصة للخليلين صلوات الله وسلامه عليهما : ابراهيم ومحمد . كما قال صلى الله عليه وسلم{[2322]} : " إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ ابراهيم خليلا " . وفي ( الصحيح ) {[2323]} عنه صلى الله عليه وسلم : " لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا . ولكن صاحبكم خليل الله " . وفي حديث آخر{[2324]} : " اني أبرأ إلى كل خليل من خلته " . ولما سأل ابراهيم عليه السلام / الولد ، فأعطيه ، فتعلق حبه بقلبه ، فأخذ منه شعبة ، غار الحبيب على خليله أن يكون في قلبه موضع لغيره . فأمر بذبحه . وكان الأمر في المنام ليكون تنفيذ المأمور به أعظم ابتلاء وامتحانا . ولم يكن المقصود ذبح الولد . ولكن المقصود ذبحه من قلبه . ليخص القلب للرب . فلما بادر الخليل عليه الصلاة والسلام إلى الامتثال ، وقدم محبة الله على محبة ولده ، حصل المقصود . فرفع الذبح وفدي بذبح عظيم . فإن الرب تعالى ما أمر بشيء ثم أبطله رأسا . بل لا بد أن يبقى بعضه أو بدله . كما أبقى شريعة الفداء . وكما أبقى استحباب الصدقة بين يدي المناجاة . وكما أبقى الخمس الصلوات بعد رفع الخمسين ، وأبقى ثوابها . وقال : ( ما يبدل القول لدي ) {[2325]} . هي الخمس في الفعل وخمسون في الأجر . ثم قال ابن القيم قدس الله سره : وأما ما يظنه بعض الظانين ، أن المحبة أكمل من الخلة ، وأن ابراهيم خليل الله ومحمد حبيب الله ، فمن جهله . فإن المحبة عامة والخلة خاصة . والخلة نهاية المحبة . وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله اتخذ ابراهيم خليلا . ونفى أن يكون له خليل غير ربه . مع اخباره بحبه لعائشة ولأبيها ولعمر بن الخطاب وغيرهم . وأيضا فإن الله سبحانه ( يحب التوابين ) {[2326]} ( ويحب المتطهرين ){[2327]} ( ويحب الصابرين ) {[2328]} . ( ويحب المحسنين ) {[2329]} / ( ويحب المتقين ){[2330]} ، ( ويحب المقسطين ){[2331]} . وخلته خاصة بالخليلين عليهما الصلاة والسلام . والشاب التائب حبيب الله . وانما هذا عن قلة العلم والفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . انتهى .
وقد تمسك من زعم أن المحبة أصفى من الخلة بما رواه ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه . فخرج ، حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون . فسمع حديثهم . واذا بعضهم يقول : عجبا ان الله اتخذ من خلقه خليلا . فإبراهيم خليله . وقال آخر : ماذا بأعجب من أن الله كلم موسى تكليما . وقال آخر : فعيسى روح الله وكلمته . وقال آخر : آدم اصطفاه الله . فخرج عليهم فسلم وقال : قد سمعت كلامكم وتعجبكم . ان إبراهيم خليل الله وهو كذلك . وموسى كليمه . وعيسى روحه وكلمته . وآدم اصطفاه الله . وهو كذلك . وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم . قال : ألا واني حبيب الله . ولا فخر . وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر . وانا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح الله لي ويدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر . وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر " .
قال ابن كثير : وهذا حديث غريب من هذا الوجه . ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها . انتهى .
قلت : ورواه الترمذي{[2332]} أيضا في ( جامعه ) في فضائله صلى الله عليه وسلم . ثم قال : هذا حديث غريب .
/ وظاهر أن قوله صلى الله عليه وسلم : " ألا واني حبيب الله " ، لا يدل على أن درجة المحبة أرفع . لأنه لم يورد للتفاضل بينهما . وانما سيقت هذه الجملة مع ما بعدها للتعريف بقدره الجسيم ، وفضله العظيم . وبيان خصائصه التي لم تجتمع قبل في مخلوق . وما يدان الله تعالى به من حقه الذي هو أرفع الحقوق . ( ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا ايمانا ) {[2333]} وروى ابن أبي حاتم عن اسحاق بن يسار قال : " لما اتخذ الله ابراهيم خليلا ألقى في قلبه الوجل . حتى ان خفقان قلبه ليسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء . وهكذا جاء في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يسمع ، لصدره أزيز كأزيز المرجل ، إذا اشتد غليانها ، من البكاء " .