التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَمَنۡ أَحۡسَنُ دِينٗا مِّمَّنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ وَٱتَّبَعَ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۗ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَٰهِيمَ خَلِيلٗا} (125)

قوله تعالى : ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا ) ذلك استفهام فيه تقرير ونفي ، فهو تقرير لحسن الإسلام وإظهاره على الدين كله ، وهو كذلك يتضمن نفيا أن تكون ثمة ملة أحسن من الإسلام . ذلك أن الإسلام ينطوي على قواعد وأسباب تجعله أكمل الأديان كلها وأعظمها صلوحا للحياة البشرية ، ولئن كان كل دين خاصا بأمة محدودة من الأمم في زمن معين فإن الإسلام مقدور له أن يكون للبشرية كلها وللزمان كله إلى أن تفنى الحياة وما فيها . ولا نقول ذلك إلا من الإدراك الكامل بأن الإسلام نظام الحياة جميعا . وهو نظام يقوم على جملة مقوّمات وخصائص تجعله صالحا لكل زمان ومكان وتجعله يلائم الطبيعة البشرية وينسجم معها أكمل انسجام من غير إفراط في ذلك ولا تفريط .

قوله : ( أسلم وجهه لله ) من شأن المسلم أن يسلم كيانه البدني والشخصي كله إلى الله ليكون بذلك متوجها بجوارحه وجوانحه وحسه وشعوره إلى الله . أما ذكر الوجه هنا فهو لشرفه ؛ ولأن فيه ما يغني عن ذكر الجسد كله . والوجه في الإنسان أجلى وأحسن ما فيه وهو يمثل الصورة الوافية المميزة للإنسان ، فضلا عما في الوجه من أجزاء ومركبات أساسية مثل السمع والبصر والذوق والشم والنطق ، وهي أجزاء ومركبات بها تركيبة الإنسان فيستتم كيانه وشخصه ، وبذلك فإن ذكر الوجه لهو تعبير عن الكيان كله وذلك من باب ذكر الجزء بدلا من الكل ؛ لما للجزء من الأهمية وشرف المكانة والشأن . والمراد في الآية إخلاص النفس لله وحده فلا تعرف لها ربا ولا معبودا سواه . وقوله : ( دينا ) منصوب على التمييز وقوله : ( وهو محسن ) الواو للحال والجملة بعدها اسمية تتألف من مبتدأ وخبره . والمحسن من الإحسان وهو كما بينه ( ص ) لدى إجابته عن سؤال جبريل عليه السلام عن الإحسان فقال : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " وتلك هي حال المؤمن مع ربه ؛ إذ يعبده في السر والعلن ، ويخشاه في كل آن ، وهو يقظ الحس رهيف الضمير ، ومستديم الصلة بربه سبحانه فلا تبرح قلبه اليقظة والرهافة في جميع الأحوال والهيئات ، وذلك هو الإحساس المؤثر الذي ينطبع في قلب المؤمن ليظل دائما رقيب نفسه ويظل يغمره اليقين بأن الله يراه وأنه سبحانه مطّلع عليه في معلناته وخفاياه .

قوله : ( واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا ) . الملة معناها الطريقة أو الشريعة أو الدين{[839]} . والحنيف من الفعل حنف ، ومعناه مال . والحنفية هي التوحيد والميل عن الشرك . فالحنيف هو الذي يعبد الله وحده من غير ميل إلى أحد سواه{[840]} . وفي الآية يأمر الله نبيّه والمؤمنين أن يتّبعوا ملّة إبراهيم في الإخلاص والتوحيد والحنيفية ، فقد كان عليه السلام ( أمة ) أي إماما يقتدى به في الاستقامة والميل عن الشرك ، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام لذو شأن عظيم ومنزلة رفيعة قد خصّه الله بها لما تجلّى في شخصه المميز من ورعة الإخلاص والتقوى وسمو الطاعة والخشوع والإخبات لله بما يعز على الهمم وطاقات البشر أن تبلغ مثله وحسب إبراهيم الخليل أن تصدع له الشهادة من السماء بالإمامية والقنوت والحنيفية والإخلاص : ( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ) وقوله : ( خليلا ) من الخلّة وهي الصداقة ولا تكون إلا بين الآدميين . لكنها في حق العبد مع الله تعني أرفع الدرجات أو أعلى مراتب القربة .

وقيل : الخليل من التخلّل أي أن محبّته تتخلل القلب فلا يبقى منه مكان إلا وقد ملأته هذه المحبة ، فالمقصود أنه عند الله مقرّب ومحبوب ، وقيل غير ذلك .


[839]:- مختار الصحاح ص 634.
[840]:- المصباح المنير جـ 1 ص 166، 167.