قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } روينا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } ، وتضعونها في غير موضعها ، ولا تدرون ما هي ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه ) . وفي رواية ( لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليسلطن الله سبحانه وتعالى عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب ، ثم ليدعون الله عز وجل خياركم ، فلا يستجاب لكم ) .
قال أبو عبيدة : خاف الصديق أن يتأول الناس الآية غير متأولها ، فيدعوهم إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فأعلمهم أنها ليست كذلك ، وأن الذي أذن لإمساك عن تغييره من المنكر ، هو الشرك الذي ينطق به المعاهدون من أجل أنهم يتدينون به ، وقد صولحوا عليه ، فأما الفسوق والعصيان والذنب من أهل الإسلام فلا يدخل فيه . وقال مجاهد ، وسعيد ابن جبير : الآية في اليهود والنصارى ، يعني : عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب ، فخذوا منهم الجزية واتركوهم . وعن ابن عباس قال في هذه الآية : مروا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر ما قبل منكم ، فإن رد عليكم فعليكم أنفسكم ، ثم قال : إن القرآن نزل منه ، آي : قد مضى تأويلهن قبل أن ينزل ، ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنه آي وقع تأويلهن بعد رسول الله ، ومنه آي يقع تأويلهن في آخر الزمان ، ومنه آي : يقع تأويلهن يوم القيامة ، ما ذكر من الحساب ، والجنة ، والنار ، فما دامت قلوبكم ، وأهواؤكم ، واحدة ولم تلبسوا شيعا ، ولم يذق بعضكم بأس بعض ، فأمروا وانهوا ، وإذا اختلفت القلوب والأهواء ، وألبستم شيعا ، وذاق بعضكم بأس بعض ، فامرؤ ونفسه ، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا أبو جعفر أحمد بن محمد العنبري ، أخبرنا عيسى بن نضر ، أنا عبد الله بن المبارك ، أنا عتبة بن أبي الحكم ، حدثني عمرو بن جاريه اللخمي ، أنا أبو أمية الشعباني قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت : يا أبا ثعلبة ، كيف تصنع في هذه الآية ؟ قال : أية آية ؟ قلت : قول الله عز وجل { عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } ، فقال : أما والله ، لقد سألت عنها خبيراً ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( بل ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، ورأيت أمرا لابد لك ، فعليك نفسك ودع أمر العوام ، فإن ورائكم أيام الصبر ، فمن صبر فيهن قبض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثله قال ابن المبارك : وزادني غيره قالوا : يا رسول الله ، أجر خمسين منهم ؟ قال : ( أجر خمسين منكم ) .
قيل : نزلت في أهل الأهواء ، قال أبو جعفر الرازي : دخل على صفوان بن محرز شاب من أهل الأهواء ، فذكر شيئا من أمره ، فقال صفوان : ألا أدلك على خاصة الله التي خص بها أولياءه ؟ { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } .
{ 105 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
يقول تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } أي : اجتهدوا في إصلاحها وكمالها وإلزامها سلوك الصراط المستقيم ، فإنكم إذا صلحتم لا يضركم من ضل عن الصراط المستقيم ، ولم يهتد إلى الدين القويم ، وإنما يضر نفسه .
ولا يدل هذا على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا يضر العبدَ تركُهما وإهمالُهما ، فإنه لا يتم هداه ، إلا بالإتيان بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
نعم ، إذا كان عاجزا عن إنكار المنكر بيده ولسانه وأنكره بقلبه ، فإنه لا يضره ضلال غيره .
وقوله : { إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } أي : مآلكم يوم القيامة ، واجتماعكم بين يدي الله تعالى . { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } من خير وشر .
فإذا انتهى من تقرير حال الذين كفروا وقولهم التفت إلى " الذين آمنوًا يقرر لهم انفصالهم وتميزهم ؛ ويبين لهم تكاليفهم وواجبهم ؛ ويحدد لهم موقفهم ممن سواهم ؛ ويكلهم إلى حساب الله وجزائه لا إلى أي مغنم في هذه الأرض أو مأرب .
( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، إلى الله مرجعكم جميعا ، فينبئكم بما كنتم تعملون ) . .
إنه التميز والمفاصلة بينهم وبين من عداهم . ثم إنه التضامن والتواصي فيما بينهم بوصفهم أمة واحدة . ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم )
أنتم وحدة منفصلون عمن سواكم ، متضامنون متكافلون فيما بينكم . فعليكم أنفسكم . . عليكم أنفسكم فزكوها وطهروها ؛ وعليكم جماعتكم فالتزموها وراعوها ؛ ولا عليكم أن يضل غيركم إذا أنتم اهتديتم . فأنتم وحدة منفصلة عمن عداكم ؛ وأنتم أمة متضامنة فيما بينها بعضكم أولياء بعض ، ولا ولاء لكم ولا ارتباط بسواكم .
إن هذه الآية الواحدة تقرر مبادى ء أساسية في طبيعة الأمة المسلمة ، وفي طبيعة علاقاتها بالأمم الأخرى .
إن الأمة المسلمة هي حزب الله . ومن عداها من الأمم فهم حزب الشيطان . ومن ثم لا يقوم بينها وبين الأمم الأخرى ولاء ولا تضامن ، لأنه لا اشتراك في عقيدة ؛ ومن ثم لا اشتراك في هدف أو وسيلة ؛ ولا اشتراك في تبعة أو جزاء .
وعلى الأمة المسلمة أن تتضامن فيما بينها ؛ وأن تتناصح وتتواصى ، وأن تهتدي بهدي الله الذي جعل منها أمة مستقلة منفصلة عن الأمم غيرها . . ثم لا يضيرها بعد ذلك شيئا أن يضل الناس حولها ما دامت هي قائمة على الهدى .
ولكن ليس معنى هذا أن تتخلى الأمة المسلمة عن تكاليفها في دعوة الناس كلهم إلى الهدى . والهدى هو دينها هي وشريعتها ونظامها . فإذا هي أقامت نظامها في الأرض بقي عليها أن تدعو الناس كافة ، وأن تحاول هدايتهم ، وبقي عليها أن تباشر القوامة على الناس كافة لتقيم العدل بينهم ؛ ولتحول بينهم وبين الضلال والجاهلية التي منها أخرجتهم . .
إن كون الأمة المسلمة مسؤولة عن نفسها أمام الله لا يضيرها من ضل إذا اهتدت ، لا يعني أنها غير محاسبة على التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينها أولا ، ثم في الأرض جميعا . وأول المعروف الإسلام لله وتحكيم شريعته ؛ وأول المنكر الجاهلية والاعتداء على سلطان الله وشريعته . وحكم الجاهلية هو حكم الطاغوت ، والطاغوت هو كل سلطان غير سلطان الله وحكمه . . والأمة المسلمة قوامة على نفسها أولا ؛ وعلى البشرية كلها أخيرا .
وليس الغرض من بيان حدود التبعة في الآية كما فهم بعضهم قديما - وكما يمكن أن يفهم بعضهم حديثا - أن المؤمن الفرد غير مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - إذا اهتدى هو بذاته - ولا أن الأمة المسلمة غير مكلفة إقامة شريعة الله في الأرض - إذا هي اهتدت بذاتها - وضل الناس من حولها .
إن هذه الآية لا تسقط عن الفرد ولا عن الأمة التبعة في كفاح الشر ، ومقاومة الضلال ومحاربة الطغيان - وأطغى الطغيان الاعتداء على ألوهية الله واغتصاب سلطانه وتعبيد الناس لشريعة غير شريعته ، وهو المنكر الذي لا ينفع الفرد ولا ينفع الأمة أن تهتدي وهذا المنكر قائم .
ولقد روى أصحاب السنن أن أبا بكر - رضي الله عنه - قام فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم . . وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله [ ص ] يقول : " إن الناس إذا رأوا المنكر ، ولا يغيرونه ، يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه " .
وهكذا صحح الخليفة الأول - رضوان الله عليه - ما ترامى إلى وهم بعض الناس في زمانه من هذه الآية الكريمة . ونحن اليوم أحوج إلى هذا التصحيح ، لأن القيام بتكاليف التغيير للمنكر قد صارت أشق . فما أيسر ما يلجأ الضعاف إلى تأويل هذه الآية على النحو الذي يعفيهم من تعب الجهاد ومشاقه ، ويريحهم من عنت الجهاد وبلائه !
وكلا والله ! إن هذا الدين لا يقوم إلا بجهد وجهاد . ولا يصلح إلا بعمل وكفاح . ولا بد لهذا الدين من أهل يبذلون جهدهم لرد الناس إليه ، ولإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ولتقرير ألوهيةالله في الأرض ، ولرد المغتصبين لسلطان الله عما اغتصبوه من هذا السلطان ، ولإقامة شريعة الله في حياة الناس ، وإقامة الناس عليها . . لا بد من جهد . بالحسنى حين يكون الضالون أفرادا ضالين ، يحتاجون إلى الإرشاد والإنارة . وبالقوة حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي التي تصدهم عن الهدى ؛ وتعطل دين الله أن يوجد ، وتعوق شريعة الله أن تقوم .
وبعد ذلك - لا قبله - تسقط التبعة عن الذين آمنوا ، وينال الضالون جزاءهم من الله حين يرجع هؤلاء وهؤلاء إليه :
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مّن ضَلّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ " فأصلحوها ، واعملوا في خلاصها من عقاب الله تعالى ، وانظروا لها فيما يقرّبها من ربها ، فإنه لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ يقول : لا يضرّكم من كفر وسلك غير سبيل الحقّ إذا أنتم اهتديتم وآمنتم بربكم وأطعتموه فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه ، فحرّمتم حرامه وحللتم حلاله . ونصب قوله : " أنْفُسَكُمْ " بالإغراء ، والعرب تغري من الصفات ب «عليك » ، و«عندك » و«دونك » و«إليك » .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يُقبل منكم ذلك .
حدثنا سوّار بن عبد الله ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبو الأشهب ، عن الحسن : أن هذه الاية قرئت على ابن مسعود : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " فقال ابن مسعود : ليس هذا بزمانها ، قولوها ما قبلت منكم فإذا ردّت عليكم فعليكم أنفسكم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي الأشهب ، عن الحسن ، قال : ذكر عن ابن مسعود " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا " ثم ذكر نحوه .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : قال رجل لابن مسعود : ألم يقل الله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " ؟ قال : ليس هذا بزمانها ، قولوها ما قُبلت منكم فإذا ردّت عليكم فعليكم أنفسكم .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا شبابة بن سوّار ، قال : حدثنا الربيع بن صبيح ، عن سفيان بن عقال ، قال : قيل لابن عمر : لو جلستَ في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه ، فإن الله تعالى يقول : " عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " فقال ابن عمر : إنها ليست لي ولا لأصحابي ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ألا فليبلغ الشاهد الغائب » فكنا نحن الشهود وأنتم الغَيَب ، ولكن هذه الاية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم .
حدثنا أحمد بن المقدام ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت أبي ، قال : حدثنا قتادة ، عن أبي مازن قال : انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة ، فإذا قوم من المسلمين جلوس ، فقرأ أحدهم هذه الاية : " عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ " فقال أكثرهم : لم يجئ تأويل هذه الاية اليوم .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عمرو بن عاصم ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، عن قتادة ، عن أبي مازن ، بنحوه .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم ، قالا : حدثنا عوف ، عن سوّار بن شبيب ، قال : كنت عند ابن عمر ، إذ أتاه رجل جليدٌ في العين ، شديد اللسان ، فقال : يا أبا عبد الرحمن نحن ستة كلهم قد قرأوا القرآن فأسرع فيه ، وكلهم مجتهد لا يألو ، وكلهم بغيض إليه أن يأتي دناءة ، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك . فقال رجل من القوم : وأي دناءة تريد أكثر من أن يشهر بعضهم على بعض بالشرك ؟ قال : فقال الرجل : إني لست إياك أسأل ، أنا أسأل الشيخ . فأعاد على عبد الله الحديث ، فقال عبد الله بن عمر : لعلك ترى لا أبا لك إني سآمرك أن تذهب فتقتلهم ؟ عظهم وانههم ، فإن عصوك فعليك بنفسك ، فإن الله تعالى يقول : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ إلى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعا فَيُنَبّئُكمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن : أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله : " عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " قال : إن هذا ليس بزمانها ، إنها اليوم مقبولة ، ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا ، أو قال : فلا يقبل منكم فحينئذ عليكم أنفسكم ، لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن رجل قال : كنت في خلافة عثمان بالمدينة في حلقة فيهم أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإذا فيهم شيخ يُسْنِدُون إليه ، فقرأ رجل : " عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " فقال الشيخ : إنما تأويلها آخر الزمان .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : حدثنا أبو مازن رجل من صالحي الأزد من بني الجدّان ، قال : انطلقت في حياة عثمان إلى المدينة ، فقعدت إلى حلقة فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ رجل من القوم هذه الاية " لا يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " قال : فقال رجل من أسنّ القوم : دع هذه الاية ، فإنما تأويلها في آخر الزمان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا ابن فضالة ، عن معاوية بن صالح ، عن جبير بن نفير ، قال : كنت في حلقة فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإني لأصغر القوم ، فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقلت أنا : أليس الله يقول في كتابه : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " ؟ فأقبلوا عليّ بلسان واحد ، وقالوا : تنزع بآية من القرآن لا تعرفها ولا تدري ما تأويلها حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت . ثم أقبلوا يتحدثون فلما حضر قيامهم ، قالوا : إنك غلام حدث السنّ ، وإنك نزعت بآية لا تدري ما هي ، وعسى أن تدرك ذلك الزمان إذا رأيت شحّا مطاعا ، وهو متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بنفسك لا يضرّك من ضلّ إذا اهتديت .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ليث بن هارون ، قال : حدثنا إسحاق الرازي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ إلى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جميعا فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " قال : كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسا ، فكان بين رجلين ما يكون بين الناس ، حتى قام كلّ واحد منهما إلى صاحبه ، فقال رجل من جلساء عبد الله : ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر ؟ فقال آخر إلى جنبه : عليك بنفسك ، فإن الله تعالى يقول : " عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " قال : فسمعها ابن مسعود ، فقال : مَهْ لم يجئ تأويل هذه بعدُ ، إن القرآن أنزل حيث أنزل ومنه آي قد مضى تأويلهنّ قبل أن ينزلن ، ومنه ما وقع تأويلهنّ على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ومنه آي قد وقع تأويلهنّ بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم بيسير ، ومنه آي يقع تأويلهنّ بعد اليوم ، ومنه آي يقع تأويلهنّ عند الساعة على ما ذكر من أمر الساعة ، ومنه آي يقع تأويلهنّ يوم الحساب على ما ذكر من أمر الحساب والجنة والنار فما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض ، فمروا وانهوا فإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض ، فامرؤ ونفسه ، فعند ذلك جاء تأويل هذه الاية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن ابن مسعود : أنه كان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس ، حتى قام كلّ واحد منهما إلى صاحبه ، ثم ذكر نحوه .
حدثني أحمد بن المقدام ، قال : حدثنا حرمي ، قال : سمعت الحسن يقول : تأوّل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " فقال بعض أصحابه : دعوا هذه الاية فليست لكم
حدثني إسماعيل بن إسرائيل الللآل الرمليّ ، قال : حدثنا أيوب بن سويد ، قال : حدثنا عتبة بن أبي حكيم ، عن عمرو بن جارية اللخميّ ، عن أبي أمية الشعباني ، قال : سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ " فقال : لقد سألتَ عنها خبيرا ، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «أبا ثَعْلَبَةَ ائْتَمِرُوا بالمَعْرُوفِ ، وَتَناهَوْا عَنِ المُنْكَرِ ، فإذَا رأيْتَ دُنْيا مُؤْثَرَةً وشُحّا مُطاعا وإعْجابَ كُلّ ذِي رأي بِرأيِهِ ، فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ أرَى مِنْ بَعْدِ كُمْ أيّامَ الصّبرِ ، للمُتَمَسّكِ يَوْمَئِذٍ بِمِثْلِ الّذِي أنْتُمْ عَلَيْهِ كأجْرِ خَمْسِينَ عامِلاً » . قالوا : يا رسول الله ، كأجر خمسين عاملاً منهم ؟ قال : «لا ، كأجْرِ خَمْسِينَ عامِلاً مِنْكُمْ » .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : أخبرنا الوليد بن مسلم ، عن ابن المبارك وغيره ، عن عتبة بن أبي حكيم ، ( عن عمرو بن جارية اللخمي ) عن أبي أمية الشعباني ، قال : سألت أبا ثعلبة الخشني : كيف نصنع بهذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " ؟ فقال أبو ثعلبة : سألتَ عنها خبيرا ، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «ائْتَمِرُوا بالمَعْرُوفِ ، وَتَناهَوْا عَنِ المُنْكَرِ ، حتى إذَا رأيْتَ شُحّا مُطاعا وَهَوًى مُتّبَعا وإعْجابَ كُلّ ذِي رأي بِرأيِهِ ، فَعَلَيْكَ بِخُوَيْصَةِ نَفْسِكَ ، وَذَرْ عَوَامّهُمْ فإنّ وَرَاءَكُمْ أيّاما أجْرُ العامِلِ فِيها كأجْرِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ » .
وقال آخرون : معنى ذلك : أن العبد إذا عمل بطاعة الله لم يضرّه من ضلّ بعده وهلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ " يقول : إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته من الحلال والحرام ، فلا يضرّه من ضلّ بعدُ إذا عمل بما أمرته به .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : " عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " يقول : أطيعوا أمري ، واحفظوا وصيتي .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ليث بن هارون ، قال : حدثنا إسحاق الرازي ، عن أبي جعفر الرازي ، عن صفوان بن الجون ، قال : دخل عليه شاب من أصحاب الأهواء ، فذكر شيئا من أمره ، فقال صفوان : ألا أدلك على خاصة الله التي خصّ بها أولياءه " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ . . . " الاية .
حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : حدثنا أبو المطرف المخزوميّ ، قال : حدثنا جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : " عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " ما لم يكن سيف أو سوط .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا ضمرة بن ربيعة ، قال : تلا الحسن هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " فقال الحسن : الحمد لله بها والحمد لله عليها ، ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جانبه منافق يكره عمله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ فاعملوا بطاعة الله لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " فأمَرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، عن عنبسة ، عن سعد البقال ، عن سعيد بن المسيب : " لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " قال : إذا أمرتَ بالمعروف ونهيت عن المنكر ، لا يضرّك من ضلّ إذا اهتديت .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن أبي العميس ، عن أبي البختري ، عن حذيفة : " عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " قال : إذا أمرتم ونهيتم .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : قال أبو بكر : تقرأون هذه الاية : " لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " وإن الناس إذا رأوا الظالم قال ابن وكيع : فلم يأخذوا على يديه ، أوشكَ أن يعمّهم الله بعقابه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير وابن فضيل ، عن بيان ، عن قيس ، قال : قال أبو بكر : إنكم تقرأون هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " وإن القوم إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه ، يعمهم الله بعقابه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن إسماعيل ، عن قيس ، عن أبي بكر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " يقول : مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر . قال أبو بكر بن أبي قحافة : يا أيها الناس لا تغترّوا بقول الله : عَليكُمْ أنْفُسَكُمْ فيقول أحدكم عليّ نفسي . والله لتأمرنّ بالمعروف وتنهونّ عن المنكر أو لتستعملنّ عليكم شراركم فليسومنكم سوء العذاب ، ثم ليدعون الله خياركم فلا يستجيب لهم .
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا ابن فضيل ، قال : حدثنا بيان ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : قال أبو بكر وهو على المنبر : يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الاية على غير موضعها : " لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه ، عمهم الله بعقابه .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : ثني عيسى بن المسيب البجلي ، حدثنا قيس بن أبي حازم ، قال : سمعت أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه يقرأ هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إذَا رأى النّاسُ المُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيّرُوهُ والظّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا على يَدَيْهِ ، فَيُوشِكُ أنْ يَعُمّهُمُ اللّهُ مِنْهُ بِعِقابٍ » .
حدثنا الربيع ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا سعيد بن سالم ، قال : حدثنا منصور بن دينار ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : صعد أبو بكر المنبر ، منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا أيها الناس إنكم لتتلون آية من كتاب الله ، وتعدّونها رخصة والله ما أنزل الله في كتابه أشدّ منها : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " والله لتأمرنّ بالمعروف ، ولتنهونّ عن المنكر ، أو ليعمنكم الله منه بعقاب .
حدثنا محمد بن سيّار ، قال : حدثنا إسحاق بن إدريس ، قال : حدثنا سعيد بن زيد ، قال : حدثنا مجالد بن سعيد ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : سمعت أبا بكر يقول وهو يخطب الناس : يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الاية ، ولا تدرون ما هي : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إنّ النّاسَ إذَا رَأوْا مُنْكَرا فَلَمْ يُغَيّرُوهُ عَمّهُمُ اللّهُ بِعِقابٍ » .
وقال آخرون : بل معنى هذه الاية : لا يضرّكم من حاد عن قصد السبيل وكفر بالله من أهل الكتاب . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : " لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " قال : يعني : من ضلّ من أهل الكتاب .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في هذه الاَية : لا يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ قال : أنزلت في أهل الكتاب .
وقال آخرون : عني بذلك كلّ من ضلّ عن دين الله الحقّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " قال : كان الرجل إذا أسلم ، قالوا له : سفّهت آباءك وضللّتهم ، وفعلت وفعلت ، وجعلت آباءك كذا وكذا ، كان ينبغي لك أن تنصرهم وتفعل فقال الله تعالى : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " .
وأولى هذه الأقوال ، وأصحّ التأويلات عندنا بتأويل هذه الاية ما رُوي عن أبي بكر الصدّيق فيها ، وهو : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ " : الزموا العمل بطاعة الله ، وبما أمركم به ، وانتهوا عما نهاكم الله عنه . " لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " يقول : فإنه لا يضرّكم ضلال من ضلّ إذا أنتم رمتم العمل بطاعة الله ، وأدّيتم فيمن ضلّ من الناس ما ألزمكم الله به فيه من فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الذي يركبه أو يحاول ركوبه ، والأخذ على يديه إذا رام ظلما لمسلم أو معاهد ومنعه منه فأبى النزوع عن ذلك ، ولا ضير عليكم في تماديه في غيه وضلاله إذا أنتم اهتديتم وأدّيتم حقّ الله تعالى فيه .
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات في ذلك بالصواب ، لأن الله تعالى أمر المؤمنين أن يقوموا بالقسط ويتعاونوا على البرّ والتقوى ومن القيام بالقسط : الأخذ على يد الظالم ومن التعاون على البرّ والتقوى : الأمر بالمعروف . وهذا مع ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو كان للناس تَرْك ذلك ، لم يكن للأمر به معنى إلا في الحال التي رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك ذلك ، وهي حال العجز عن القيام به بالجوارح الظاهرة فيكون مرخصا له تركه إذا قام حينئذ بأداء فرض الله عليه في ذلك بقلبه . وإذا كان ما وصفنا من التأويل بالاية أولى ، فبيّن أنه قد دخل في معنى قوله : " إذا اهْتَدَيْتُمْ " ما قاله حذيفة وسعيد بن المسيب ، من أن ذلك : أذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ، ومعنى ما رواه أبو ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى : " إلى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعا فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين من عباده : اعملوا أيها المؤمنون بما أمرتكم به ، وانتهوا عما نهيتكم عنه ، ومروا أهل الزيغ والضلال وما حاد عن سبيلي بالمعروف ، وانهوهم عن المنكر فإن قبلوا فلهم ولكم ، وإن تمادوا في غيهم وضلالهم فإن إليّ مرجع جميعكم ومصيركم في الاخرة ومصيرهم ، وأنا العالم بما يعمل جميعكم من خير وشرّ ، فأُخبر هناك كلّ فريق منكم بما كان يعمله في الدنيا ثم أجازيه على عمله الذي قدم به عليّ جزاءه حسب استحقاقه ، فإنه لا يخفى عليّ عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى .
{ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } أي احفظوها والزموا إصلاحها ، والجار مع المجرور جعل اسما لإلزموا ولذلك نصب أنفسكم . وقرئ بالرفع على الابتداء . { لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } لا يضركم الضلال إذا كنتم مهتدين ، ومن الاهتداء أن ينكر المنكر حسب طاقته كما قال عليه الصلاة والسلام " من رأى منكم منكرا واستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه " . والآية نزلت لما كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون إيمانهم ، وقيل كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت آباءك فنزلت . و{ لا يضركم } يحتمل الرفع على أنه مستأنف ويؤيده أن قرئ " لا يضيركم " والجزم على الجواب أو النهي لكنه ضمت الراء إتباعا لضمه الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة وتنصره قراءة من قرأ { لا يضركم } بالفتح ، و{ لا يضركم } بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره . { إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون } وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أن أحدا لا يؤاخذ بذنب غيره .