128- وإذا كان الذين سلكوا صراط الله المستقيم لهم الأمْن وولاية الله ، فالذين سلكوا طريق الشيطان لهم جزاء ما ارتكبوا ، حين يحشر الجميع يوم القيامة ، ويقول - جل جلاله - للآثمين من الجن والإنس : أيها المجتمعون من الجن قد أكثرتم من إغواء الإنس حتى تبعكم منهم عدد كثير ! . فيقول الذين اتبعوهم من الإنس : يا خالقنا والقائم علينا ، قد انتفع بعضنا ببعض ، واستمتعنا بالشهوات ، وبلغنا أجلنا الذي حددته لنا . فيقول - جل جلاله - : مقركم النار خالدين فيها إلا مَنْ شاء الله أن ينقذهم ممن لم ينكروا رسالة الله . وإن أفعال الله دائماً على مقتضى الحكمة والعلم .
قوله تعالى : { ويوم يحشرهم } ، قرأ حفص : { يحشرهم } ، بالياء .
قوله تعالى : { جميعاً } ، يعني : الجن والإنس يجمعهم في موقف القيامة فيقول : { يا معشر الجن } ، والمراد بالجن : الشياطين
قوله تعالى : { قد استكثرتم من الإنس } ، أي : استكثرتم من الإنس بالإضلال والإغواء ، أي : أضللتم كثيراً .
قوله تعالى : { وقال أولياؤهم من الإنس } ، يعني : أولياء الشياطين الذين أطاعوهم من الإنس .
قوله تعالى : { ربنا استمتع بعضنا ببعض } قال الكلبي : استمتاع الإنس بالجن هو أن الرجل كان إذا سافر ونزل بأرض قفر ، وخاف على نفسه من الجن قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، فيبيت في جوارهم ، وأما استمتاع الجن بالإنس هو أنهم قالوا : قد سدنا الإنس مع الجن ، حتى عاذوا بنا ، فيزدادون شرفاً في قومهم ، وعظماً في أنفسهم ، وهذا كقوله تعالى : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً } . وقيل : استمتاع الإنس بالجن ، ما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة ، وتزيينهم لهم الأمور التي يهوونها ، حتى يسهل فعلها عليهم ، واستمتاع الجن بالإنس طاعة الإنس لهم فيما يزينون لهم من الضلالة والمعاصي . قال محمد بن كعب : هو طاعة بعضهم بعضاً ، وموافقة بعضهم لبعض .
قوله تعالى : { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } ، يعني : القيامة والبعث ،
قوله تعالى : { قال } الله تعالى : { النار مثواكم } مقامكم .
قوله تعالى : { خالدين فيها إلا ما شاء الله } . اختلفوا في هذا الاستثناء كما اختلفوا في قوله : { خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك } [ هود :107 ] . قيل : أراد إلا قدر مدة ما بين بعثهم إلى دخولهم جهنم ، يعني : هم خالدون في النار إلا هذا المقدار . وقيل : الاستثناء يرجع إلى العذاب ، وهو قوله { النار مثواكم } ، أي : خالدين في النار سوى ما شاء الله من أنواع العذاب ، وقال ابن عباس : الاستثناء يرجع إلى قوم سبق فيهم علم الله أنهم يسلمون فيخرجون من النار ، و( ما ) بمعنى ( من ) على هذا التأويل .
قوله تعالى : { إن ربك حكيم عليم } ، قيل : عليم بمن استثنى ، عليم بما في قلوبهم من البر والتقوى .
{ 128 - 135 } { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ * ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ * وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ * إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ }
يقول تعالى { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا } أي : جميع الثقلين ، من الإنس والجن ، من ضل منهم ، ومن أضل غيره ، فيقول موبخا للجن الذين أضلوا الإنس ، وزينوا لهم الشر ، وأزُّوهم إلى المعاصي : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ } أي : من إضلالهم ، وصدهم عن سبيل الله ، فكيف أقدمتم على محارمي ، وتجرأتم على معاندة رسلي ؟ وقمتم محاربين لله ، ساعين في صد عباد الله عن سبيله إلى سبيل الجحيم ؟
فاليوم حقت عليكم لعنتي ، ووجبت لكم نقمتي وسنزيدكم من العذاب بحسب كفركم ، وإضلالكم لغيركم . وليس لكم عذر به تعتذرون ، ولا ملجأ إليه تلجأون ، ولا شافع يشفع ولا دعاء يسمع ، فلا تسأل حينئذ عما يحل بهم من النكال ، والخزي والوبال ، ولهذا لم يذكر الله لهم اعتذارا ، وأما أولياؤهم من الإنس ، فأبدوا عذرا غير مقبول فقالوا : { رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } أي : تمتع كل من الجِنّي والإنسي بصاحبه ، وانتفع به .
فالجنّي يستمتع بطاعة الإنسي له وعبادته ، وتعظيمه ، واستعاذته به . والإنسي يستمتع بنيل أغراضه ، وبلوغه بسبب خدمة الجِنّي له بعض شهواته ، فإن الإنسي يعبد الجِنّي ، فيخدمه الجِنّي ، ويحصل له منه بعض الحوائج الدنيوية ، أي : حصل منا من الذنوب ما حصل ، ولا يمكن رد ذلك ، { وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا } أي : وقد وصلنا المحل الذي نجازي فيه بالأعمال ، فافعل بنا الآن ما تشاء ، واحكم فينا بما تريد ، فقد انقطعت حجتنا ولم يبق لنا عذر ، والأمر أمرك ، والحكم حكمك . وكأن في هذا الكلام منهم نوع تضرع وترقق ، ولكن في غير أوانه . ولهذا حكم فيهم بحكمه العادل ، الذي لا جور فيه ، فقال : { النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا }
ولما كان هذا الحكم من مقتضى حكمته وعلمه ، ختم الآية بقوله : { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } فكما أن علمه وسع الأشياء كلها وعمّها ، فحكمته الغائية شملت الأشياء وعمتها ووسعتها .
لقد مضى في الحلقة السابقة حديث عن الذين يشرح الله صدورهم للإسلام ؛ فتبقى قلوبهم ذاكرة لاتغفل ؛ وأنهم ماضون إلى دار السلام ، منتهون إلى ولاية ربهم وكفالته . . فالآن يعرض الصفحة المقابلة في المشهد - على طريقة القرآن الغالبة في عرض " مشاهد القيامة " - يعرض شياطين الإنس والجن ، الذين قضوا الحياة يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً وخداعاً وإضلالاً ؛ ويقف بعضهم بمساندة بعض عدوا لكل نبي ؛ ويوحي بعضهم إلى بعض ليجادلوا المؤمنين في ما شرعه الله لهم من الحلال والحرام . . يعرضهم في مشهد شاخص حي ، حافل بالحوار والاعتراف والتأنيب والحكم والتعقيب ، فائض بالحياة التي تزخر بها مشاهد القيامة في القرآن .
( ويوم يحشرهم جميعا : يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ! وقال أولياؤهم من الإنس : ربنا استمتع بعضنا ببعض ، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ! قال : النار مثواكم خالدين فيها - إلا ما شاء الله - إن ربك حكيمعليم . . وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون . . يا معشر الجن والإنس ، ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ، وينذرونكم لقاء يومكم هذا ؟ قالوا : شهدنا على أنفسنا ! وغرتهم الحياة الدنيا ، وشهدوا على انفسهم أنهم كانوا كافرين ) . .
إن المشهد يبدأ معروضاً في المستقبل ، يوم يحشرهم جميعا . . ولكنه يستحيل واقعا للسامع يتراءى له مواجهة . وذلك بحذف لفظة واحدة في العبارة . فتقدير الكلام ، ( ويوم يحشرهم جميعا )- فيقول - ( يا معشر الجن والإنس . . . ) ولكن حذف كلمة - يقول - ينتقل بالتعبير المصور نقلة بعيدة ؛ ويحيل السياق من مستقبل ينتظر ، إلى واقع ينظر ! وذلك من خصائص التصوير القرآني العجيب . . .
فلنتابع المشهد الشاخص المعروض :
( يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ! ) . .
استكثرتم من التابعين لكم من الإنس ، المستمعين لإيحائكم ، المطيعين لوسوستكم ، المتبعين لخطواتكم . . وهو إخبار لا يقصد به الإخبار فالجن يعلمون أنهم قد استكثروا من الإنس ! إنما يقصد به تسجيل الجريمة - جريمة إغواء هذا الحشد الكبير الذي نكاد نلمحه في المشهد المعروض ! - ويقصد به التأنيب على هذه الجريمة التي تتجمع قرائنها الحية في هذا الحشد المحشود ! لذلك لا يجيب الجن على هذا القول بشيء . . ولكن الأغرار الأغمار من الإنس المستخفين بوسوسة الشياطين يجيبون :
( وقال أولياؤهم من الإنس : ربنا استمتع بعضنا ببعض ، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ! ) .
وهو جواب يكشف عن طبيعة الغفلة والخفة في هؤلاء الأتباع ؛ كما يكشف عن مدخل الشيطان إلى نفوسهم في دار الخداع . . لقد كانوا يستمتعون بإغواء الجن لهم وتزيينه ما كان يزين لهم من التصورات والأفكار ، ومن المكابرة والاستهتار ، ومن الإثم ظاهره وباطنه ! فمن منفذ الاستمتاع دخل إليهم الشيطان ! وكانت الشياطين تستمتع بهؤلاء الأغرار الأغفال . . كانت تستهويهم وتعبث بهم ؛ وتسخرهم لتحقيق هدف إبليس في عالم الإنس ! وهؤلاء الأغرار المستخفون يحسبون أنه كان استمتاعا متبادلا ، وأنهم كانوا يمتعون فيه ويتمتعون ! ومن ثم يقولون :
( ربنا استمتع بعضنا ببعض ! ) . .
ودام هذا المتاع طوال فترة الحياة ، حتى حان الأجل ، الذي يعلمون اليوم فقط أن الله هو الذي أمهلهم إليه ؛ وأنهم كانوا في قبضته في أثناء ذلك المتاع :
( وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ) !
عند ذلك يجيء الحكم الفاصل ، بالجزاء العادل :
( قال : النار مثواكم خالدين فيها - إلا ما شاء الله - )
فالنار مثابة ومأوى . والمثوى للإقامة . وهي إقامة الدوام . . ( إلا ما شاء الله ) لتبقى صورة المشيئة الطليقة هي المسيطرة على التصور الاعتقادي . فطلاقة المشيئة الإلهية قاعدة من قواعد هذا التصور . والمشيئة لا تنحبس ولا تتقيد . ولا في مقرراتها هي .
يمضي قدره بالناس عن حكمة وعن علم ؛ ينفرد بهما الحكيم العليم . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ الْجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مّنَ الإِنْسِ رَبّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الّذِيَ أَجّلْتَ لَنَا قَالَ النّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاّ مَا شَآءَ اللّهُ إِنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعا : ويوم يحشر هؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام وغيرهم من المشركين مع أوليائهم من الشياطين الذين كانوا يوحون إليهم زخرف القول غرورا ليجادلوا به المؤمنين ، فيجمعهم جميعا في موقف القيامة . يقول للجنّ : يا مَعْشَرَ الجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ وحذف «يقول للجنّ » من الكلام اكتفاءً بدلالة ما ظهر من الكلام عليه منه .
وعني بقوله : قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ استكثرتم من إضلالهم وإغوائهم . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : قوله : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعا يا مَعْشَرَ الجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ يعني : أضللتم منهم كثيرا .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : يا مَعْشَرَ الجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ قال : قد أضللتم كثيرا من الإنس .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ قال : كثر من أغويتم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن الحسن : قَدِ اسْتَكْثَرتُمْ مِنَ الإنْسِ يقول : أضللتم كثيرا من الإنس .
القول في تأويل قوله تعالى : وَقالَ أوْلِياؤُهُمْ مِنَ الإنْسِ رَبّنا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا ببَعْضٍ .
يقول تعالى ذكره : فيجيب أولياء الجنّ من الإنس ، فيقولون : ربنا استمتع بعضنا ببعض في الدنيا . فأما استمتاع الإنس بالجنّ ، فكان كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : رَبّنا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ قال : كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض فيقول : أعوذ بكبير هذا الوادي فذلك استمتاعهم ، فاعتذروا يوم القيامة .
وأما استمتاع الجنّ بالإنس ، فإنه كان فيما ذكر ، ما ينال الجنّ من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعاذتهم بهم ، فيقولون : قد سدنا الجنّ والإنس .
القول في تأويل قوله تعالى : وَبَلَغْنا أجَلَنَا الّذِي أجّلْتَ لَنا .
يقول تعالى ذكره : قالوا : وبلغنا الوقت الذي وقّت لموتنا . وإنما يعني جلّ ثناؤه بذلك أنهم قالوا : استمتع بعضنا ببعض أيام حياتنا إلى حال موتنا . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّي ، وأما قوله : وَبَلَغْنا أجَلَنا الّذِي أجّلْتَ لنَا فالموت .
القول في تأويل قوله تعالى : قال النّارُ مَثْوَاكُمْ خالِدِينَ فِيها إلاّ ما شاءَ اللّهُ إنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ .
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عما هو قائل لهؤلاء الذين يحشرهم يوم القيامة من العادلين به في الدنيا الأوثان ولقرنائهم من الجنّ ، فأخرج الخبر عما هو كائن مخرج الخبر عما كان لتقدّم الكلام قبله بمعناه والمراد منه ، فقال : قال الله لأولياء الجنّ من الإنس الذين قد تقدم خبره عنهم : النّارُ مَثْوَاكُمْ يعني نار جهنم مثواكم الذي تثوون فيه : أي تقيمون فيه . والمثوى : هو المفعل ، من قولهم : ثَوَى فلان بمكان كذا ، إذا أقام فيه . خالدينَ فِيها يقول : لابثين فيها ، إلاّ ما شاءَ اللّهُ يعني : إلا ما شاء الله من قدر مدة ما بين مبعثهم من قبورهم إلى مصيرهم إلى جهنم ، فتلك المدة التي استثناها الله من خلودهم في النار . إنّ رَبّكَ حَكِيمٌ في تدبيره في خلقه ، وفي تصريفه إياهم في مشيئته من حال إلى حال وغير ذلك من أفعاله . عَلِيمٌ بعواقب تدبيره إياهم ، وما إليه صائر أمرُهم من خير وشرّ . ورُوي عن ابن عباس أنه كان يتأوّل في هذا الاستثناء أن الله جعل أمر هؤلاء القوم في مبلغ عذابه إياهم إلى مشيئته .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قالَ النّارُ مَثْوَاكُمْ خالِدِينَ فِيها إلاّ ما شاءَ اللّهُ إنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ قال : إن هذه الاَية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه أن لا ينزلهم جنة ولا نارا .
{ ويوم يحشرهم جميعا } نصب بإضمار أذكر أو نقول ، والضمير لمن يحشر من الثقلين . وقرأ حفص عن عاصم وروح عن يعقوب { يحشرهم } بالياء . { يا معشر الجن } يعني الشياطين . { قد استكثرتم من الإنس } أي من إغوائهم وإضلالهم ، أو منهم جعلتموهم أتباعكم فحشروا معكم كقوله استكثر الأمير من الجنود . { وقال أولياؤهم من الإنس } الذين أطاعوهم . { ربنا استمتع بعضنا ببعض } أي انتفع الإنس والجن بأن دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها ، والجن والإنس بأن أطاعوهم وحصلوا مرادهم . وقيل استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا يعوذون بهم في المفاوز وعند المخاوف ، واستمتاعهم بالإنس اعترافهم بأنهم يقدرون على إجازتهم . { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } أي البعث وهو اعتراف بما فعلوه من طاعة الشيطان واتباع الهوى وتكذيب البعث وتحسر على حالهم . { قال النار مثواكم } منزلكم أو ذات مثواكم . { خالدين فيها } حال والعامل فيها مثواكم إن جعل مصدرا ، ومعنا الإضافة إن جعل مكانا { إلا ما شاء الله } إلا الأوقات التي ينقلون فيها من النار إلى الزمهرير وقيل { إلا ما شاء الله } قبل الدخول كأنه قيل : النار مثواكم أبدا إلى ما أمهلكم . { إن ربك حكيم } في أفعاله . { عليم } بأعمال الثقلين وأحوالهم .
{ يوم } نصب بفعل مضمر تقديره واذكر يوم ، ويحتمل أن يكون العامل { وليهم } [ الأنعام : 127 ] والعطف على موضع قوله { بما كانوا } [ الأنعام : 127 ] ، والضمير في { يحشرهم } عائد على الطائفتين الذين يجعل الله الرجس عليهم وهم جميع الكفار جناً وإنساً ، والذين لهم دار السلام جناً ، وإنساً ، ويدل على ذلك التأكيد العام بقوله { جميعاً } وقرأ حفص عن عاصم «يحشرهم » بالياء ، وقرأ الباقون بالنون وكلُّ متجه{[5095]} ، ثم ذكر عز وجل ما يقال للجن الكفرة ، وفي الكلام فعل مضمر يدل عليه ظاهر الكلام تقديره نقول يا معشر الجن ، وقوله { قد استكثرتم } معناه فرطتم ، و { من الإنس } يريد في إضلالهم وإغوائهم قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وقال الكفار من الإنس وهم أولياء الجن الموَّبخين على جهة الاعتذار عن الجن { ربنا استمتع بعضنا ببعض } أي انتفع .
قال القاضي أبو محمد : وذلك في وجوه كثيرة ، حكى الطبري وغيره أن الإنس كانت تستعيذ بالجن في الأودية ومواضع الخوف{[5096]} وكانت الجن تتعظم على الإنس وتسودها كما يفعل الربي بالكاهن والمجير والمستجير ، إذ كان العربي إذا نزل وادياً ينادي : يا رب الوادي إني أستجير بك هذه الليلة ثم يرى أن سلامته إنما هي بحفظ جني ذلك الوادي فهذا استمتاع بعضهم ببعض .
قال القاضي أبو محمد : وهذا مثال في الاستمتاع ، ولو ُتُتبع لتبينت له وجوه أخر كلها دنياوية ، وبلوغ الأجل المؤجل قال السدي هو الموت الذي انتهى الكل منهم إليه ، وقيل هو الحشر ، وقيل هو الغاية التي انتهى جميعهم إليها من الاستمتاع ، كأنهم أشاروا إلى أن ذلك بقدرك وقضائك إذ لكل كتاب أجل ، وقرأ الحسن «وبلِّغنا أجلنا » بكسر اللام مشددة ، وقوله تعالى : { قال النار مثواكم } الآية ، إخبارٌ من الله عز وجل عما يقول لهم يوم القيامة إثر كلامهم المتقدم ، وجاء الفعل بلفظ الماضي وهو في الحقيقة مستقبل لصحة وقوعه ، وهذا كثير من القرآن وفصيح الكلام و { مثواكم } أي موضع ثوابكم كمقامكم الذي هو موضع الإقامة ، هذا قول الزجّاج وغيره ، قال أبو علي في الإغفال : المثوى عندي مصدر لا موضع وذلك لعمله في الحال التي هي { خالدين } والموضع ليس فيه معنى فعل فيكون عاملاً ، والتقدير النار ذات ثوابكم ، والاستثناء في قوله { إلا ما شاء الله } قالت فرقة { ما } بمعنى من ، فالمراد إلا من شاء ممن آمن في الدنيا بعد أن آمن من هؤلاء الكفرة .
قال القاضي أبو محمد : ولما كان هؤلاء صنفاً ساغت في العبارة عنهم { ما } ، وقال الفراء { إلا } بمعنى سوى ، والمراد سوى ما يشاء من زيادة في العذاب ، ونحا إليه الزجّاج ، وقال الطبري : إن المستثنى هي المدة التي بين حشرهم إلى دخولهم النار .
قال القاضي أبو محمد : وساغ هذا من حيث العبارة بقوله { النار مثواكم } لا تخص بصيغتها مستقبل الزمان دون غيره ، وقال الطبري عن ابن عباس أنه كان يتناول في هذا الاستثناء أنه مبلغ حال هؤلاء في علم الله ثم أسند إليه أنه قال : إن هذه الآية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ، ولا ينزلهم جنة ولا ناراً{[5097]} .
قال القاضي أبو محمد : والإجماع على التخليد الأبدي في الكفار ، ولا يصح هذا عن ابن عباس رضي الله عنه .
قال القاضي أبو محمد : ويتجه عندي في هذا الاستثناء أن يكون مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته ، وليس مما يقال يوم القيامة ، والمستثنى هو من كان من الكفرة يومئذ يؤمن في علم الله كأنه لما أخبرهم أنه قال للكفار : { النار مثواكم } استثنى لهم من يمكن أن يؤمن ممن يرونه يومئذ كافراً ، وتقع { ما } على صفة من يعقل ، ويؤيد هذا التأويل اتصال قوله { إن ربك حكيم عليم } أي بمن يمكن أن يؤمن منهم ، و { حكيم عليم } صفتان مناسبتان لهذه الآية ، لأن تخلد هؤلاء الكفرة في النار فعل صادر عن حكم وعلم بمواقع الأشياء .