{ 2 هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب }- وهم يهود بني النضير - { من ديارهم }عند أول إخراج لهم من جزيرة العرب . { ما ظننتم }- أيها المسلمون-{ أن يخرجوا }من ديارهم لقوتهم ، { وظنوا }- هم - { أنهم مانعتهم حصونهم }من بأس الله ، فأخذهم الله من حيث لم يظنوا أن يؤخذوا من جهته ، وألقى في قلوبهم الفزع الشديد ، يخربون بيوتهم بأيديهم ليتركوها خاوية ، وأيدي المؤمنين ليقضوا على تحصنهم ، فاتعظوا بما نزل بهم يا أصحاب العقول .
{ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني بني النضير ، { من ديارهم } التي كانت بيثرب ، قال ابن إسحاق : كان إجلاء بني النضير بعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد وفتح قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان . { لأول الحشر } قال الزهري : كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى ، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء ، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا . قال ابن عباس : من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية ، فكان هذا أول حشر إلى الشام ، قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : اخرجوا ، قالوا إلى أين ، قال : إلى أرض المحشر ، ثم يحشر الخلق يوم القيامة إلى الشام . وقال الكلبي : إنما قال : { لأول الحشر } لأنهم كانوا أول من أجلي من أهل الكتاب من جزيرة العرب ، ثم أجلى آخرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه . قال مرة الهمداني : كان أول الحشر من المدينة ، والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحاء من الشام في أيام عمر . وقال قتادة : كان هذا أول الحشر ، والحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا . { ما ظننتم } أيها المؤمنون { أن يخرجوا } من المدينة لعزتهم ومنعتهم ، وذلك أنهم كانوا أهل حصون وعقار ونخيل كثيرة . { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله } أي : وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله ، { فأتاهم الله } أي أمر الله وعذابه ، { من حيث لم يحتسبوا } وهو أنه أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بقتالهم وإجلائهم وكانوا لا يظنون ذلك ، { وقذف في قلوبهم الرعب } بقتل سيدهم كعب بن الأشرف . { يخربون } قرأ أبو عمرو : بالتشديد ، والآخرون بالتخفيف ، ومعناهما واحد ، { بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } قال الزهري : وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما صالحهم على أن لهم ما أقلت الإبل ، كانوا ينظرون إلى الخشب في منازلهم فيهدمونها وينزعون منها ما يستحسنونه فيحملونه على إبلهم ، ويخرب المؤمنون باقيها . قال ابن زيد : كانوا يقلعون العمد ، وينقضون السقوف ، وينقبون الجدران ، ويقلعون الخشب حتى الأوتاد ، يخربونها لئلا يسكنها المؤمنون حسداً منهم وبغضا . قال قتادة : كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها ويخربها اليهود من داخلها . قال ابن عباس رضي الله عنهما : كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها لتتسع لهم المقاتل ، وجعل أعداء الله ينقبون دورهم في أدبارها فيخرجون إلى النبي بعدها فيتحصنون فيها ويكسرون ما يليهم ، ويرمون بالتي خرجوا منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذلك قوله عز وجل : { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا } فاتعظوا وانظروا فيما نزل بهم ، { يا أولي الأبصار } يا ذوي العقول والبصائر .
ومن ذلك ، نصر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم على الذين كفروا من أهل الكتاب من بني النضير حين غدروا برسوله فأخرجهم من ديارهم وأوطانهم التي ألفوها وأحبوها .
وكان إخراجهم منها أول حشر وجلاء كتبه الله عليهم على يد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فجلوا إلى خيبر ، ودلت الآية الكريمة أن لهم حشرا وجلاء غير هذا ، فقد وقع حين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر ، ثم عمر رضي الله عنه ، [ أخرج بقيتهم منها ] .
{ مَا ظَنَنْتُمْ } أيها المسلمون { أَنْ يَخْرُجُوا } من ديارهم ، لحصانتها ، ومنعتها ، وعزهم فيها .
{ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ } فأعجبوا بها وغرتهم ، وحسبوا أنهم لا ينالون بها ، ولا يقدر عليها أحد ، وقدر الله تعالى وراء ذلك كله ، لا تغني عنه الحصون والقلاع ، ولا تجدي فيهم القوة والدفاع .
ولهذا قال : { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } أي : من الأمر والباب ، الذي لم{[1027]} يخطر ببالهم أن يؤتوا منه ، وهو أنه تعالى { قذف فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } وهو الخوف الشديد ، الذي هو جند الله الأكبر ، الذي لا ينفع معه عدد ولا عدة ، ولا قوة ولا شدة ، فالأمر الذي يحتسبونه ويظنون أن الخلل يدخل عليهم منه إن دخل هو الحصون التي تحصنوا بها ، واطمأنت نفوسهم إليها ، ومن وثق بغير الله فهو مخذول ، ومن ركن إلى غير الله فهو عليه وبال{[1028]} فأتاهم أمر سماوي نزل على قلوبهم ، التي هي محل الثبات والصبر ، أو الخور والضعف ، فأزال الله قوتها وشدتها ، وأورثها ضعفا وخورا وجبنا ، لا حيلة لهم ولا منعة معه{[1029]} فصار ذلك عونا عليهم ، ولهذا قال : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } وذلك أنهم صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم ، على أن لهم ما حملت الإبل .
فنقضوا لذلك كثيرا من سقوفهم ، التي استحسنوها ، وسلطوا المؤمنين بسبب بغيهم على إخراب ديارهم وهدم حصونهم ، فهم الذين جنوا على أنفسهم ، وصاروا من أكبر عون عليها ، { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } أي : البصائر النافذة ، والعقول الكاملة ، فإن في هذا معتبرا يعرف به صنع الله تعالى في المعاندين للحق ، المتبعين لأهوائهم ، الذين لم تنفعهم عزتهم ، ولا منعتهم قوتهم ، ولا حصنتهم حصونهم ، حين جاءهم أمر الله ، ووصل إليهم النكال بذنوبهم ، والعبرة بعموم اللفظ{[1030]} لا بخصوص السبب ، فإن هذه الآية تدل على الأمر بالاعتبار ، وهو اعتبار النظير بنظيره ، وقياس الشيء على مثله ، والتفكر فيما تضمنته الأحكام من المعاني والحكم التي هي محل العقل والفكرة ، وبذلك يزداد{[1031]} العقل ، وتتنور البصيرة ويزداد الإيمان ، ويحصل الفهم الحقيقي ، ثم أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لم يصبهم جميع ما يستحقون من العقوبة ، وأن الله خفف عنهم .
ثم يقص نبأ الحادث الذي نزلت فيه السورة :
هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . ما ظننتم أن يخرجوا ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ؛ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، وقذف في قلوبهم الرعب ، يخربون بيتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، فاعتبروا يا أولي الأبصار . ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب النار . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ، ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب .
ومن هذه الآيات نعلم أن الله هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . والله هو فاعل كل شيء . ولكن صيغة التعبير تقرر هذه الحقيقة في صورة مباشرة ، توقع في الحس أن الله تولى هذا الإخراج من غير ستار لقدرته من فعل البشر ! وساق المخرجين للأرض التي منها يحشرون ، فلم تعد لهم عودة إلى الأرض التي أخرجوا منها .
ويؤكد فعل الله المباشر في إخراجهم وسوقهم بالفقرة التالية في الآية :
( ما ظننتم أن يخرجوا ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ) . .
فلا أنتم كنتم تتوقعون خروجهم ولا هم كانوا يسلمون في تصور وقوعه ! فقد كانوا من القوة والمنعة في حصونهم بحيث لا تتوقعون أنتم أن تخرجوهم منها كما أخرجوا . وبحيث غرتهم هذه المنعة حتى نسوا قوة الله التي لا تردها الحصون !
( فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا . وقذف في قلوبهم الرعب ) .
أتاهم من داخل أنفسهم ! لا من داخل حصونهم ! أتاهم من قلوبهم فقذف فيها الرعب ، ففتحوا حصونهم بأيديهم ! وأراهم أنهم لا يملكون ذواتهم ، ولا يحكمون قلوبهم ، ولا يمتنعون على الله بإرادتهم وتصميمهم ! فضلا على أن يمتنعوا عليه ببنيانهم وحصونهم . وقد كانوا يحسبون حساب كل شيء إلا أن يأتيهم الهجوم من داخل كيانهم . فهم لم يحتسبوا هذه الجهة التي أتاهم الله منها . وهكذا حين يشاء الله أمرا . يأتي له من حيث يعلم ومن حيث يقدر ، وهو يعلم كل شيء ، وهو على كل شيء قدير . فلا حاجة إذن إلى سبب ولا إلى وسيلة ، مما يعرفه الناس ويقدرونه . فالسبب حاضر دائما والوسيلة مهيأة . والسبب والنتيجة من صنعه ، والوسيلة والغاية من خلقه ؛ ولن يمتنع عليه سبب ولا نتيجة ، ولن يعز عليه وسيلة ولا غاية . . . وهو العزيز الحكيم . .
ولقد تحصن الذين كفروا من أهل الكتاب بحصونهم فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب . ولقد امتنعوا بدورهم وبيوتهم فسلطهم الله على هذه الدور والبيوت يخربونها بأيديهم ، ويمكنون المؤمنين من إخرابها :
( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ) . .
وبهذا تتم حكاية ما وقع للذين كفروا من أهل الكتاب ، في تلك الصورة الموحية ، وهذه الحركة المصورة . . والله - سبحانه - يأتيهم من وراء الحصون فتسقط بفعلهم هم ؛ ثم يزيدون فيخربونها بأيديهم وأيدي المؤمنين .
هنا يجيء أول تعقيب في ظل هذه الصورة ، وعلى إيقاع هذه الحركة :
( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) . .
وهو هتاف يجيء في مكانه وفي أوانه . والقلوب متهيئة للعظة متفتحة للاعتبار .
وقوله : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } يعني : يهود بني النضير . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والزهري ، وغير واحد : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هادنهم وأعطاهم عهدًا وذمة ، على ألا يقاتلهم ولا يقاتلوه ، فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه ، فأحل الله بهم بأسه الذي لا مَرَدَّ{[28486]} له ، وأنزل عليهم قضاءه الذي لا يُصَدّ ، فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ما طمع فيها المسلمون ، وظنوا هم أنها مانعتهم من بأس الله ، فما أغنى عنهم من الله شيئًا ، وجاءهم ما لم يكن ببالهم ، وسيّرهم رسول الله وأجلاهم من المدينة ، فكان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرعات من أعالي الشام ، وهي أرض المحشر والمنشر ، ومنهم طائفة ذهبوا إلى خيبر . وكان قد أنزلهم منها على أن لهم ما حملت إبلهم ، فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات التي يمكن أن تحمل معهم ؛ ولهذا قال : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ } أي : تفكروا في عاقبة من خالف أمر الله وخالف رسوله ، وكذب كتابه ، كيف يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا ، مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب الأليم .
قال أبو داود : حدثنا محمد بن داود وسفيان ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبي ، ومن كان معه يعبد [ معه ] {[28487]} الأوثان من الأوس والخزرج ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر : إنكم آويتم صاحبنا ، وإنا نقسم بالله لنقاتلنه ، أو لتخرجنه ، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا ، حتى نقتل مُقَاتلتكم ونستبيح نساءكم ، فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان ، اجتمعوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم ، فقال : " لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريد أن تكيدوا به أنفسكم ، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم ؟ " ، فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا ، فبلغ ذلك كفار قريش ، فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود : إنكم أهل الحلقة والحصون ، وإنكم لتقاتلن مع صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا ، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء - وهي الخلاخيل - فلما بلغ كتابهم النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعت بنو النضير بالغدر ، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم : اخرج إلينا في ثلاثين رجلا من أصحابك ليخرج منا ثلاثون حبرًا ، حتى نلتقي بمكان المنصف فيسمعوا منك ، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك ، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ بالكتائب ]{[28488]} فحصرهم ، قال لهم : " إنكم والله لا تأمنوا عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه " . فأبوا أن يعطوه عهدًا ، فقاتلهم يومهم ذلك ، ثم غدا الغَد على بني قريظة بالكتائب ، وترك بني النضير ، ودعاهم إلى أن يعاهدوه ، فعاهدوه ، فانصرف عنهم . وغدا إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم ، حتى نزلوا على الجلاء . فجلت بنو النضير ، واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها ، وكان نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، أعطاه الله أياها وخصه بها ، فقال : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ } يقول : بغير قتال ، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها للمهاجرين ، قسمها بينهم ، وقسم منها لرجلين من الأنصار وكانا ذوي حاجة ، ولم يقسم من الأنصار غيرهما ، وبقي منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي في أيدي بني فاطمة{[28489]} .
ولنذكر ملخص غزوة بني النضير على وجه الاختصار ، وبالله المستعان .
وكان سبب ذلك فيما ذكره أصحاب المغازي والسَير : أنه لما قُتِل أصحابُ بئر معونة ، من أصحاب رسول الله{[28490]} صلى الله عليه وسلم ، وكانوا سبعين ، وأفلت منهم عمرو بن أمية الضمري ، فلما كان في أثناء الطريق راجعًا إلى المدينة قتل رجلين من بني عامر ، وكان معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمان لم يعلم به عمرو ، فلما رجع أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد قتلت رجلين ، لأدينَّهما " وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعهد ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك الرجلين ، وكان منازل بني النضير ظاهر المدينة على أميال منها شرقيها .
قال محمد بن إسحاق بن يسار في كتابه السيرة : ثم خرج رسول الله إلى بني النضير ، يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر ، اللذين قتل {[28491]} عمرو بن أمية الضمري ؛ للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما ، فيما حدثني يزيد بن رُومان ، وكان بين بني النضير وبني عامر عَقد وحلف . فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية ذينك القتيلين قالوا : نعم ، يا أبا القاسم ، نعينك على ما أحببت ، مما استعنت بنا عليه . ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا : إنكم لن{[28492]} تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم - فَمَن{[28493]} رجل يعلو على هذا البيت ، فيلقي عليه صخرة ، فيريحنا منه ؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدُهم ، فقال : أنا لذلك ، فصعَدَ ليلقي عليه صخرة كما قال ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه ، فيهم أبو بكر وعمر وعلي ، رضي الله عنهم . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم ، فقام وخرج راجعًا إلى المدينة ، فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة ، فسألوه عنه ، فقال : رأيته داخلا المدينة . فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه ، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به ، وأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم . ثم سار حتى نزل بهم فتحصنوا منه في الحصون ، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل والتَّحريق فيها . فنادوه : أن يا محمد ، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه ، فما بال قطع النخل وتحريقها ؟
وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج ، منهم عبد الله ابن أبي [ بن ]{[28494]} سلول ، ووديعة ، ومالك بن أبي قوقل{[28495]} وسُوَيد وداعس ، قد بعثوا إلى بني النضير : أن اثبتوا وتَمَنَّعوا فإنا لن نسلمكم ، إن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خَرَجنا معكم فتربصوا ذلك من نصرهم ، فلم يفعلوا ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم ، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة ، ففعل ، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل ، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه ، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به . فخرجوا إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام ، وَخَلّوا الأموال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت لرسول الله خاصة يضعها حيث شاء ، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار . إلا أن سهل بن حُنَيف وأبا دُجانة سماك بن خَرشَة ذكرا فَقْرًا ، فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال : ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان : يامين بن عُمَير{[28496]} بن كعب بن عمرو بن جحاش ، وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاها .
قال : ابن إسحاق : قد حدثني بعض آل يامين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين : " ألم تر ما لقيتُ من ابن عمك ، وما هم به من شأني " . فجعل يامين بن عُمَير{[28497]} لرجل جُعِل علي أن يقتل عمرو بن جحاش ، فقتله فيما يزعمون .
قال ابن إسحاق : ونزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها{[28498]} .
وهكذا روي يونس بن بُكَيْر ، عن ابن إسحاق ، بنحو ما تقدم{[28499]} .
فقوله : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } يعني : بني النضير { مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ الْحَشْرِ } .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن أبي سعد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : من شك في أن أرض المحشر هاهنا - يعني الشام فَلْيَتْل{[28500]} هذه الآية : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ الْحَشْرِ } قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اخرجوا " . قالوا : إلى أين ؟ قال : " إلى أرض المحشر " .
وحدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، عن عوف ، عن الحسن قال : لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ، قال : " هذا أول الحشر ، وأنا على الأثر " .
ورواه ابن جرير ، عن بُنْدَار ، عن ابن أبي عدي ، عن عوف ، عن الحسن ، به{[28501]} .
وقوله : { مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا } أي : في مدة حصاركم لهم وقصَرها ، وكانت ستة أيام ، مع شدة حصونهم ومنعتها ؛ ولهذا قال : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } أي : جاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال ، كما قال في الآية الأخرى : { قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ } [ النحل : 26 ] .
وقوله : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } أي : الخوف والهَلَع والجَزَع ، وكيف لا يحصل لهم ذلك وقد حاصرهم الذي نُصر بالرعب مسيرةَ شهر ، صلوات الله وسلامه عليه .
وقوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } قد تقدم تفسير ابن إسحاق لذلك ، وهو نقض{[28502]} ما استحسنوه من سقوفهم وأبوابهم ، وتَحملها على الإبل ، وكذا قال عروة بن الزبير ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد .
وقال مقاتل ابن حيان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتلهم ، فإذا ظهر على دَرْب أو دار ، هدم حيطانها ليتسع المكان للقتال . وكان{[28503]} اليهود إذا علوا مكانًا أو غلبوا على درب أو دار ، نقبوا من أدبارها ثم حصنوها ودربوها ، يقول الله تعالى : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ } .
{ هُوَ الّذِيَ أَخْرَجَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنّوَاْ أَنّهُمْ مّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ اللّهِ فَأَتَاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : { هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ } الله الذي أخرج الذين جحدوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب ، وهم يهود بني النضير من ديارهم ، وذلك خروجهم عن منازلهم ودورهم ، حين صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يؤمنهم على دمائهم ونسائهم وذراريهم ، وعلى أن لهم ما أقلّت الإبل من أموالهم ، ويخلو له دورهم ، وسائر أموالهم ، فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك ، فخرجوا من ديارهم ، فمنهم من خرج إلى الشام ، ومنهم من خرج إلى خيبر ، فذلك قول الله عزّ وجلّ : { هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيارهِمْ لأوّل الْحَشْر } ، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله عزّ وجلّ : { هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ }قال : النضير حتى قوله : { وَلِيُخْزيَ الفاسِقِينَ } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة { هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ }قيل : الشام ، وهم بنو النضير حيّ من اليهود ، فأجلاهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر ، مَرْجِعَه من أحد .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري { مِنْ دِيارِهِمْ لأَوّل الْحَشْرِ } قال : هم بنو النضير قاتلهم النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى صالحهم على الجلاء ، فأجلاهم إلى الشام ، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من شيء إلا الحلقة ، والحلقة : السلاح ، كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى ، وكان الله عزّ وجلّ قد كتب عليهم الجلاء ، ولولا ذلك عذبهم في الدنيا بالقتل والسباء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ }قال : هؤلاء النضير حين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن حَميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، قال : نزلت في بني النضير سورة الحشر بأسرها ، يذكر فيها ما أصابهم الله عزّ وجل به من نقمته ، وما سلط عليهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عمل به فيهم ، فقال : { هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ . . . }الاَيات .
وقوله : { لأَوّلِ الْحَشْرِ } يقول تعالى ذكره : لأوّل الجمع في الدنيا ، وذلك حشرهم إلى أرض الشام . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، قوله : { لأَوّلِ الْحَشْرِ }قال : كان جلاؤهم أوّل الحشر في الدنيا إلى الشام .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : تجيء نار من مَشرِق الأرض ، تَحْشُر الناس إلى مغاربها ، فتبيت معهم حيث باتُوا ، وتَقِيل معهم حيث قالوا ، وتأكل من تَخَلّف .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أجلى بني النضير ، قال : «امْضوا فَهَذَا أوّل الحَشْرِ ، وَإنّا عَلى الأثَرِ » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { لأَوّلِ الحَشْرِ } قال : الشام حين ردّهم إلى الشام ، وقرأ قول الله عزّ وجلّ : { يا أيّها الّذِينَ أوتُوا الكِتابَ آمَنُوا بِمَا نَزّلْنا مَصَدّقا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنرُدّها على أدْبارِها }قال : من حيث جاءت ، أدبارها أن رجعت إلى الشام ، من حيث جاءت ردّوا إليه .
وقوله : { ما ظَنَنْتُمْ أنْ يخْرُجُوا } ، يقول تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ظننتم أن يخرج هؤلاء الذين أخرجهم الله من ديارهم من أهل الكتاب من مساكنهم ومنازلهم ، { وَظَنّوا أنّهُمْ ما نِعَتُهُمْ حُصُونُهمْ مِنَ اللّهِ } وإنما ظنّ القوم فيما ذكر أن عبد الله بن أُبي وجماعة من المنافقين بعثوا إليهم لما حصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرونهم بالثبات في حصونهم ، ويعدونهم النصر ، كما :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، أن رهطا من بني عوف ابن الخزرج منهم عبد الله بن أُبي ابن سلول ووديعة ومالك ابنا نوفل وسويد وداعس ، بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنّعوا ، فإنا لن نسلمكم ، وإن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن خرجتم خرجنا معكم ، فتربصوا لذلك من نصرهم ، فلم يفعلوا ، وكانوا قد تحصنوا في الحصون من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل بهم .
وقوله : { فأتاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا }يقول تعالى ذكره : فأتاهم أمر الله من حيث لم يحتسبوا أنه يأتيهم ، وذلك الأمر الذي أتاهم من الله حيث لم يحتسبوا ، قذف في قلوبهم الرعب بنزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم في أصحابه ، يقول جلّ ثناؤه : { وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرّعُبَ } .
وقوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤمِنِينَ }يعني جلّ ثناؤه بقوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ }بني النضير من اليهود ، وأنهم يخربون مساكنهم ، وذلك أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة فيما ذُكر في منازلهم مما يستحسنونه ، أو العمود أو الباب ، فينزعون ذلك منها بأيديهم وأيدي المؤمنين . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤمِنِينَ } جعلوا يخربونها من أجوافها ، وجعل المؤمنون يخربون من ظاهرها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزّهريّ ، قال : لما صالحوا النبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا لا يعجبهم خشبة إلا أخذوها ، فكان ذلك خرابها . وقال قتادة : كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها ، وتخربها اليهود من داخلها .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، قال : احتملوا من أموالهم ، يعني بني النضير ، ما استقلت به الإبل ، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه ، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به ، قال : فذلك قوله : { يُخْربُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤمِنِينَ }وذلك هدمهم بيوتهم عن نُجف أبوابهم إذا احتملوها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله عزّ وجلّ : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤمِنِينَ } قال : هؤلاء النضير ، صالحهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على ما حملت الإبل ، فجعلوا يقلعوا الأوتاد يخربون بيوتهم .
وقال آخرون : إنما قيل ذلك كذلك ، لأنهم كانوا يخربون بيوتهم ليبنوا بنقضها ما هدم المسلمون من حصونهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤمِنِينَ فاعْتَبِرُوا يا أُولي الأبْصَارِ } قال : يعني بني النضير ، جعل المسلمون كلما هدموا شيئا من حصونهم جعلوا ينقضون بيوتهم ويخربونها ، ثم يبنون ما يخرب المسلمون ، فذلك هلاكهم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤمِنِينَ } يعني أهل النضير جعل المسلمون كلما هدموا من حصنهم جعلوا ينقضون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، ثم يبنون ما خرّب المسلمون .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والمدينة والعراق سوى أبي عمرو : { يُخْرِبُونَ }بتخفيف الراء ، بمعنى يخرجون منها ويتركونها معطلة خرابا ، وكان أبو عمرو يقرأ ذلك «يخرّبون » بالتشديد في الراء بمعنى يهدّمون بيوتهم . وقد ذكر عن أبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري أنهما كانا يقرآن ذلك نحو قراءة أبي عمرو . وكان أبو عمرو فيما ذكر عنه يزعم أنه إنما اختار التشديد في الراء لما ذكرت من أن الإخراب : إنما هو ترك ذلك خرابا بغير ساكن ، وإن بني النضير لم يتركوا منازلهم ، فيرتحلواعنها ، ولكنهم خربّوبها بالنقض والهدم ، وذلك لا يكون فيما قال إلا بالتشديد .
وقوله : { فاعْتَبرُا يا أولي الأبصارِ }يقول تعالى ذكره : فاتعظوا يا معشر ذوي الأفهام بما أحلّ الله بهؤلاء اليهود الذين قذف الله في قلوبهم الرعب ، وهم في حصونهم من نقمته ، واعلموا أن الله ولّى من والاه ، وناصر رسوله على كلّ من ناوأه ، ومحلّ من نقمته به نظير الذي أحلّ ببني النضير . وإنما عنى بالأبصار في هذا الموضع أبصار القلوب ، وذلك أن الاعتبار بها يكون دون الإبصار بالعيون .
{ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر }أي في أول حشرهم من جزيرة العرب إذ لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك أو في أول حشرهم للقتال أو الجلاء إلى الشام وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه إياهم من خيبر إليه أو في أول حشر الناس إلى الشام ، وآخر حشرهم أنهم يحشرون إليه عند قيام الساعة فيدركهم هناك أو أن نارا تخرج من المشرق فتحشرهم إلى المغرب ، والحشر إخراج جمع من مكان إلى آخر . { ما ظننتم أن يخرجوا }لشدة بأسهم ومنعتهم ، { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله }أي أن حصونهم تمنعهم من بأس الله وتغيير النظم وتقديم الخبر وإسناد الجملة إلى ضميرهم للدلالة على فرط وثوقهم بحصانتها ، واعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة بسببها ، ويجوز أن تكون حصونهم فاعلا ل مانعتهم { فأتاهم الله }أي عذابه وهو الرعب والاضطرار إلى الجلاء ، وقيل الضمير ل المؤمنين أي فأتاهم نصر الله وقرىء { فآتاهم الله }أي العذاب أو النصر { من حيث لم يحتسبوا }لقوة وثوقهم ، { وقذف في قلوبهم الرعب }وأثبت فيها الخوف الذي يرعبها أي يملؤها { يخربون بيوتهم بأيديهم }ضنا بها على المسلمين وإخراجا لما استحسنوا من آلاتها ، { وأيدي المؤمنين }فإنهم أيضا كانوا يخربون ظواهرها نكاية وتوسيعا لمجال القتال ، وعطفها على أيديهم من حيث أن تخريب المؤمنين مسبب عن نقضهم فكأنهم استعملوهم فيه ، والجملة حال أو تفسير ل الرعب وقرأ أبو عمرو { يخربون } بالتشديد وهو أبلغ لما فيه من التكثير ، وقيل الإخراب التعطيل أو ترك الشيء خرابا ، والتخريب الهدم { فاعتبروا يا أولي الأبصار }فاتعظوا بحالهم فلا تغدروا ولا تعتمدوا على غير الله واستدل به على أن القياس حجة من حيث أنه أمر بالمجاوزة من حال إلى حال وحملها عليها في حكم لما بينهما من المشاركة المقتضية له على ما قررناه في الكتب الأصولية .